الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره: فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء؛ علمت أن الخطأ من حماد نفسه. وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم؛ علمت أن الخطأ منه لا من حماد؛ فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه، وبين ما أُخطِئ عليه.
***
ولأجل هذا؛
لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث
، ولا يتسرعون في إطلاق الأحكام على الأسانيد والروايات، ولا يغترون بظواهر الأسانيد، بل كانوا أحياناً يمضون الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل معرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً، أم اعتراه شيء من الخطأ والوهم.
يقول الإمام الخطيب البغدادي (1) :
"من الأحاديث؛ ما تخفى علته، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ زمن بعيد".
ثم أسند عن الإمام علي بن المديني، أنه قال:
"ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة"!
****
ولهذا؛
ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد
، لمجرد عدم علمهم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمدوا في نقدهم، فإذا سمعوا منهم حكماً مجملاً، عارياً عن
(1)"في الجامع"(2/257)
الدليل، فحثوا عن دليله؛ لعلمهم، أن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة أو الحدس.
روى بن أبي حاتم (1) ، عن ابن أبي الثلج، قال: كنا نذكر هذا الحديث ـ يعني: حديث موسى بن أَعْين،
عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ:"إن الرجل ليكون من أهل الصوم، والصلاة والزكاة والحج"، حتى ذكر سهام الخير "فما يُجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله" ـ، ليحيى بن معين، سنتين أو ثلاثة، فيقول: هو باطل؛ ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث، عن عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة؛ فأتيناه (2) ، فأخبرناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيد الله بن عمرو"
***
ولم يكونوا يكتفون بالسماع المجرد، وإنما تعدَّوا ذلك، فاعتنوا بجمع الأصول، والوقوف على الكتب الحديثية، فإن الحفظ يخون، بخلاف الكتاب، فإنه أصون وأبعد عن الخطأ والوهم.
ولهذا؛ كانوا يرجعون إلى الأصول والكتب إذا استنكروا ما يحدِّث به الراوي من حفظه، فإن وجدوا له أصلاً في كتبه عرفوا أنه صواب، وإلا فلا.
(1)"العلل"(1879) .
(2)
يعني: ابن معين.
وكانوا ـ أيضاً ـ إذا اختلفوا فيما بينهم في حديثٍ أو أحاديث، رجعوا إلى الكتب، فتحاكموا إلى ما فيها.
قال عبد الله بن المبارك (1) :
"إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم".
ورأى أحمد بن حنبل (2) يحيى بن معين في زاوية بصنعاء، وهو يكتب صحيفة:"معمر، عن أبان، عن أنس"، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه.
فقال أحمد بن حنبل له: تكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، وتعلم أنها موضوعة؟! فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في "أبان"، ثم تكتب حديثه على الوجه؟!
قال: رحمك الله؛ يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة "عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس" وأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل:"أبان": "ثابتاً"، ويرويها:"عن معمر، عن ثابت، عن أنس"؛ فأقول له: كذبت؛ إنما هي: "أبان" لا "ثابت".
وقال الحسين بن الحسن المروزي (3) : سمعت عبد الرحمن بن
(1)"تهذيب الكمال"(25/8) .
(2)
"المجروحين"(1/31-32) .
(3)
"الجامع" للخطيب (2/39) ، و "شرح علل الحديث"(1/535) .
مهدي يقول:
كنت عند أبي عَوَانة، فحدَّث بحديث عن الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من حديثك.
قال: بلى!
قلت: بلى!
قال: يا سلامة! هات الدَّرج فأخرجت، فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه.
فقال: صدقت! يا أبا سعيد؛ فمن أين أُتيت؟
قلت: ذوكرت به وأنت شاب، ظننت أنك سمعته!!
وقال يحيى بن معين (1) :
حضرتُ نعيم بن حماد ـ بمصر ـ، فجعل يقرأ كتاباً صنَّفه.
فقال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون؛وذكر أحاديث.
فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك.
فغضب؛ وقال: ترد عليَّ؟!
قلت: إي! والله؛ أريد زَيْنَك.
فأبى أن يرجع.
(1)"سير أعلام النبلاء"(11/89-90) و "الكفاية"(ص 231) .
فلما رأيته لا يرجع، قلت: لا! والله؛ ما سمعت هذه من ابن المبارك، ولا سمعها هو من ابن عون قط! فغضب، وغضب من كان عنده، وقام فدخ؛ فأخرج صحائف، فجعل يقول ـ وهي بيده ـ أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ !
نعم! يا أبا زكريا؛ غَلِطتُ، وإنما روى هذه الأحاديث غير ابن المبارك، عن ابن عون! !
وهذا حديث من تلك التي أنكرها ابن معين على نعيم بن حماد، بهذا الإسناد: قال هاشم بن مرثد الطبراني (1) : قيل ليحيى بن معين ـ وأنا أسمع ـ: حديث؛ رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن محمد بن سرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اغْتَلَمَتْ (2) آنيتُكُم، فاكسروها بالماء"؟
فقال يحيى بن معين: قال لي نعيم: سمعته (3) من ابن المبارك؛ فقلت كَذِبٌ (4) فقال لي: اتق الله!
(1)"تاريخه"(ص 18 ـ 20)
(2)
أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر، إلى حدها الذي يسكر. نهاية.
(3)
في "المطبوع": "سمعت"! !
(4)
أي: خطأ.
فقلت: كذب، والله الذي لا إله إلا هو.
فذهب، ثم لقيني بعد، فقال: ما وجدت له عندي أصلاً؛ فرجع عنه! !
***
وكان رواة الحديث يعرفون شأن نقاده، ويقدرونهم قدرهم، ويُنزلونهم منزلتهم، فكانوا يرجعون إليهم ويسألونهم عن أحوال أنفسهم وأحاديثهم، وإذا بينوا لهم الخطأ رجعوا عنه، ولم يحدثوا به بعد.
فكل راوٍ من الرواة كان يعلم أن نقاد الحديث وجهابذته أعلم بحديثه: صحيحه وسقيمه، ومحفوظه ومنكره؛ وأعلم بحاله: ثقتِه وضعفهِ؛ من نفسه التي بين جنبيه.
قال ابن معين (1) :
قال لي إسماعيل بن عُليَّة يوماً: كيف حديثي؟ !
قلت: أنت مستقيم الحديث.
فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ !
قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة.
فقال: الحمد لله، فلم يزل يقول: الحمد لله، ويحمد ربه، حتى دخل دار بشر بن معروف ـ أو قال: دار البختري ـ، وأنا معه! !
وقال ابن أبي حاتم (2) : رأيت كتاب؛ كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف
(1)"سؤالات ابن محرز"(2/39) .
(2)
"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 336) .
بـ "رُوسْتَه"؛ من أصبهان، إلى أبي زرعة ـ بخطه ـ: وإني كنت رويت عندكم عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"أبردوا بالظُّهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، فقلتَ: هذا غلط؛ الناس يروونه "عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
فوقع ذلك من قولك في نفسي، فلم أكن أنساه، حتى قدمت، ونظرت في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم "؛ فإن خَفَّ عليك، فأعْلِم أبا حاتم ـ عافاه الله ـ ومن سألك من أصحابنا؛ فإنك في ذلك مأجور، إن شاء الله؛ والعار خير من النار.
***
ولهذا؛ كان أئمة الحديث يجرِّحون الرَّاوي الذي لا يبالي بنقد النقاد، ولا يرجع عن خطئه الذي بينه له أهل العلم، ويقيم على روايته آنفاً من الرجوع عنه.
…
قيل للإمام شعبة بن الحجاج (1) : من الذي يترك الرواية عنه؟ قال: إذا تمادى في غلط مُجمع عليه، ولم يتَّهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل يُتَّهم بالكذب.
وقال حمزة بن يوسف السهمي (2) : سألت أبا الحسن الدارقطني، عمن يكون كثير الخطأ؟
قال: إن نَبَّهوه عليه، ورجع عنه؛ فلا يسقط، وإن لم
(1)"المجروحين"(1/7) و "الكفاية"(ص 229) .
(2)
"الكفاية"(ص 232) .
يرجع سقط.
وقال ابن معين (1) : "ما رأيت على رجل خطأً إلا سترتُه، وأحببت أن أزيِّن أمره، وما استقبل رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن؛ أبيِّن له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك؛ وإلا تركته".
والترك؛ هنا بمعناه الاصطلاحي، كما تقدم عن شعبة، أي: يترك الرواية عنه، لا أن يتركه وحاله، يروي ما يريد ويحدث بما يشاء من غير أن يبين خطأه للناس، هذا ما يُظَنُّ بابن معين، ولا بغيره من أئمة الدين.
قيل لابن خزيمة (2) : لِمَ رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب، وتركت سفيان بن وكيع؟
فقال: لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث، رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس:"إذا حضر العشاء"؛ فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس (3)
وأما سفيان بن وكيع، فإن ورَّاقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه،
(1)"السير"(11/83) .
(2)
"تهذيب الكمال"(1/389) .
(3)
إنما أنكر الأئمة على أحمد بن عبد الرحمن تحديثه بهذا الحديث عن عمه ابن وهب عن مالك خاصة، وإلا فالحديث صحيح ثابت من حديث الزهري عن أنس، من غير هذا الوجه وقد أخرجه البخاري ومسلم..
فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركت الرواية عنه.
***
ومع ما حباهم الله عز وجل به من سعة في الحفظ، ودقة في النقد، وصحة في النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي؛ ما كانوا يتفردون بالقول، ولا يستقلون بالحكم، بل كانوا يرجعون إلى من هم أعلم منهم، ويسألون من تقدمهم، ويستشيرون من رُزق الذي رُزقوا؛ أهل العلم والحفظ والفهم.
يقول الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله (1) :
"عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة؛ تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس علة؛ أخرجته".
وقصَّتُهُ مع الإمام البخاري حيه جاءه يسأله عن علة حديث كفارة المجلس، فيها من العبرة لمن بعده، ما لا يوجد في غيرها.
قال أبو حامد الأعمش الحافظ، وهو: أحمد بن حمدون (2) :
كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري ـ بنيسابور ـ، فجاء مسلم بن الحجاج، فسأله عن حديث: عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، ومعنا أبو عبيدة ـ فساق الحديث بطوله.
(1)"صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص 67) .
(2)
انظر "الإرشاد" للخليلي (3/960 ـ 961) و "السنن الأبين" لان رشيد السبتي (ص 124 ـ 126) و "المعرفة" للحاكم (ص 113 ـ 114) و "تاريخ بغداد"(2/28 ـ 29)(13/102ـ103) و "النكت على ابن الصلاح"(2/716ـ720) ..
فقال محمد بن إسماعيل: حدثنا ابن أبي أويس: حدثني أخي أبو بكر، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر ـ القصة بطولها.
فقرأ عليه إنسان: حديث: حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كفارة المجلس واللغو
…
" ـ الحديث.
فقال مسلم: في الدنيا أحسن من هذا الحديث! ! ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سيلٍ! ! يُعرف بهذا الإسناد حديث في الدنيا؟ ! .
فقال محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول!
قال مسلم: لا إله إلا الله ـ وارتعد ـ؛ أخبرني به؟ ! !
قال استُر ما ستر الله! هذا حديث جليل؛ رَوَى عن حجاج بن محمد الخَلْقُ، عن ابن جريج! ، فألح عليه، وقَبَّل رأسه، وكاد أن يبكي!
فقال: اكْتُبْ؛ إن كان ولا بد: حدثني موسى بن إسماعيل: حدثنا وُهَيْب: حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة المجلس".
فقال مسلم: لا يبغضك إلاحاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك! وفي رواية:
جاء مسلم بن الحجاج إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقَبَّل بين عينيه، وقال دعني حتى أُقَبِّل رجليك، يا أُستاذ الأُسْتَاذين، سيد المحدثين طبيب الحديث في علله ـ ثم سأله عن الحديث.
***
وقد ذكر أئمتنا ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ في باب "الاعتبار" من كتب علوم الحديث: أن هذا الباب يُتَسامح فيه في الأسانيد، ولا يُتشدَّد، وأنه يدخل فيه رواية الضعيف القريب الضعف، الذي لا يُحتج به
وحده، لو انفرد.
وهذه؛ كلمة حق، تَستقيم على مسالك أئمة الحديث في تصانيفهم التي على الأبواب، كمثل "الصحيحين" وغيرهما.
وفي ذلك؛ يقول الإمام مسلم، لما بلغه إنكار أبي زرعة الرازي إدخاله في "الصحيح" بعض الضعفاء، مثل أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَيْر، وأحمد بن عيسى؛ قال (1) :
"إنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه رُبما وقع إِلَيَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ألئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات"
ونحو ذلك؛ قول لبن حبان في مقدمة "صحيحه"(2) :
(1)"سؤالات البرذعي"(ص 676) .
(2)
من "الإحسان"(1/162) .
"إذا صح عندي خبر من رواية مدلِّس، أنه بيَّن السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره، بعد صحته عندي من طريق آخر".
وبناءً على هذا؛ سلك أكثر المحدِّثين بعد الشيخين، في أكثر أحاديث "الصحيحين"مسلك إحسان الظن، وحَمْل ما اشتملت عليه بعض أسانيد كتابيهما من علل توجب ردَّها على أنَّها مجبورة ومدفوعة من أوجه أخرى، اطَّلعا عليها، وخفيت على من بعدهما.
يقول ابن رشيد السَّبتي (1) ؛ مخاطباً الإمام مسلماً:
"وعلى نحو من هذا؛ تأَّول علماء الصنعة بعدكما عليكما ـ أعنيك والبخاري ـ، فيما وقع في كتابيكما من حديث من عُلم بالتدليس، ممن لم يُبَيِّن سماعه في ذلك الإسناد الذي أخرجتما الحديث به، فظنوا بكما ما ينبغي من حسن الظن، والتماس أحسن المخارج، وأصوب المذاهب؛ لتقدمكما في الإمامة، وسعة علمكما وحفظكما، وتمييزكما، ونقدكما، أن ما أخرجتما من الأحاديث عن هذا الضرب مما عرفتما سلامته من التدليس.
وكذلك أيضاً؛ حكموا فيما أخرجتما من أحاديث الثقات الذين قد اختلطوا، فحملوا ذلك على أنه مما رُوي عنهم قبل الاختلاط، أو مما سَلِموا فيه عند التحديث.
على نظرٍ في هذا القسم الآخر، يحتاج إلى إمعان التأمل؛ فبعض منها توصلوا إلى العلم بالسلامة فيه بطبقة الرواة عنهم، وتمييز وقت
(1) في "السنن"(ص 143-144)، وانظر: كتابي "حسم النزاع"(ص 97) .
سماعهم، وبعض أُشْكِلَ؛ وقد كان ينبغي فيما أُشْكِلَ أن يُتوقف فيه؛ لكنهم قنعوا ـ أو أكثرهم ـ بإحسان الظن بكما، فقبلوه، ظناً منهم أنه قد بان عندكما أمره، وحَسْبُنَا الاقتداء بما فعلوا، ولزوم الاتِّباع،
ومجانبة الابتداع" اهـ.
وهو أيضاً؛ مسلك قد سلكه أئمة الحديث في كثيرٍ من أحكامهم الجزئية على الأحاديث، حيث أُثر عنهم الاستدلال على حفظ الراوي لحديث قد أُنكر عليه، أو يُخشى من وقوع الخلل في الرواية من قِبَله، بأن غيره قد تابعه على حديثه ذاك، وقد يكون من تابعه ثقة، وقد يكون دون ذلك.
قال إسحاق ابن هانيء (1) :
قال لي أبو عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ: قال لي يحيى بن سعيد ـ يعني: القطان ـ: لا أعلم عبيد الله ـ يعني: ابن عمر ـ أخطأ، إلا في حديث واحد لنافع؛ حديث: عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام".
قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه.
قال أبو عبد الله: فقال لي يحيى بن سعيد: فوجدته، قد حدَّث به العُمَري الصغير (2) ، عن نافع، عن ابن عمر ـ مثله.
قال أبو عبد الله ك لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العُمَري صححه (3) .
(1)"مسائله"(2/216) ، وكذا هو في "شرح علل الترمذي"(2/656) .
(2)
يعني: عبد الله بن عمر العمري.
(3)
كذا؛ روى ابن هانىء هذه القصة عن أحمد بن حنبل ويحيى القطان، وسياقه واضح في أن العمري الصغير يروي الحديث مرفوعاً كما يرويه عبيد الله أخوه، وأن القطان صحح الحديث بعد أن وقف على متابعته.
لكن؛ روى هذه القصة أيضاً عن أحمد والقطان: عبد الله بن أحمد في "العلل"(2012) وأبو داود في "المسائل"(ص 306) ، وسياقهما لا يدل على ذلك، بل على خلافه.
"سمعت أحمد قال: قال يحيى: نظرت في كتاب عبيد الله ـ يعني: ابن عمرـ، فلم أجد شيئاً أنكره إلا حديث: "لا تسافر المرأة ثلاثاً ـ يعني إلا مع ذي محرم" ورواية عبد الله بن أحمد بنحوه.
وكذا، نقله الدارقطني في "العلل"؛ كما في "الفتح" لا حجر (2/568) .
فروايتهما؛ تدل على أن القطان أنكره، ولم يقوه، وأن أحمد لم يقوه، بل حكى أن أخاه عبد الله يخالفه في رفعه. والله أعلم
لكن؛ الحديث صحيح لا غبار عليه، وقد تابع عبيد الله على رفعه الضحاك بن عثمان، وحديثه في مسلم.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل (1) :
سألت أبي عن الحديث الذي روي ابن المبارك، عن الحسين بن علي، عن وهب بن كيسان، عن جابر ـ يعني: في مواقيت الصلاة ـ: ما ترى فيه؟ وكيف حالك الحسين؟
فقال أبي: أما الحسين؛ هو: أخو أبي جعفر بن محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت، حديث ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره.
(1)"المسائل"(ص 51) ، وراجع "شرح العلل" لابن رجب (2/656) و "شرح البخاري" له (3/14 ـ 15) .
وقال يوسف بن موسى القطان (1) :
سئل أبو عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ عن دية المُعَاهَد؟
قال: على النصف من دية المسلم؛ أذهب إلى حديث عمرو بن شعيب.
قيل له: تحتج بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؟
قال: ليس كلها؛ روى هذا فقهاء أهل المدينة قديماً، ويُروى عن عثمان رحمه الله
…
وأنكر شعبة على عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزمي حديثه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وكان يقول:
"لون أن عبد الملك روى حديثاً مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه"(2) .
وهذا؛ يدل على أن الحديث عند منكر لا يحتمل، بحيث لو جاء عبد الملك بمنكر آخر مثله لضَعَّفَ شعبةُ عبدَ الملكِ.
وكان شعبة يعلل نكارته، بأنه لم يجد له متابعاً عليه، أو شاهداً يُقويه، ويَشُدُ من عضده.
(1)"أهل الملل والرد على الزنادقة" للخلال (867) ، ويوسف هذا؛ مترج في "تاريخ بغداد"(14/304) و "المقصد الأرشد"(3/145) ، وهو ثقة صدوق.
(2)
"الكامل"(5/1940) .
قال وكيع (1) : قال لنا شعبة:
"لو كان شيئاً (2) يُقويه؟! "
وهذا؛ يعني: أنه لو جاء ما يقويه ويشهد له، لصححه وأخذ به، ولما أنكره على عبد الملك.
***
وهذا؛ باب من أبواب العلم عظيم، ومَزْلَق من مزالقه خطير وجسيم، وهو يمثل إلى حد بعيد الجانب العملي التطبيقي لعلم الحديث، فمن أتقن هذا الباب نظرياً وعملياً، فقد أتقن علم الحديث، ودخله من أوسع أبوابه، ومن لم يتقنه، وقصر في تعلمه، وفتر عن ممارسته، فليس له في علم الحديث حظ، سوى حفظ اسمه، وتخيل رسمه.
ولا يتقن هذا الباب، إلا من أتقن جميع علوم الحديث، من الجرح والتعديل، وعلل الأحاديث، ومعرفة المراسيل، والتصحيف والتحريف، والجمع والتفريق، وأسباب الشذوذ والنكارة، وما رُوي بالمعنى وما رُوي باللفظ، وغير ذلك.
وأن يكون عالماً بمناهج المحدثين العارفين بالرجال والعلل، مميِّزاً لاصطلاحاتهم، محرِّراً لأصولهم، مدمناً النظر في كلامهم في الرجال والعلل؛ كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد بن حنبل، وابن المديني، وغيرهما، ومن جاء بعدهما وسلك سبيلهما من أئمة هذا الشأن؛
(1)"الكامل"(5/1941) .
(2)
كذا
كالبخاري، ومسلم، وأبي
حاتم، وأبي زرعة، والنسائي، والدارقطني، وابن عدي، وغيرهم من الأئمة الكبار.
ومن تبعهم، وسار على دربهم، وضرب على منوالهم، ممن جاء بعدهم، من المبرِّزين من العلماء المتأخرين؛ كالذهبي، وابن حجر، وابن رجب، وابن عبد الهادي، وغيرهم؛ رحمهم الله جميعاً، ورضي عنهم أجمعين.
ولما كان هذا الباب من أبواب علم الحديث، بهذه المكانة الرفيعة وتلك المنزلة الشريفة، مع قلة من تأهل له، أو جمع آلاته، أو أخذ بأسبابه؛ كان مَدْحَضَةَ أفهام، ومزلة أقدام.
فإن المتابعات والشواهد، تعتريها ما يعتري أي رواية من العلل الظاهرة والخفية، ما قد يُفضي إلى اطراحها وعدم الاعتداد بها من باب الاعتبار، وإن كانت قبل ظهور هذه العلل فيها صالحة للاعتبار.
كما أن الحديث المتصل برجال ثقات، إذا ظهر فيه علة خفية، تبين أنه غير صالح للاحتجاج به، وإن كان قبل ظهور هذه العلة صالحاً لاحتجاج.
فمن الخطأ الجسيم، والخطر العظيم، الاكتفاء بظواهر الأسانيد، لتقوية بعضها ببعض، من غير الْتِفَات إلى العلل التي تعتريها، فتُسقِطها عن حد الاعتبار.
فإن الاغترار بظواهر الأسانيد، ليس من شأن العلماء العارفين، ولا من شيمة النقاد المحققين، بل هو سمة المقصرين في تعلم العلم ومعرفة
أغواره، وصفة العاجزين عن مسايرة أهله، ومجاراة أربابه.
ولله در الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ حيث قال (1) بصدد حديث، اغتر البعض بظاهر إسناده:
"إن ابن حزم نظر إلى ظاهر السند، فصححه؛ وذلك مما يتناسب مع ظاهريته، أما أهل العلم والنقد، فلا يكتفون بذلك، بل يتتبعون الطرق، ويدرسون أحوال الرواة، وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أوْ لا؛ ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدقِّ علوم الحديث، إن لم يكن أدقَّها إطلاقاً
…
".
قال أيضاً (2) :
" إن الحديث الحسن لغيره، وكذا الحسن لذاته، من أدقِّ علوم الحديث وأصعبها؛ لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته، ما بين موثق ومضعف، فلا يتمكن من التوفيق بينها، أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفةٍ قويةٍ بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عملياً مدة طويلة من عمره، مستفيداً من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد، عارفاً بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب، قل من يصير له، ويناله
ثمرته، فلا جرم أن صار هذا العلم غريباً بين العلماء، والله يختص بفضله من يشاء".
(1)"الإرواء"(6/57 ـ 58) .
(2)
"الإرواء"(3/363) . وكذا (1/11) .
وما أحسن قول الحافظ ابن رجب، حيث قال بصدد حديث اتفق أئمة الحديث من السلف على إعلاله، واغتر بعض المتأخرين بظاهر إسناده؛ قال (1) :
" هذا الحديث؛ مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق (2)
…
وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء؛ يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين؛ كالطحاوي والحاكم والبيهقيّ ".
***
وقد وقع الإسراف لدى المتأخرين من أهل العلم، والمعاصرين منهم على وجه الخصوص، متمثلاً في بعض الباحثين والمعلقين على كتب التراث في إعمال قواعد هذا الباب النظرية؛ دونما نظر في الشرائط المعتبرة التي وضعها أهل العلم لهذه القواعد، ودونما فهم وفقه عند تطبيقها وتنزيلها على الروايات
والأسانيد، ودونما اعتبار لأحكام أهل العلم ونقاد الحديث على هذه الأسانيد، وتلك الروايات؛ فجاء كثير من أحكامهم مصادَمة لأحكام أهل العلم ونقاده عليها، وأدخلوا بسبب ذلك في
(1)"فتح الباري" له (1/362) .
(2)
ذكر منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وشعبة، والثوري، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وابن أبي صالح المصري، ومسلم بن الحجاج، والأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني.
والحديث؛ هو حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب، ولا يمس ماءً".
الأحاديث الحسنة، أحاديث منكرة وباطلة، قد فرغ الأئمة من ردها.
فإن آفة الآفات في هذا الباب، ومنشأ الخلل الحاصل فيه من قِبل بعض الباحثين هو ممارسة الجانب العملي فيه استقلالاً من دون الرجوع إلى أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
فكما أن القواعد النظرة لهذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه، فكذلك ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم؛ لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم يتم إعمالها عملياً من غير معرفة بطرائقهم في إعمالها وتطبيقها وتنزيلها على الأحاديث والروايات.
فإن أهل مكة أعلم بشعابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل مَنْ يطبق القاعدة هو من وضعها وحررها، ونظم شرائطها، وحدد حدودها.
فكان من اللازم الرجوع إلى كتب علل الحديث المتخصصة، والبحث عن أقوال أهل العلم على الأحاديث؛ لمعرفة كيفية تطبيقهم هم لتلك القواعد النظرية، التي يقوم عليها هذا الباب، ومعرفة فه تنزيلها على الروايات والأسانيد.
وليس هذا؛ جنوحاً إلى تقليدهم، ولا دعوة إلى تقديس أقوالهم، ولا غلقاً لباب الاجتهاد، ولا قتلاً للقدرات والملكات؛ بل هي دعوة إلى أخذ العلم من أهله، ومعرفته من أربابه، ودخوله في بابه وتحمله على وجهه.
فمن يظن، أنه بإمكانه اكتساب ملَكَةِ النقد، وقوة الفهم، وشفوف النظر، بعيداً عنهم، وبمعزل عن علمهم، وبمنأى عن فهمهم؛ فهو
ظالم لنفسه، لم يبذل لها النصح، ولم يبغ لها الصلاح والتوفيق، ولا أنزل القوم منازلهم، ولا قَدَرَهم أقَْدارهم.
فهم أهل الفهم، وأصحاب الملكات، وذوو النظر الثاقب، فمن ابتغى من ذلك شيئاً، فها هو عندهم، وهم أربابه، فليأْخذه منهم، وليأخذ بحظ وافر.
فمن تضلع في علمهم، واستزاد من خيرهم، وتشربهم من فقههم، واهتدى بهديهم، واسترشد بإرشادهم، سار على دربهم، وضرب على منوالهم؛ فهو الناصح لنفسه، المُبتغي لها الصلاح والتوفيق، وهو من السابقين بالخيرات بإذن الله تعالى.
ولله دَرُّ الحافظ ابن رجب الحنبلي، حيث أوضح في كلمات قلائل، أنَّ سبيل تحصيل المَلَكة، إنما هو مداومة النظر في مطالعة كلام الأئمة العارفين، للتفقه بفقههم، والتفهم بفهمهم.
يقول ابن رجب (1) :
" ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عَدِمَ المذاكرة به، فليُكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين؛ كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما؛ فمن رُزِق مطالعة ذلك وفهمه، وفَقُهَتْ نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس، ومَلَكة، صَلُحَ له أن يتكلم فيه".
(1)"شرح علل الترمذي"(2/664) .
فاقنع بما قسم المليك،
قَسَم الخلائق بيننا علامُها
فهم السعاة إذا العشيرة أُفْظِعَت
وهم فوارسها، وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهم
والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة أن يبَطِّىء حاسد
أو أن يلوم مع العدا لُوُّامها
هذا؛ وإن علامة صحة الاجتهاد، وعلامة أهلية المجتهد، هو أن تكون أغلب اجتهاداته وأحكامه وأقواله موافقة لاجتهادات وأحكام وأقوال أهل العلم المتخصصين، والذين إليهم المرجع في هذا الباب.
وإن علامة صحة القاعدة التي يعتمد عليها الباحث في بحثه، هو أن تكون أكثر النتائج والأحكام المتمخضة عنها على وفق أقوال أهل العلم وأحكامهم.
فكما أن الراوي لا يكون ثقة محتجاً به وبحديثه إلا إذا كانت أكثر أحاديثه موافقة لأحاديث الثقات، المفروغ من ثقتهم، والمسلَّم بحفظهم وإتقانهم؛ فكذلك الباحث لا يكون حكمه على الأحاديث ذا قيمة، إلا إذا جاءت أكثر أحكامه على الأحاديث موافقة لأحكام أهل العلم عليها.
وبقدر مخالفته لأهل العلم في أحكامه على الأحاديث، بقدر ما يُعلم قدر الخلل في القاعدة التي اعتمد عليها، أو في تطبيقه هو للقاعدة، وتنزيلها على الأحاديث.
فمن وجد من نفسه مخالفة كثيرة لأهل العلم في الحكم على الأحاديث، فليعلم أن هذا إنما أُتي من أمرين، قد يجتمعان، وقد يفترقان.
أحدهما: عدم ضبط القاعدة التي بنى عليها حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها.
ثانيهما: ضبط القاعدة نظرياً فقط، وعدم التفقه في كيفية تطبيقها، كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخبرة، بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة، أو لا تنزل.
فكان هذا من الدوافع القوية إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ لبيان الشرائط التي اشترطها أهل العلم في قواعد هذا الباب، وخطر الإخلال بها؛ مع توضيح شيء من فقه الأئمة عند تطبيقهم لهذه القواعد، وتنزيلها على الأحاديث.
لاسيِّما؛ وأنه لا يكاد يوجد كتاب مستقل تناول هذا الباب من أبواب العلم، رابطاً فيه بين الجانب التقعيدي والجانب العملي التطبيقي؛ وإنْ كان فد صدرت في الآونة الأخيرة بعض الكتابات حول هذا الموضوع، إلا أنها تفتقد إلى حد بعيد الجانب العملي المتمثل في تطبيق العلماء المتخصصين لهذه
القواعد المتعلقة بهذا الباب.
***
وقد نبه إلى هذا التساهل كثير من العلماء المحققين، أمثال الشيخ المعلمي اليماني، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني، وحذَّروا منه، ومن الاغترار به.
يقول الشيخ المعلمي اليماني (1) :
"تحسين المتأخرين فيه نظر".
ويقول الشيخ أحمد شاكر في "شرح ألفية الحديث"(2) للسيوطي مُعقباً عليه تساهله في هذا الباب في كثير من كتبه:
"أما إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي، أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع؛ فإنه لا يرقى إلى الحسن، بل يزداد ضعاً إلى ضعف؛ إذ أن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحديث لا يرويه غيرهم ـ: يرجِّح عند الباحث المحقق التهمة، يؤيد ضعف روايتهم؛ وبذلك يتبين خطأ المؤلف ـ يعني: السيوطي ـ هنا، وخطؤه في كثير من كتبه في الحكم على أحاديث ضعاف بالترقي إلى الحسن، مع هذه العلة القوية".
ويقول الشيخ الألباني (3) :
(1)"الأنوار الكاشفة"(ص 29) .
وانظر أيضاً: "الفوائد المجموعة"(ص 100) .
(2)
ص 16) .
(3)
"تمام المنة"(ص 31ـ32) .
"لابد لمن يريد أن يُقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها، حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها، ومن المؤسف أن القليل جداً من العلماء من يفعل ذلك، ولاسيما المتأخرين منهم؛ فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث لمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقاً، دون أن يقفوا عليها، ويعرفوا ماهية ضعفها!! والأمثلة على ذلك كثيرة
…
".
وذكر الدكتور المرتضى الزين أحمد في كتابه "مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة"(1) ، أنه استشار الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ عن الكتابة في هذا الموضوع، فقال له الشيخ:
"هذا موضوع مهم إذا أُتقن؛ لأن الناس يضطربون في هذا الباب كثيراً" ـ أو عبارة نحوها.
***
هذا؛ وليس الخطر؛ في الوقوع في الخطأ في إعمال قواعد هذا العلم، حيث يقع الباحث في ذلك أحياناً، فإن هذا لا يكاد يسلم منه أحد؛ وإنما الخطر حيث يصير الخطأ قاعدة مطردة، وسنة متبعة، فتنقلب السنة بدعة، والبدعة سنة ويصير أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" كمن قال فيهم صلى الله عليه وسلم "ومن سن في الإسلام سنة سيئة،
(1) ص 9) ، وانظر أيضاً:"الضعيفة"(4/7ـ8)
فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (1) !! .
ويصير من اتبع سبيل المؤمنين، وسار على درب العلماء العارفين متبعاً لغير سبيل المؤمنين، وسالكاً غير طريق العلماء العارفين، ومخالفاً لما عليه المحققون، ومناهضاً لما أجمع عليه المحدثون!! .
فلا غرو! أن وجدنا أهل البدع والأهواء في كل زمان ومكان قد استغلوا هذا الباب من أبواب العلم لتقوية بدعهم، وتأييد آرائهم الشاذة، وأقوالهم الباطلة، وذلك بتقوية الأحاديث المنكرة والباطلة، بروايات أخرى مثلها أو أشد منها في النكارة والبطلان.
وهذا؛ شأن أهل البدع قديماً وحديثاً، يتعلقون بالضعيف والمنكر من الأحاديث، ويُوهمون الناس قوتها، بحجة أن لها شواهد ومتابعات؛ وما هي كذلك.
ومن نظر في كتابي "ردع الجاني" وقف على شيء كثير لمبتدع واحد في كتاب واحد، من تقويته لأحاديث بشواهد ومتابعات لا أصل لها، فكيف بباقي كتبه (2) ،
بل كيف بباقي المبتدعين، الذين هم أكثر تشرباً منه للبدعة، وأكثر توغلاً فيها.
والواقع؛ أن هؤلاء المبتدعين يجدون في المتناثر من أحكام بعض
(1) أخرجه مسلم (6/86 ـ 87) .
(2)
قد بينت كثيراً من ضلالاته في كتبه الأخرى، في كتاب آخر سميته:"صيانة الحديث وأهله من تعدى محمود سعيد وجهله". أسأل الله تعالى أن يعينني على إكماله..
أهل العلم المتساهلين من المتأخرين والمعاصرين خاصة، ما يؤيدون به قولهم، ويقوُّون به صنيعهم، ويدعمون به باطلهم؛ فصار الخطأ غير المقصود عند ذاك العالم الفاضل، قاعدة مطردة عند هؤلاء المبتدعين، تلقَّفُوه، وأقاموا له الحصون لحمايته، والقصور لصيانته؛ فهم بدون هذه الأُغُلوطات وتلك الهفوات الصادرة من هؤلاء الأفاضل، يقفون حائرين عاجزين، مكتوفي الأيدي، لا
يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً!!
***
ووجد ـ في المقابل ـ من يُنكر مبدأ التقوية من أساسه، ولا يعتبر الشواهد والمتابعات، ولا يحتج إلا بما رواه الثقات.
وهؤلاء أيضاً؛ أطلقوا حيث ينبغي أن يقيِّدوا، وصادموا بقولهم هذا النصوص الكثيرة والوفيرة عن أئمة الحديث؛ كأحمد والبخاري والترمذي وغيرهم، الدالة على اعتبار الروايات وجَبْر بعضها ببعض، والانتفاع بالشواهد والمتابعات، والاستدلال بها على حفظ الحديث.
ولعل هؤلاء لما نظروا إلى التساهل الفاحش الواقع فيه الأولون، سعوا إلى الهروب منه، واجتناب ما وقع فيه غيرهم؛ ولكنهم أسرفوا في الهروب، وبالغوا في الاجتناب والبُعد، فجرهم ذلك إلى الغلو، فقابلوا الجفاء بالغلو، والتساهل بالتشدد، والتفريط بالإفراط.
والحق؛ وسط بين الجفاء والغلو؛ يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشرابين.
فهو؛ إثبات للاعتبار، وإعمال للشواهد والمتابعات، وانتفاع بها في