المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المنكر.. أبدا منكر - الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات

[طارق بن عوض الله]

فهرس الكتاب

- ‌ لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث

- ‌ ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد

- ‌الأساس الأول:أن ثمة فرقاً بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح

- ‌لا تنقع باليسير…ولا تغتر بالكثير

- ‌المنكر.. أبداً منكر

- ‌ثبت العرش.. ثم انقش

- ‌التنقية.. قبل التقوية

- ‌المتابعة.. وظن الرجل رجلين

- ‌المتابعة.. والرواية بالمعنى

- ‌الشواهد.. والرواية بالمعنى

- ‌المتابعة.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف المتن

- ‌المتابعة…والقلب

- ‌الشواهد…والقلب

- ‌المتابعة…والإقران

- ‌الإقران.. والمخالفة

- ‌المتابعة.. وما لا يجيء

- ‌المتابعة.. والمخالفة

- ‌الشواهد.. والاضطراب

- ‌المتابعة.. والجادة

- ‌المتابعة.. والإبهام

- ‌الشك.. والجزم

- ‌الشواهد.. وإسناد في إسناد

- ‌الشواهد.. وحديث في حديث

- ‌شاهد اللفظ.. وشاهد المعنى

- ‌الشواهد.. المُعَلَّة

- ‌الشواهد.. القاصرة

- ‌التدليس.. والسماع

- ‌التدليس.. والمتابعة

- ‌المتابعة.. والسرقة

- ‌المتابعة.. والتلقين

- ‌المتابعة.. والتقليد

الفصل: ‌المنكر.. أبدا منكر

‌المنكر.. أبداً منكر

إن كثيراً من المشتغلين بالحديث، يتكلفون غالباً الربط بين حالك الراوي وحال روايته، ويُعلقون الحكم على الرواية بالحكم عليه.

فالراوي الثقة عندهم حديثه صحيح أبداً، والراوي الصدوق حديثه حسن لا غير، والراوي الضعيف حديثه ضعيف، منجبر بغيره ولابد، والراوي الكذاب حديث موضوع ساقط بمرة.

هكذا!! دونما نظر في الرواية، وتأمل للعلل الأخرى التي تعتري الروايات، فتستلزم الحكم عليها بالشذوذ والنكارة، بصرف النظر عن حال الراوي.

فإن الحديث الذي ثبت شذوذه حديث مردود، ساقط بمرة، لا يصلح للاحتجاج ولا الاعتبار، مهما كان راويه في الأصل ثقة أو صدوقاً؛ لأنه قد ثبت أن هذا الحديث بعينه قد أخطأ فيه هذا الثقة، ولا يُعقل أن يُحتج أو يُعتبر بحديث قد تُحقق من خطئه؛ فإنه ـ والحالة هذه ـ لا وجود له في الواقع، إلا في ذهن وتخيل ذاك الراوي الثقة الذي أخطأ.

وكذلك الحديث المنكر، مثل الحديث الشاذ بل أولى (1) ؛ لا يصلح للاحتجاج ولا للاعتبار، مهما كان راويه سالماً من الضعف الشديد، غير متهم بكذب أو فسق.

(1) هذا؛ يدل على قول من يرى المغايرة بينهما، وهو اختلاف لفضي؛ فهما في الحكم سواء،فالشاذ والمنكر هو ما ترجح خطؤه، بصرف النظر عن حال المخطئ فيه.

ص: 78

وهذا أمر معروف عند أهل العلم، لا يُعلم بينهم فيه اختلاف، بل قد نصوا عليه، وحذروا من الغفلة عنه.

يقول الإمام الترمذي في تعريفه للحديث الحسن الذي أكثر منه في "جامعه"، يقول (1) :

"ومما ذَكرنا في هذا الكتاب "حديث حسن"؛ فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا: كل حديث يُروى، لا يكون فيه إسناده من يُتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حسن".

فإذا كان الترمذي يشترط في الحديث لكي يصلح لأن يعتضد بغيره: أن لا يكون في إسناده متهم بالكذب، وألا يكون شاذاً، أدركنا أن الحديث الشاذ لا يصلح لأن يعتضد بتعدد الطرق، كما أن الذي فيه متهم لا يصلح لذلك، ولا تنفعه الطرق المتعددة.

وبنحو ذلك؛ صرح ابن الصلاح، فقال (2) :

"ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمن ضعف يزيله ذلك

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً

".

ومثله؛ قول الحافظ العراقي في "الألفية":

(1)"العلل" في آخر "الجامع"(5/758) .

(2)

في "علوم الحديث"(ص 50) .

ص: 79

وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعف؛ فلم يُجبر ذا

وقال المرُّوذي (1) :

"ذكر ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ الفوائد، فقال: الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر".

قلت: ومعنى هذا: أن الراوي الضعيف إذا روى حديثاً غير منكر، فإنه يستفاد بروايته تلك في باب الاعتبار، أما إذا جاء المنكر ـ من الضعيف أو الثقة ـ، فإنه لا يُلتفت إليه، ولا يعرج عليه، لأنه قد تُحقق من وقوع الخطأ فيه.

وقال الإمام أبو داود (2) :

"لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد، والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب، وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً".

وقد ذكر الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في كتابه "صلاة التراويح" حديثاً خالف فيه ثقة غيره ممن هو أوثق منه، وأكثر عدداً؛ ثم قال (3) :

"ومن المقرر، في علم "مصطلح الحديث"، أن الشاذ منكر مردود؛

(1)"العلل"(ص 287) ، وكذا حكاه عن أحمد إسحاق بن هانئ في "مسائله"(1925ـ 1926) .

(2)

في "رسالته إلى أهل مكة"(ص 29) .

(3)

"صلاة التراويح"(ص 57)

ص: 80

لأنه خطأ، والخطأ لا يُتقوى به! ".

ثم قال الشيخ:

" ومن الواضح أن سبب رد العلماء للشاذ، إنما هو ظهور خطأها بسبب المخالفة المذكورة، وما ثبت خطؤه فلا يُعقل أن يقوي به رواية أخرى في معناها، فثبت أن الشاذ والمنكر لا يعتد به، ولا يستشهد به، بل إن وجوده وعدمه سواء"(1) .

هذا؛ وإنما يصلح في هذا الباب ما ترجح جانب إصابة الراوي فيه، فيحتج به، أو كان جانب إصابته مساوياً لجانب خطئه، فيعتبر به.

قال الحافظ ابن حجر (2) :

" لم يذكر ـ يعني: ابن الصلاح ـ للجابر ضابطاً يُعلم منه ما يصلح أن يكون جابراً، أو لا.

والتحرير فيه: أن يقال: إنه يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد:

فحيث يستوي الاحتمال فيهما؛ فهو الذي يصلح لأن ينجبر.

وحيث يقوى جانب الرد؛ فهو الذي لا ينجبر.

وأما إذا رجح جانب القبول؛ فليس من هذا، بل ذاك في الحسن الذاتي والله أعلم ".

(1) وارجع "السلسلة الصحيحية"(6/2/756 ـ 1237) ، و"الضعيفة"(3/318 ـ 321) .

(2)

في " النكت على كتاب ابن الصلاح "(1/ 409) .

ص: 81

ومن المعلوم أن نقاد الحديث كثيراً منا يحكمون على أحاديث أخطأ فيه بعض الرواة، بأنها "ضعيفة جداً"، أو " باطلة "، أو " منكرة "، أو " لا أصل لها "، أو " موضوعة "، مع أن رواتها الذين أخطئوا فيها، لم يبلغوا في الضعف إلى حد أن يُترك حديثهم، بل أحياناً يُطلقون هذه الأحكام الشديدة على أحاديث أخطأ فيها بعض الرواة الثقات، غير متقيدين بحال الراوي المخطيء، بل معتبرين حال الرواية سنداً ومتناً، ونوع الخطأ الواقع فيهما، أو في أحدهما.

فمن ذلك:

ما رواه الإمام أحمد (1) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال قال: قال رجل من اليهود: انطلق بنا إلى هذا النبي.

قال: لا تقل: النبي؛ فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين ـ وقص الحديث ـ، فقالا: نشهد أنك رسول الله (2) .

ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه، أنه قال:

" خالف يحيى بن سعيد غير واحد (3) ،

فقالوا: " نشهد أنك نبي "؛ ولو

(1) رواه عنه ابنه في "العلل"(4286) ، وهو في "المسند"(4/240) . وذكر الخلال في "جامعه" في كتابه "أهل الملل والردة"(2/373) من طريق عبد الله بن أحمد في "العلل".

(2)

زاد فيه "العلل": " صلى الله عليه وسلم "، وأظنها زيادة ناسخ؛ فهي ليست عند الخلال، ولا في "المسند".

(3)

منهم: غندر، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وأبو أسامة، والطيالسيان.

أخرجه: أحمد (4/239) . والترمذي (2733) ، وابن ماجه (3705) ، والنسائي في "الكبرى"(تحفة 4/192)، وانظر: المحدث الفاصل "للرامهرمزي"(ص 248) .

ص: 82

قالوا " نشهد أنك رسول الله " كانا قد أسلاما؛ ولكن يحيى أخطأ فيه خطأً قبيحاً ".

فأنت ترى الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ قد قضى على خطأ يحيى بن سعيد القطان في هذا الحديث، بأنه "خطأ قبيح"؛ ومعنى هذا: أنه فاحش شديد، لا سبيل لقبوله.

ويحيى؛ هو يحيى ف الحفظ والإتقان والتثبت، ولكن أحمد لم يعلق الحكم على روايته بما يعرفه من حاله في الحفظ والإتقان، ولو كان كذلك لما تردد في قبولها؛ ولكنه نظر في روايته، وتأملها من حيث المعنى، وقابلها برواية غيره من الثقات؛

فتبين لديه أنها رواية شاذة غير مقبولة، وأن يحيى أخطأ فيها، وإن كان ثقة حافظاً، واعتبره " خطأ قبيحاً " مع أنه من ثقة.

هذا؛ وقد علمت أن الخطأ الذي وقع فيه يحيى القطاع خطأ في المتن، أدى إلى فساد المعنى.

ومعنى هذا: أن الراوي إذا أخطأ في المتن بما يؤدي إلى فساد معناه كان خطؤه شديداً؛ فلا يحتج بروايته، ولا يُعتبر بها، ولو كان الراوي ثقة.

ومثل ذلك:

ما حكاه عبد الله ابن أحمد (1)، عن أبيه أيضاً؛ حيث قال:

(1)" العلل "(4730) .

ص: 83

" سمعت أبي يقول، وذكر يحيى ابن آدم فقال: أخطأ في حديث ابن مبارك، عن خالد، عن أبي قلابة، عن كعب، قال: قال الله عز وجل: أنا أشج وأداوي.

قال يحيى ابن آدم ـ وأخطأ خطأً قبيحاً ـ، فقال: أنا أسحر وأداوي " اهـ.

ويحيى ابن آدم؛ من الثقات المعروفين، ومع ذلك؛ فقد نعت أحمد خطأه في هذا الحديث بأنه " خطأ قبيح " وذلك؛ لأنه صحَّف في متن الحديث، فأفسد معناه.

وقد صحف أيضاً في حديث آخر (1)، لفظه:" لا غرر في الإسلام "، فقال:" لا غُرْل في الإسلام "، فأفسد الحديث، وقلب معناه؛ فإن " الغرل " عدم الاختتان، وهو بخلاف " الغرر " الذي هو الجهالة في

البيع (2) .

ومن

ذلك:

قال الخلال (3) : أخبرني الميموني، أن أبا عبد الله ـ يعني: أحمد ابن حنبل ـ قيل له: إن بعض الناس أسند، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة.

فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، حتى تغير وجهه، وتغير لونه، وتحرك بدنه، ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم كان

(1)" العلل" أيضاً (1749) .

(2)

انظر: ما سيأتي في " فصل.. الشواهد.. وتصحيف المتن ".

(3)

" زاد المعاد "(1/249ـ 250) .

ص: 84

يلاحظ في الصلاة؟! ـ يعني: أنه أنكر ذلك؛ وأحسبه قال: ليس له

إسناد (1) . وقال: من روى هذا (2) ؟!

إنما هذا من سعيد ابن المسيب (3) .

ثم قال لي بعض أصحابنا: إن أبا عبد الله وهَّن حديث سعيد هذا، وضعَّف إسناده، وقال: إنما هو: عن رجل، عن سعيد اهـ.

قلت: وهذا الحديث الذي أنكره الإمام أحمد هذا الإنكار الشديد، هو:

حديث: الفضل ابن موسى السيناني، عن عبد الله ابن سعيد ابن أبي هند، عن ثور ابن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره.

رواه: جماعة، عن السيناني.

أخرجه: أحمد (1/275ـ 306) ، وأبو داود (4) والترمذي في

(1) أي: إسناد محفوظ تقوم به الحجة، وليس مراده نفي جنس الإسناد، وهذا اصطلاح يستعمله الإمام أحمد كثيراً، وكذلك استعمله غيره، وقد بينت ذلك بأمثلة في غير هذا الموضع.

(2)

إما أنه لا يعرفه، أو يعرفه ويقصد بهذا القول تقليل شأنه، وفي كلا الحالتين قد أنكر الحديث، وسيأتي أنه ثقة، فثبت المطلوب من أن الحديث المنكر أبداً منكر بصرف النظر عن حال الراوي..

(3)

أي: مرسلاً؛ وهذا أخرجه ابن أبي شيبة (1/396) عن هشيم، عن بعض أصحابه، عن الزهري، عن سعيد.

(4)

في راوية أبي الطيب ابن الأشناني، كما في " تحفة الأشراف "(5/117ـ 118) .

ص: 85

" الجامع "(587)

و"العلل"(ص 98-99) والنسائي (3/9)(1) ،

وابن خزيمة (485)(871) والدارقطني (2/83) والبيهقي (2/13) والحاكم (1/236-237) وأبو يعلى (4/463) وابن حبان (2288) .

وقال الترمذي:

" هذا حديث غريب (2) ، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته ".

ثم رواه (588) عن وكيع، عن ابن أبي هند، عن بعض أصحاب عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ فذكره.

(1) وهو في " الكبرى " أيضاً من حديث إسحاق بن راهويه عن السيناني.

وعلى ضوء هذا؛ يفهم ما في " تاريخ بغداد "(6/351)، في ترجمة إسحاق بن راهويه أنه قال: سألني أحمد بن حنبل عن حديث الفضل ابن موسى، حديث ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. قال: فحدثته [في الأصل: فحدثنيه]، فقال: رجل يا أبا يعقوب ـ يعني: ابن راهويه ـ، رواه وكيع بخلاف هذا. فقال له أحمد بن حنبل: اسكت! إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به، =

= قلت: لا يفهم من هذا؛ أن أحمد يصحح الحديث من رواية الفضل بن موسى السيناني، وإنما يصحح فقط أن ابن راهويه حفظ ذلك عن السيناني، ولم يخطيء فيه عليه، ولا يلزم من ذلك أن السيناني حفظه ولم يخطيء فيه؛ فإن ذلك الرجل الذي عارض رواية ابن راهويه برواية وكيع، كأنه أراد أن يخطيء ابن راهويه في الحديث، فأراد الإمام أحمد تبرأة ابن راهويه من عهدة الحديث، فقال ما قال، والخطأ إنما هو ممن فوقه، وهو السيناني، كما سيأتي.

ثم رأيت هذه القصة في " الكامل "(1/116) بسياق مختلف، وفيه نظر، ثم إن ابن عدي لم يسندها بل علقها. والله أعلم.

(2)

انظر: " زاد المعاد "(1/249) وشرح أحمد شاكر على "الترمذي".

ص: 86

وهذا مرسل، بل معضل.

وقال في " العلل "

" لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند مسنداً مثل ما رواه الفضل بن موسى "

وقال الدارقطني:

" تفرد به الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند متصلاً، وأرسله غيره ".

ثم أسند رواية وكيع أيضاً.

وكذلك؛ صنع البيقهي.

وهم يشيرون بذلك إلى إعلال رواية السيناني برواية وكيع المرسلة.

وهو ما يُفهم من صنيع الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ؛ فإنه لما خرج في " المسند "(2/275) رواية السيناني، أتبعها برواية وكيع المرسلة، وفي هذا إشارة منه إلى إعلال رواية السيناني الموصولة برواية وكيع المرسلة؛ لأن المراسيل ليست من موضوع " المسند "(1) .

وقد رواه: هناد بن السري، عن وكيع، عن عبد الله بن سعيد، عن رجل، عن عكرمة ـ مرسلاً ـ.

أخرجه: أبو داود، وقال:

" وهذا أصح ".

(1) وهذا عادة للإمام أحمد في غير ما موضع في " المسند "، في الإشارة إلى علة الحديث، وقد بينت ذلك بأمثلته في بحث عندي، أعانني الله على إتمامه.

ص: 87

والشاهد من هذا الاستطراد: أن المخطئ في هذا الحديث هو الفضل بن موسى السيناني وهو ثقة من الثقات، ومع ذلك؛ فقد أنكر الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ حديثه هذا الإنكار الشديد؛ فدل ذلك على أن الخطأ إذا تحقق من وقوعه ـ ولو من الثقات ـ كان الحديث شاذاً منكراً، لا يُعتبر به، ولا يُشتغل به.

ومن ذلك:

قال المروذي (1) :

" سألت أحمد عن حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمرة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مسح على الجبائر.

فقال: باطل، ليس من هذا شيء؛ من حدث بهذا؟

قلت: ذكروه عن صاحب الزهري.

فتكلم فيه بكلام غليظ " اهـ.

وصاحب الزهري؛ هو: محمد بن يحيى الذهلي، الإمام الحافظ المعروف، لقب بذلك لجمعه حديث الزهري واعتنائه به، وقد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث عليه، بل أنكره قبل أن يسأل عن راويه؛ فثبت المطلوب من أن المنكر أبداً منكر، بصرف النظر عن حال راويه.

وقد سئل الإمام ابن معين (2) عن هذا الحديث أيضاً، فأجاب بمثل جواب الإمام أحمد.

(1)" العلل ومعرفة الرجال"(270) .

(2)

فيما حكاه عبد الله بن أحمد في " العلل "(3944) .

ص: 88

" فقال: باطل، ما حدث به معمر قط، عليَّ بدنة مقلدة مجلل إن كان معمر حدث بهذا! هذا باطل! ولو حدث بهذا عبد الرزاق كان حلال الدم!! من حدث بهذا عن عبد الرزاق؟! قالوا له: فلان (1) .

فقال: لا والله! ما حدث به معمر، وعليّ حجة من هاهنا ـ يعني: المسجد ـ إلى مكة إن كان معمر بهذا" اهـ.

فقد أنكره غاية الإنكار، وضعفه هذا الضعف الشديد، وحكم بأنه باطل، وأنكر أن يكون معمر حدث به، فالآفة عنده ممن دون معمر، وليس دونه إلا عبد الرزاق والراوي عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق ثقة، والراوي عنه قد علمتَ أنه حافظ ثقة، وابن معين ممن يوثقه، ومع هذا؛ فقد صرح هو بأنه لو أن عبد الرزاق حدث به لكان حلال الدم، مع أن عبد الرزاق من الثقات.

وهذا من أدل دليل، على أن الحديث المنكر أبداً منكر، وأنه لا يصلح في الاحتجاج ولا في الاستشهاد، وأن رواية الثقة له لا تدفع نكارته، بل الحديث إذا تُحقق من نكارته ـ إسناداً أو متناً ـ، وكان راويه ثقة، حمل على أنه مما أخطأ فيه الثقة.

ومثل صنيع ابن معين في هذا الحديث:

صنيعه في حديث أبي الأزهر النيسابوري؛ في الفضائل.

(1) في بعض النسخ: " قالوا: محمد بن يحيى "؛ كما في " شرح العلل "(2/754)، هو: الذهلي، كما تقدم.

ص: 89

وذلك؛ لما حدث أبو الأزهر بحديث: عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي، فقال: " يا علي! أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخر، حبيبك حبيبي، وبغيضك بغيضي

" ـ الحديث (1) .

فإن ابن معين؛ لما سمع هذا الحديث، قال:" من الكَذَّاب الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث "، فقام أبو الأزهر وقال: هو أنا ذا! فقال ابن معين: الذنب لغيرك في هذا الحديث، واعتذر إليه.

فرغم أن أبا الأزهر صدوق، وأن ابن معين برأه من عهدة هذا الحديث، إلا أنه حكم بأنه حديث كذب، ولم يرجع عن ذلك رغم أنه علم أن إسناده من رواية الثقات، وذلك لأنه تأمل الرواية، سنداً ومتناً، فرأى أن هذا المتن إنما ألصقه مَن ألصقه بهذا الإسناد النظيف.

وهذا الحديث؛ قد تتابع الأئمة على إنكاره، بل حكم بعضهم بوضعه، على الرغم من ثقة رواته، واتصال إسناده.

فقد صرح ابن معين هاهنا، بأنه كذب.

وقال الذهبي (2) :

" هذا؛ وإن كان رواته ثقات فهو منكر، ليس ببعيد من الوضع

" (3) .

(1) راجع: " ردع الجاني "(ص 315-316) .

(2)

في " تلخيص المستدرك "(3/128) .

(3)

وراجع بقية الأقوال حول هذا الحديث في ترجمتي أبي الأزهر وعبد الرزاق من كتب الرجال.

ص: 90

ومن ذلك:

حديث؛ رواه ابن أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن يسار، قال: رأى ابن عمر رجلاً يعبث في الصلاة بالحصى، فقال: إذا صليت فلا تعبث، واصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الحديث.

قال أبو حاتم وأبو زُرعة (1) :

" هكذا رواه ابن أبي زائدة، وإنما هو: مسلم ابن أبي مريم، عن علي ابن عبد الرحمن المعاوي، عن ابن عمر؛ والوهم من ابن أبي زائدة ".

ثم قال أبو زرعة:

" ابن أبي زائدة قلما يخطئ فإذا أخطأ أتى بالعظائم ".

قلت: وهو ثقة، ورغم قلة أخطائه عند أبي زرعة وهذا يقتضى أنه ثقة أو صدوق عنده، إلا أنه وصف تلك الأخطاء القليلة بأنها " عظائم "، وهذا يقتضي أنها شديدة وفاحشة.

وهذا؛ يدل على أنه لم يعلق الحكم على روايته على حاله في الضبط عنده، وإنما تجاوز ذلك إلى التأمل الثاقب فيما يروي.

والخطأ الذي وقع فيه ابن أبي زائدة في هذا الحديث، هو خطأ في الإسناد؛ حيث قلب راوياً براوٍ، وأسقط آخر من الإسناد.

وهذا؛ يدل على أن هذا النوع من الخطأ إذا وقع فيه الراوي في روايته، فإنه يكون خطأ قبيحاً، يفضي إلى تضعيف تلك الرواية جداً، فلا

(1)"علل الحديث"(257) .

ص: 91

يُعتبر بها، ولا يُستشهد بها، ولو كان الراوي ثقة.

وقد كان بإمكان هذين الإمامين أن يعتبرا هذا الإسناد إسناداً آخر للحديث، ومع ذلك فلم يفعلا، بل اعتبراه خطأ، وأعلاه بالإسناد الآخر المحفوظ، فمن يظن أن أي إسناد سالم من كذاب أو متهم أو متروك يصلح للاستشهاد، فهو من أجهل الناس بالعلم الموروث عن الأئمة والنقاد.

ومن

ذلك:

حديث: أبي بكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر جملاً لأبي جهل.

رواه: أبو عبد الله الصوفي، عن سويد ابن سعيد، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، عن أبي بكر.

قال الإمام الدارقطني (1) :

" وهَمَ فيه وهماً قبيحاً؛ والصواب: عن مالك، عن عبد الله ابن أبي بكر ـ مرسلاً ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والوَهْم فيه من الصوفي ".

قلت: والصوفي هذا ثقة، وثقه الدارقطني نفسه (2) ، ومع هذا؛ فقد قضى بأن وهمه في هذا الحديث

" وهم قبيح ".

نعم؛ يرى الخطيب البغدادي، أن الوهم في هذا الحديث من سويد، وليس من الصوفي، وكذا ابن عبد البر، وهذا لا يدفع ما نستشهد به من صنيع الدارقطني.

لأن الصوفي ثقة عند الدارقطني، وقد ذهب هو إلى أنه أخطأ في هذا

(1)" العلل "(1/226) .

(2)

" تاريخ بغداد "(4/86) .

ص: 92

الحديث " خطأ قبيحاً "، فثبت أن الحكم على الضعف الواقع في الحديث بأنه شديد أو هين، لا يتوقف على حال راويه؛ وهو المطلوب.

والخطأ الواقع في هذا الحديث؛ هو دخول حديث في حديث، كما قاله البرقاني (1) ، حيث أن المخطئ فيه أبدل إسناد هذا الحديث المرسل، بإسناد آخر متصل، سالكاً فيه الجادة.

وهذا؛ يدل على أن هذا النوع من الخطأ، إذا تُحقق من وقوعه في الرواية أفضى إلى اطِّراحها، والحكم عليها بالضعف الشديد، والذي يمنع من الاستشهاد بها، ولو كان المخطئ ثقة.

ومن ذلك:

قال محمد ابن علي ابن حمزة المروزي (2) :

" سألت يحيى ابن معين عن هذا الحديث ـ يعني: حديث نعيم ابن حماد، عن عيسى ابن يونس، عن حريز ابن عثمان، عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف ابن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها

فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال ".

قال (3) : ليس له أصل.

قلت: فنعيم ابن حماد؟

(1)" تاريخ بغداد "(4/83) .

(2)

" تاريخ بغداد "(13/307-308) .

(3)

يعني: ابن معين.

ص: 93

قال: نعيم ثقة!

قلت: كيف يحدِّث ثقة بباطل؟!

قال: شُبِه له " اهـ.

قلت: فرغم أن نعيماً عند ابن معين ثقة؛ إلا أنه حكم على حديثه هذا، حيث أخطأ فيه، بأنه " ليس له أصل "، وأنه " باطل "؛ وهذان اللفظان يفيدان الضعف الشديد، وذلك يرجع لشدة الخطأ الذي وقع فيه نعيم في الرواية، بصرف النظر عن حاله هو من حيث الضبط والحفظ.

وقوله: " شُبِه له "، مع قوله:" ثقة "، يفيد أن الثقة إذا أخطأ عن غير عمد فإن هذا لا يمنع من الحكم على ما أخطأ فيه بالضعف الشديد، فيكون " باطلاً " و " لا أصل له "(1) .

وقد أشار الإمام دحيم إلى أن نعيماً انقلب عليه إسناد هذا الحديث، وأنه دخل عليه إسناد في إسناد، فقد سئل عنه، فرده، وقال (2) :

" هذا حديث صفوان ابن عمرو وحديث معاوية ".

ومعنى هذا؛ أن هذا الخطأ إذا وقع في حديث، كان هذا الحديث ضعيفاً جداً، وباطلاً، ولا أصل له، ولو كان الخطأ فيه من الثقات.

ومن

ذلك:

قال المروذي (3) :

(1) وانظر: مثله في " ضعفاء " العقيلي (1/228) .

(2)

" تاريخ بغداد "(13/307) .

وراجع: " التنكيل " للمعلمي اليماني. (1/68) .

(3)

" علل الحديث " له (280) .

ص: 94

" وذكر ـ يعني: أحمد ابن حنبل ـ لُوَيناً، فقال: حدث حديثاً منكراً عن ابن عيينة، ما له أصل. قلت: أيش هو؟ قال: عن عمرو ابن دينار، عن أبي جعفر، عن إبراهيم ابن سعد، عن أبيه ـ قصة علي ـ: " ما أنا الذي أخرجتكم؛ ولكنَّ الله أخرجكم " ـ؛ فأنكره إنكاراً شديداً، وقال: ما له أصل " اهـ.

قلت: ولُوَين، وهو: محمد ابن سليمان المصيصي، وهو ثقة، ومع ذلك؛ فقد ضعف الإمام أحمد حديث هذا تضعيفاً شديداً وأنكره عليه إنكاراً شديداً.

وقد ذكر الخطيب البغدادي (1) كلام أحمد هذا، ثم قال بعقبه:

" أظن أبا عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ أنكر على لوين روايته متصلاً؛ فإن الحديث محفوظ عن سفيان ابن عيينة، غير أنه مرسل؛ عن إبراهيم بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم أسنده من غير وجه، عن سفيان مرسلاً.

قلت: وهذا يفيد؛ أن مثل هذا الخطأ، إذا تحقق من وقوعه في حديث، كان الحديث " ضعيفاً جداً "

و" منكراً " و " ولا أصل له "، لا يصلح للاعتبار، ولو كان المخطئ فيه ثقة.

ومن ذلك:

روى الربيع بن يحيى الأشناني، عن الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الجمع بن الصلاتين.

(1)" تاريخ بغداد "(5/293-294) .

ص: 95

فقال أبو حاتم الرازي (1) :

" إنه باطل عندي، هذا الخطأ لم أدخله في التصنيف، أراد " أبا الزبير، عن جابر " أو " أبا الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "، والخطأ من الربيع " اهـ.

قلت: والربيع هذا، قد قال فيه أبو حاتم نفسه:" ثقة ثبت " وقد قضى بأن حديثه هذا " حديث باطل "، وأنه هو المخطئ فيه، وهذا يدل على أن الثقة الثبت إذا أخطأ الخطأ الفاحش كان ما أخطأ فيه " باطلاً "، ولا يشفع له كون المخطئ ثقة ثبتاً.

وقوله: " لم أدخله في التصنيف "، يدل على أن الحديث عنده لا يصلح للاستشهاد؛ لأن الحديث إنما يدخل في التصنيف، إما للاحتجاج أو للاستشهاد، وما لا يصلح لذلك لا يدخل في التصنيف.

والخطأ الذي وقع فيه الربيع ـ كما يرى أبو حاتم ـ؛ هو أنه دخل عليه حديث في حديث، أو إسناد في إسناد؛ وهذا يدل على أن هذا الخطأ من الخطأ الفاحش، والذي إذا وقع في الرواية كان موجباً لإنكارها والحكم عليها بالبطلان، مهما كان المخطئ ثقة أو غير ثقة.

وقد سئل الإمام الدارقطني عن هذا الحديث بعينه، فقضى فيه بنحو ما قضى أبو حاتم الرازي ـ رحمهما الله تعالى ـ.

فقد ذكر عنه البرقاني (2) ؛ قال:

" هذا حديث ليس لمحمد بن المنكدر فيه ناقة ولا جمل ".

(1)" العلل " لابنه (313) .

(2)

في " سؤالاته "(23) .

ص: 96

وهذا؛ مثل قول أبي حاتم؛ فقد اتفقا على أن الربيع دخل عليه إسناد في إسناد، وأن الحديث ليس من حديث ابن المنكدر، وإنما هو من حديث غيره.

وسأله الحاكم أبو عبد الله (1)، عن الربيع بن يحيى صاحب هذا الحديث؛ فقال:

" ليس بالقوي؛ يروي عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر في الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث ".

وهذا؛ يدل دلالة قوية على شدة نكارة هذا الحديث؛ فإن ألان القول في حفظه؛ معللاً ذلك بروايته لهذا الحديث المنكر، وهذا يدل على أن نكارة هذا الحديث تعدى أثرها عند الإمام الدارقطني إلى الراوي له، بحيث دلت على عدم تمام ضبطه.

ومن ذلك:

قال البرذعي (2) :

" سألت أبا زرعة عن حديث شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس؛ وعن نافع، عن ابن عمر ـ حديث ابن أبي ذئب ـ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الركعتين بعد (3) المغرب في بيته؟

فأنكر حديث شعبة جداً.

(1) في " سؤالاته "(319) .

(2)

في "سؤالاته لأبي زرعة "(2/698-699) .

(3)

في المطبوع " قبل " خطأ، وعلى الصواب جاء في " تاريخ بغداد "(11/356) .

ص: 97

وقال: من رواه؟

قلت: علي بن ثابت الجزري، عن ابن أبي ذئب.

قال: من عن علي؟

قلت: زياد بن أيوب.

فضعف الحديث جداً، وأنكره ".

قلت: هكذا أنكر هذا الحديث وضعفه جداً من طريق " شعبة عن ابن عباس " مع أن الإسناد إليه رجاله ثقات، فلم يمنعه ثقة الرواة من إنكار الحديث، والحكم عليه بالضعف الشديد.

هذا؛ مع أن متن الحديث محفوظ بإسناد آخر، وقد أتى به هذا الراوي أيضاً، وهو الإسناد الآخر " نافع عن ابن عمر "؛ فإن هذا الحديث قد رواه جماعة كثيرون " عن نافع عن ابن عمر "، وقد أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"(1)

من هذا الوجه، وعلى الرغم من أن أصل الحديث صحيح ثابت، إلا أن الإمام لم يمنعه ذلك من إنكار هذا الإسناد الآخر والحكم عليه بالضعف الشديد، فكيف إذا لم يكن المتن له أصل صحيح، بل كل طرقه تدور على الرواة الضعفاء؟!

وقد روى حديث " نافع عن ابن عمر " غير علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ذئب:

رواه: شبابة بن سوار

أخرجه: عبد بن حميد (781) .

(1) البخاري (3/425)(4/50-58) ، ومسلم (3/17) ..

ص: 98

وتابعه على أصله: حجاج بن محمد.

أخرجه: الطحاوي في " شرح المعاني "(1/336) .

ومن ذلك:

قال عبد الله بن علي بن المديني:

" سمعت أبي ـ وسألته عن حديث رواه بُنْدار، عن ابن مهدي، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " تسحروا؛ فإن في السحور بركة ".

فقال: هذا كذب؛ حدثني أبو داود موقوفاً؛ وأنكره عليه أشد الإنكار ".

قلت: وبندار، هو محمد بن بشار، وهو من الثقات المعروفين، وهو وإن تكلم فيه بعضهم، إلا أن كلام من تكلم فيه ليس لتهمة، ومع ذلك قضى الإمام ابن المديني على حديثه هذا، حيث أخطأ في رفعه والصواب وقفه، بأنه حديث " كذب " وأنكره أشد الإنكار (1) .

هذا؛ مع أن أصل الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من حديث أنس، وقد أخرجه البخاري

ومسلم (2) وغيرهما.

ومن ذلك:

حديث: ضمرة بن ربيعة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " من ملك ذا رحم محرم فهو عتيق ".

(1) راجع " العلل " للدارقطني (5/67) .

(2)

البخاري (4/139) ، ومسلم (3/130) .

ص: 99

فهذا الحديث؛ قد أنكره الإمام أحمد غاية الإنكار، وقال:"لو قال رجل: إن هذا كذب لما كان مخطئاً"؛ مع أن راويه المخطىء فيه، وهو ضمرة ابن ربيعة هذا، من الثقات، وقد وثقه الإمام أحمد نفسه.

وكذلك؛ أنكره الإمام البيهقي، وذهب إلى أن الراوي دخل عليه، إسناد في إسناد، ووصف هذا الخطأ الواقع في هذا الحديث بأنه "فاحش".

وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، إن شاء الله تعالى، في "فصل: الشواهد.. وإسناد في إسناد".

وبالله التوفيق.

ومن ذلك:

حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى على عمر ثوباً غسيلاً أو جديداً، فقال:" البس جديدا ً، وعش حميداً، ومت شهيداً ".

فقد قال أبو حاتم الرازي (1) :

" هذا حديث ليس له أصل من حديث الزهري، ولم يرض عبد الرزاق حتى أبع هذا بشيء أنكر من هذا، فقال: حدثنا الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وليس لشيء من هذين أصل، وإنما هو معمر، عن الزهري ـ

مرسل ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)" العلل " لابنه (1460) .

ص: 100

وقال في موضع آخر (1) :

" هذا حديث باطل ".

قلت: فقد حكم ببطلانه، وبأنه ليس له أصل، رغم أن المخطئ فيه عنده ـ وهو عبد الرزاق ـ من الثقات.

وهذا الحديث؛ قد تتابع الأئمة على إنكاره على عبد الرزاق، منهم: يحيى القطان، وابن معين، وأحمد، والبخاري، والنسائي، وحمزة الكناني، والدارقطني، وغيرهم (2) .

قال أبو حاتم الرازي أيضاً:

" أنكره الناس "

ومن ذلك:

قال ابن الجنيد (3) :

" قلت ليحيى: محمد بن كثير الكوفي؟

قال: ما كان به بأس.

قلت: إنه روى أحاديث منكرات؟

قال: ما هي؟

(1)" العلل "(1470) .

(2)

راجع: " عمل اليوم الليلة " للنسائي (213) ، و" التاريخ الكبير " للبخاري (2/1/356) و " العلل " للدارقطني (2/201) و " العلل الكبير " للترمذي (ص 373) ، و " الكامل " لابن عدي (5/1948) ، و " مسائل أبي داود لأحمد "(ص 315) ، و " البداية والنهاية " لابن كثير (6/232) ، و" تحفة الأشراف "(5/397) ، و " تهذيب التهذيب "(6/315) ، و " شرح العلل "(2/756) .

(3)

في " سؤالاته "(887) .

ص: 101

قلت: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير ـ يرفعه ـ:" نضر الله امراءً سمع مقالتي فبلغ بها "، وبهذا الإسناد مرفوع:" اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه ".

فقال: إن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلا فإني رأيت حديث الشيخ مستقيماً ".

قلت: وإن كان محمد بن كثير هذا ضعيفاً، بل هو ضعيف جداً بمجموع أقوال أهل العلم فيه، إلا أن ابن معين رغم أنه كان لا يرى به بأساً، لاستقامة أحاديثه التي رآها له، إلا أنه لما رأى هذين الحديثين المنكرين كذبه؛ وهذا يدل على أنه رأى الحديثين في غاية النكارة، على الرغم من أن خطأه في هذين الحديثين إنما هو في الإسناد، لا في المتن، وإلا فالمتنان مرويان من غير هذا الوجه، وإن كان المتن الأول صحيحاً، والآخر ضعيفاً.

ونكتفي بهذه الأمثلة.

ثم أقول:

ليس الخوف الذي يعتري الناقد من رواية الضعيف مبعثاً من حال هذا الضعيف فحسب، بل هو يكمن فيما يمكن أن يكون الراوي الضعيف فعله في الرواية؛ فأفسدها.

فإن غاية ما يمكن أن يصنعه الراوي المتروك أو الضعيف جداً، بل والكذاب في الرواية، هو أن يقلب إسناداً أو يركب متناً، وهذا قد يقع فيه هين الضعف ـ بل والثقة أحياناً ـ إذا ما أخطأ؛ فقد يدخل عليه حديث في

ص: 102

حديث، وقد يقلب فيبدل كذاباً كان في الإسناد، فيضع مكانه ثقة، خطأ أو عمداً، وقد يأتي إلى حديث معروف بإسناد ضعيف، فيبدل إسناده بإسناد آخر صحيح،

وقد يُسقط من الإسناد كذاباً أو متروكاً كان فيه، ويُسوِّي الحديث ثقة عن ثقة، وهْماً لا عمداً؛ كما كان ابن لهيعة يسمع الحديث من إسحاق ابن أبي فروة والمثنى بن الصباح، ـ وهما متروكان ـ ثم يُسقطهما من الإسناد خطأً وغفلة.

غاية ما هنالك، أن الثقة قلما يقع منه ذلك، بخلاف الضعيف والمتروك، فإنه كثيراً ما يقع منه ذلك، ولهذا ضعفوا الضعيف، ولم يضعفوا الثقة، وإن كانوا لم يترددوا في الحكم على هذا لقليل الذي أخطأ فيه الثقة بالنكارة والبطلان.

يقوم الإمام مسلم في " مقدمة الصحيح "(1) :

" وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايتُه روايتهم، أو لم تكد توافقهم، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعمله "

ومعنى هذا: أن الحديث المنكر، هو الحديث الذي ثبت خطأ الراوي فيه، إما بمخالفته لأهل الحفظ والرضا فيه، أو بعدم موافقته لهم.

وعليه؛ فلو أخطأ راوٍ في حديث واحد، واستُدل على خطئه بالمخالفة أو بعدم الموافقة، كان هذا الحديث بعينه منكراً، وإن لم يكن لهذا الراوي منكر سواه.

(1) ص 90- نووي) .

ص: 103

أما إذا كان أكثر الراوي من رواية المناكير؛ أي: من مخالفة الثقات أو عدم موافقته لهم، فحينئذ يتعدى الحكم على من الرواية إلى الراوي، فيكون الراوي متروكاً، لا يعرج على حديثه، ولا يشتغل به.

فالحكم على الرواية بالضعف الهين أو الشديد، لا يتوقف على حال راويها فحسب، بل يتوقف على مدى استقامتها إسناداً ومتناً من عدم ذلك، ونوع الخطأ الذي وقع فيه الراوي عند روايته لها، وإن لم يكن أخطأ إلا فيها.

وأختم بحثي هذا، بما رواه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل "(ص 270) والعقيلي في " الضعفاء "(1/264) ، عن نوفل بن مطهر، قال:

كان بالكوفة رجل، يقال له: حبيب المالكي، وكان رجلاً له فضل وصحبة، فذكرناه لابن المبارك،

فأثنى (1) عليه.

قلت: عند حديث غريب.

قال: ما هو؟

قلت: الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: سألت حذيفة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن، ولكن ليس من السنة أن تخرج على المسلمين بالسيف.

فقال: [هذا حديث] ليس بشيء:

قلت له: إنه ،إنه ـ أعنى حبيباً ـ؛ فأبى.

فلما أكثرت عليه في [ثنائي عليه](2) قال: عافاه الله في كل شيء إلا

(1) في " التقدمة ": " فأثنينا ".

(2)

من " التقدمة "، وفي العقيلي:" شأنه ووصف ".

ص: 104

في هذا الحديث؛ هذا [حديث] كنا نستحسنه من حديث سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة.

وموضع الشاهد من هذه الحكاية واضح، والله الموفق، لا رب سواه.

ص: 105