الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذَا تَوَافَقَا فَقَدْ رَضِيَا بِأَحْكَامِهَا. وَمِنْ أَحْكَامِهَا جَوَازُ الْإِنْظَارِ عَنِ الْعَجْزِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَجُعِلَ الْإِرْقَاقُ نَاقِضًا لِمَا جَرَى بِهِ الْإِذْنُ.
وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ، وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، وَعَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَأَرَقَّهُ أَحَدُهُمَا، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِنْظَارَهُ، فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ، وَأَوْلَى بِالْإِبْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ أَوَّلًا مِنْ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَ بَعْضَ عَبْدِهِ.
فَصْلٌ
قَدْ ذَكَرْنَا الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا. فَأَمَّا الَّتِي لَا تَصِحُّ، فَتَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِلَةٍ وَفَاسِدَةٍ.
أَمَّا الْبَاطِلَةُ فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَّ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، بِأَنْ كَانَ السَّيِّدُ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ مُكْرَهًا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَوْ كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ، أَوْ كَاتَبَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَبْدَهُمَا، أَوْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ عِوَضٍ، أَوْ ذِكْرُ مَا لَا يُقْصَدُ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ، كَالْحَشَرَاتِ، وَالدَّمِ، أَوِ اخْتَلَّتِ الصِّيغَةُ، بِأَنْ فُقِدَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَّتْ صِحَّتُهَا لِشَرْطٍ فَاسِدٍ فِي الْعِوَضِ، بِأَنْ ذَكَرَ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ مَجْهُولًا، أَوْ لَمْ يُؤَجِّلْهُ، أَوْ لَمْ يُنَجِّمْهُ، أَوْ كَاتَبَ بَعْضَ الْعَبْدِ. وَضَبَطَهَا الْإِمَامُ فَقَالَ: إِذَا صَدَرَتِ الْكِتَابَةُ إِيجَابًا وَقَبُولًا مِمَّنْ تَصِحُّ عِبَارَتُهُ، وَظَهَرَ اشْتِمَالُهَا الْمَالِيَّةَ، لَكِنَّهَا لَمْ تَجْمَعْ شَرَائِطَ الصِّحَّةِ، فَهِيَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، وَجَعَلَ الصَّيْدَلَانِيُّ الْكِتَابَةَ عَلَى دَمٍ أَوْ مَيْتَةٍ كِتَابَةً فَاسِدَةً، كَالْكِتَابَةِ عَلَى خَمْرٍ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْكِتَابَةُ الْبَاطِلَةُ لَاغِيَةٌ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِالتَّعْلِيقِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّعْلِيقِ.
وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَإِنَّهَا تُشَارِكُ الصَّحِيحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَلَى الْأَثَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ فَاسِدِهَا وَصَحِيحِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ الْعِتْقُ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى فَاسِدٍ.
قَالَ الْأَصْحَابُ: تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: التَّعْلِيقُ الْخَالِي عَنِ الْمُعَاوَضَةِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْتُ فَلَانًا، فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَمِنْ هَذَا: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَازِمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ، وَلَا لِلْعَبْدِ، وَلَا لَهُمَا رَفْعُهُ بِالْقَوْلِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ.
وَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَتَقَ، وَكَسْبُهُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ لِلسَّيِّدِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَنِ الْمَالِ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّعْلِيقُ فِي عَقْدٍ يَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: التَّعْلِيقُ فِي عَقْدٍ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَيَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ كَالصَّحِيحَةِ فِي أَحْكَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْمُسَمَّى عَتَقَ بِمُوجِبِ التَّعْلِيقِ، وَلَا يُعْتَقُ بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ، وَلَا بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ تَبَرُّعًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَحْصُلُ بِهِمَا. وَلَوِ اعْتَاضَ عَنِ الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ أَيْضًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِالِاكْتِسَابِ، فَيَتَرَدَّدُ وَيَتَصَرَّفُ، فَيُؤَدِّي الْمُسَمَّى وَيُعْتَقُ. وَإِذَا أَدَّى، فَمَا فَضَلَ مِنَ الْكَسْبِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَةَ كَالصَّحِيحَةِ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ جَارِيَةٍ كَكَسْبِهِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ.
وَهَلْ يَتْبَعُ الْمُكَاتَبَةَ كِتَابَةً فَاسِدَةً وَلَدُهَا؟ طَرِيقَانِ.
الْمَذْهَبُ: نَعَمْ، كَالْكَسْبِ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ فِي وَلَدِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ.
الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَلَّ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنِ السَّيِّدِ، وَأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كَالْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ مَعَ السَّيِّدِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، كَمَا فِي الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْوَى.
فَرْعٌ
الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً صَحِيحَةً، هَلْ لَهُ السَّفَرُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ؟ فِيهِ نَصَّانِ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَلَمْ يُمْنَعِ السَّفَرُ.
وَقِيلَ: نَصُّ الْجَوَازِ مَحْمُولٌ عَلَى سَفَرٍ قَصِيرٍ، وَالْمَنْعُ عَلَى طَوِيلٍ. وَقِيلَ: الْجَوَازُ إِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّجْمُ، وَالْمَنْعُ إِذَا حَلَّ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا.
فَرْعٌ
تُفَارِقُ الْفَاسِدَةُ الصَّحِيحَةَ فِي أُمُورٍ. أَحَدُهَا: إِذَا أَدَّى الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدَةِ، وَعُتِقَ، رَجَعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَدَّى، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ.
وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ يَوْمِ الْعَقْدِ، فَإِنْ هَلَكَ الْمُسَمَّى فِي يَدِ السَّيِّدِ، رَجَعَ الْعَتِيقُ بِثُلُثِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ
عَلَى السَّيِّدِ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ، بِأَنْ كَانَ غَالِبَ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَهُوَ عَلَى أَقْوَالٍ التَّقَاصُّ، وَسَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا حَصَلَ التَّقَاصُّ وَفَضَلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ رَجَعَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّرَاجُعَ إِذَا كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا، فَإِنْ كَانَ خَمْرًا أَوْ نَحْوَهُ، لَمْ يَرْجِعِ الْعَتِيقُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ، وَيَرْجِعِ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ.
الثَّانِي: لِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ فَسَخَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، لِيَحْكُمَ بِإِبْطَالِهَا أَوْ يَفْسَخَهَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ، وَلَا يُبْطِلُهَا الْقَاضِي بِغَيْرِ طَلَبِ السَّيِّدِ.
وَقَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِبْطَالِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيقِ، وَالتَّعْلِيقُ لَا يَصِحُّ إِبْطَالُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا فَسَخَهَا، أَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِإِبْطَالِهَا، ثُمَّ أَدَّى الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَعْلِيقًا، فَهُوَ فِي ضِمْنِ مُعَاوَضَتِهِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتِ الْمُعَاوَضَةُ، ارْتَفَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّعْلِيقِ، وَلِيُشْهِدِ السَّيِّدُ عَلَى الْفَسْخِ، فَإِنْ أَدَّى الْمُسَمَّى، وَقَالَ: أَدَّيْتُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَقَالَ السَّيِّدُ: بَلْ بَعْدَهُ، صُدِّقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفَسْخِ وَعَلَى السَّيِّدِ الْبَيِّنَةُ.
الثَّالِثُ: إِذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً لَا عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ أَوْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ كَانَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ.
وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إِذَا عَتَقَ لَا عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ، لَا يَتْبَعُهُ الْكَسْبُ وَالْوَلَدُ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ هُنَاكَ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ عَلَى السَّيِّدِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، وَاسْتَحَقَّ اسْتِتْبَاعَ الْوَلَدِ
وَالْكَسْبِ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِبْطَالُهُ، وَهُنَاكَ لَا اسْتِحْقَاقَ عَلَى السَّيِّدِ، فَجُعِلَ فَاسِخًا. قَالَ: وَعَرَضْتُ هَذَا عَلَى الْقَفَّالِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَقَرَّنِي عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَ غَيْرَهُ.
وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَتْبَعُهُ الْوَلَدُ وَالْكَسْبُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
الرَّابِعُ: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَارِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَى وَارِثِي كَذَا بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ، عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ.
الْخَامِسُ: لَا يَجِبُ الْإِيتَاءُ فِي الْفَاسِدَةِ.
السَّادِسُ: لَوْ كَاتَبَ أَمَةً كِتَابَةً فَاسِدَةً، وَعَجَزَتْ عَنِ الْأَدَاءِ، فَأَرَقَّهَا، أَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ قَبْلَ عَجْزِهَا، لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ، بِخِلَافِ الصَّحِيحَةِ.
السَّابِعُ: لَوْ عَجَّلَ النُّجُومَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَهَلْ يُعْتَقُ كَالصَّحِيحَةِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تُوجَدْ عَلَى وَجْهِهَا؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنُ: مَنْ يُلْزِمُ السَّيِّدَ فِطْرَةَ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً.
التَّاسِعُ: هَلْ يُصْرَفُ سَهْمُ الْمُكَاتَبِينَ إِلَى الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً فَاسِدَةً؟ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْمَنْعُ.
الْعَاشِرُ: الْمُسَافِرَةُ مَمْنُوعَةٌ فِي الْفَاسِدَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، جَائِزَةٌ فِي الصَّحِيحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا سَبَقَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ.
هِيَ خَمْسَةٌ:
الْأَوَّلُ: حُصُولُ الْعِتْقِ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ مَسَائِلُ.
إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ كُلِّ النُّجُومِ، وَكَذَا بِالْإِبْرَاءِ، وَفِي حُصُولِهِ بِالِاسْتِبْدَالِ عَنِ النُّجُومِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا جَوَّزْنَا الْحَوَالَةَ بِالنُّجُومِ، أَوْ عَلَيْهَا حَصَلَ الْعِتْقُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ.
وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النُّجُومِ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِهَا، لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجَمِيعِ، لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» .
وَلَوْ كَاتَبَ عَبِيدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَذْهَبَ صِحَّتُهَا، وَأَنَّهُ إِذَا أَدَّى بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ، عَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْآخَرُونَ شَيْئًا.
وَلَوْ كَاتَبَ اثْنَانِ عَبْدَهُمَا مَعًا، فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي الْأَدَاءِ، وَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءِ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ كَاتَبَ إِنْسَانٌ عَبْدًا، وَمَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَدَّى نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، فَفِي عِتْقِهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّانِيَةُ: لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِجُنُونِ السَّيِّدِ، وَلَا الْعَبْدِ، وَلَا بِإِغْمَائِهِمَا، فَإِنْ جُنَّ السَّيِّدُ، فَعَلَى الْمُكَاتَبِ تَسْلِيمُ النُّجُومِ إِلَى وَلِيِّهِ، فَإِنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ، لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ فَاسِدٌ.
وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ آخَرُ يُؤَدِّيهِ، فَلِلْوَلِيِّ تَعْجِيزُهُ. وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، فَهُوَ كَالْجُنُونِ.
فَلَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ، وَعَجَّزَهُ الْوَلِيُّ، ثُمَّ رُفِعَ الْحَجْرُ عَنْهُ، اسْتَمَرَّ التَّعْجِيزُ.
وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا
أَخَذَ النُّجُومَ، وَعَجَّزَ الْحَاكِمُ الْمُكَاتَبَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ أَقْوَى، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فِي قَوْلٍ، وَلِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لِحِفْظِ مَالِهِ. فَلَوْ حُسِبَ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ، وَأَتْلَفَهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ لَمْ يَحْصُلْ حِفْظُ الْمَالِ، وَحَجْرُ الْمُرْتَدِّ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَسْلَمَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي مَالِهِ حَقٌّ.
وَأَمَّا إِذَا جُنَّ الْمُكَاتَبُ، فَأَدَّى فِي جُنُونِهِ، أَوْ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ مِنْهُ فَيُعْتَقُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ النُّجُومِ مُسْتَحَقٌّ.
وَلَوْ أَخَذَهَا الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ مِنَ الْمُكَاتَبِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ. هَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ عَسِرَ وُصُولُ السَّيِّدِ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ قَبْضِ مَا يُصَادِفُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ مُرَاجَعَةُ الْوَلِيِّ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِبْدَادِهِ بِالْقَبْضِ.
فَلَوِ اسْتَبَدَّ لَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَلَوْ أُقْبِضَ الْمَجْنُونُ، لَمْ يَكُنْ لِإِقْبَاضِهِ حُكْمٌ.
وَحَكَى قَوْلًا أَوْ وَجْهًا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. هَذَا فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، أَمَّا الْفَاسِدَةُ، فَهَلْ تَبْطُلُ بِجُنُونِهِمَا وَإِغْمَائِهِمَا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ.
أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَالشَّرِكَةِ، وَالثَّانِي: لَا كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَأَصَحُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ: تَبْطُلُ بِجُنُونِ السَّيِّدِ وَإِغْمَائِهِ، وَبِالْحَجْرِ عَلَيْهِ، لَا بِجُنُونِ الْعَبْدِ وَإِغْمَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي الْكِتَابَةِ لِلْعَبْدِ لَا لِلسَّيِّدِ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ فَأَفَاقَ، وَأَدَّى الْمُسَمَّى عَتَقَ، وَثَبَتَ التَّرَاجُعُ. قَالُوا: وَكَذَا لَوْ أَخَذَ السَّيِّدُ فِي جُنُونِهِ، وَقَالُوا: يُنَصِّبُ السَّيِّدُ مَنْ يَرْجِعُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ بِأَخْذِ السَّيِّدِ هُنَا.
وَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ هُنَا التَّعْلِيقُ، وَالصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا، بِالْأَدَاءِ مِنَ الْعَبْدِ فَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ، فَأَدَّى الْمُسَمَّى لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّعْلِيقِ فِي الْفَاسِدَةِ يَتْبَعُهَا،
فَإِذَا بَطَلَتْ بَطَلَ التَّعْلِيقُ، كَمَا لَوْ فَسَخَهَا السَّيِّدُ.
وَالثَّانِي: يُعْتَقُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنْ لَا تَرَاجُعَ؛ لِأَنَّ التَّرَاجُعَ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ [الْفَاسِدَةِ] وَقَدْ زَالَتْ، وَبَقِيَ التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ.
وَقِيلَ يَثْبُتُ، قَالَ: وَمَسَاقُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْكَسْبُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا كَاتَبَ الشَّرِيكَانِ مَعًا، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ. وَهَلْ يَسْرِي إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ.
الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: يَسْرِي. وَفِي وَقْتِ السِّرَايَةِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: فِي الْحَالِ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ الْحُرِّيَّةُ.
وَأَظْهَرُهُمَا: لَا يَثْبُتُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَفِي التَّعْجِيلِ ضَرَرٌ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِفَوَاتِ الْوَلَاءِ، وَبِالْمُكَاتَبِ بِانْقِطَاعِ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ عَنْهُ.
فَإِنْ قُلْنَا: تَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَمْ يَسْرِي الْعِتْقُ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ؟ وَجْهَانِ.
الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: تَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ أَقْوَى مِنَ الْكِتَابَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَى الشَّرِيكِ لِلْمُعْتِقِ، وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ.
وَالثَّانِي: يَسْرِي الْعِتْقُ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ الْغَيْرِ، فَعَلَى هَذَا وَلَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلشَّرِيكِ، لَا لِلْمُعْتِقِ حِينَئِذٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ، فَأَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ مِنَ النُّجُومِ عَتَقَ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَكَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ عَجَزَ، وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ ثَبَتَتِ السِّرَايَةُ حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِنَفْسِ الْعَجْزِ، أَمْ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَمْ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ حُصُولُ التَّعْلِيقِ مِنْ وَقْتِ الْعَجْزِ، وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْعَجْزِ، فَقَدَ [مَاتَ] بَعْضُهُ رَقِيقًا وَبَعْضُهُ حُرًّا. وَهَلْ يُورَثُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرَائِضِ.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَالْقَوْلُ
فِي السِّرَايَةِ، وَفِي وَقْتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ النُّجُومِ بِرِضَى صَاحِبِهِ، فَهَلْ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ، فَهُوَ كَالْإِعْتَاقِ فِي السِّرَايَةِ وَوَقْتِهَا.
قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْقَبْضِ فَلَا يَسْرِي؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي إِنْشَاءِ الْكِتَابَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِجْبَارَهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَنَصِيبِي حُرٌّ، فَإِذَا طَلَعَتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَسَرَى؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّعْلِيقِ.
وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَعَتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَقُلْنَا: يُعْتَقُ نَصِيبُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَسْرِ؛ لِأَنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْقَبْضِ وَابْتِدَاءُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ.
فَرْعٌ
قَالَ الْعَبْدُ لِمَالِكَيْهِ وَقَدْ كَاتَبَاهُ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمَا النُّجُومَ، وَأَنْكَرَا، صُدِّقَا بِالْيَمِينِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُصَدِّقِ، وَيُصَدَّقُ الْمُكَذِّبُ بِيَمِينِهِ.
وَهَلْ يَسْرِي الْعِتْقُ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ: الْمَنْعُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِ النَّجْمِ الْأَخِيرِ كَالِاخْتِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَخِيرِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ لِأَحَدِهِمَا: دَفَعْتُ إِلَيْكَ جَمِيعَ النُّجُومِ لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ، وَتَدْفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ نَصِيبِي، وَدَفَعْتَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ بِنَفْسِكَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ الْقَبْضَ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ، وَصُدِّقَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْآخَرِ بِيَمِينِهِ، وَصُدِّقَ الْآخَرُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ
نَصِيبَهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا.
ثُمَّ يُتَخَيَّرُ الْمُنْكِرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ مِنَ النُّجُومِ مِنَ الْعَبْدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُقِرِّ نِصْفَ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِمَا بِالشَّرِكَةِ، وَيَأْخُذُ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِدَفْعِ الْمُشَارَكَةِ عَنْهُ.
وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَمَّا طَالَبَ الْمُنْكِرَ بِهِ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ وَإِرْقَاقُ نَصِيبِهِ. ثُمَّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْإِمْلَاءِ» أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَا أَرَقَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ خَيْرَانَ إِلَى الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَجَعَلُوا التَّقْوِيمَ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَامْتَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ نَقْلِهِ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ يَقُولُ: أَنَا حُرٌّ كَامِلُ الْحَالِ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّقْوِيمَ، وَهُنَا يَعْتَرِفُ بِأَنَّ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ.
وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ لِأَحَدِهِمَا: دَفَعْتُ النُّجُومَ إِلَيْكَ لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ وَتَدْفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إِلَيْهِ، كَمَا صَوَّرْنَا، فَقَالَ فِي الْجَوَابِ: قَدْ فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَأَنْتَ عَتِيقٌ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ، وَصُدِّقَ الْمُنْكِرُ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بَقِيَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا، وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ حِصَّتِهِ مِنَ الْمُكَاتَبِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ مِنَ الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِأَخْذِهَا، وَمِنْ أَيِّهِمَا أَخَذَ، عَتَقَ نَصِيبُهُ.
ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُكَاتَبِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُقِرِّ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ. فَإِذَا اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَلَمْ يَأْخُذْ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُقِرِّ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمُنْكِرِ، وَعَجَّزَ نَفْسَهُ، فَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَيُقَوَّمُ عَلَى الْمُقِرِّ فَيَأْخُذُ الْمُنْكِرُ مِنْهُ قِيمَةَ النِّصْفِ، وَيَأْخُذُ أَيْضًا مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ كَسَبَ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ مِلْكَهُ.
الرَّابِعَةُ: كَاتَبَ عَبْدًا وَمَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، فَهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَهُ فِي أَنَّهُمَا إِذَا أَعْتَقَاهُ أَوْ أَبْرَآهُ عَنِ النُّجُومِ عَتَقَ، وَكَذَا لَوِ اسْتَوْفَيَاهَا.
وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يُعْتَقُ نَصِيبُهُ بِالْإِبْرَاءِ حَتَّى يُبْرِئَهُ الْآخَرُ، أَوْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا فَأَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ.
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُبْرِئْهُ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَهُنَا أَبْرَأَهُ الِابْنُ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يُبْرِئُهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الِابْنُ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ يُعْتَقُ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مُقْتَضَى سِيَاقِ «الْمُخْتَصَرِ» حُصُولُ قَوْلَيْنِ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ.
أَحَدُهُمَا: الْعِتْقُ، وَأَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ بَلْ يُوقَفُ، فَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْوَلَاءُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، عَتَقَ الْآنَ نَصِيبُهُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ وَلَاءُ مَا عَتَقَ، وَالْبَاقِي قِنٌّ لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي، وَبَطَلَتْ كِتَابَةُ الْأَبِ، وَكَانَ وَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلِابْنِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْطُلُ بِالْعَجْزِ، وَالْعِتْقُ فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْأَصْحَابِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ مُعْسِرًا، بَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَادَ قِنًّا، وَإِنْ أَدَّى وَعُتِقَ، فَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ.
وَأَمَّا وَلَاءُ نَصِيبِ الْأَوَّلِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لِلْأَبِ أَيْضًا. وَقِيلَ: لِلِابْنِ، وَقِيلَ: إِنْ أَعْتَقَهُ فَلَهُ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ فَلِلْأَبِ.
وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَهَلْ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ إِذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ
السِّرَايَةَ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ شَرِيكَانِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ السَّابِقَةَ تَقْتَضِي حُصُولَ الْعِتْقِ بِهَا، وَالْمَيِّتُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَالِابْنُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي، فَهَلْ يَسْرِي فِي الْحَالِ، أَوْ عِنْدَ الْعَجْزِ؟ قَوْلَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الشَّرِيكَيْنِ.
أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي فَإِنْ قُلْنَا يَسْرِي فِي الْحَالِ، فَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ فِي انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ فِيمَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، كَمَا حَكَاهُمَا فِي صُورَةِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: الِانْفِسَاخُ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ وَلَائِهِ لِلْمُعْتِقِ، وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ بَقِيَ رَقِيقًا، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِحُكْمِ كِتَابَةِ الْأَبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا بِالْعُصُوبَةِ.
وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِيمَا سَرَى إِلَيْهِ، فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْأَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ السِّرَايَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَطَرِيقَانِ.
أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ، وَيَكُونُ وَلَاءُ الْجَمِيعِ لَهُ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ وَلَاءَ مَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ لَهُ.
وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَانِ. وَقَدْ يَخْتَصُّ الْوَجْهَانِ بِصُورَةِ الْإِعْتَاقِ. وَفِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ يَكُونُ وَلَاءُ النِّصْفِ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا سِرَايَةَ، فَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ كَمَا كَانَ.
فَإِنْ عَتَقَ بِأَدَاءٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْأَبِ. وَإِنْ عَجَزَ بَقِيَ نَصِيبُهُ رَقِيقًا. وَفِي وَلَاءِ نَصِيبِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَانِ، هَلْ هُوَ لَهُ، أَمْ لَهُمَا؟ وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ نَصِيبَهُ مِنَ النُّجُومِ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَقَوْلَانِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الشَّرِيكَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ صَحَّحْنَا فَقَالَ الْإِمَامُ: لَا سِرَايَةَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ. وَلَا سِرَايَةَ حَيْثُ حَصَلَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ الْقَوْلَ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ، وَفِي السِّرَايَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا
إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، أَوْ أَبْرَأَ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ بِلَا فَرْقٍ.
وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ مُجْبَرًا عَلَى الْقَبْضِ، وَيَقُولَ: لَهُ الْإِعْتَاقُ وَالْإِبْرَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُمَا، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُجْبَرُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ نَصِيبِ الثَّانِي، قَاسَمَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبْضِ مَا عَسَى الثَّانِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِيهِ.
فَرْعٌ
خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدًا، فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ أَبَاهُمَا كَاتَبَهُ، فَإِنْ كَذَّبَاهُ صُدِّقَا بِيَمِينِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِكِتَابَةِ الْأَبِ، فَإِنْ حَلَفَا فَذَاكَ، وَإِنْ نَكَلَا وَحَلَفَ الْعَبْدُ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ ثَبَتَتِ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، ثَبَتَ الرِّقُّ فِي نَصِيبِ الْحَالِفِ، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ فِي نَصِيبِ النَّاكِلِ.
فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً اشْتُرِطَ رَجُلَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحُرِّيَّةُ لَا الْمَالُ، وَإِنْ صَدَّقَاهُ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْفَرْعِ.
وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، فَالْمُكَذِّبُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُصَدِّقِ، فَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الْكِتَابَةِ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّ التَّبْعِيضُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ. ثُمَّ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْمُصَدِّقِ عَلَى الْمُكَذِّبِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: شَهَادَتُهُ هَذِهِ تُثْبِتُ لَهُ حُقُوقًا، فَإِنَّ النُّجُومَ مَوْرُوثَةٌ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنَ النُّجُومِ، فَلَهُ غَرَضٌ فِي السِّرَايَةِ.
فَإِنْ نَفَيْنَا السِّرَايَةَ اتَّجَهَ الْقَبُولُ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ نَصِيبَ الْمُصَدِّقِ مُكَاتَبٌ وَالْآخَرِ قِنٌّ، فَنِصْفُ الْكَسْبِ لَهُ، يُصْرَفُ فِي جِهَةِ النُّجُومِ، وَنِصْفُهُ لِلْمُكَذِّبِ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى مُهَايَأَةٍ،
لِيَكْسِبَ يَوْمًا لِنَفْسِهِ، وَيَوْمًا لِلْمُكَذِّبِ، أَوْ يَخْدِمَهُ جَازَ، وَلَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تَقْدِيرَ فِي النَّوْبَتَيْنِ فِي الْمُهَايَأَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يُجَوِّزُ يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً، فَإِنْ زَادَ كَسْبُهُ فَوَجْهَانِ. وَإِذَا أَدَّى النُّجُومَ، وَفَضَلَ شَيْءٌ مِمَّا كَسَبَ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ لَهُ.
ثُمَّ إِنْ أَعْتَقَ الْمُصَدِّقُ نَصِيبَ نَفْسِهِ عَتَقَ. وَفِي سَرَايَتِهِ طَرِيقَانِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: قَوْلَانِ كَمَا لَوْ صَدَّقَاهُ، إِلَّا أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ ثَبَتَ هُنَا فِي الْحَالِ، وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُنْكِرٌ الْكِتَابَةَ، فَلَا يُمْكِنُ التَّوَقُّفُ إِلَى الْعَجْزِ، وَقِيلَ: تَثْبُتُ السِّرَايَةُ فِي الْحَالِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْكِتَابَةِ يَقُولُ: هُوَ رَقِيقٌ لَهُمَا، فَإِذَا أَعْتَقَ صَاحِبَهُ ثَبَتَتِ السِّرَايَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا سِرَايَةَ، فَوَلَاءُ مَا عَتَقَ هَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُصَدِّقُ؟ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي لِأَنَّ الْمُنْكِرَ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِنْكَارِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا، فَمَاتَ هَذَا الْعَبْدُ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، وَقُلْنَا: إِنَّ مِثْلَهُ يُورَثُ، وُقِفَتْ حِصَّةُ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالسِّرَايَةِ، فَوَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ، لِلْمُعْتِقِ، وَفِي وَلَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ الْوَجْهَانِ.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْمُصَدِّقُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ النُّجُومِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا سِرَايَةَ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْكِتَابَةِ لَا يَعْتَرِفُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، وَيَعْتَقِدُ الْإِبْرَاءَ لَغْوًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَدِّقِ مَقْبُولٌ فِي نَصِيبِهِ.
فَإِذَا أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ، فَالسِّرَايَةُ بَعْدَهُ قَهْرِيَّةٌ، وَإِنْ أَدَّى نَصِيبَ الْمُصَدِّقِ مِنَ النُّجُومِ، فَلَا سِرَايَةَ.
وَهَلْ يَكُونُ وَلَاءُ مَا عَتَقَ لَهُمَا، أَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُصَدِّقُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَلَوْ عَجَّزَهُ الْمُصَدِّقُ عَادَ قِنًّا، وَيَكُونُ الْكَسْبُ الَّذِي فِي يَدِهِ لِلْمُصَدِّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَذِّبَ أَخَذَ حِصَّتَهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَكْسَابِهِ، فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: كَسَبْتُهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ أَخَذْتَ نَصِيبَكَ،
فَهُوَ لِي، وَقَالَ الْمُكَذِّبُ: بَلْ قَبْلَهَا، وَكَانَ لِلْأَبِ فَوَرِثْنَا صُدِّقَ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا قَبَضَ النُّجُومَ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً تَقَدَّمَ عَلَى هَذَا أَنَّ عِوَضَ الْكِتَابَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا دَيْنًا كَمَا سَبَقَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ نَقْدًا وَعَرَضًا مَوْصُوفًا، وَأَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ فَقَبَضَهُ فَوَجَدَهُ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَهُ رَدُّهُ، وَطَلَبُ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَمْلِكْهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَاضَهُ حَيْثُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ.
وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ نَظَرَ هَلْ يَرْضَى بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ، فَهَلْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالرِّضَى، أَمْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ وَتَأَكَّدَ الْمِلْكُ بِالرِّضَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
وَإِنْ رَدَّهُ فَهَلْ نَقُولُ: مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ انْتَقَضَ الْمِلْكُ بِالرَّدِّ، أَمْ نَقُولُ: إِذَا رَدَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسَائِلُ سَبَقَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا.
مِنْهَا: تَصَارَفَا فِي الذِّمَّةِ، وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، إِنْ قُلْنَا:[مَلَكَ] بِالْقَبْضِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ قُلْنَا: تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضٍ.
وَمِنْهَا: أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ، وَقَبَضَ جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَرَدَّهَا، هَلْ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ يُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافُ.
وَمِنْهَا: قَالَ الْإِمَامُ: الْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالرِّضَى، فَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّدَّ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَى، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُقَالَ: الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَعْيَانِ، وَالْأَوْجَهُ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ فِيمَا يُؤَدِّي رَدُّهُ إِلَى رَفْعِ الْعَقْدِ إِبْقَاءً لِلْعَقْدِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وَجَدَ السَّيِّدُ بِالنُّجُومِ الْمَقْبُوضَةِ أَوْ بَعْضِهَا عَيْبًا لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ، وَيُطَالِبَ بِبَدَلِهِ سَوَاءٌ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ وَالْفَاحِشُ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ، فَالْعِتْقُ نَافِذٌ قَطْعًا، وَيَكُونُ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ.
وَهَلْ يَحْصُلُ الْعِتْقُ مَنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، أَمْ عِنْدَ الرِّضَى؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ.
وَإِنْ أَرَادَ الرَّدَّ وَالِاسْتِبْدَالَ، فَرَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: نَتَبَيَّنُ بِالرَّدِّ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْقَبْضِ، فَلَا عِتْقَ، وَإِنْ أَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَصَلَ الْعِتْقُ حِينَئِذٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبِالرَّدِّ يَرْتَفِعُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ حَاصِلًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِصِفَةِ الْجَوَازِ، فَإِذَا رَدَّ الْعِوَضَ ارْتَدَّ.
وَأَصَحُّهُمَا: نَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ إِذْ لَوْ حَصَلَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ هُنَا بِصِفَةِ اللُّزُومِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ.
وَلَوْ تَلِفَ عِنْدَ السَّيِّدِ مَا قَبَضَهُ، ثُمَّ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا، فَقَدْ قَدَّمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي عَيْنٍ فَإِنْ رَضِيَ، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ فَحَوَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الرِّضَى كَافٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ إِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ كَالْعِوَضِ فِي الرَّدِّ، وَالرَّدُّ يَكْفِي فِي سُقُوطِ الرِّضَى، فَكَذَا الْأَرْشُ.
وَإِنْ طَلَبَهُ تَقَرَّرَ، وَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِالْإِسْقَاطِ. وَأَمَّا النُّجُومُ، فَإِنْ رَضِيَ فَالْحَقُّ نَافِذٌ، وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ الرِّضَى أَمْ يَسْتَنِدُ إِلَى الْقَبْضِ؟ وَإِنْ طَلَبَ الْأَرْشَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ، فَإِذَا أَدَّى
الْأَرْشَ حَصَلَ حِينَئِذٍ، وَإِنْ عَجَزَ فَلِلسَّيِّدِ إِرْقَاقُهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ بِبَعْضِ النُّجُومِ.
وَيَجِيءُ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ بَعْدَ حُصُولِهِ. وَفِي قَدْرِ الْأَرْشِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ قَدْرِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِحَسَبِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ قِيمَةِ النُّجُومِ، وَبِهَذَا قَطَعَ السَّرَخْسِيُّ.
وَالثَّانِي: مَا نَقَصَ مِنَ النُّجُومِ الْمَقْبُوضَةِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ تَرْجِيحَ هَذَا الْوَجْهِ، وَأُجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ عَقْدٍ وَرَدَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَأَمْثَلُ مِنْهُمَا أَنْ يُقَالَ: يَغْرَمُ السَّيِّدُ مَا قَبَضَ، وَيُطَالِبُهُ بِالْمُسَمَّى بِصِفَاتِهِ الْمَشْرُوطَةِ.
أَمَّا إِذَا قَبَضَ النُّجُومَ، فَوَجَدَهَا نَاقِصَةَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، فَلَا يُعْتَقُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَمْ تَلِفَ فَإِنْ رَضِيَ بِالنَّاقِصِ، فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ بِالْإِبْرَاءِ عَنِ الْبَاقِي.
السَّادِسَةُ: إِذَا خَرَجَ بَعْضُ النُّجُومِ مُسْتَحَقًّا، تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِتْقَ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْوَرَثَةِ.
وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ عِنْدَ الْأَخْذِ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ قَدْ عُتِقْتَ ثُمَّ بَانَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِالْحُرِّيَّةِ مُؤَاخَذَةً لَهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَهُوَ صِحَّةُ الْأَدَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي مُخَاصَمَةِ الْمُدَّعِي: إِنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْبَائِعِ فُلَانٍ إِلَى أَنِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ؟ وَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ بِالْأَصَحِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: أَعْتَقْتَنِي بِقَوْلِكَ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ السَّيِّدُ: أَرَدْتُ أَنَّكَ حُرٌّ بِمَا أَدَّيْتَ، وَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحِّ الْأَدَاءُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ بِيَمِينِهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِ السَّيِّدِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ بِمَا أَدَّى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ إِرَادَتَهُ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَقِيَاسُ تَصْدِيقِ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَوْ
قِيلَ لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، طَلَّقْتُهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي جَرَى طَلَاقٌ، وَقَدْ سَأَلْتُ الْمُفْتِينَ فَقَالُوا: لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: بَلْ أَرَدْتَ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ أَوِ الْإِقْرَارَ بِهِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ فِي الْعِتْقِ، وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ جَرَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي دَفْعِهِ مُحَالٌ.
وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمَا اسْتَقَرَّ إِقْرَارٌ بِخِلَافِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ عَقِيبَ قَبْضِ النُّجُومِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْقَبْضُ، وَلَمْ تُوجَدِ الْإِشَارَةُ فِي الطَّلَاقِ إِلَى وَاقِعَةٍ، وَإِنَّمَا وُجِدَ سُؤَالٌ مُطْلَقٌ، وَجَوَابٌ مُطْلَقٌ.
وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، إِنَّمَا يُقْبَلُ تَنْزِيلُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ إِذَا رَتَّبَهُ عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَوْ وَجَدَ قَرِينَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ، بِأَنْ كَانَا يَتَخَاصَمَانِ فِي لَفْظَةٍ أَطْلَقَهَا، فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّأْوِيلَ، يُقْبَلُ، وَأَنَّ فِي الصُّورَتَيْنِ لَوِ انْفَصَلَ قَوْلُهُ عَنِ الْقَرَائِنِ لَمْ يُقْبَلِ التَّأْوِيلُ.
وَهَذَا تَفْصِيلٌ قَوِيمٌ لَا بَأْسَ بِالْأَخْذِ بِهِ، لَكِنْ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْتَ حُرٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ حُرِّيَّتِهِ أَمِ ابْتِدَاءً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَبْضِ النُّجُومِ، أَوْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ؛ لِشُمُولِ الْعُذْرِ. وَمَالَ لِذَلِكَ إِلَى قَبُولِ التَّأْوِيلِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الْأَدَاءِ. وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إِيتَاءُ الْمُكَاتَبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)
[النُّورِ: 33] وَاخْتَارَ الرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» أَنَّ الْإِيتَاءَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَالْإِيتَاءُ: أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ، أَوْ يَبْذُلَ شَيْئًا وَيَأْخُذَ النُّجُومَ، وَالْحَطُّ أَفْضَلُ، وَهَلْ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَذْلُ بَدَلٌ عَنْهُ، أَمْ بِالْعَكْسِ؟ وَجْهَانِ.
الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْأَوَّلُ، وَمَحَلُّ الْإِيتَاءِ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ.
فَإِنْ أَوْجَبْنَا كَفَى حَطُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا. وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِعِوَضٍ، أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ، فَلَا إِيتَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ عَقْدٍ عَتَاقَةٌ عَلَى عِوَضٍ، وَلَا يَجِبُ فِي الْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِلَا خِلَافٍ.
وَفِي وَقْتِ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْمُتْعَةِ؛ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: قَبْلَهُ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْأَدَاءِ.
وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ. وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ، فَمِنْ أَوَّلِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَحُصُولِ الْعِتْقِ، لَكِنْ يَكُونُ قَضَاءً إِذَا أَوْجَبْنَا التَّقْدِيمَ عَلَى الْعِتْقِ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الْإِيتَاءُ إِلَّا فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ فِي «الْأُمِّ» : لَا يَتَقَدَّرُ، بَلْ يَكْفِي أَقَلُّ مَا يَتَمَوَّلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْعِتْقِ، فَيَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، قَدَّرَهُ الْحَاكِمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَنَظَرَ فِيهِ إِلَى قُوَّةِ الْعَبْدِ وَأَكْسَابِهِ.
وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ حَالُ السَّيِّدِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ بِرُبْعِ الْعُشْرِ، قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا: يُقَدِّرُهُ الْحَاكِمُ، فَقَدَّرَ شَيْئًا تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ وَقْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى [مَالِ] الْكِتَابَةِ كَفَى، وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَا وَقْعَ لَهُ لَا يَكْفِي، وَإِنْ شَكَكْنَا فَخِلَافٌ؛ لِتَعَارُضِ أَصْلِ بَرَاءَةِ السَّيِّدِ وَأَصْلِ
بَقَاءِ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ. أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ، فَقَدْرُ الرُّبْعِ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَإِلَّا فَالسَّبْعُ. وَأَمَّا جِنْسُهُ، فَالْإِيتَاءُ بِالْحَطِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ نَفْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْبَدَلُ، فَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ [الْكِتَابَةِ] كَبَذْلِ الدَّرَاهِمِ عَنِ الدَّنَانِيرِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُكَاتَبَ قَبُولُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ بِتَرْجِيحِ اللُّزُومِ.
فَلَوْ رَضِيَ بِهِ جَازَ قَطْعًا نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْعِبَادَاتِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ: إِذَا مَنَعْنَا نَقَلَ الزَّكَاةِ، وَانْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ، فَقَدْ نَقُولُ: لَهُمْ أَنْ يَعْتَاضُوا عُرُوضًا عَنْ حُقُوقِهِمْ، فَلَوْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْكِتَابَةِ، لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعَانَةُ.
فَرْعٌ
لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِ النُّجُومِ، وَقَبْلَ الْإِيتَاءِ، لَزِمَ الْوَرَثَةَ الْإِيتَاءُ، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّاهُ وَلِيُّهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَاقِيًا أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْهُ، وَلَا يُزَاحِمُهُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي عَيْنِهِ، أَوْ هُوَ كَالْمَرْهُونِ بِهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْمَبْسُوطِ» .
وَإِنْ لَمْ [يَكُنْ بَاقِيًا] فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ وَاجِبَ الْإِيتَاءِ لِضَعْفِهِ يُؤَخَّرُ عَنِ الدُّيُونِ، وَيَحْصُلُ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: بِقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَأَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ فِي رُتْبَةِ الدُّيُونِ وَالزِّيَادَةِ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ لِضَعْفِهَا.
وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ مَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا، فَإِنْ أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْوَصَايَا.
إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِي الْإِيتَاءِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّقَاصُّ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَرْفَعُ الْمُكَاتَبُ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يَرَى بِرَأْيِهِ وَيَفَصِلَ الْأَمْرَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ جَعَلْنَا الْإِيتَاءَ أَصْلًا، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَهُ تَعْجِيزُهُ بِالْبَاقِي إِذَا لَمْ نَجِدْهُ وَإِذَا عَجَّزَهُ سَقَطَ الْإِيتَاءُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا شُرِّعَ الْإِيتَاءُ لِئَلَّا يَعْجَزَ الْعَبْدُ بِقَدْرِهِ، وَلَا يُفَوِّتَ الْعِتْقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَجَّلَ الْمُكَاتَبُ النُّجُومَ قَبْلَ الْمَحَلِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّيِّدِ ضَرَرٌ فِي الْقَبُولِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَنْ كَانَ لَا يَبْقَى بِحَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْحُلُولِ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ، أَلْزَمُهُ لَهُ مُؤْنَةً كَالْحَيَوَانِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ، أَوْ كَانَ فِي أَيَّامِ فِتْنَةٍ أَوْ غَارَةٍ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ.
فَلَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ فِي وَقْتِ الْفِتْنَةِ وَالْغَارَةِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَزُولُ عِنْدَ الْمَحَلِّ.
وَلَوْ أَتَى بِالنُّجُومِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِي النَّقْلِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ أَوْ ذَلِكَ الْبَلَدُ مَخُوفًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِلَّا فَيُجْبَرُ.
وَلَوْ أَتَى بِالنَّجْمِ فِي مَحَلِّهِ، وَالسَّيِّدُ غَائِبٌ، قَبَضَ الْقَاضِي عَنْهُ، وَكَذَا يَقْبِضُ عَنْهُ إِذَا امْتَنَعَ وَهُوَ حَاضِرٌ، وَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبَ.
وَلَوْ أَتَى بِالنَّجْمِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَالسَّيِّدُ غَائِبٌ، قَبَضَ عَنْهُ أَيْضًا إِذَا عَلِمَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ دَيْنٌ عَلَى حُرٍّ، فَأَذِنَ لَهُ الْحَاكِمُ،
هَلْ يَقْبِضُهُ لِلْغَائِبِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤَدِّي غَرَضٌ إِلَّا سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالنَّظَرُ لِلْغَائِبِ أَنْ يَبْقَى الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَصِيرَ أَمَانَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ.
فَرْعٌ
إِذَا أَتَى الْمُكَاتَبُ بِالنُّجُومِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَرَامٌ، أَوْ مَغْصُوبٌ، نُظِرَ إِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ لَمْ يَجْبُرْ عَلَى قَبُولِهِ، وَتُسْمَعْ مِنْهُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ فِي إِقَامَتِهَا غَرَضًا ظَاهِرًا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْحَرَامِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ كَثِيرُونَ.
وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: إِنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ إِذَا عَيَّنَ لَهُ مَالِكًا، [أَمَّا] إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، فَلَا تُتَصَوَّرُ الْبَيِّنَةُ لِلْمَجْهُولِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مَغْصُوبٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَهُ؛ لِظَاهِرِ الْيَدِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ السَّيِّدُ، وَكَانَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فِي وَجْهٍ: لَا يَحْتَاجُ السَّيِّدُ إِلَى بَيِّنَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَلَا تَثْبُتُ [بَيِّنَةُ] السَّيِّدِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِحَلِفِ الْمُكَاتَبِ حَقُّهُ، ثُمَّ إِذَا حَلَفَ الْمُكَاتَبُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى قَبُولِهِ، أَوْ إِبْرَائِهِ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُمَا، أَخَذَ الْحَاكِمُ تِلْكَ النُّجُومَ، وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ.
وَقِيلَ: فِي إِجْبَارِهِ عَلَى الْأَخْذِ قَوْلَانِ.
ثُمَّ إِذَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ، نُظِرَ إِنْ عَيَّنَ لَهُ مَالِكًا، أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، مُؤَاخَذَةً لَهُ بِاعْتِرَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ.
وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ مَالِكٌ، بَلِ اقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: هُوَ مَغْصُوبٌ، أَوْ مَسْرُوقٌ، أَوْ حَرَامٌ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ بِبَيْتِ الْمَالِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْتَزِعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لِمُعَيَّنٍ.
وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: امْسِكْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صَاحِبُهُ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ
فِيهِ، فَإِنْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: هُوَ لِلْمَكَاتَبِ [كَانَ] كَمَا ادَّعَاهُ، قَالَ الْإِمَامُ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِحَسَبِهِ.
قَالَ: وَإِنْ قُلْنَا: يُزِيلُ الْحَاكِمُ يَدَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، لَا يُقْبَلُ.
فَرْعٌ
إِذَا جَاءَ الْمُكَاتَبُ بِالنَّجْمِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، وَعَلَى شَرْطِ السَّيِّدِ أَنْ يُبْرِئَهُ فَالشَّرْطُ لَغْوٌ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي، وَإِنْ عَجَّلَ قَبْلَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي فَأَخَذَهُ وَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَصِحِّ الْقَبْضُ، وَلَا الْإِبْرَاءُ.
وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ كَذَا، بِشَرْطِ أَنْ تُعَجِّلَ لِيَ الْبَاقِيَ، وَإِذَا عَجَّلْتَ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الْبَاقِي، فَعَجَّلَ لَمْ يَصِحِّ الْقَبْضُ وَلَا الْإِبْرَاءُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ، وَعَلَى السَّيِّدِ رَدُّ الْمَأْخُوذِ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَشَارَ الْمُزَنِيُّ إِلَى تَرْدِيدِ قَوْلٍ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ اخْتِلَافَ الْقَوْلِ، وَحَمَلُوا التَّجْوِيزَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَجْرِ شَرْطٌ، فَابْتَدَأَ بِذَلِكَ.
وَلَوْ أَنْشَأَ رِضًى جَدِيدًا بِقَبْضِهِ عَمَّا عَلَيْهِ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ مَا فِي يَدِهِ عَنْ جِهَةِ الشِّرَاءِ، أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ عَنْ جِهَةِ الرَّهْنِ.
وَلَوْ أَخَذَ السَّيِّدُ مَا عَجَّلَهُ الْمُكَاتَبُ، وَأَبْرَأَهُ عَنِ الْبَاقِي بِلَا شَرْطٍ، أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسُهُ، فَأَخَذَ السَّيِّدُ مَا مَعَهُ، وَأَبْرَأَهُ عَنِ الْبَاقِي، أَوْ أَعْتَقَهُ، جَازَ.
وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ حِيلَةً يُعْتَقُ بِهَا بِمَا عَجَّلَ، وَيَكُونُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ الْأَصْحَابُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا عَجَزَتْ نَفْسُكُ، وَأَدَّيْتَ كَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَاتُ عَتَقَ عَنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ تَعْجِيزِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ إِذَا فَسَخَهَا بَعْدَ التَّعْجِيزِ، وَإِذَا عَتَقَ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَانَتِ الْأَكْسَابُ لَهُ،
فَيَتَرَاجَعَانِ، فَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَخَذَهُ، وَالسَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى عِوَضَيْنِ: التَّعْجِيزُ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ، وَالتَّعْجِيزُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ.
قَالَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : وَلَوْ لَمْ يُعَلِّقْ هَكَذَا، وَلَكِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَأَعْطَاهُ، عَتَقَ، وَلَكِنَّهُ عِوَضٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، فَيُعْتَقُ بِالصِّفَةِ، وَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهِ.
وَلَوْ عَجَّلَ الْمُكَاتَبُ النَّجْمَ، عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ، وَيُبْرِئَهُ عَنِ الْبَاقِي، فَفَعَلَ السَّيِّدُ ذَلِكَ، عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا دَفَعَ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ النَّصِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعَذُّرِ تَحْصِيلِ النُّجُومِ عِنْدَ حُلُولِهَا، وَلَهُ أَسْبَابٌ الْأَوَّلُ: الْإِفْلَاسُ، فَإِذَا حَلَّ نَجْمٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ أَدَائِهِ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَفْسَخَ.
وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَجْزُهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِطَ إِقْرَارَهُ بِالْعَجْزِ، وَلَا قِيَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ.
وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا. وَإِذَا رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ، وَحُلُولِ النَّجْمِ عِنْدَهُ.
وَمَتَّى فُسِخَتْ، سَلَّمَ لِلسَّيِّدِ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، لَكِنْ مَا أَخَذَهُ مِنَ الزَّكَاةِ يُسْتَرَدُّ وَيُؤَدِّيهِ. وَهَذَا قَدْ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْفَسْخُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ لَهُ تَأْخِيرُهُ مَا شَاءَ، كَفَسْخِ الْإِعْسَارِ.
وَإِذَا اسْتَنْظَرَهُ الْمُكَاتَبُ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْظِرَهُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْهَالُ، بَلْ لَهُ
الرُّجُوعُ إِلَى الْفَسْخِ مَتَى بَدَا لَهُ. وَإِذَا طَالَبَهُ بِالْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِمْهَالِ بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الصُّنْدُوقِ وَالدُّكَّانِ وَالْمَخْزَنِ، وَيَزِنُ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، فَقَدْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ الْفَسْخَ، وَلْيُحْمَلْ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّأْخِيرُ إِلَى اسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ، فَلَا.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النُّجُومِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي التَّقَاصِّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، أَدَّاهُ لِيَصْرِفَهُ الْمُكَاتَبُ فِي النُّجُومِ.
وَلَوْ حَلَّ النَّجْمُ وَهُوَ نَقْدٌ، وَلِلْمُكَاتَبِ عُرُوضٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ بَيْعُهَا عَلَى الْفَوْرِ بِيعَتْ وَلَا فَسْخَ، وَإِنِ احْتَاجَ الْبَيْعُ إِلَى مُدَّةٍ؛ لِكَسَادٍ وَغَيْرِهِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنْ لَا فَسْخَ.
وَرَأَى الْإِمَامُ الْفَسْخَ كَغَيْبَةِ الْمَالِ، وَهَذَا أَصَحُّ، وَضَبَطَ الْبَغَوِيُّ التَّأْخِيرَ لِلْبَيْعِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْهَا.
السَّبَبُ الثَّانِي: غَيْبَةُ الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ، وَالْمُكَاتَبُ غَائِبٌ، أَوْ غَابَ بَعْدَ حُلُولِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَلِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ إِنْ شَاءَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْحَاكِمِ، وَقِيلَ: لَا يَفْسَخُ بِنَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَأْخِيرُ الْفَسْخِ لِكَوْنِ الطَّرِيقِ مُخَوِّفًا، أَوِ الْمُكَاتَبِ مَرِيضًا.
وَإِذَا فَسَخَ بِنَفْسِهِ، فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُكَذِّبَهُ الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ حُلُولُ النَّجْمِ وَتَعَذُّرُ التَّحْصِيلِ، وَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ.
قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُحَلِّفُهُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ النُّجُومَ مِنْهُ، وَلَا مِنْ وَكِيلِهِ، وَلَا أَبْرَأَهُ، وَلَا أَحَالَ بِهِ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ.
وَذِكْرُ الْحَوَالَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ بِالنُّجُومِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمُكَاتَبِ حَاضِرًا لَمْ يُؤَدِّ الْحَاكِمُ النُّجُومَ مِنْهُ، وَيُمَكِّنِ السَّيِّدَ مِنَ الْفَسْخِ،
[لِأَنَّهُ] رُبَّمَا عَجَّزَ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ.
وَلَوْ نَظَرَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الْإِنْظَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ غَيْرُ مُقَصِّرٍ هُنَا، وَلَكِنْ يَرْفَعُ السَّيِّدُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحُلُولِ وَالْغَيْبَةِ، وَيَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْإِنْظَارِ، فَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْمُكَاتَبِ لِيُعَرِّفَهُ الْحَالَ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْعَجْزَ كَتَبَ بِهِ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ السَّيِّدِ لِيَفْسَخَ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ قَالَ: أُؤَدِّي الْوَاجِبَ، فَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ هُنَاكَ وَكِيلٌ سَلَّمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِلسَّيِّدِ، وَلِلْوَكِيلِ أَيْضًا إِنْ كَانَ وَكِيلًا فِيهِ.
وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْوَكِيلِ؛ لِاحْتِمَالِ الْعَزْلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَكِيلٌ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِإِيصَالِهِ إِلَيْهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ رُفْقَةٍ تَخْرُجُ، أَوْ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رِفْقَةٍ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَعَلَى السَّيِّدِ الصَّبْرُ إِلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ إِمْكَانِ الْوُصُولِ، فَإِنْ مَضَتْ، وَلَمْ يُوَصِّلْهُ مُقَصِّرًا، فَلِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ.
قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ السَّيِّدِ حَاكِمٌ، فَكَتَبَ السَّيِّدُ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَعْلَمَهُ بِالْحَالِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى رَجُلٍ، فَامْتَنَعَ فَعِنْدِي أَنَّهُ كَمَا لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ كِتَابِ الْقَاضِي إِذَا وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ.
وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ فِيهِ وَجْهَيْنِ. قَالَ: وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ سَلَّمَ الْمُكَاتَبُ إِلَى وَكِيلِ السَّيِّدِ، وَبَانَ أَنَّ السَّيِّدَ عَزَلَهُ، هَلْ يَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْوَجْهَيْنِ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا قَالَ الْحَاكِمُ: فُلَانٌ وَكِيلُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَمَرَهُ، بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ بَرِئَ بِلَا خِلَافٍ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الِامْتِنَاعُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُكَاتَبُ مِنْ أَدَاءِ النُّجُومِ
مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ؛ وَلِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الصِّفَةِ، فَإِذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ، فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ، وَإِنْ أَرَادَ الْفَسْخَ فَسَخَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَاضِي.
وَهَلْ لِلْمُكَاتَبِ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَقَائِهَا، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالْمُرْتَهِنِ يَفْسَخُ الرَّهْنَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَتَجْوِيزُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بَعِيدٌ.
الرَّابِعُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ الْفَسْخَ اشْتُرِطَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَيُثْبِتَ عِنْدَهُ الْكِتَابَةَ، وَحُلُولَ النَّجْمِ، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَقَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يَبْحَثُ، فَإِنْ وَجَدَ لِلْمُكَاتَبِ مَالًا أَدَّاهُ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لِيُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّرَرِ لِنَفْسِهِ، فَنَابَ عَنْهُ الْحَاكِمُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ الَّذِي لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا أَنَّ الْحَاكِمَ يُؤَدِّي عَنْهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يُؤَدِّي إِنْ رَأَى لَهُ مَصْلَحَةً فِي الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يَضِيعُ إِذَا عَتَقَ، لَمْ يُؤَدِّ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ النَّفْعِ، مَعَ قَوْلِنَا: إِنَّ لِلسَّيِّدِ إِذَا وَجَدَ مَالًا الِاسْتِقْلَالَ بِأَخْذِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْأَخْذِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا مَكَّنَ السَّيِّدَ مِنَ الْفَسْخِ، فَإِذَا فَسَخَ عَادَ الْمُكَاتَبُ قِنًّا لَهُ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ أَفَاقَ وَظَهَرَ لَهُ مَالٌ كَانَ حَصَّلَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ، وَبَعْضِ التَّعْجِيزِ.
هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَأَحْسَنَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: إِنْ ظَهَرَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّيِّدِ رُدَّ التَّعْجِيزُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ حِينَ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَحَضَرَ بَعْدَ الْفَسْخِ.
وَإِذَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ التَّعْجِيزِ، وَكَانَ السَّيِّدُ جَاهِلًا بِحَالِ الْمَالِ، فَعَلَى الْمُكَاتَبِ رَدُّ مَا أَنْفَقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ وَجَدَ السَّيِّدُ لِلْمُكَاتَبِ فِي جُنُونِهِ
مَالًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِقْلَالَ بِأَخْذِهِ، وَحَكَيْنَا عَنِ الْإِمَامِ فِيهِ تَفْصِيلًا.
الْخَامِسُ: إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَدَاءِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَمَاتَ رَقِيقًا فَلَا يُورَثُ، وَتَكُونُ أَكْسَابُهُ لِسَيِّدِهِ، وَتَجْهِيزُهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ خَلَّفَ وَفَاءً بِالنُّجُومِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُسْقِطُ بِهِ مَعْلُومًا.
نُصَّ فِي «الْأُمِّ» عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، أَوْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى رَسُولِهِ لِيُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ مَاتَ رَقِيقًا أَيْضًا، وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا فِي دَفْعِ النَّجْمِ الْأَخِيرِ إِلَى السَّيِّدِ، وَمَاتَ الْمُكَاتَبُ، فَقَالَ أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ: دَفَعَ الْوَكِيلُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَمَاتَ حُرًّا، وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ.
فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى الدَّفْعِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: دَفَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ يَقُولُوا: دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَكُونَ السَّيِّدُ مُعْتَرِفًا بِأَنْ مَاتَ بَعْدَ الطُّلُوعِ.
وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَكِيلُ الْمُكَاتَبِ بِقَبْضِ السَّيِّدِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ وَكِيلُ السَّيِّدِ قُبِلَتْ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ.
فُرُوعٌ
تَتَعَلَّقُ بِالْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ، فَيَحْصُلُ الْفَسْخُ بِقَوْلِ السَّيِّدِ: فَسَخْتُ الْكِتَابَةَ، وَنَقَضْتُهَا، وَرَفَعْتُهَا، وَأَبْطَلْتُهَا، وَعَجَّزْتُ الْمُكَاتَبَ.
وَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ السَّيِّدُ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ مُدَّةً، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ الْمَالَ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبْضِهِ، وَنُصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ بَعْدَ التَّعْجِيزِ: قَرَّرْتُكَ عَلَى الْكِتَابَةِ لَمْ يُصِرْ مُكَاتَبًا حَتَّى يُجَدِّدَ كِتَابَةً، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقِرَاضِ مَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِيهِ.
قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا كَالْقِرَاضِ فَإِنَّ مُعْظَمَ الِاعْتِمَادِ هُنَا فِي الْعِتْقِ عَلَى التَّعْلِيقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَصْلُحُ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَطَوَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى الْقَبُولِ، أَمْ لَهُ الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ. وَإِذَا قَبِلَ، فَفِي وُقُوعِهِ عَنِ الْمُكَاتَبِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَجْهَانِ، الْقِيَاسُ: الْوُقُوعُ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ رَقِيقًا، أَوْ فَسَخَ السَّيِّدُ الْكِتَابَةَ لِعَجْزِهِ رَقَّ كُلُّ مَنْ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ وَالِدٌ وَوَلَدٌ، وَصَارُوا جَمِيعًا لِلسَّيِّدِ، وَجَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ لِلسَّيِّدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ
إِذَا قَهَرَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَ، وَاسْتَعْمَلَهُ مُدَّةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. ثُمَّ إِذَا جَاءَ الْمَحَلُّ، هَلْ يَلْزَمُ إِمْهَالُهُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَمْ لَهُ تَعْجِيزُهُ وَالْفَسْخُ؟ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَ مَنَافِعِهِ. وَلَوْ حَبَسَهُ عَنِ السَّيِّدِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا إِمْهَالَ، وَأَجْرَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا لَوْ أَسَرَ الْكُفَّارُ مُكَاتَبًا مُدَّةً [ثُمَّ] اسْتَنْقَذْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا إِذَا انْضَمَّ إِلَى النُّجُومِ دُيُونٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَفِيهَا صُوَرٌ.
الْأُولَى: كَانَ لِلسَّيِّدِ مَعَ النُّجُومِ دَيْنُ مُعَاوَضَةٍ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَقْدِيمِ الدَّيْنِ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَقْدِيمِ النُّجُومِ عَتَقَ.
ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّ الدَّيْنَ الْآخَرَ لَا يَسْقُطُ، فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي يَدِهِ وَافِيًا بِالنُّجُومِ دُونَ الدَّيْنِ، فَإِذَا أَدَّاهُ عَنِ النُّجُومِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلسَّيِّدِ
مَنْعُهُ مِنْ تَقْدِيمِ النُّجُومِ، فَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ عَنِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُعَجِّزُهُ. وَهَلْ لَهُ تَعْجِيزُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.
وَلَوْ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ مَا فِي يَدِهِ إِلَى السَّيِّدِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْجِهَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُكَاتَبُ: قَصَدْتُ النُّجُومَ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، أَوْ قَالَ: أُصَدِّقُهُ، وَلَكِنْ قَصَدْتُ أَنَا الدَّيْنَ لَا النُّجُومَ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: يُصَدَّقُ الْمُكَاتَبُ.
وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُصَدَّقُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُنَا إِلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ.
قُلْتُ: قَوْلُ الْقَفَّالِ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نُجُومٌ وَدُيُونٌ لِلسَّيِّدِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَالْحُرِّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ، وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الدُّيُونِ.
وَهَلْ تَحِلُّ بِالْحَجْرِ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ؟ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: قَوْلَانِ، كَالْمُفْلِسِ.
وَالثَّانِي: تَحِلُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي إِبْطَالِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا اسْتُرِقَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ حَلَّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَحِلُّ، قُسِّمَ الْمَالُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْحَالِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِالْتِمَاسِ السَّيِّدِ لِلنُّجُومِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْمُكَاتَبُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِسْقَاطِهَا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ وَافِيًا بِالدُّيُونِ، قُضِيَتْ وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، فَلَهُ تَقْدِيمُ مَا شَاءَ مِنَ الدُّيُونِ، وَلَهُ تَعْجِيلُ الدُّيُونِ قَبْلَ الْمَحَلِّ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ.
وَفِي جَوَازِهِ بِإِذْنِهِ الْخِلَافُ فِي تَبَرُّعَاتِهِ بِإِذْنِهِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا إِذَا عَجَّلَ الدُّيُونَ لِلسَّيِّدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ فِي تَعْجِيلِ النُّجُومِ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ.
وَإِذَا قَدَّمَ النُّجُومَ عَتَقَ، وَبَقِيَ دَيْنُ الْأَجَانِبِ عَلَيْهِ، وَلَا
يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي إِعْتَاقِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ، ثُمَّ جَنَى فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِتْقِ بِالتَّعْلِيقِ السَّابِقِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ دَيْنُ الْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ جَعَلَهُ فِي الْأَرْشِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ صَرَفَهُ فِي النُّجُومِ.
وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ هَذَا التَّرْتِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ تَوَلَّى قِسْمَةَ مَا فِي يَدِهِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ الدُّيُونِ، وَأَصَحُّهُمَا يُقَدَّمُ دَيْنُ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ خَاصَّةً وَلِلْأَرْشِ مُتَعَلَّقٌ آخَرُ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَكَذَا حَقُّ السَّيِّدِ بِتَقْدِيرِ الْعَجْزِ يَعُودُ إِلَى الرَّقَبَةِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ النَّقْدِ وَالْعَرْضِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّجُومِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مُسْتَقِرٌّ، وَالنُّجُومُ [مُعَرَّضَةٌ] لِلسُّقُوطِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُ إِذَا رَضُوا بِالتَّسْوِيَةِ، فَإِنْ عَجَّزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسَهُ سَقَطَتِ النُّجُومُ.
وَفِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ لِلسَّيِّدِ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يَسْقُطُ أَيْضًا وَيُصْرَفُ مَا فِي يَدِهِ إِلَى دُيُونِ الْأَجَانِبِ مِنْ مُعَامَلَةٍ وَأَرْشٍ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِالنَّوْعَيْنِ، فَهَلْ تُقَدَّمَ الْمُعَامَلَةُ أَمِ الْأَرْشُ أَمْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَالْغَزَالِيِّ وَنَحْوِهِمَا: الثَّالِثُ.
ثُمَّ مَا تَبَقَّى مِنْ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَمَا تَبَقَّى مِنَ الْأَرْشِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ يُبَاعُ فِيهِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ قِسْمَةِ مَا فِي يَدِهِ، انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَسَقَطَتِ النُّجُومُ.
قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: تَسْقُطُ الْأُرُوشُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ، وَبِمَا فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ بَطَلَتْ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ مَا خَلَّفَهُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ.
وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ:
تَبْقَى الْأُرُوشُ وَتَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَوَّيْنَا فِي صُورَةِ التَّعْجِيزِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قَدَّمْنَا [الْأَرْشَ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قَدَّمْنَا] الْمُعَامَلَةَ، فَهَلْ تُقَدَّمُ هُنَا أَيْضًا، أَمْ يُسَوَّى؟ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِمَا خَلَّفَهُ.
فَرْعٌ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَالٌ، أَوْ قُسِّمَ الْمَوْجُودُ، إِمَّا عَلَى الدُّيُونِ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّرْتِيبِ، وَبَقِيَتِ النُّجُومُ أَوْ بَعْضُهَا، فَلِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ وَرَدُّهُ رَقِيقًا.
وَإِنْ بَقِيَتِ الْأُرُوشُ أَوْ بَعْضُهَا فَمُسْتَحِقُّ الْأَرْشِ الْبَاقِي؛ لِعَجْزِهِ لِتُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يُعَجِّزُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْهُ لَكِنْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَجِّزَهُ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِهَذَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُعَجِّزُهُ بِنَفْسِهِ، وَالْوَجْهُ: الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي. فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَيُبْقِيَ الْكِتَابَةَ، فَهَلْ يَمْتَنِعُ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَرْشِ التَّعْجِيزُ وَيَلْزَمُهُ قَبُولُ الْفِدَاءِ؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: لَا وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَأَمَّا صَاحِبُ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّعْجِيزُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَمْهَلَهُ السَّيِّدُ وَمُسْتَحِقُّ الْأَرْشِ، ثُمَّ بَدَا لِبَعْضِهِمْ وَأَرَادَ التَّعْجِيزَ، فَلَهُ ذَلِكَ.
وَإِذَا تَحَقَّقَ التَّعْجِيزُ، سَقَطَتِ النُّجُومُ، وَيُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ، وَدَيْنُ الْمُعَامَلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَرْعٌ
ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ تَقْدِيمُ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى النُّجُومِ، وَهَلْ يُضَارِبُ السَّيِّدُ مَعَهُمْ بِمَالِهِ مِنْ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَأَمَّا مَا لِلسَّيِّدِ
عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، فَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَسْتَوِي السَّيِّدُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ فِي دَوَامِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّعْجِيزِ، فَيُبَاعُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَيَسْقُطُ مَا لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكَهُ، وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ أَرْشٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ خِلَافٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ بِالسَّوِيَّةِ، فَكَاتَبَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الْمَدْفُوعِ.
فَلَوْ دَفَعَ إِلَى أَحَدِهِمَا تَمَامَ حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَأْخُوذِ لِشَرِيكِهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ.
وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ تَمَامَ النُّجُومِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِمَّا قَبَضَ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ النُّجُومِ بِإِذْنِ الْآخَرِ، عَتَقَ الْعَبْدُ قَطْعًا.
وَإِنْ سَلَّمَ إِلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ بِإِذْنِ الْآخَرِ وَرِضَاهُ بِتَقْدِيمِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ الْقَبْضُ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ. وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكُهُ، فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْمَالِ لِيُعْطِيَهُمَا، فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَزِنَ لِلْآخَرِ أَوَّلًا، فَفَعَلَ، وَأَقْبَضَهُ، لَمْ يُعْتِقْ حَتَّى يَزِنَ لِلْآخَرِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَزِنَ لِلثَّانِي كَانَ الْمَدْفُوعُ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هُنَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ لَمْ يُعْتَقْ نَصِيبُ الْقَابِضِ، وَلِلْآذِنِ طَلَبُ حِصَّتِهِ مِنَ الْمَقْبُوضِ.
ثُمَّ إِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْبَاقِيَ عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا فَلَهُمَا التَّعْجِيزُ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْقَبْضُ، اخْتَصَّ الْقَابِضُ بِمَا قَبَضَ، وَعَتَقَ نَصِيبَهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ
نَصِيبُ الْآخَرِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَا يَفِي بِنَصِيبِ الْآخَرِ، وَأَدَّاهُ عَتَقَ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَهُ التَّعْجِيزُ. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ.
وَهَلْ يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ أَمْ عِنْدَ التَّعْجِيزِ عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا عَتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ، فَجَمِيعُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الْآذِنِ، وَمَا كَسَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ الْآذِنِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِنِصْفَيْهِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ هُنَاكَ. هَذِهِ طَرِيقَةُ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِنَصِيبِ الشَّرِيكِ الْآذِنِ، فَالَّذِي رَأَيْتُهُ لِلْأَصْحَابِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا سِرَايَةَ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا نَقُولُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، بَلْ يُؤَدِّي نَصِيبَ الْآذِنِ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَصِيبِ الْآذِنِ، فَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا يُشَارِكُ الْقَابِضَ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَهُ رَضِيَ بِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الْقَابِضِ.
وَفِي السِّرَايَةِ مَا ذَكَرَهُ الْجَمَاهِيرُ. وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْآذِنَ يُشَارِكُهُ؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ كَسْبُ عَبْدِهِمَا، وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ الْآذِنُ بِالتَّقْدِيمِ لَا بِالتَّمْلِيكِ، وَلَا يَخْلُصُ لَهُ الْمَقْبُوضُ. فَعَلَى هَذَا لَهُمَا تَعْجِيزُهُ وَإِرْقَاقُهُ.
فَرْعٌ
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمَا إِذَا كَاتَبَا الْمُشْتَرَكَ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَوْفَاهُمَا، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ صُدِّقَ الْمُكَذِّبُ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَ الْمُصَدِّقَ فِيمَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، فَيَأْخُذَ نِصْفَهُ، وَيُطَالِبَ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْمُكَاتَبَ بِتَمَامِ
نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِمَا بِالشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: إِذَا جَوَّزْنَا انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ، لَمْ يُشَارِكِ الْمُصَدِّقَ، بَلْ يُطَالِبِ الْمُكَاتَبَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ.
وَإِنْكَارُهُ قَبْضَ الشَّرِيكِ لَا يَمْنَعُهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، وَرُبَّمَا قَبَضَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْمُكَاتَبُ حِصَّتَهُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ أَيْضًا عَلَى الْمُصَدِّقِ بِمَا الْعَبْدُ وَحْدَهُ عَتَقَ بَاقِيهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُصَدِّقُ إِنْ أَخَذَ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَدِّقِ عَلَى الْمُكَذِّبِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ.
السَّادِسَةُ: إِذَا كَاتَبَ عَبِيدًا وَشَرَطَ أَنْ يَتَكَفَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالنُّجُومِ، فَسَدَتِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّجُومِ بَاطِلٌ.
وَلَوْ ضَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا شَرْطٍ، لَمْ يَصِحَّ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ فُلَانٌ، لَمْ تَصِحِّ الْكِتَابَةُ أَيْضًا، وَلَوْ أَدَّى بَعْضُ الْمُكَاتَبِينَ عَنْ بَعْضٍ بِلَا شَرْطٍ وَلَا ضَمَانٍ، أَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ، فَأَدَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ أَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ بَاطِلٌ، وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ أَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ غَيْرِهِ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ كَسْبَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ عَلِمَ الْحَالَ، فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ عَلَى الْأَصَحِّ.
فَإِنْ صَحَّحْنَا الْأَدَاءَ لَمْ يَرْجِعِ الْمُؤَدِّي عَلَى السَّيِّدِ، وَيَرْجِعْ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ إِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِ، وَلَا يَرْجِعْ إِنْ أَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ، فَذَاكَ وَإِلَّا فَيَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى النُّجُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ، وَحَقُّ السَّيِّدِ لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ الْأَدَاءَ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُؤَدِّي عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ، لَكِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنَ السَّيِّدِ، فَلَوْ أَدَّى النُّجُومَ، وَعَتَقَ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ حِينَئِذٍ، وَنُصَّ
فِيمَا لَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ، فَعَفَا عَنِ الْأَرْشِ، وَأَبْطَلْنَا الْعَفْوَ بِنَاءً عَلَى رَدِّ تَبَرُّعَاتِهِ، فَعَتَقَ، أَنَّ لَهُ أَخْذَ الْأَرْشِ. قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: فِي الصُّورَتَيْنِ قَوْلَانِ كَزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ تَبَرُّعِهِ، لَكِنْ وَقَعَ الْعَفْوُ وَالْأَدَاءُ فَاسِدَيْنِ، فَلَا يَنْقَلِبَانِ صَحِيحَيْنِ.
وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَهُ، ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ وَبِإِذْنِهِ قَوْلَانِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنِ انْضَمَّ إِذْنُ الْمُؤَدَّى عَنْهُ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَاضًا، وَالْإقْرَاضُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ أَدَاءَهُ فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ فَفِيهِ الْخِلَافُ.
فَرْعٌ
الْمُكَاتَبُونَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، فَقَالَ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ: أَدَّيْنَا النُّجُومَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَقَالَ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ: بَلْ عَلَى أَقْدَارِ الْقِيَمِ، فَقَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: يُصَدَّقُ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ.
وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ إِنْ أَدَّوْا بَعْضَ الْمَالِ بِحَيْثُ لَوْ وُزِّعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، لَمْ يَخُصَّ أَحَدَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ، صُدِّقَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ أَدَّوُا الْجَمِيعَ، وَادَّعَى قَلِيلُ الْقِيمَةِ أَنَّهُ أَدَّى أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَ السَّيِّدِ أَوْ قَرْضًا عَلَى كَثِيرِ الْقِيمَةِ، فَيُصَدَّقُ كَثِيرُ الْقِيمَةِ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا عَلَى التَّفَاضُلِ، وَأَدَّيَا الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَا فِي أَنَّهُمَا أَدَّيَا مُتَفَاضِلًا، أَمْ مُتَسَاوِيًا.
السَّابِعَةُ: فِي الِاخْتِلَافِ، وَفِيهِ صُوَرٌ، إِحْدَاهَا: ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّكَ كَاتَبْتَنِي، فَأَنْكَرَ صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَى وَارِثِهِ بَعْدَهُ، أَنَّ مُوَرِّثَكَ كَاتَبَنِي، صُدِّقَ الْوَارِثُ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.
وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ وَأَنَا مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيَّ، قَالَ الْعَبْدُ: بَلْ كُنْتَ كَامِلًا، فَإِنْ عُرِفَ لِلسَّيِّدِ جُنُونٌ أَوْ حَجْرٌ صُدِّقَ، وَإِلَّا فَيُصَدَّقُ الْعَبْدُ.
وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ، فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ [إِنْ] لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَادَ رَقِيقًا، وَيَكُونُ إِنْكَارُهُ تَعْجِيزًا مِنْهُ.
وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ: وَأَدَّيْتَ الْمَالَ وَعَتَقْتَ، فَهُوَ حُرٌّ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: الَّذِي أَدَّيْتُ إِلَيْكَ لَيْسَ لِي، بَلْ وَدِيعَةٌ لِزَيْدٍ، وَادَّعَاهُ زَيْدٌ صُدِّقَ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ الْمَالِ، فَالْمُصَدَّقُ السَّيِّدُ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ بِالْأَدَاءِ، أُمْهِلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَهَلْ هَذَا الْإِمْهَالُ وَاجِبٌ، أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ.
وَلَا تَثْبُتُ الْكِتَابَةُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ التَّعَرُّضُ لِلتَّنْجِيمِ، وَقَدْرِ كُلِّ نَجْمٍ وَوَقْتِهِ، وَيَثْبُتُ الْأَدَاءُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ.
وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ النَّجْمُ الْأَخِيرُ إِلَّا بِعَدْلَيْنِ؛ لِتَضَمُّنِهِ الْعِتْقَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي «الْكَافِي» أَنَّهُ لَوْ أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَأْتِيَ بِبَيِّنَةِ الْأَدَاءِ، فَأَحْضَرَ شَاهِدًا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَاسْتَنْظَرَ لِيَأْتِيَ بِالثَّانِي أُنْظِرَ ثَلَاثَةً أُخْرَى.
الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النُّجُومِ، أَوْ عَدَدِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، أَوْ صِفَتِهَا، أَوْ قَدْرِ الْأَجَلِ، وَلَا بَيِّنَةَ تَحَالَفَا، وَكَيْفِيَّتُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا تَحَالَفَا نُظِرَ إِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْعِتْقُ بِاتِّفَاقِهِمَا، بِأَنْ لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ
[مَا يَدَّعِيهِ] ، أَوْ قَبَضَ غَيْرَ الْجِنْسِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ، أَمْ يَفْسَخُهَا الْحَاكِمُ إِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ.
وَإِنْ حَصَلَ الْعِتْقُ بِاتِّفَاقِهِمَا، بِأَنْ قَبَضَ مَا يَدَّعِيهِ بِتَمَامِهِ، وَزَعَمَ الْمُكَاتَبُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ اسْتَمَرَّ نُفُوذُهُ، وَيَتَرَاجَعَانِ، فَيَرْجِعُ السَّيِّدُ بِقِيمَةِ الْمُكَاتَبِ، وَيَرْجِعُ هُوَ بِمَا أَدَّى، وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقَاصِّ.
وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ عَلَى نَجْمٍ، فَقَالَ: بَلْ عَلَى نَجْمَيْنِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ.
قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوِ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي مُفْسِدٍ لِلْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً، بِأَنَّهُ كَاتَبَهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا عَلَى أَلْفٍ، وَأَقَامَ السَّيِّدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَاتَبَهُ فِي شَوَّالِ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى أَلْفَيْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَا أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَّحِدَةٌ، فَكُلُّ بَيِّنَةٍ تُكَذِّبُ الْأُخْرَى، فَيَتَسَاقَطَانِ وَيَتَحَالَفَانِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الِاتِّحَادِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَاتَبَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الْكِتَابَةُ، وَأَحْدَثَ أُخْرَى.
الثَّالِثَةُ: وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَقَةِ حُرٌّ، وَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِيهَا، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، انْجَرَّ الْوَلَاءُ إِلَى مَوَالِيهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْوَلَاءِ.
فَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، فَاخْتَلَفَ مَوْلَاهُ وَمَوْلَى أُمِّ أَوْلَادِهِ، فَقَالَ مَوْلَاهُ: عَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ، ثُمَّ مَاتَ وَجُرَّ وَلَاءُ أَوْلَادِهِ إِلَيَّ، وَأَنْكَرَ مَوَالِيهَا، فَهُمُ الْمُصَدَّقُونَ بِالْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
وَهَلْ يَكْفِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، أَوْ شَاهِدٌ
وَامْرَأَتَانِ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَيُدْفَعُ مَالُ الْمُكَاتَبِ إِلَى وَرَثَتِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِإِقْرَارِ السَّيِّدِ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا.
وَلَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ فِي حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ بِأَنَّهُ أَدَّى النُّجُومَ عَتَقَ، وَجَرَّ إِلَيْهِ وَلَاءَ وَلَدِهِ.
الرَّابِعَةُ: كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَتَيْنِ، أَوْ صَفْقَةٍ، وَجَوَّزْنَاهَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى نُجُومَ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا أُمِرَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ: نَسِيتُهُ أُمِرَ بِالتَّذَكُّرِ، وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ حَيًّا، وَقِيلَ: يُقْرَعُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ بَيَّنَ أَحَدُهُمَا فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَذَاكَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَقَالَ: بَلِ اسْتَوْفَيْتَ مِنِّي أَوْ أَبْرَأْتَنِي فَلَهُ تَحْلِيفُ السَّيِّدِ، فَإِنْ حَلَفَ بَقِيَتْ كِتَابَتُهُ إِلَى أَدَاءِ النُّجُومِ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُكَذِّبُ، وَعُتِقَ أَيْضًا.
وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ حَلَفَ لَهُمَا إِذَا ادَّعَاهُ. وَإِذَا حَلَفَ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُبْقِيَانِ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِأَدَاءِ النُّجُومِ.
وَالثَّانِي: تَتَحَوَّلُ دَعْوَى الْمُكَاتَبَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَا عَلَى الْأَدَاءِ، أَوْ نَكَلَا بَقِيَا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ حُكِمَ بِعِتْقِ الْحَالِفِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ مُكَاتَبًا.
وَلَوْ بَيَّنَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْآخَرُ: تُؤْتِينِي بِالْإِقْرَارِ الَّذِي اتَّهَمْتَهُ وَلَمْ يَقُلِ: اسْتَوْفَيْتَ مِنِّي أَوْ أَبْرَأْتَنِي، قَالَ الْإِمَامُ: فَالْأَصَحُّ أَنَّ دَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَإِنَّمَا يَدَّعِي إِخْبَارًا قَدْ يُصَدَّقُ فِيهِ وَقَدْ يُكَذَّبُ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي الدَّعَاوَى.
وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَهَلْ يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ؟ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا بَلْ يُقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَى الْآخَرِ أَدَاءُ النُّجُومِ، وَلَهُ تَحْلِيفُ الْوَارِثِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.
وَأَظْهَرُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَا قُرْعَةَ، فَإِذَا بَيَّنَ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ الْمُورَثِ إِلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالَ الْوَارِثُ: لَا أَعْلَمُ الْمُؤَدِّيَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَدَّى، فَإِذَا حَلَفَ لَهُمَا،
فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَوْفِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ أَحَدَ غَرِيمَيْهِ أَوْفَاهُ دَيْنَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَحَلَفَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الدَّيْنَيْنِ جَمِيعًا.
وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ تَوَقُّفَ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنِ اسْتَوْفَى الْمَالَانِ، فَقَالَا: نُؤَدِّي مَا عَلَى أَحَدِنَا، أَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَا: نُؤَدِّي الْأَكْثَرَ لِيُعْتَقَ، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا بِأَدَائِهِ قَدْ أَدَّيَا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، هَكَذَا رَتَّبَ الْجُمْهُورُ الْمَسْأَلَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَاتَبَيْنِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْوَارِثِ تَوْفِيَةَ النُّجُومِ إِلَى الْمُورَثِ أَوْ إِبْرَاءَهُ لَهُ، وَأَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِذَا حَلَفَ هَلْ يُقْرَعُ؟ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَى الْآخَرِ أَدَاءُ النُّجُومِ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْرَعُ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ التَّوَقُّفُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، أَوِ الْبَيَانِ، أَوْ بَيِّنَةٍ، وَيَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: لِلْوَارِثِ تَعْجِيزُهُمَا، فَإِنَّهُمَا مُمْتَنِعَانِ مِنَ الْأَدَاءِ وَأَحَدُهُمَا مُكَاتَبٌ، وَحِينَئِذٍ فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ، وَالْآخَرُ رَقِيقٌ، فَيُقْرَعُ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ بَعْضِ نُجُومِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَلَا قُرْعَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، بَلْ يُوقَفُ الْأَمْرُ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ عَلَى الْوَارِثِ الْأَدَاءَ أَوِ الْإِبْرَاءَ، فَأَنْكَرَ حَصَلَ بِإِنْكَارِهِ الْإِقْرَارُ لِلْآخَرِ، قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ فِيمَا إِذَا قَالَ فِي إِنْكَارِهِ: لَسْتَ الْمُؤَدِّيَ. أَمَّا إِذَا قَالَ: لَا أَعْلَمُ وَنَحْوَهُ، فَلَيْسَ مُقِرًّا لِلْآخِرِ بِلَا شَكٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ
مِنْ «التَّهْذِيبِ» لَوْ قَالَ السَّيِّدُ: اسْتَوْفَيْتُ، أَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ: أَلَيْسَ قَدْ أَوْفَيْتُكَ، فَقَالَ: بَلَى، ثُمَّ قَالَ الْمُكَاتَبُ: وَفَّيْتُكَ الْجَمِيعَ.
وَقَالَ السَّيِّدُ: الْبَعْضَ فَالْمُصَدَّقُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ وَضَعَ عَنِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ وَاخْتَلَفَا، فَقَالَ السَّيِّدُ: وَضَعْتَ مِنَ النَّجْمِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: مِنَ الْأَخِيرِ، أَوْ قَالَ: وَضَعْتُ بَعْضَ النُّجُومِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: بَلْ كُلَّهَا، صُدِّقَ السَّيِّدُ بِيَمِينِهِ.
وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ قِيمَةَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ مِنَ الدَّرَاهِمِ صَحَّ.
فَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ: أَرَدْتَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ، فَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، صُدِّقَ السَّيِّدُ.
وَلَوْ وَضَعَ عَنْهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَا يُقَابِلُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمَا، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، وَأَجَازَ الْوَارِثُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالزِّيَادَةِ فَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ، وَيُحْمَلْ عَلَى أَقَلِّ مَا يَتَيَقَّنُ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: تَصَرُّفَاتُ السَّيِّدِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: فِي صِحَّةِ بَيْعِ السَّيِّدِ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ، وَهِبَتِهِ قَوْلَانِ، الْأَظْهَرُ الْجَدِيدُ: بُطْلَانُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَدَّى النُّجُومَ إِلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهَلْ يُعْتَقُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَوْ دَفَعَ النُّجُومَ إِلَى مُشْتَرِي النُّجُومِ.
وَلَوِ اسْتَخْدَمَهُ الْمُشْتَرِي مُدَّةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُكَاتَبِ، وَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمْهِلَهُ قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؟ قَوْلَانِ كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهُ السَّيِّدُ أَوْ حَبَسَهُ.
وَإِنْ قُلْنَا
بِالْقَدِيمِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: بَقَاءُ الْكِتَابَةِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي مُكَاتَبًا، فَإِذَا أَدَّى إِلَيْهِ النُّجُومَ عَتَقَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُشْتَرِي.
وَالثَّانِي: يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْبَائِعِ، وَيَكُونُ انْتِقَالُهُ بِالشِّرَاءِ كَانْتِقَالِهِ بِالْإِرْثِ.
وَالثَّالِثُ: تَرْتَفِعُ الْكِتَابَةُ بِالْبَيْعِ، فَيَنْتَقِلُ غَيْرَ مُكَاتَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَلَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ: أَعْتِقْ مُكَاتِبَكَ عَلَى كَذَا، أَوْ أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى كَذَا، أَوْ مَجَّانًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلِدَتَكَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ بَيْعُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا إِعْتَاقُ عَبِيدِهِ، وَلَا تَزْوِيجُ إِمَائِهِ.
الثَّانِيَةُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ السَّيِّدِ نُجُومَ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَى الْمُكَاتَبِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا الِاسْتِبْدَالُ عَنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُكَاتَبِ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ بِهَا، وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِدَفْعِهَا إِلَى السَّيِّدِ.
وَهَلْ يَحْصُلُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي؟ قَالَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : نَعَمْ. وَفِي «الْأُمِّ» : لَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ سُلْطَةً عَلَى الْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ وَأَظْهَرُهُمَا: لَا لِأَنَّهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ قَالَ عِنْدَ الْبَيْعِ: خُذْهَا مِنْهُ، أَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِ، صَارَ وَكِيلًا، وَعَتَقَ بِقَبْضِهِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ، فَلَا.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ عَرَضَ هَذَا الْفَرْقَ عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ.
وَقَالَ: هُوَ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ، فَإِنَّمَا يَأْذَنُ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِالْوِكَالَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ، فَمَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي يُعْطِيهِ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَتَوْكِيلِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَقُ، فَالسَّيِّدُ يُطَالِبُ الْمُكَاتَبَ، وَالْمُكَاتَبُ يَسْتَرِدُّ مِنَ الْمُشْتَرِي.
الثَّالِثَةُ: السَّيِّدُ مَعَهُ فِي الْمُعَامَلَةِ كَأَجْنَبِيٍّ يُبَايِعُهُ، وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ بِالشُّفْعَةِ. فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ، وَلِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ النُّجُومُ، أَوْ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ، فَفِي التَّقَاصِّ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْفَرْعِ عَقِيبَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ
فِي التَّقَاصِّ إِذَا ثَبَتَ لِشَخْصَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جِهَتَيْنِ، كَسَلَمٍ وَقَرْضٍ، أَوْ قَرْضٍ وَثَمَنٍ، نُظِرَ هَلْ هُمَا نَقْدَانِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُمَا جِنْسٌ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَا جِنْسًا، وَاتَّفَقَا فِي الْحُلُولِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ.
أَظْهَرُهَا: يَحْصُلُ التَّقَاصُّ بِنَفْسِ ثُبُوتِ الدَّيْنَيْنِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرِّضَى إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْصُلُ التَّقَاصُّ، وَإِنْ رَضِيَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.
وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ فِي التَّقَاصِّ رِضَاهُمَا.
وَالرَّابِعُ: يَكْفِي رِضَى أَحَدِهِمَا.
وَإِنِ اخْتَلَفَ الدَّيْنَانِ فِي الصِّفَاتِ كَالصِّحَّةِ، وَالْكَسْرِ، وَالْحُلُولِ، وَالتَّأْجِيلِ، أَوْ قَدْرِ الْأَجَلِ، لَمْ يَحْصُلِ التَّقَاصُّ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، وَلِصَاحِبِ الْحَالِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى جَعْلِ الْحَالِ قِصَاصًا عَنِ الْمُؤَجَّلِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ.
وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ فِيهِمَا وَجْهًا. وَلَوْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ لِأَجَلٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ هُمَا كَالْحَالَّيْنِ، أَمْ كَمُؤَجَّلَيْنِ بِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؟ وَجْهَانِ أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الثَّانِي.
وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ: دَرَاهِمَ، وَدَنَانِيرَ، فَلَا مُقَاصَّةَ.
وَالطَّرِيقُ: أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ جَعَلَ الْمَأْخُوذَ عِوَضًا عَمَّا عَلَيْهِ، فَيَرُدُّهُ إِلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَبْضِ الْعِوَضِ
الْآخَرِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّيْنَانِ نَقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا جِنْسًا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا تَقَاصَّ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَعَلَى الْأَقْوَالِ، وَإِلَّا فَلَا تَقَاصَّ قَطْعًا وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَلَا تَقَاصَّ قَطْعًا، وَإِنْ تَرَاضَيَا، بَلْ إِنْ كَانَا عَرْضَيْنِ، فَلْيَقْبِضْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ عِوَضًا عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَرْضٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَرْضُ مُسْتَحَقًّا بِقَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ، لَا بِعَقْدٍ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا، وَالْآخَرُ نَقْدًا، فَإِنْ قَبَضَ مُسْتَحِقُّ الْعَرْضِ الْعَرْضَ، وَرَدَّهُ عِوَضًا عَنِ النَّقْدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ [جَازَ، وَإِنْ قَبَضَ مُسْتَحِقُّ النَّقْدِ النَّقْدَ، وَرَدَّهُ عِوَضًا عَنِ الْعَرْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ] لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ مُسْتَحَقًّا بِقَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ. هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَإِذَا حَصَلَ التَّقَاصُّ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْمُكَاتَبِ، وَبَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنِ النُّجُومِ عَتَقَ كَمَا لَوْ أَدَّاهَا.
قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَتَقَاصَّانِ، وَلَمْ يَبْدَأْ أَحَدُهُمَا بِتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ حُبِسَ حَتَّى يُسَلِّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا أَوْصَى السَّيِّدُ بِالْمُكَاتَبِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي نُصَحِّحُ بَيْعَهُ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْجَدِيدِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ عَجَزَ مُكَاتَبِي، وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارًا بِحَالِ التَّعْلِيقِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدَ فُلَانٍ، فَهُوَ حُرٌّ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ نَخْلَتِهِ، وَحَمْلِ جَارِيَتِهِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ عَبْدَ
فُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَعَجَزَ، وَأَرَادَ الْوَارِثُ إِنْظَارَهُ، فَلِلْمُوصَى لَهُ تَعْجِيزُهُ، وَلْيَأْخُذْهُ وَإِنَّمَا يُعَجِّزُهُ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِالنُّجُومِ الَّتِي عَلَيْهِ صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَدَّاهَا فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَوَلَاءُ الْمُكَاتَبِ لِلسَّيِّدِ.
وَإِنْ عَجَزَ فَلِلْوَارِثِ تَعْجِيزُهُ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ أَنْظَرَهُ الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ لِلْمُوصَى لَهُ إِبْرَاؤُهُ عَنِ النُّجُومِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِابْنِ كَجٍّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ بِرَقَبَتِهِ إِنْ عَجَزَ وَلِآخَرَ بِالنُّجُومِ صَحَّتِ الْوَصِيَّتَانِ، فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ، بَطَلَتِ الْأُولَى. وَإِنْ رَقَّ بَطَلَتِ الثَّانِيَةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَا يُعَجِّلُهُ الْمُكَاتَبُ، فَلَمْ يُعَجِّلْ، وَأَدَّى النُّجُومَ فِي مَحَلِّهَا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى التَّعْجِيلِ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، أَمَّا إِنْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، ثُمَّ أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: وَتَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ كَانَ يُظَنُّ صِحَّتُهَا، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى مُعْتَقِدًا بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ، وَأَظْهَرُهُمَا: تَصِحُّ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَةَ [كَالصَّحِيحَةِ فِي حُصُولِ الٌعِتْقِ] وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، ثُمَّ أَوْصَى بِالْمَبِيعِ وَهُوَ عَالِمٌ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَيْسَ كَالصَّحِيحِ.
وَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِالْمَبِيعِ جَاهِلًا بِفَسَادِ الْمَبِيعِ، فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُكَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، أَوِ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، [أَوْ وَهَبَ] ، أَوْ رَهَنَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْفَسَادِ، فَقِيلَ: فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: يَبْطُلُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْغَرَرَ. وَالْخِلَافُ
فِي هَذَا [كُلِّهِ] كَالْخِلَافِ فِيمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا أَنَّهُ حَيٌّ فَكَانَ مَيِّتًا.
وَفِي مَعْنَاهَا، مَا إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ، ثُمَّ بَاعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهُ لَهُ، أَوْ بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ جَعَلَهُ وَصِيًّا لَهُ، فَبَانَ أَنَّهُ جَعَلَهُ.
الْخَامِسَةُ: الْوَصِيَّةُ بِوَضْعِ النُّجُومِ عَنِ الْمُكَاتَبِ صَحِيحَةُ مُعْتَبِرَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ النُّجُومِ أَوْ كِتَابَتِهِ، فَمُقْتَضَاهُ وَضْعُ النُّجُومِ.
فَلَوْ قَالَ: نَجْمًا مِنْ نُجُومِهِ، فَالِاخْتِيَارُ لِلْوَارِثِ يَضَعُ مَا شَاءَ أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوَّلَهَا أَوْ آخِرَهَا أَوْ أَوْسَطَهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ مَا خَفَّ وَثَقُلَ.
وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، فَشَاءَ وَضْعَ الْجَمِيعِ لَمْ يُوضَعِ الْجَمِيعُ، بَلْ يَبْقَى أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ؛ لِأَنَّ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ.
وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ [فَشَاءَ] الْجَمِيعَ، فَقِيلَ بِوَضْعِ الْجَمِيعِ.
وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَبْقَى شَيْءٌ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ وُضِعَ نِصْفُ مَا عَلَيْهِ وَزِيَادَةٌ، وَتَقْدِيرُ الزِّيَادَةِ إِلَى اخْتِيَارِ الْوَارِثِ.
وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ مَا عَلَيْهِ وَأَكْثَرَ وُضِعَ عَنْهُ الْجَمِيعُ، وَلَغَا ذِكْرُ الزِّيَادَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نُجُومٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَقْدَارِ وَالْآجَالِ، فَقَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ النُّجُومِ أَوْ أَكْبَرَهَا، رُوعِيَ الْقَدْرُ.
وَإِنْ قَالَ: أَطْوَلَهَا وَأَقْصَرَهَا رُوعِيَتِ الْمُدَّةُ. وَإِنْ قَالَ: أَوْسَطَ النُّجُومِ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْأَوْسَطَ فِي الْقَدْرِ، وَفِي الْأَجَلِ وَفِي الْعَدَدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ النُّجُومُ فِيهَا جَمِيعًا، فَلِلْوَرَثَةِ تَعْيِينُ مَا شَاءُوا، فَإِنْ زَعَمَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَهُمْ حَلَّفَهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقَدْرِ
وَالْأَجْلِ حُمِلَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ وِتْرًا كَالثَّلَاثَةِ وَالْخَمْسَةِ، فَالْأَوْسَطُ وَاحِدٌ.
وَإِنْ كَانَ شَفْعًا، فَالْأَوْسَطُ اثْنَانِ كَالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَيُعَيِّنُ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْأَوْسَطُ كِلَاهُمَا، فَيُوضَعَانِ، وَهَذَا مُقْتَضَى مَا فِي «التَّهْذِيبِ» .
فَرْعٌ
أَوْصَى بِكِتَابَةِ عَبْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَمْ يَرْغَبِ الْعَبْدُ فِي الْكِتَابَةِ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُكَاتِبُ بَدَلَهُ آخَرَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَزَيْدٍ بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ رَغِبَ فَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ كُوتِبَ ثُمَّ [إِنْ] عَيَّنَ مَالَ الْكِتَابَةِ كُوتِبَ عَلَى مَا عَيَّنَهُ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.
وَالْعَادَةُ أَنْ يُكَاتَبَ الْعَبْدُ عَلَى مَا فَوْقَ قِيمَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ، فَقِيلَ: كِتَابَةُ الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ يَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْعَبْدِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُكَاتِبُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَيَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يُبَالِي بِالتَّبْعِيضِ إِذَا أَفْضَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كُوتِبَ بَعْضُهُ، وَأَدَّى النُّجُومَ عَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُوصِي وَالْبَاقِي رَقِيقٌ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ كِتَابَةَ كُلِّهِ، وَعَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ فَوَلَاءُ الْجَمِيعِ لِلْمُوصِي إِنْ جَعَلْنَا الْإِجَازَةَ تَنْفِيذًا، وَإِلَّا فَوَلَاءُ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْخَارِجِ مِنَ الثُّلُثِ لِلْوَارِثِ.
وَلَوْ قَالَ: كَاتِبُوا أَحَدَ عَبِيدِي لَمْ يُكَاتَبْ أَمَةٌ، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٌ.
وَهَلْ يُكَاتَبُ خُنْثَى ظَهَرَتْ ذُكُورَتُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.
الْمَذْهَبُ: نَعَمْ. وَالثَّانِي: قَوْلَانِ؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ: كَاتِبُوا إِحْدَى إِمَائِي، لَمْ يُكَاتَبِ الْمُشْكِلُ، فَإِنْ ظَهَرَتْ أُنُوثَتُهَا، فَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَحَدَ رَقِيقِي جَازَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَجَازَ الْمُشْكِلُ عَلَى الْمَشْهُورِ.