المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشواهد.. وحديث في حديث - الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات

[طارق بن عوض الله]

فهرس الكتاب

- ‌ لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث

- ‌ ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد

- ‌الأساس الأول:أن ثمة فرقاً بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح

- ‌لا تنقع باليسير…ولا تغتر بالكثير

- ‌المنكر.. أبداً منكر

- ‌ثبت العرش.. ثم انقش

- ‌التنقية.. قبل التقوية

- ‌المتابعة.. وظن الرجل رجلين

- ‌المتابعة.. والرواية بالمعنى

- ‌الشواهد.. والرواية بالمعنى

- ‌المتابعة.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف المتن

- ‌المتابعة…والقلب

- ‌الشواهد…والقلب

- ‌المتابعة…والإقران

- ‌الإقران.. والمخالفة

- ‌المتابعة.. وما لا يجيء

- ‌المتابعة.. والمخالفة

- ‌الشواهد.. والاضطراب

- ‌المتابعة.. والجادة

- ‌المتابعة.. والإبهام

- ‌الشك.. والجزم

- ‌الشواهد.. وإسناد في إسناد

- ‌الشواهد.. وحديث في حديث

- ‌شاهد اللفظ.. وشاهد المعنى

- ‌الشواهد.. المُعَلَّة

- ‌الشواهد.. القاصرة

- ‌التدليس.. والسماع

- ‌التدليس.. والمتابعة

- ‌المتابعة.. والسرقة

- ‌المتابعة.. والتلقين

- ‌المتابعة.. والتقليد

الفصل: ‌الشواهد.. وحديث في حديث

‌الشواهد.. وحديث في حديث

قد تكون لفظة ـ أو جملة ـ معروفة في حديث من رواية صحابي معين، فيأتي بعض من لم يحفظ، فيروي حديثاً آخر، عن صحابي آخر، بإسناد آخر، فيزيد هذه اللفظة ـ أو تلك الجملة ـ فيه، والصواب أنه في الحديث الأول، وليست في الحديث الآخر، وإنما اشتبه ذلك على الراوي.

فمن لا يفطن لذلك، يظن أن هذه اللفظة ـ أو تلك الجملة ـ محفوظة بإسنادين، فيجعل أحدهما شاهداً للآخر؛ وليس الأمر كذلك.

وهذا خطأ؛ من أنواع الإدراج في المتون، وقد ذكر الحافظ بن حجر له مثالين:

قال في " النكت على ابن الصلاح "(1) :

" وربما وقع الحكم بالإدراج في حديث، ويكون ذلك اللفظ المدرج ثابتاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن من رواية أخرى.

كما في حديث أبي موسى: " إن بين يدي الساعة أياماً، يُرفع فيها العلم، ويظهر فيها الهرج، والهرج القتل ".

فصله بعض الحفاظ من الرواة، وبين أن قوله:" والهرج القتل " من

(1)" النكت "(2/819 - 820) .

ص: 362

كلام أبي موسى.

ومع ذلك؛ فقد ثبت تفسيره بذلك من وجه آخر مرفوعاً في حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة رضي الله عنهم " اهـ.

قلت: فتلك اللفظة " والهرج القتل "، إنما هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة خاصة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى، بل هي في حديثه من قول أبي موسى موقوفة عليه، فمن ظن أنها محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث الصحابيين عنه، فقد أخطأ.

المثال الثاني:

قال الحافظ:

" ومثل ذلك حديث: " أسبغوا الوضوء "، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ".

يعني: بعد ذلك (1) ، فقد ذكر أن هذه الجملة مدرجة في حديث أبي هريرة، ليست هي في حديثه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من قول أبي هريرة نفسه.

ثم قال الحافظ.

" على أن قوله: " أسبغوا الوضوء "، قد ثبت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، في " الصحيح " اهـ.

يعني " صحيح مسلم "(1/147 - 148) .

(1)" النكت "(2/824) .

ص: 363

مثال آخر:

وذكر له ابن الصلاح مثالاً آخر، فقال (1) :

" مثاله: رواية سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تنافسوا " ـ الحديث.

فقوله: " لا تنافسوا "؛ أدرجه ابن أبي مريم من متن حديث آخر، رواه مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فيه " لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ". والله أعلم " اهـ.

مثال آخر:

حديث: التلبية في الحج.

فقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن تلبية النبي صلى الله عليه وسلم:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".

أخرجه: البخاري (3/408) ومسلم (4/7) وغيرهما.

فهذا حديث ابن عمر، بهذا اللفظ.

وروى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: إني لأعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك ".

(1)" علوم الحديث "(ص 129) .

ص: 364

أخرجه: أيضاً البخاري (3/408) .

فهذا؛ لفظ حديث عائشة، ليس فيه ما في حديث ابن عمر من قوله:" والملك لا شريك لك ".

لكن؛ روى محمد بن فضيل حديث عائشة هذا، عن الأعمش، فزاد في حديثها تلك الزيادة.

أخرجه: أحمد في " المسند "(6/32) .

وهذا: خطأ من محمد بن فضيل، حمل لفظ حديث عائشة على لفظ حديث ابن عمر، والصواب أن حديث عائشة ليس فيه تلك الزيادة.

وقد أنكر ذلك عليه الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى.

قال أحمد (1) :

" وهم ابن فضيل في هذه الزيادة، ولا تُعرف هذه عن عائشة، إنما تعرف عن ابن عمر " اهـ.

مثال آخر:

قال البزار في " مسنده "(1925) .

حدثنا يوسف بن موسى، قال: نا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله ـ يعين: ابن مسعود ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ".

(1)" شرح علل الترمذي " لابن رجب (2/633) .

ص: 365

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حياتي خير لكم، تُحدثون ونُحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تُعرض على أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم ".

وقال البزار:

" وهذا الحديث؛ آخره لا نعلمه يُروى عن عبد الله؛ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ".

فالجزء الثاني من هذا الحديث، وهو قوله: " حياتي خير لك لكم

"؛ إنما أدمجه بالجزء الأول ابن أبي رواد، وليس الحديث عند أصحاب سفيان هكذا؛ إنما يَروي أصحاب سفيان بهذا الإسناد الجزء الأول فقط، وأما الجزء الثاني فلا يعرف عن سفيان إلا من هذا الوجه، كما ذكر البزار.

وممن روى الجزء الأول عن سفيان:

وكيع، وعبد الرزاق، وابن المبارك، وابن نمير، ومعاذ بن معاذ، والفريابي، وغيرهم.

أخرجه: النسائي في " السنن "(3/43) و " اليوم والليلة "(66) وأحمد (1/387 - 441 - 452) وعبد الرزاق (2/215) وابن حبان (914) والدارمي (2/317) وغيرهم.

ورواه: بعضهم، فقرن مع الثوري: الأعمش.

أخرجه: الطبراني في " الكبير "(10/271) وأبو نعيم في " أخبار أصبهان "(2/205) .

ص: 366

وأما الجزء الثاني من الحديث:

فهو يُروى من أوجه أخرى، عن بكر المزني مرسلاً؛ هكذا يُعرف. وهو مروي عنه من ثلاثة أوجه:

الأول: عن غالب القطان، عنه.

أخرجه: إسماعيل القاضي في " فضل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "(25) وابن سعد في " طبقاته "(2/2/2) .

وإسناده؛ صحيح إلى بكر المزني.

الثاني: عن كثير أبي الفضل، عنه.

أخرجه: القاضي أيضاً (26) .

وهذا أيضاً؛ صحيح إليه.

الثالث: عن جسر بن فرقد، عنه.

أخرج الحارث بن أبي أسامة في " مسنده "(957 ـ زوائد) .

وهذا؛ ضعيف.

فهذا؛ هو أصل الحديث؛ أن الجزء الأول منه هو فقط الذي يُعرف بهذا الإسناد عن ابن مسعود، أما الجزء الثاني، فهو إنما يعرف مرسلاً من مرسل بكر المزني، وأن من أدمجه بالجزء الأول، فهو مخطئ، دخل عليه حديث في حديث.

ويرجع الفضل في بيان علة هذا الحديث ـ بعد الله عز وجل إلى الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، فإنه بين في " السلسلة الضعيفة "

ص: 367

(975)

طرق الحديث بجزأيه بنحو ما ذكرت، وقال:

" فاتفاق جماعة من الثقات على رواية الحديث عن سفيان، دو آخر الحدي " حيات

" ثم متابعة الأعمش له على ذلك، مما يدل عندي على شذوذ هذه الزيادة؛ لتفرد عبد المجيد بن عبد العزيز بها، لاسيما وهو متكلم فيه من قبل حفظه، مع أنه من رجال مسلم

".

ثم قال:

" فلعل هذا الحديث ـ يعني الجزء الثاني منه ـ الذي رواه عبد المجيد موصولاً عن ابن مسعود، أصله هذا المرسل عن بكر، أخطأ فيه عبد المجيد فوصله عن ابن مسعود، ملحقاً إياه بحديثه الأول عنه.

والله أعلم " (1)

مثال آخر "

حديث: الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن

(1) قلت: ووقع نحو هذا في حديث آخر، بينه البيهقي في " السنن الكبرى "(1/431) .

ص: 368

أبي هريرة ـ وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: الله؛ إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ".

أخرجه: مسلم (2/93) ، عن الأوزعي.

فظاهر هذه الرواية؛ أن هذا اللفظ، مروي بإسنادين:

الأول: عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وليس كذلك!

بل هذا لفظ حديث حسان بن عطية، عن ابن أبي عائشة خاصة، أما لفظ حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فليس فيه أن الدعاء كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد أو في الصلاة.

وهذا لفظه:

" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ".

وقد أخرجه البخاري (3/241) ومسلم أيضاً (2 /93 - 94) .

ولذا؛ قال الإمام ابن رجب في " شرح البخاري "(1) :

" هذا يدل على أن رواية الأوزاعي حُمل فيها حديث يحيى بن أبي سلمة، على لفظ حديث حسان عن ابن أبي عائشة؛ ولعل البخاري لم يخرجه لذلك؛ فإن المعروف ذكر الصلاة في رواية ابن أبي عائشة خاصة، ولم يخرج له البخاري ".

مثال آخر:

حديث: عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال عليه السلام:

(1)" فتح الباري " لابن رجب (5/183) .

ص: 369

" احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء ".

قال الإمام الدارقطني (1) :

" وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه، عنه، عن يحيى بن سعيد،

بدون " الحفر "، وإنما روى ابن عيينة هذا، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" احفروا مكانه "؛ مرسلاً " اهـ.

قلت: دل ذلك على أن ذكر " الحفر " بهذا الإسناد المتصل خطأ، وإنما هو بذاك الإسناد الآخر المرسل.

مثال آخر:

ما رواه: محمد بن مصعب القرقساني: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة، قد ألقاها أهلها، فقال:" والذي نفسي بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها "

وهذا الإسناد؛ لا بأس به في الشواهد ـ من حيث الظاهر ـ والمتن صحيح محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، عن غير هذا الصحابي؛ فقد أخرجه مسلم (8/210 - 211) بغير هذا الإسناد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ وأما بهذا الإسناد، فهو خطأ، دخل على

محمد بن مصعب هذا حديث في حديث.

قال الإمام أحمد (2) :

" هو عندي خطأ ".

(1)" نصب الراية "(1/212) .

(2)

" المنتخب من علل الخلال " لابن قدامة (رقم: 4 بتحقيقي)

ص: 370

ووجه الخطأ:

أن هذا المتن؛ إنما يعرف بغير هذا الإسناد، وهذا الإسناد؛ إنما هو لغير هذا المتن، وهو متن شبيه بهذا

المتن، فالظاهر أن الراوي ـ وهو محمد بن مصعب هذا ـ دخل عليه حديث في حديث، فلما حدث بالإسناد، وشرع في المتن، انتقل ذهنه إلى المتن الآخر الشبيه به، فذكره، غافلاً عن المتن الحقيقي الذي يُروى بهذا الإسناد.

وقد بين ذلك غير واحد من أهل العلم:

قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان (1) :

" هذا خطأ من القرقساني؛ إنما هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة، فقال: " ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟ ! ".

وكذلك؛ قال ابن حبان، فقد ساق هذا الحديث في ترجمة القرقساني من " المجروحين "(2)، وقال:

" هذا المتن بهذا الإسناد باطل، إنما الناس رووا هذا الخبر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة، قال: " أولا انتفعتم بإهابها؟ " قالوا: إنها ميتة؟! قال: " إنما حُرم أكلها " اهـ.

وهذا؛ مثل قول الرازيين سواء بسواء.

وقد وافقه الدارقطني على ذلك في " تعليقاته على المجروحين "(3)

(1)" العلل "(1897) .

(2)

2/294) .

(3)

2/294) .

ص: 371

، وقال: " وهم في متنه محمد بن

مصعب ".

فقد تبين بهذا؛ أن هذا الإسناد جاء به القرقساني وإن كان مستقيماً في نفسه، إلا أنه لا أصل لهذا المتن به، وإنما هو خطأ منه حيث أقحمه به، والصواب: أنه إسناد المتن الآخر.

فالذي يجيء فيجعل هذا الإسناد شاهداً للحديث، فيضمه إلى إسناد مسلم لهذا المتن، يكون قد أغرب

جداً، وأتى بشاذ من القول.

مثال آخر:

حديث: نهى عن ثمن الكلب، إلا كلب الصيد.

فهذا المتن؛ رواه حماد بن سلمة بإسنادين:

الأول: عن أبي المُهَزَّم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرجه: الترمذي (1281) .

الثاني: عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرجه: النسائي (7/ 190 -309) .

فالناظر في هذين الإسنادين، يظن من أول وهلة، أن هذا المتن بهذا اللفظ يُحكم عليه بمقتضى هذين الإسنادين.

والإسناد الأول فيه أبو المهزم، وهو متروك الحديث، لكن الإسناد الثاني ظاهر الصحة، فيذهب إلى تصحيح الحديث.

ص: 372

وليس الأمر كذلك!

فإن اللفظ المذكور؛ إنما هو لحديث أبي المهزم خاصة، عن أبي هريرة.

أما حديث جابر؛ فليس فيه هذا الاستثناء المذكور، وهو قوله:

" إلا كلب صيد ".

ذلك؛ لأن غير حماد بن سلمة روى حديث جابر هذا، عن أبي الزبير، عنه؛ دون ذكر هذا الاستثناء في الحديث.

منهم: معقل بن عبيد الله، وابن لهيعة، وعمر بن زيد الصنعاني.

أخرجه: مسلم (5/35) وأحمد (3/386) وابنه في " زوائده "(3/297) وأبو داود (3480) والترمذي (1820) وابن ماجه (2161) وغيرهم.

فالظاهر؛ أن حماد بن سلمة حمل لفظ حديث جابر على لفظ حديث أبي هريرة، فأخطأ، وإنما هذا الاستثناء ليس في حديث جابر، بل في حديث أبي هريرة خاصة، وقد علمت أنه من رواية أبي المهزم، وهو ضعيف متروك، ويؤكد ذلك؛ أن الحديثين كانا عند حماد، كما سبق.

ولذا؛ قال الإمام النسائي بعقب رواية حماد، لحديث جابر:" ليس هو بصحيح ".

وقال في الموضع الثاني: " هذا منكر ".

ص: 373

وقال الترمذي عقبة رواية المهزم:

" هذا حديث لا يصح من هذا الوجه، وأبو المهزم، اسمه: يزيد ابن سفيان، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج، وضعفه ".

قال:

" وقد رُوي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، ولا يصح إسناده أيضاً "(1)

هذا؛ وقد ذهب البيهقي (2) إلى أن إمكانية أن يكون من ذكر الاستثناء في هذا الحديث، إنما أخذه من الأحاديث الأخرى الصحيحة في النهي عن اقتناء الكلب؛ فإن فيها هذا الاستثناء.

قال البيهقي:

" والأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء؛ وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي عن الاقتناء؛ ولعله شُبِّه على من ذكره في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة، الذين هم دون

الصحابة والتابعين. والله أعلم ".

مثال آخر:

حديث: أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي.

فهذا؛ جاء من حديث جابر، وأنس، وعائشة، وأم سلمة.

(1) توسع الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في تخريج هذا الحديث في " السلسلة الصحيحة "(2971)(2990) ؛ فراجعه، وكذا " زاد المعاد "

(

5/770 -771) .

(2)

في " السنن الكبرى "(6/ 6 - 7) ، و " معرفة السنن والآثار "(4/399) .

ص: 374

وحديث جابر: عند مسلم (1/106)، وحديث عائشة: عند أحمد (6/142) ، وكذا حديث أم سلمة (6/146) .

وهي؛ في ترجمة دحية الكلبي من " طبقات ابن سعد "(4/1/184) و " تاريخ دمشق "(17/211-214) .

ورُوي أيضاً؛ من مرسل الشعبي، وأبي وائل، ومجاهد، والزهري (1) .

لكن؛ وقع في بعض روايات حديث جبريل الطويل في الإسلام والإيمان والإحسان، أن جبريل جاء يومئذ في صورة دحية الكلبي.

وهذا خطأ في هذا الحديث على وجه الخصوص.

وذلك لأمرين:

الأمر الأول:

أن أكثر روايات هذه القصة، ليس فيها هذا الوصف لجبريل، فهي زيادة شاذة لا تصح.

وبيان ذلك:

* جاء هذا الوصف في حديث ابن عمر من طريق: حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد، عن يحيى بن معمر، عن ابن عمر، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ ـ حتى ذكر الحديث

بتمامه.

أخرجه أحمد (2/107) وابن سعد (4/1/184) ومحمد بن نصر في " تعظيم قدر الصلاة "(372) وابن عساكر (17/214) .

(1) وراجع: " الصحيحة "(1111)(1857) .

ص: 375

وهذه الزيادة؛ لم يذكرها في هذا الحديث عن يحيى بن معمر، إلا إسحاق بن سويد، فقد رواه غيره بدونها؛ منهم:

سليمان بن بريدة، وعلي بن زيد، والركين بن الربيع، وعطاء الخراساني.

أخرج حديثهم: أبو داود (4697) والنسائي في " الكبرى "(1) وأحمد (1/52- 53) ومحمد بن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(368)(369)(370)(371) والطبراني في " الشاميين "(2451) وأبو نعيم في " الحلية "(5/207 - 208) .

على أن أصل الحديث؛ لا يصح عن ابن عمر سماعاً له من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الصحيح المعروف:

عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال غير واحد من أهل العلم؛ منهم: مسلم، والترمذي، والنسائي (2) .

* وكذلك جاء هذا الوصف في بعض طرق حديث أبي هريرة.

وذلك؛ فيما رواه النسائي (8/101 - 103) عن محمد بن قدامة، والمروزي (378) عن إسحاق بن راهويه ـ كلاهما ـ من حديث جرير بن عبد الحميد، عن أبي فروة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة وأبي ذر ـ فذكر الحديث، وفي آخره عن النبي صلى الله عليه وسلم:

" والذي بعث محمداً بالحق هدى وبشيراً، ما كنت بأعلم به من رجل

(1) كما في " تحفة الأشراف "(5/444) .

(2)

انظر " التمييز " لمسلم (ص 198-199) و " الجامع " للترمذي (5/41) و " تحفة الأشراف "(5/444) ، وكذا شرح الشيخ أحمد شاكر على

" المسند "(1/314) .

ص: 376

منكم، وإنه لجبريل عليه السلام، نزل في صورة دحية الكلبي ".

فقوله في هذه الرواية " نزل في صورة دحية الكلبي "؛ زيادة خطأ من قِبل بعض الرواة.

فقد رواه: محمد بن سلام البيكندي، وعثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن جرير،

عن أبي فروة، به؛ بدونها.

أخرجه: البخاري في " خلق أفعال العباد "(25)(1) وأبو داود (4698) .

ورواه: إسحاق أيضاً، عن جرير، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة وحده، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بدونها.

أخرجه البخاري في " الصحيح "(8/513) والمروزي (379) .

وكذلك؛رواه: إسماعيل بن علية، عن أبي حيان؛ بدونها.

أخرجه: البخاري (1/114) ومسلم (1/30) وابن ماجه (64)(4044) وأحمد (2/426) وابن خزيمة (4/5) .

وأيضاً؛ محمد بن بشر، عن أبي حيان.

أخرجه مسلم وابن خزيمة.

وأيضاً؛ أبو أسامة حماد بن أسامة.

أخرجه: ابن خزيمة.

وكذلك؛ رواه عماد بن القعقاع، عن أبي زرعة؛ بدونها.

(1) من هامش كتاب المروزي.

ص: 377

أخرجه: مسلم والمروزي (380) .

وكل ذلك؛ يدل على أن هذه الزيادة في حديث جبريل هذا، خطأ من قبل بعض الرواة، حيث أدرجها فيه، وإنما هي ثابتة صحيحة، ولكن في غير هذا الحديث.

الأمر الثاني:

أن روايات هذه القصة الصحيحة دلت على أن جبريل لم يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم، إلا بعد أن انصرف.

ففي حديث عمر:

" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد

".

فلو كان في صورة دحية الكلبي، لظنوه هو؛ لأن دحية الكلبي معروف لديهم.

وفي آخره:

" ثم قال لي يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم

"

ولهذا؛ قال الحافظ بن حجر (1) :

" دلت الروايات التي ذكرناها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة،

(1) في " الفتح "(1/125) .

ص: 378

لكنه غير معروف لديهم.

وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث: " وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي "؛ فإن قوله " نزل في صورة دحية الكلبي "، وهم؛ لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر: " ما يعرف منا أحد.

وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الإيمان " له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي، فقال في آخره:" فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم "، حسب، وهذه الرواية هي المحفوظة؛

لموافقتها باقي الروايات " (1) .

وبالله التوفيق.

(1) انظر مثالاً في كتابي " ردع الجاني "(ص 93) وآخر في " التتبع " للدارقطني (ص 319-320 رقم 86) .

ص: 379