المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

السُّكُوتِ، جُعِلَ كَالْمُنْكِرِ النَّاكِلِ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهُوَ كَالْإِنْكَارِ. - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١٢

[النووي]

الفصل: السُّكُوتِ، جُعِلَ كَالْمُنْكِرِ النَّاكِلِ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهُوَ كَالْإِنْكَارِ.

السُّكُوتِ، جُعِلَ كَالْمُنْكِرِ النَّاكِلِ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهُوَ كَالْإِنْكَارِ. وَالْكَلَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَصِيغَتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَقَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لِي عَنْ دَعْوَاكَ مُخْرَجٌ، لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، لِاحْتِمَالِ الْخُرُوجِ بِالْإِنْكَارِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ، لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِلْمُخَاطَبِ بِمَا دَعَاهُ، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَكَ مِنَ الْحَقِّ عِنْدِي مَا يُسْتَحَقُّ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، وَكَمَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ إِقْرَارٌ لِلْمُخَاطَبِ، لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِفُلَانٍ أَيْضًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِالْحَقِّ الْحُرْمَةَ. فَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ أَكْثَرُ مِمَّا ادَّعَيْتَ، فَهَذَا إِقْرَارٌ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِمَا دُونَهُ فِي الْقَدْرِ تَنْزِيلًا عَلَى كَثْرَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الرَّغْبَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: الْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُؤَدَّى، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حَيْثُ يَكُونُ حَقًّا، فَأَمَّا أَنَا فَبَرِيءٌ.

‌فَصْلٌ

فِي مَسَائِلِ الْبَابِ هِيَ سِتٌّ، الْأُولَى: ادَّعَى عَلَيْهِ عَشَرَةً، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي الْعَشَرَةُ، فَلَيْسَ بِجَوَابٍ تَامٍّ، بَلِ التَّامُّ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ «وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا» ، أَوْ «وَلَا بَعْضُهَا» ، وَكَذَا يَحْلِفُ إِنْ حَلَفَ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْعَشَرَةِ مُدَّعٍ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَاشْتُرِطَ مُطَابَقَةُ الْإِنْكَارِ وَالْيَمِينِ دَعْوَاهُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُكَلَّفُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ: «وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا» ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، فَحَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعَشَرَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْعَشَرَةُ بِتَمَامِهَا، لَكِنَّهُ نَاكِلٌ عَمَّا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَلِلْمُدَّعِي

ص: 20

أَنْ يَحْلِفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا دُونَهَا بِقَلِيلٍ، وَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْعَشَرَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ عَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَعَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِهَا، وَإِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَلِفُ عَلَى بَعْضِهَا، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الدَّعْوَى لِلْبَعْضِ الَّذِي يُرِيدُ الْحَلِفَ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ جَوَّزْنَا لِلْمُدَّعِي الْحَلِفَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى، فَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى عَقْدٍ، فَإِنْ أَسْنَدَهُ، بِأَنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: نَكَحَنِي بِخَمْسِينَ وَطَالَبْتُهُ بِهِ، وَنَكَلَ الزَّوْجُ، لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَلِفُ عَلَى أَنَّهُ نَكَحَهَا بِبَعْضِ الْخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ مَا ادَّعَتْهُ أَوَّلًا. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِكَ مِلْكِي يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُهَا إِلَيَّ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهَا، كَفَاهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهَا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا ادَّعَى مَالًا وَأَسْنَدَهُ إِلَى جِهَةٍ بِأَنْ قَالَ: أَقْرَضْتُكَ كَذَا، وَطَالَبَهُ بِبَدَلِهِ، أَوْ قَالَ: غَصَبْتَ عَبْدِي، فَتَلِفَ عِنْدَكَ، فَعَلَيْكَ كَذَا ضَمَانًا، أَوْ مَزَّقْتَ ثَوْبِي، فَعَلَيْكَ كَذَا أَرْشًا، أَوِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ كَذَا، وَأَقْبَضْتُكَ ثَمَنَهُ، أَوِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي كَذَا، فَعَلَيْكَ ثَمَنُهُ، وَطَالَبَهُ بِالْمُدَّعَى، فَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي الْجَوَابِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، وَلَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، وَكَذَا يَكْفِيهِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الشُّفْعَةِ: لَا شُفْعَةَ لَكَ عِنْدِي، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هَذَا الشِّقْصِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَاضِ وَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَعْرِضُ مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ مِنْ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَوْ

ص: 21

نَفَى الْإِقْرَاضَ وَنَحْوَهُ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَادَّعَى الْمُسْقَطَ طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدْ يَعْجَزُ عَنْهَا، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى قَبُولِ الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، وَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: طَلَّقْتَنِي، فَقَالَ: أَنْتِ زَوْجَتِي، كَفَاهُ وَإِذَا اقْتَصَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، وَأَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى الْحَلِفِ، حَلَفَ عَلَى مَا أَجَابَ، وَلَمْ يُكَلَّفِ التَّعَرُّضَ لِنَفْيِ الْجِهَةِ الْمِدَّعَاةِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ الْمُدَّعَاةِ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمُطْلَقِ، جَازَ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ تَعَرَّضَ فِي الْجَوَابِ لِلْجِهَةِ، فَقَالَ: مَا بَايَعْتُكَ، أَوْ مَا أَقْرَضْتَنِي، أَوْ مَا مَزَّقْتُ، فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ، إِنْ حَلَفَ عَلَى وَفْقِ الْجَوَابِ، فَذَاكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْحَلِفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَجَابَ كَذَلِكَ، أَمْ لَا لِيُطَابِقَ الْيَمِينُ الْإِنْكَارَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مَرْهُونٌ، أَوْ مُسْتَأْجَرٌ، وَادَّعَاهُ مَالِكُهُ، كَفَاهُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُهُ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْمِلْكِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ نُقِلَ فِي «الْوَسِيطِ» عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ الشُّهُودُ، وَلَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِإِجَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ، وَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ، وَادَّعَى رَهْنًا أَوْ إِجَارَةً، وَكَذَّبَهُ الْمُدَّعِي، فَمَنِ الْمُصَدَّقُ مِنْهُمَا؟ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي بَابِ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُ الْيَدِ فَذَاكَ، وَإِنْ صَدَّقَ الْمَالِكُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - احْتَاجَ مُدَّعِي الرَّهْنِ أَوِ الْإِجَارَةِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوَافِقْهُ بَيِّنَةٌ، وَخَافَ جَحُودَ الرَّاهِنِ لَوِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْمِلْكِ، فَمَا حِيلَتُهُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَفَّالُ: حِيلَتُهُ تَفْصِيلُ الْجَوَابِ، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ مِلْكًا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُنِي التَّسْلِيمُ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ مَرْهُونًا عِنْدِي، فَاذْكُرْهُ لِأُجِيبَ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يُقْبَلُ الْجَوَابُ الْمُرَدَّدُ، بَلْ حِيلَتُهُ أَنْ يَجْحَدَ مِلْكَهُ

ص: 22

إِنْ جَحَدَ صَاحِبُهُ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوِ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ، وَخَافَ الرَّاهِنُ جَحُودَ الرَّهْنِ لَوِ اعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَفْصِلُ، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ أَلْفًا لِي عِنْدَكَ بِهِ كَذَا رَهْنًا فَحَتَّى أُجِيبَ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ أَلْفًا، فَلَا يَلْزَمُنِي. وَعَلَى الثَّانِي صَارَتِ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْجُحُودِ، فَلِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَجْحَدَهُ، وَيُجْعَلُ هَذَا بِذَاكَ، وَيَشْتَرِطُ التَّسَاوِي، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْفُورَانِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفْصِلُ الْجَوَابَ أَبَدًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِشَيْءٍ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَلْفًا، فَيَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتَ عَنْ ثَمَنِ كَذَا فَحَتَّى أُجِيبَ، وَإِنِ ادَّعَيْتَ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَلْزَمُنِي.

فَرْعٌ

ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا صَدَاقًا يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْهَا، قِيلَ لِلْقَفَّالِ: هَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: هَلْ هِيَ زَوْجَتُكَ؟ فَقَالَ: مَا لِلْقَاضِي وَلِهَذَا السُّؤَالُ! لَكِنْ لَوْ سَأَلَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَضَى عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَكَحَهَا بِكَذَا، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا ادَّعَى عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا عَلَى إِنْسَانٍ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَيْسَ هُوَ لِي، نُظِرَ، أَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَمْ يُضِيفُهُ إِلَى مَجْهُولٍ أَمْ إِلَى مَعْلُومٍ؟ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، أَوْ أَضَافَهُ إِلَى مَجْهُولٍ بِأَنْ قَالَ: هُوَ لِرَجُلٍ لَا أَعْرِفُهُ، أَوْ أُسَمِّيهِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهُمَا: يُسَلَّمُ الْمَالُ إِلَى الْمُدَّعِي، إِذْ لَا مُزَاحِمَ لَهُ، وَالثَّانِي: تَنْصَرِفُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، وَيَنْتَزِعُ الْحَاكِمُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَخَذَهُ، وَإِلَّا حَفِظَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْصَرِفُ، وَلَا يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ قُبِلَ، وَانْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ إِلَى ذَلِكَ

ص: 23

الْمُعَيَّنِ، وَإِلَّا فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يُحَلِّفُهُ، وَهَلْ يُمْكِنُ مِنْ أَنْ يَعُودَ، فَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: نِصْفُهُ لِي، وَلَا أَدْرِي لِمَنِ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى مَعْلُومٍ، فَالْمُضَافُ إِلَيْهِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ تَتَعَذَّرُ مُخَاصَمَتُهُ، وَتَحْلِيفُهُ بِأَنْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ عَلَى ابْنِي الطِّفْلِ، أَوْ هُوَ مِلْكٌ لَهُ، فَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْلِيفِ الْوَلِيِّ وَلَا طِفْلِهِ، وَلَا تُغْنِي إِلَّا الْبَيِّنَةُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَإِذَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ كَتَبَ صُورَةَ الْحَالِ فِي السِّجِلِّ، لِيَكُونَ الطِّفْلُ عَلَى حُجَّتِهِ إِذَا بَلَغَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِذَا قَالَ: هُوَ لِابْنِي الطِّفْلِ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ، لَمْ تَسْقُطِ الدَّعْوَى، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ هُوَ قَيِّمَ الطِّفْلِ.

قُلْتُ: اخْتَارَ فِي «الْمُحَرَّرِ» قَوْلَ الْبَغَوِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا تَتَعَذَّرُ مُخَاصَمَتُهُ وَتَحْلِيفُهُ، كَشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ، وَغَائِبٌ، فَالْحَاضِرُ يُرَاجَعُ، فَإِنْ صَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ انْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي الْإِقْرَارِ، وَرَابِعَةٌ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: ادْعُهُ لِنَفْسِكَ، فَتَكُونُ الْخَصْمَ، أَوْ لِمَنْ يُصَدِّقُكَ، فَيَكُونُ هُوَ الْخَصْمَ، فَإِنِ امْتَنَعْتَ، جَعَلْنَاكَ نَاكِلًا وَحَلَّفْنَا الْمُدَّعِيَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْغَائِبُ، فَإِذَا أَضَافَ الْمُدَّعِي إِلَى غَائِبٍ، فَفِي انْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنْهُ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا - وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ - يَنْصَرِفُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ لِفُلَانٍ، فَلَا،

ص: 24

فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْصَرِفُ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ إِذَا عَادَ الْغَائِبُ، وَصَدَّقَ الْمُقِرَّ، رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِ بِلَا حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْيَدِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْمُدَّعِي الْخُصُومَةَ مَعَهُ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الْحَاضِرِ، أَخَذَ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَيْضًا، وَهَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي تَجْرِي الْخُصُومَةُ مَعَهُ، أَمْ عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّ الْمَالَ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ إِلَى الْيَمِينِ، وَيُثْبِتُ الْقَاضِي فِي السِّجِلِّ أَنَّهُ قَضَى لَهُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَمَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، لِيَكُونَ الْغَائِبُ عَلَى حُجَّتِهِ، وَإِذَا عَادَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، قَضَى لَهُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِهِ بِالْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا، أُقِرَّ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، فَإِنِ الْتَمَسَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُزِيدَ فِي السِّجِلِّ أَنَّ الْغَائِبَ قَدِمَ، وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَنْصَرِفُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَقَفَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، قُضِيَ لَهُ بِالْمَالِ، وَهَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَيَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْيَمِينِ، أَمْ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي تَجْرِي الْخُصُومَةُ مَعَهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ، رَجَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيُّ الثَّانِي، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَلْيَقُ بِالْوَجْهِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ الْمَالَ لِلْغَائِبِ، فَإِنْ أَقَامَهَا، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْغَائِبِ، وَأَثْبَتَ الْوَكَالَةَ فَبَيَّنَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ لِلْغَائِبِ مَسْمُوعَةٌ مُرَجَّحَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي. وَإِنْ لَمْ يُثْبِتِ الْوَكَالَةَ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ، فَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً. وَالثَّانِي: تُسْمَعُ، وَالثَّالِثُ: إِنِ اقْتَصَرَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ، لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنْ تَعَرَّضَتْ مَعَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى

ص: 25

عَلَيْهِ بِعَارِيَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، سُمِعَتْ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقًّا لَازِمًا، كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ، وَتَعَرَّضَتِ الْبَيِّنَةُ لِذَلِكَ، فَفِي السَّمَاعِ وَجْهَانِ. وَإِذَا سَمِعْنَا بَيِّنَتَهُ لِصَرْفِ الْيَمِينِ عَنْهُ، حُكِمَ لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْغَائِبُ، وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ سَمِعْنَاهَا لِعُلْقَةِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهَلْ تُقَدَّمُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، أَمْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَيَكُونُ فَائِدَةُ بَيَّنَتِهِ صَرْفَ الْيَمِينِ عَنْهُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَالَّذِي يُفْتَى بِهِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا أَضَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْغَائِبِ خُصُومَةً مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ الْغَائِبِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، انْصَرَفَتِ الْخُصُومَةُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِلْغَائِبِ، وَبَنَوْا عَلَى انْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنْهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ، وَالْقَضَاءُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْغَائِبِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، فَلَا يُحْكَمُ لِلْغَائِبِ بِالْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا الْحَاضِرُ عَلَى أَنَّهُ لِلْغَائِبِ، فَإِنْ تَعَرَّضَ الشُّهُودُ مَعَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي رَهْنِ الْحَاضِرِ، وَإِجَارَتِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا، وَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، لِقُوَّتِهَا بِالْيَدِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا تُسْمَعُ، فَعَلَى هَذَا تَعْمَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي.

فَرْعٌ

مَتَى حَكَمْنَا بِانْصِرَافِ الْخُصُومَةِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِحَاضِرٍ أَوْ لِغَائِبٍ أَوْ مَجْهُولٍ عَلَى وَجْهٍ، فَهَلْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، هَلْ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، حَلَّفَهُ، فَلَعَلَّهُ يُقِرُّ فَيُغَرَّمُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَإِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَرَدُّ الْيَمِينِ، كَالْإِقْرَارِ، لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ

ص: 26

حَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكُلُ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي، وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ، وَكَأَنَّ الْعَيْنَ تَالِفَةٌ. وَهَلْ يَسْتَرِدُّ الْعَيْنَ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ وَفَاءً بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ؟ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ، وَأَخَذَهَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَانِيًا، أَوْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ، ثُمَّ سُلِّمَتْ لَهُ الْعَيْنُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ يَمِينِهِ بَعْدَ نُكُولِ الْمُقِرِّ لَهُ، لَزِمَهُ رَدُّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْحَيْلُولَةِ وَقَدْ زَالَتْ.

فَرْعٌ

ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيَّ، وَقَالَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ: هِيَ مِلْكٌ لِفُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، انْتَقَلَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْوَقْفَ، وَلَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ. وَكَانَ لَا يَبْعُدُ طَلَبُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَالْحَيْلُولَةِ فِي الْحَالِ كَالْإِتْلَافِ. وَلَوْ رَجَعَ الْغَائِبُ وَكَذَّبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِيمَنْ أَضَافَ إِلَى جَاحِدٍ، فَكَذَّبَهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُقِرُّ لَهُ الْحَاضِرُ أَوِ الْغَائِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ بَيِّنَةً عَلَى الْمِلْكِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ لِيُغَرِّمَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اسْتَقَرَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَخَرَجَ الْإِقْرَارُ عَنْ أَنْ تَكُونَ الْحَيْلُولَةُ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، فَادَّعَاهُ آخَرُ، نُظِرَ إِنْ سَاعَدَهُ الْمُشْتَرِي، وَأَقَرَّ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِنِ اسْتَحْلَفَ، فَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَأَخْذَ الْمَالَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، لِتَقْصِيرِهِ بِالنُّكُولِ، وَحَلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ كَإِقْرَارِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ فِي هَذَا الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ.

ص: 27

قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمُتَنَازِعَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَخَذَ الْمَالَ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي مُنَازَعَتِهِ لِلْمُدَّعِي بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِبَائِعِي، وَلَا بِأَنَّهُ مِلْكِي بِأَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ - وَهُوَ سَاكِتٌّ - فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ قَطْعًا، وَإِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ ظَالِمٌ بِاعْتِرَافِهِ، وَأَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ مَهْمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ، أَوِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْيَدِ، ثُمَّ بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: بِعْنِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مِلْكُكَ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا يَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ إِقْرَارًا لِلْبَائِعِ بِالْمِلْكِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ تَضَمَّنَهُ الشِّرَاءُ، فَبَطَلَ بِبُطْلَانِ الْمُبَايَعَةِ، وَالْإِقْرَارُ الْمُسْتَقِلُّ بِخِلَافِهِ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فِي الظَّاهِرِ، فَقَالَ: أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى رِقِّهِ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ لَهُ، أَوْ لِلَّذِي بَاعَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَطْلَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَفَصَّلَ أَكْثَرُهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي مُنَازَعَتِهِ بِأَنَّهُ رَقِيقٌ رَجَعَ، وَإِنْ صَرَّحَ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ.

فُرُوعٌ

مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ: أَقَرَّ الْمُشْتَرِي لِلْمُدَّعِي بِالْمِلْكِ، ثُمَّ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، لِيَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، لَمْ يُمَكَّنْ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ بِلَا وَكَالَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، كَيْفَ وَالْمُدَّعِي لَوْ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْبَيِّنَةِ

ص: 28