الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا رأينا نموذجا مشرقا وصفحات مضيئة من التاريخ الإسلامي، فحقوق كاملة ورعايةٌ حانية، لذوي الاحتياجات الخاصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء والمسؤولين الذين التزموا بتعاليم القران الكريم، الذي انزل لإسعاد الناس أجمعين والسير بهم ليدخلوا جنة النعيم.
فالإحسان إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، وقضاء حوائجهم هدي رباني ومنهج نبوي، يعطيهم كل عناية وتقدير واحترام.
•
المطلب الرابع: استثناء القرآن الكريم لذوي الاحتياجات الخاصة من بعض التكاليف
.
إن من رحمة الله عز وجل بذوي الاحتياجات الخاصة، أن استثناهم في القرآن الكريم من بعض التكاليف، تخفيفا عليهم ورحمة بهم نظراً لحالهم، أو عدم قدرتهم، أو صعوبة قيامهم بهذه التكاليف، ومع ذلك لا ينقص من أجرهم شيء، قال تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
…
} [النساء: 95].
قال البغوي رحمه الله: فهذه الآيةُ في فضل الجهادِ والحَثِّ عليهِ، فقال: لا يستوي القاعدون الَّذين هم غير أولي الضَّرر، أَي: غَيرُ أُولي الزَّمانةِ والضَّعف في البدن والبصرِ، والمجاهدون في سبيل اللهِ بأموالهم وأَنفُسهم، أي: ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر والمؤمنون المجاهدون سواء، غَيْرُ أُولي الضَّرر فإِنَّهم يساوون المجاهدين، لأن العذر أقعدهم (1).
وقد أُكِدَ هذا المعنى، بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
…
} [البقرة: 286]، قال ابن كثير:"أي لا يُكلَّف أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته وإحسانه إليهم"(2).
ومن هذا التخفيف والاستثناء من التكاليف إسقاط الجهاد عنهم: قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].
جاء في صفوة التفاسير: "أي ليس على هؤلاء إثم أو ذنب في ترك الخروج للجهاد، لما بهم من الأعذار الظاهرة، ومَن يُطِع أمر الله وأمر الرسول، يدخله جنات النعيم خالدا فيها، ومن يَنْكُل عن الجهاد بغير عذر يعذبه الله عذابا شديدا، في الدنيا بالمذلة وبالآخرة بالنار"(3).
ومن رحمة الله عز وجل بذوي الاحتياجات الخاصة أن رفع عنهم الحرج، فاستثناهم من وجوب الجهاد عليهم، قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
(1) - انظر؛ البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، (توفي: 510 هـ)، معالم التنزيل في تفسير القرآن =
…
تفسير البغوي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1420 هـ، ج 1، ص 682.
(2)
- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 572.
(3)
الصابوني، صفوة التفاسير، ج 3، ص 222.
مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91)} [التوبة: 91].
قال ابن كثير: " يبين الله تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجِلاد في الجِهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما"(1).
أما القرطبي فقال: وبَيَّنتْ هذه الآية أنه لا حرج على المعذورين وهم قوم عرف عذرهم، كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، {إِذَا نَصَحُوا للهِ ورسُولهِ} ، إِذَا عرفوا الحقَّ وأَحبُّوا أَولياءَهُ وأَبغضوا أَعداءهُ (2).
فبمعرفة ذوي الاحتياجات الخاصة للحق والتزامهم به ومحبة أوليائه وبغض أعدائه يصبحون في مرتبة المجاهدين.
قال تعالى: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، قال ابو بكر الجزائري:"أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم، لأنه بعذر شرعي، كما أنهم مطيعون لله ورسوله، وقلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر، فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال". (3)
وبالرغم من أن الله عز وجل، قد أعفى كثيرا من ذوي الاحتياجات الخاصة من الجهاد، إلا أن كثيرا منهم بذلوا ما يستطيعون من الجُهد، لمشاركة إخوانهم من أهل العافية في الجهاد، متحدّين بذلك ما أصابهم من ضعف في أجسامهم، بهمة قوية وعزيمة ماضية ونفس سامية.
فها هو عمرو بن الجموح رضي الله عنه، يأتي يوم أُحد للنبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد فيقول:(يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى اقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم"). (4)
فقاتل حتى قتل، فلم يستسلم لما اصابه، بل بذل جُهده ليحقق مراده، جاهد فاستُشهِد فدخل الجنة رضي الله عنه.
وأما ابن أم مكتوم رضي الله عنه فكانت نفسه تتوق للجهاد " فكان يغزو ويقول: ادفعوا الي اللواء، فاني أعمى لا استطيع أن افر، واقيموني بين الصفين، وعن انس رضي الله عنه: أن عبد الله بن ام مكتوم يوم القادسية كانت معه راية سوداء عليه درع له". (5)
(1) - ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 174.
(2)
- انظر؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 8، ص 226.
(3)
- ابو بكر الجزائري، ايسر التفاسير، ج 2، ص 412.
(4)
- أحمد بن حنبل، مسند احمد، تتمة مسند الأَنصار، حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، ج 37، ص 247، حديث رقم 22553، حكم الأرنؤوط إسناده حسن.
(5)
- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 364.