الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} [البقرة: 215].
قال القرطبي: نزلت الآيةُ في عمرو بنِ الجَموحِ، وكان شَيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إِنَّ مالي كثيرٌ، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت:{يسأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (1).
قال ابو السعود رحمه الله في تأويل قوله تعالى: {يسأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، أي: من أصناف أموالِهم، {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ} أي: ما أنفقتموه من خير، أي: خير كان ففيه تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ، وأُبرِزَ في معرِض بيانِ المصرِفِ حيث قيل {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، للإيذان بأن الأهمَّ بيانُ المصارفِ المعدودة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه جاء عمْرُو بنُ الجموح وهو شيخ هرم، له مالٌ عظيم فقال يا رسول الله ماذا نُنفق من أموالنا أين نضعُها؟ فنزلت:{وَالْيَتَامَى} ، أي: المحتاجين منهم، {وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر في المواقع الأُخَرِ، وإما بناءً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان، {فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} ، فيوفّي ثوابَه.
{ويسأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، عطفٌ على يسألونك عن الخمر
…
الخ، عطفَ القصة على القصة أي أيُّ شيءٍ ينفقونه، فعمْرو بنُ الجموح سأل أولا من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال، فلما بُيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس، سأل ثانياً من أي أصنافها نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها، أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه، فقيل:{قُلِ العفو} ، أي: انفقوا العفو، أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة، والعفو ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية، وكان الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين، يكسِبون المالَ، ويُمسكون قدرَ النفقة، ويتصدقون بالفضل. (2)
ففي قصة عمرو بن الجموح، دروس وعبر منها التحدي، فعمرو بن الجموح تحدّى ما أصابه من عرج، وتحدّى أعداءه، حتى نال الشهادة ودخل الجنة، فالقمم لأهل الهمم وبقدر العَنى تُنال المنى.
•
المطلب السابع: موقف عبد الله بن أُم مكتوم وصبره على الإبتلاء بالعمى:
هو عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم، وأُمه أم مكتوم، وهو من السابقين المهاجرين، وكان ضريرًا، وقد نزل بحقه بضعة عشر آية من سورة عبس، وكان مؤذنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقدره ويستخلفه على المدينة، فيصلي بمن تبقى من الناس، استُشهد يوم القادسية. (3)
(1) - انظر؛ القرطبي، جامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 36.
(2)
- انظر؛ أبو السعود، محمد بن محمد بن مصطفى، (توفي: 982 هـ)، تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ص 215 - ص 219.
(3)
- انظر؛ الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، (توفي: 748 هـ)، سير أعلام النبلاء، مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ-1985 م، ج 1، ص 361 - 365.
أنزل الله تعالى بحقه قرآنا حيث قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13)} [عبس: 13]
" عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول له: أترى بما أقول بأسا، فيقول: لا، فنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى*})."(1)
قال الطبري: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} : أي قبض وجهه تكرها وأعرض، {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}: لأنه جاءه الأعمى، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}: وما يدريك يا محمد لعل هذا الأعمى الذي عبست في وجهه يتزكى ويتطهر من ذنوبه، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}: وما يدريك لعل هذا الأعمى يعتبر، فينفعه الاعتبار والإتعاظ، {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}: وأما هذا الأعمى الذي جاءك يسعى، وهو يخشى الله ويتقيه، فأنت عنه تتلهى وتعرض وتتغافل، وتتشاغل عنه بغيره. {كَلَّا}: ليس الأمر كما تفعل يا محمد حيث تعبس في وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتتصدى لمن استغنى، {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} إن هذه السورة والدعوة تذكرة وعظة وعبرة (2).
وقد أوصت الآيات بوصايا جليلة تراعي حق ذوي الاحتياجات الخاصة، منها ما جاء في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال الصابوني في تفسير الآية: " أي لا تفعل بعد اليوم مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن الكريم، واستفاد من إرشاداته وتوجيهاته، قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبدا، وكان الفقراء في مجلسه أمراء"(3).
ويستمر تكريم ابن ام مكتوم الذي حظي بمكانة عالية عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلو شأنه فينزل بحقه مرة أخرى قرآن يتلى الى يوم القيامة، عن البراء رضي الله عنه قال) لما نزلت {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم أُدعو فلانا" فجاءه ومعه الدواة واللوح أو الكتف، فقال: " اكتب" {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت مكانها {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ
(1) - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن بكر السيوطي، لباب النقول في أسباب النزول، بيروت، دار إحياء العلوم، ط 3، 1980 م، ص 277.
(2)
- انظر؛ الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 24، ص 217 - 221 .. اخرجه الترمذي، سنن الترمذي، ابواب تفسير القرآن، باب ومن سورة عبس، ج 5، ص 432، حديث رقم: 3331، حكم الألباني صحيح الاسناد.
(3)
- الصابوني، صفوة التفاسير، ج 3، ص 495.