الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْإِقْرَارِ، وَلَهُ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَقَرَّ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الرَّدِّ، إِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ وَالْيَمِينُ كَالْإِقْرَارِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، فَلَا. وَلَوِ ادَّعَى الْمُسْتَرَقُّ الْمَبِيعُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، مُكِّنَ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِكُلِّ أَحَدٍ إِثْبَاتُهَا، وَإِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَ الرُّجُوعُ، وَلَا يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ بَيِّنَةٌ بِمُطْلَقِ الْحُرِّيَّةِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا أَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى إِقْرَارِ الْبَائِعِ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُدَّعِي قُبِلَتْ، وَثَبَتَ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَانَ إِقْرَارُ الْبَائِعِ مِنْ قَبْلُ لَغَا إِقْرَارُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَقَامَ مُدَّعِي الِاسْتِحْقَاقِ الْبَيِّنَةَ، وَأَخَذَ الْعَيْنَ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ هَذَا الْمُدَّعِي سُمِعَتْ، يُرَدُّ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَتَكُونُ الْعَيْنُ لِلْمُشْتَرِي بِالْمُبَايَعَةِ السَّابِقَةِ.
فَصْلٌ
جَارِيَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، أَوْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِهَا فَأَخَذَهَا، فَوَطِئَهَا، ثُمَّ قَالَ: كَذِبْتُ فِي دَعْوَايَ وَيَمِينِي، وَالْجَارِيَةُ لِمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهَا وَمَهْرُهَا، وَأَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ نَقَصَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّهَا كَانَتْ زَانِيَةً؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ مَا يَقُولُ. وَإِنْ أَوْلَدَهَا، ثُمَّ كَذَّبَ نَفْسَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إِبْطَالِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَالِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْأُمِّ مَعَ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ الْجَارِيَةُ فِي الرُّجُوعِ لَمْ يَبْطُلِ الِاسْتِيلَادُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَنْكَرَ وَحَلَفَ، وَأَوْلَدَ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ عَادَ، وَقَالَ: كُنْتُ مُبْطِلًا
فِي الْإِنْكَارِ، وَالْجَارِيَةُ لِلْمُدَّعِي، فَالْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَالْجَارِيَةِ، وَالِاسْتِيلَادِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي طَرَفِ الْمُدَّعِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ، كَالْحَدِّ، وَالْقَصَاصِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ يَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالْجَوَابُ بِطَلَبٍ مِنْهُ، وَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْشُ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ تَتَوَجَّهُ عَلَى السَّيِّدِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِلسَّيِّدِ، وَلَوْ وُجِّهَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ - الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْأُرُوشَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّقَبَةِ هَلْ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَيْضًا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ سَيَأْتِيَانِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا طِلْبَةَ فِي الْحَالِ، وَلَا إِلْزَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ فِيمَا بَعْدُ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَإِنْ سَمِعْنَاهَا فَلَهُ تَحْلِيفُ الْعَبْدِ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ وَإِنْ جُعِلَتْ كَالْبَيِّنَةِ، فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَالرَّقَبَةُ حَقُّ السَّيِّدِ. وَقِيلَ: لَهُ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ إِنْ جَعَلْنَاهَا كَالْبَيِّنَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي «التَّهْذِيبِ» فِي بَابِ مُدَايَنَةِ الْعَبِيدِ: أَنَّ الدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَكَذَا إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَقُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ فَلَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ إِشْكَالٌ، وَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ لِإِثْبَاتِ الْأَرْشِ فِي ذِمَّتِهِ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَطَلَبَ كَفِيلًا مِنْهُ لِيَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِعْطَاءُ كَفِيلٍ، وَإِنِ اعْتَادَ الْقُضَاةُ خِلَافَهُ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ:
الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَطَلَبَ كَفِيلًا إِلَى أَنْ يَعْدِلَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فَإِنِ امْتَنَعَ حُبِسَ لِامْتِنَاعِهِ لَا لِثُبُوتِ الْحَقِّ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الْكَفِيلِ، لَكِنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَالِبَهُ إِذَا رَأَى اجْتِهَادَهُ إِلَيْهِ، وَخَافَ هَرَبَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الضَّمَانِ قَوْلٌ: إِنَّ كَفَالَةَ الْبَدَنِ بَاطِلَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْيَمِينِ
فِيهِ أَطْرَافٌ:
الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْحَلِفِ، وَصِيَغُ الْأَيْمَانِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْمَقْصُودُ الْآنَ بَيَانُ قَاعِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ لِلتَّغْلِيظِ مَدْخَلًا فِي الْأَيْمَانِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدَّعَاوَى مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأَوْلَى التَّغْلِيظُ يَقَعُ بِوُجُودِهِ، أَحَدُهَا التَّغْلِيظُ اللَّفْظِيُّ، وَهُوَ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: التَّعْدِيدُ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِاللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ، وَوَاجِبٌ فِيهِمَا، الثَّانِي: زِيَادَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بِأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، أَوْ وَاللَّهِ الطَّالِبُ الْغَالِبُ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهَذَا الضَّرْبُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى:«اللَّهِ» كَفَى، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْحَالِفِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) الْآيَةَ، وَأَنْ يُحْضَرَ الْمُصْحَفُ، وَيُوضَعَ فِي حِجْرِ الْحَالِفِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا زِيَادَةً فِي التَّغْلِيظِ. وَالْوَجْهُ
الثَّانِي: التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ، وَالثَّالِثُ: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، وَهُمَا مُفَصَّلَانِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. وَهَلِ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْحَلِفِ فِي غَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ قَطْعًا، وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ كَالْمَكَانِ، وَرَأَى الْإِمَامُ طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنَ التَّغْلِيظِ اللَّفْظِيِّ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّغْلِيظِ الْمَذْكُورَةِ فِي اللِّعَانِ التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: الْأَيْمَانُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِثْبَاتِ حَدٍّ أَوْ دَفْعِهِ يَكُونُ التَّغْلِيظُ فِيهَا بِالْجَمْعِ، كَمَا هُوَ فِي اللِّعَانِ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ التَّغْلِيظُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَا، سَوَاءٌ قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ أَوْ بِالْإِيجَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي دَعْوَى الدَّمِ وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ، وَالْعِتْقِ وَالْحَدِّ، وَالْوَلَاءِ وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ حَتَّى يَجْرِيَ فِي الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهَا مُنْفَرِدَاتٌ لِقِلَّةِ خَطَرِهَا، بَلْ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي الْوَكَالَةِ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مَائَتَا دِرْهَمٍ، وَأَمَّا قَلِيلُهَا وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ فَلَا تَغْلِيظَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ، فَلَهُ التَّغْلِيظُ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهٌ غَرِيبٌ أَنَّ الْمَالَ الْوَاجِبَ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا وَخَطَأً يُغَلَّظُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّ.
الثَّالِثَةُ: مَا جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ يَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، وَقَدْ يَقْتَضِي الْحَالُ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مِثْلَ إِنِ ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ عِتْقًا أَوْ كِتَابَةً فَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ نَكَلَ غُلِّظَ عَلَى الْعَبْدِ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْوَقْفُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَغْلِيظَ فِيهِ إِلَّا إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، وَكَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي إِنْ أَثْبَتْنَاهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ نُثْبِتْهُ بِهِمَا، غُلِّظَ كَالْعِتْقِ، وَفِي وَجْهٍ مَا غُلِّظَ مِنْ طَرَفٍ غُلِّظَ مِنَ الْآخَرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ، وَأَنْكَرْتُهُ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ بِقَوْلِهِ، وَتُصَدَّقُ الزَّوْجَةُ فِي إِنْكَارِ الْمَالِ بِيَمِينِهَا، وَيُنْظَرُ فِي التَّغْلِيظِ إِلَى قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ رُدَّتِ الْيَمِينُ، وَحَلَفَ الزَّوْجُ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْمَالُ، وَإِنِ ادَّعَتْ هِيَ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَ، غُلِّظَ عَلَيْهِ،
[لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحَ، وَإِنْ نَكَلَ، فَحَلَفَتْ غُلِّظَ] ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْفِرَاقُ.
الرَّابِعَةُ: مَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ زَمَانَةٌ، لَا يُغَلَّظُ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ لِعُذْرِهِ، وَكَذَا الْحَائِضُ، إِذْ لَا يُمْكِنُهَا اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُخَدَّرَةُ فِي إِحْضَارِهَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ خِلَافٌ سَبَقَ، فَإِنْ أُحْضِرَتْ، فَكَالرَّجُلِ فِي التَّغْلِيظِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْضُرُ، بَلْ يَبْعَثُ الْقَاضِي مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا، فَإِنِ اقْتَضَى الْحَالُ تَحْلِيفَهَا، فَهَلْ يُغَلَّظُ عَلَيْهَا بِالْمَكَانِ، وَتُكَلَّفُ حُضُورَ الْجَامِعِ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ وَالْغَزَالِيُّ.
فَرْعٌ
مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ، وَكَانَ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَحْلِفَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً، فَإِنْ قُلْنَا: التَّغْلِيظُ وَاجِبٌ، غُلِّظَ
[وَيَحْنَثُ] ، وَإِنِ امْتَنَعَ جُعِلَ نَاكِلًا، وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَحَبٌّ، لَمْ يُغَلَّظْ.
عَلَيْهِ إِتْلَافُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: مَا أَتَلَفْتُ، يَحْلِفُ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْيَمِينِ مُطَابِقَةً لِلْإِنْكَارِ، فَإِنِ ادَّعَى كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ، حَلَفَ كَذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ وُقُوعُهَا بَعْدَ تَحْلِيفِ الْقَاضِي، فَلَوْ حَلَفَ قَبْلَهُ، لَمْ يُعْتَدَّ
[بِهِ]، فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي تَحْلِيفِهِ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: بِالرَّحْمَنِ، لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا، وَكَانَ نُكُولًا. وَلَوْ قَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، أَوْ تَاللَّهِ، فَهَلْ هُوَ نُكُولٌ كَالصُّورَةِ الْأُولَى أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِالِاسْمِ الَّذِي حَلَّفَهُ بِهِ؟ وَجْهَانِ، وَيَجْرِيَانِ فِيهِمَا لَوْ غُلِّظَ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، فَامْتَنَعَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهِ، وَفِيمَا لَوْ أَرَادَ التَّغْلِيظَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَامْتَنَعَ، فَقَالَ الْقَفَّالُ فِي امْتِنَاعِهِ مِنَ التَّغْلِيظِ اللَّفْظِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ نَاكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّ اجْتِهَادِ الْقَاضِي، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ نَاكِلٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَكَانِيِّ وَالزَّمَانِيِّ دُونَ اللَّفْظِيِّ.
الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، سَوَاءٌ كَانَ يُثْبِتُهُ أَمْ يَنْفِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ حَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى إِثْبَاتِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ، وَقَدْ يُخْتَصَرُ، فَيُقَالُ: الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ إِلَّا إِذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا، فَأَنْكَرَ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، فَإِنِ ادَّعَى إِبْرَاءً أَوْ قَضَاءً، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَلَوِ ادَّعَى وَارِثٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ لِمُوَرِّثِي عَلَيْكَ كَذَا، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَبْرَأَنِي، أَوْ قَضَيْتُهُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِإِبْرَاءِ الْمُوَرِّثِ وَقَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: غَصَبَهَا مِنِّي أَبُوكَ أَوْ بَائِعُكَ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ
لِغَصْبِهِ، وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى وَارِثِ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، لَمْ يَكْفِ ذِكْرُ الدَّيْنِ وَوَصْفُهُ، بَلْ يُذْكَرُ مَعَ ذَلِكَ مَوْتُ مَنْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنَ التَّرِكَةِ مَا يَفِي بِجَمِيعِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ دَيْنَهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَحْلِفُ الْمُنْكِرُ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلْعِلْمِ، فَيَقُولُ: غَصَبَ مِنِّي مُوَرِّثُكَ كَذَا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ غَصَبَهُ، ثُمَّ إِذَا تَعَرَّضَ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ الدَّيْنَ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَمْ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُهُ عَلَيْهِ، أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ تَعَهُّدِهِ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ حُصُولَ التَّرِكَةِ عِنْدَهُ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ الدَّيْنَ، وَحُصُولَ التَّرِكَةِ مَعًا وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ التَّرِكَةِ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ التَّرِكَةِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالدَّيْنِ جَمِيعًا، حَلَفَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ، فَلَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِوَدِيعَةٍ لِلْمَيِّتِ أَوْ دَيْنٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَقَّهُ. وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّ عَبْدَكَ جَنَى عَلَيَّ بِمَا يُوجِبُ كَذَا، وَأَنْكَرَ فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَمْ عَلَى الْبَتِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ، وَفِعْلُهُ كَفِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّ بَهِيمَتَكَ أَتْلَفَتْ لِي زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجِبُ الضَّمَانُ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهَا، وَالْمَالِكُ لَا يَضْمَنُ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، بَلْ بِتَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِهَا وَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِفِ، وَلَوْ نَصَبَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِيَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: إِنَّ مُوَكِّلَكَ أَذِنَ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَتَرْكِ حَقِّ الْجِنْسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ، فَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، أَمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؟ قَوْلَانِ، اخْتِيَارُ أَبِي زَيْدٍ الْبَتُّ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى الْمَبِيعِ.
قُلْتُ: نَفْيُ الْعِلْمِ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، فَادَّعَى حُدُوثَ عَجْزٍ عَنْهُ، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ عَالِمٌ بِهِ، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي بِيَمِينِهِ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ فِي الظَّاهِرِ، فَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَخُوكَ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَنَا، فَأَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ رَابِطَةٌ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ حَالِفٌ فِي نَفْسِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ الصُّورَتَيْنِ ابْنُ الْقَاصِّ، وَنَازَعَهُ آخَرُونَ، وَقَالُوا: يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.
قُلْتُ: نَفْيُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مَا حَلَفَ فِيهِ عَلَى الْبَتِّ لَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الْيَقِينُ، بَلْ يَجُوزُ الْبَتُّ بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ مُؤَكَّدٍ يَحْصُلُ مِنْ خَطِّهِ أَوْ خَطِّ أَبِيهِ، أَوْ نُكُولِ خَصْمِهِ.
فَرْعٌ
لَوِ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَتِّ حَيْثُ يَكُونُ الْيَمِينُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ، فَقَدْ مَالَ عَنِ الْعَدْلِ.
فَرْعٌ
النَّظَرُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ الْقَاضِي الْمُسْتَحْلِفِ وَعَقِيدَتِهِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ وَالتَّوْرِيَةُ وَالتَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْقَاضِي لَا يُغْنِي، وَلَا يَدْفَعُ إِثْمَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَلَوِ اسْتَثْنَى، أَوْ وَصَلَ بِاللَّفْظِ شَرْطًا بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْحَاكِمُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ سَمِعَهُ عَزَّرَهُ، وَأَعَادَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلَامٍ لَمْ يَفْهَمْهُ الْقَاضِي مَنَعَهُ مِنْهُ، وَأَعَادَ الْيَمِينَ
عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا وَقْتَهَ، وَأَمَّا الْعَقِيدَةُ، فَإِذَا ادَّعَى حَنَفِيٌّ عَلَى شَافِعِيٍّ شُفْعَةَ الْجَارِ، وَالْقَاضِي يَرَى إِثْبَاتَهَا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ، بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْقَاضِي، وَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ مَا أَلْزَمَهُ الْقَاضِي، وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِهِمْ: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ بَاطِنًا، فَلَوْ حَلَّفَهُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَأْثَمْ.
قُلْتُ: هَذَا إِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً، أَوْ حَلَّفَهُ غَيْرُ الْقَاضِي مِنْ قَاهِرٍ، أَوْ خَصْمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ قَطْعًا، سَوَاءٌ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِطَلَاقٍ وَعَتَاقٍ وَغَيْرِهِمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الْأَصْحَابِ ذَكَرَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي الْحَالِفِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ دَعْوَى لَوْ أَقَرَّ لِمَطْلُوبِهَا أُلْزِمَ بِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ، حَلَفَ عَلَيْهِ، وَقُبِلَ مِنْهُ، وَيُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا الضَّبْطِ صُوَرٌ، فَنَذْكُرُهَا مَعَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، إِحْدَاهَا: يُجْزِئُ التَّحْلِيفُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْئَةِ، وَفِي الْإِيلَاءِ، وَفِي الْعِتْقِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْوَلَاءِ، وَالنَّسَبِ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا بِطَلَبِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، بِأَنْ قَذَفَهُ، فَطَلَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَقَالَ الْقَاذِفُ: حَلِّفُوهُ أَنَّهُ لَمْ يَزِنِ
فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْلِفُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَفَ أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ نَكَلَ، وَحَلَفَ الْقَاذِفُ، سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلَا يَثْبُتُ بِحَلِفِهِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَقْذُوفِ. وَلَوِ ادَّعَى سَرِقَةَ مَالِهِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ لِلْمَالِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَاسْتَحَقَّ الْمَالَ، وَلَا يَقْطَعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، وَادَّعَى شُبْهَةً بِأَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ، وَقَالَ: ظَنَنْتُهَا تَحِلُّ لِي، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، حَلَفَ وَسَقَطَ بِحَلِفِهِ الْحَدُّ، وَلَزِمَ الْمَهْرُ، وَتُسْمَعُ الدَّعْوَى. وَيَجْرِي التَّحْلِيفُ فِي الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَكَذَا فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ الْمُوجِبَيْنِ لِلتَّعْزِيرِ.
الثَّانِيَةُ: ادَّعَى عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ ظَلَمَهُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ عَلَى الشَّاهِدِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوِ الْغَلَطَ، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ، لَمْ يَحْلِفَا لِارْتِفَاعِ مَنْصِبِهِمَا عَنِ التَّحْلِيفِ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَضَاءِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْمَعْزُولِ أَنَّهُ حَكَمَ أَيَّامَ قَضَائِهِ عَلَيْهِ ظُلْمًا، وَأَنْكَرَ، فَقَدْ سَبَقَ وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ أَمْ يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، هَذَا فِي دَعْوَى تَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، كَدَعْوَى مَالٍ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَحْكُمُ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي خَلِيفَتُهُ، أَوْ قَاضٍ آخَرُ.
الثَّالِثَةُ: الصَّبِيُّ إِذَا ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالِاحْتِلَامِ فِي وَقْتِ الْإِمْكَانِ، صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، وَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَقَالَ: أَنَا صَبِيٌّ بَعْدُ وَهُوَ مُحْتَلِمٌ، لَمْ يَحْلِفْ، وَتُوقَفُ الْخُصُومَةُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَإِنْ وَقَعَ فِي السَّبْيِ مَنْ أَنْبَتَ، وَقَالَ: اسْتَنْبَتُّ الشَّعْرَ بِالْعِلَاجِ، وَأَنَا غَيْرُ
بَالِغٍ، بُنِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْحَجْرِ أَنَّ إِنْبَاتَ الْعَانَةِ نَفْسُ الْبُلُوغِ أَمْ عَلَامَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا حَاصِلَ لِكَلَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَالْمَنْصُوصُ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْلِفُ وَهُوَ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَدَّعِي الصَّبِيَّ، وَتَحْلِيفُ مَنْ يَدَّعِي الصَّبِيَّ لَا وَجْهَ لَهُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْقَفَّالُ: هَذَا التَّحْلِيفُ احْتِيَاطٌ وَاسْتِظْهَارٌ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَصَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، وَنَفَى الْخِلَافَ فِيهِ، وَاعْتَمَدُوا فِي تَحْلِيفِهِ الْإِنْبَاتَ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَتْرُكُ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ بِزَعْمٍ مُجَرَّدٍ؟ فَإِذَا حَلَفَ أُلْحِقَ بِالصِّبْيَانِ، وَحُقِنَ دَمُهُ، وَإِنْ نَكَلَ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَالثَّانِي: يُخَلَّى، وَالثَّالِثُ: يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَالرَّابِعُ: يُحْبَسُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بُلُوغُهُ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَتَلْنَاهُ.
الرَّابِعَةُ: ادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَلِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ، فَأَنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَمْ يُمْكِنْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ أَنْ يُقِرَّ، وَالْوَصِيُّ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِتَحْلِيفِهِ، فَلَوْ كَانَ وَارِثًا حَلَفَ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ، وَقَيِّمُ الْقَاضِي كَالْوَصِيِّ.
فَرْعٌ
عَلَى إِنْسَانٍ حَقٌّ لِرَجُلٍ، فَطَلَبَهُ بِهِ رَجُلٌ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُسْتَحِقِّ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِالْوَكَالَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْحَقِّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَسَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ، وَعَلَى هَذَا لَهُ تَحْلِيفُهُ، وَإِنَّ
لَهُ تَحْلِيفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْلِيمُ بِاعْتِرَافِهِ إِذَا قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْبَيِّنَةِ.
فَرْعٌ
هَلْ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إِقَامَةُ بَيِّنَةٍ عَلَى وَكَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ اشْتِرَاطُهُ، وَغَيْرِهِ مَنْعُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ الْإِمَامَ حَكَى عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخَصْمُ غَائِبًا، نَصَبَ الْحَاكِمُ مُسَخَّرًا عَنْهُ، كَانَ الْمُرَادُ هُنَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَهُنَاكَ إِذَا كَانَ غَائِبًا، وَالْأَصَحُّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حُضُورِهِ، وَلَا إِلَى نَصْبِ مُسَخَّرٍ، وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، اسْتَغْنَى عَنْ حُجَّةٍ يُقِيمُهَا إِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ؟
الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَحُكْمُهَا، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ، لَا سُقُوطُ الْحَقِّ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بَعْدَ حَلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سُمِعَتْ، وَقُضِيَ بِهَا، وَكَذَا لَوْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَنَكَلَ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ وَقْتَ التَّحْلِيفِ لِلْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ حِينَئِذٍ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ وَلَا غَائِبَةٌ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي الطَّرَفِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَدَبِ الْقَضَاءِ مَضْمُومَةً إِلَى مَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا بَيِّنَةَ لِي، وَفِيهِمَا خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ السَّمَاعُ أَيْضًا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً سُمِعَتْ، فَلَعَلَّهَا حَضَرَتْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ وَلَا أُقِيمُهَا، بَلْ أَرَدْتُ يَمِينَهُ، أَجَابَهُ الْقَاضِي، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ، بَلْ يَقُولُ: أَحْضِرِ الْبَيِّنَةَ.
فَرْعٌ
أَقَامَ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ شُهُودًا، ثُمَّ قَالَ: كَذَبَ شُهُودِي، أَوْ شَهِدُوا مُبْطِلِينَ، فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ بَيِّنَتِهِ، وَامْتِنَاعِ الْحُكْمِ، وَفِي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ، كَمَا لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً أُخْرَى، وَأَصَحُّهَمَا: لَا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ وَالشُّهُودِ مُبْطِلِينَ لِشَهَادَتِهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وَبُنِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شُهُودًا، فَزَعَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ بِأَنَّ شُهُودَهُ كَذَبَةٌ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ هَلْ يُمْكِنُ، وَيَحْكُمُ بِشَاهِدِهِ وَيَمِينِهِ؟ إِنْ قُلْنَا: هَذَا الْإِقْرَارُ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الدَّعْوَى، فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ الطَّعْنُ فِي الشُّهُودِ، وَإِخْرَاجُ شَهَادَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا، وَجَرْحُ الشُّهُودِ، وَالطَّعْنُ فِيهِمْ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَالٍ، وَإِنْ قُلْنَا: يُبْطِلُهَا، مُكِّنَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ الدَّعْوَى بِالْمَالِ، فَهُوَ كَادِّعَاءِ الْإِبْرَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ.
فُرُوعٌ
فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ: أَقَامَ شَاهِدَيْنِ فِي حَادِثَةٍ، وَكَانَا اسْتَبَاعَا الدَّارَ مِنْهُ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ شَاهِدَيِ الْمُدَّعِي قَالَا: لَا شَهَادَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ سَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ: مَتَى قَالَ ذَلِكَ شَاهِدَا الْمُدَّعِي؟ فَإِنْ قَالَا: قَالَاهُ أَمْسِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ، لَمْ تَنْدَفِعْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ لَا يَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ يَصِيرَانِ. وَإِنْ قَالَا: قَالَا حِينَ تَصَدَّيَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ،