المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأساس الأول:أن ثمة فرقا بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح - الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات

[طارق بن عوض الله]

فهرس الكتاب

- ‌ لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث

- ‌ ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد

- ‌الأساس الأول:أن ثمة فرقاً بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح

- ‌لا تنقع باليسير…ولا تغتر بالكثير

- ‌المنكر.. أبداً منكر

- ‌ثبت العرش.. ثم انقش

- ‌التنقية.. قبل التقوية

- ‌المتابعة.. وظن الرجل رجلين

- ‌المتابعة.. والرواية بالمعنى

- ‌الشواهد.. والرواية بالمعنى

- ‌المتابعة.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف الأسماء

- ‌الشواهد.. وتصحيف المتن

- ‌المتابعة…والقلب

- ‌الشواهد…والقلب

- ‌المتابعة…والإقران

- ‌الإقران.. والمخالفة

- ‌المتابعة.. وما لا يجيء

- ‌المتابعة.. والمخالفة

- ‌الشواهد.. والاضطراب

- ‌المتابعة.. والجادة

- ‌المتابعة.. والإبهام

- ‌الشك.. والجزم

- ‌الشواهد.. وإسناد في إسناد

- ‌الشواهد.. وحديث في حديث

- ‌شاهد اللفظ.. وشاهد المعنى

- ‌الشواهد.. المُعَلَّة

- ‌الشواهد.. القاصرة

- ‌التدليس.. والسماع

- ‌التدليس.. والمتابعة

- ‌المتابعة.. والسرقة

- ‌المتابعة.. والتلقين

- ‌المتابعة.. والتقليد

الفصل: ‌الأساس الأول:أن ثمة فرقا بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح

تقوية الأحاديث؛ من غير اغترار بأخطاء الرواة في الأسانيد والمتون، ولا التفات للمناكير والشواذ.

وهو؛ إعمال لما أعمله أئمة الحديث ونقاده من الروايات، احتجاجاً أو استشهاداً، وإهمال لما أهملوه، وإبطال لما أبطلوه.

فما قبلوه يُقْبَل، وما أبطلوه يُبْطل، وما اعتبروه يُعتبر، وما أنكروه يُنكر.

***

هذا؛ والقاعدة التي يقوم عليها هذا الباب، ويُعْتّمد عليها في تمييز ما يصلح وما لا يصلح للاعتبار، إنما تقوم على أساسين، صُلبَيْن، متِنين، لا نزاع فيهما، ولا خلاف عليهما.

‌الأساس الأول:

أن ثمة فرقاً بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح

".

فالحديث؛ الذي يُحتمل أن يكون خطأً، ويُحتمل أن يكون صواباً، هو الذي يصلح في باب الاعتبار، أما الذي ترجَّح فيه الخطأ، وكان جانبه أقوى من جانب الإصابة؛ فهو الذي لا يصلح في هذا الباب؛ فلا يُعتبر به، ولا يعرج إليه.

فأما "الخطأ المحتمل"؛ فهو أن يوجد في الرواية ما يكون مظنَّة للخطأ، أو سبباً لوقوع الخطأ، أو ما يُخشى وقوع الخطأ من قبله، ولمَّا يُتحقق منه، ولا عُرف بعد.

فمثلاً؛ إرسال الحديث، أو سوء حفظ أحد رواته، أو وقوع

ص: 43

الخلاف ـ ولمَّا يظهر بعد رجحان وجه من الوجوه ـ؛ كل هذه الأسباب يُخشى وقوع الخلل في الرواية من قِبَلِها، ولكن الخلل ليس ملازماً لها؛ فقد يكون مخرج المرسل صحيحاً، وقد يكون سيء الحفظ لم يؤثر عليه سوء حفظه في هذا الحديث خاصة، وقد يكون هذا الخلاف الواقع في الرواية من الخلاف الذي لا يقدح، أو يكون الراجح منه ما ينفع الحديث ولا يضره؛ وذلك كله حيث لا يكون في الحديث علة أخرى (1) .

فإذا كان حال الحديث هكذا، يُحتمل أن يكون صواباً، ويُحتمل أن يكون خطأً، من غير رجحان لجانب من الجانبين، كان ـ حينئذٍ ـ صالحاً للاعتبار.

والهدف من اعتبار مثل هذا؛ ترجيح أحد الجانبين، فإذا وُجد متابع يدفع عن الراوي ريبة التفرد، أو شاهد يؤكد حفظه للمتن أو لمعناه، رجح جانب إصابته فيما توبع عليه، أو فيما وُجد له شاهد، من الرواية؛ كلها، أو بعضها.

وإذا وُجد مخالف له، ممن تؤثِّر مخالفته، أو شاهد كذلك بخلاف ما روى، ترجح جانب خطئه في روايته، وقوي جانب الرد لها، فتُلحق ـ حينئذٍ ـ بالمناكير والشواذ.

وإذا لم يوجد؛ لا هذه، ولا تلك: ما يشهد له، ولا ما يخالفه، كان الحديث فرداً، ورجح جانب الخطأ فيه، فيكون منكراً؛ لتفرد من لا

(1) راجع: "الموقظة" للذهبي (ص39) و "النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (2/569) و "حجاب المرأة المسلمة" للشيخ الألباني (ص19ـ20) و "جلبابها" له أيضاً (ص44) .

ص: 44

يحتمل تفرده به (1) .

لاسيَّما؛ إذا انضاف إلى ذلك بعض القرائن التي تؤكد عدم حفظ الراوي لما تفرد به؛ كأن يكون المتفرد مُقلَاّ من الحديث، لا يُعرف بكثرة الطلب، ولا بالرحلة، أو يكون إنما تفرد بالحديث عن بعض الحفاظ المكثرين، المعروفين بكثرة الحديث والأصحاب، فإن من عُرف بسوء الحفظ، إذا تفرد وانضاف إلى تفرده مثل

هذه القرائن، لا يتردد فاهم في نكارة ما تفرد به (2) .

وأما "الخطأ الراجح"؛ فالرجحان يكون بأحد أمرين:

الأول: متعلق بالراوي.

وذلك؛ بأن يكون الراوي المتفرد بالرواية ضعفه شديد؛ لكذب، أو تهمة، أو شدة غفلة.

فمثل هذه الرواية، لا تصلح للاعتبار؛ لرجحان جانب الخطأ فيها، من حيث أن مثل هؤلاء الرواة إنما يتفردون في الأعم الأغلب بالكذب

(1) وقد سبق صنيع شعبة في حديث الشفعة الذي تفرد به عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي؛ لما لم يجد ما يقويه به، أنكره، وكذلك ما سبق معه من صنيع يحيى القطان وأحمد بن حنبل، يفيد هذا المعنى.

وقد ذكر الحافظ ابن الصلاح هذا المعنى في "مقدمته"(ص46-47) في مبحث"الحسن"، عندما قسم الحسن إلى قسمين، فذكر ما يدل على أن المستور الذي لا يكون متهماً بكذب أو فسق أو غفلة شديدة، إذا لم يوجد له متابع، أو لحديثه شاهد، تكون روايته شاذة أو منكرة.

وكذلك؛ صرح بمثل ذلك في مبحثي "الشاذ" و "المنكر"(ص104-107) .

(2)

راجع: كتابي "لغة المحدث"(ص88-100) ، وسيمر بك ـ إن شاء الله ـ هذا المعنى في كلام كثير من أهل العلم في أثناء هذا الكتاب.

ص: 45

الموضوع، أو الباطل المنكر.

والقليل جداً؛ الذي أصابوا فيه، إنما يُعرف من رواية غيرهم من أهل الثقة والصدق، فلم تعد روايتهم ذات فائدة؛ إذا وُجد ما يغني عنها ممن يوثق بدينه وحفظه.

يقول الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله ـ (1) عن روايات هذا النوع من الرواة:

"لعلها ـ أو أكثرها ـ أكاذيب، لا أصل لها؛ مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا مقنع".

هذا؛ والقدر القليل الذي يوجد له أصل عند ثقات المحدثين، مما يرويه هؤلاء الكذابون أو المتهمون أو ما شابههم؛ لا يُؤمن أن يكونوا إنما سرقوه من الثقات، وليس مما سمعوه؛ لأن من يُعرف بالكذب، أو يُتهم به، لا يستبعد عليه أن يُجهز أو يسطو على حديث

غيره، فيسرقه؛ فكانت رواية هؤلاء وجودها كالعدم؛ لأنها إما مختلفة، وإما مسروقة.

الثاني: متعلق بالرواية نفسها.

وذلك؛ بأن يكون راوي الرواية، ممن لم يبلغ في الضعف تلك المنزلة، وإنما نشأ ضعفه من سوء حفظه، أو اختلاطه، أو نحو ذلك مما لا يقدح في دين أو عدالة، بل قد يكون ثقة صدوقاً، من جملة ما يحتج بحديثه في الأصل؛ إلا إنه "ترجَّح" أنه أخطأ في هذا الحديث بعينه، في

(1)" مقدمة الصحيح"(1/22) .

ص: 46

إسناده أو متنه، عن غير قصد أو تعمد، فتكون روايته هذه التي أخطأ فيها من قَبيل "المنكر" أو "الشاذ".

والخطأ؛ كنحو: زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال راوٍ براوٍ، أو كلمة بكلمة، أو إسنادٍ في إسناد، أو تصحيف أو تحريف، أو رواية بالمعنى أفسدت معنى الحديث وغيرت نظامه.

فإذا ترجح وقوع شيء من هذا في الرواية، كانت الرواية ـ حينئذٍ ـ خطأ، منكرة أو شاذة، لا اعتبار لها، وإنما الاعتبار بأصلها الذي خلا من هذه الآفات؛ إن كان لها أصل.

فإن كان أصل الرواية خطأ، فلا تصلح الرواية ـ حينئذٍ ـ للاعتبار بها، بأي جزء منها، وبأي قطعة منها.

وإن كانت الرواية من أصلها محفوظة، أو لها من المتابعات والشواهد ما يؤكد كونها محفوظة، إلا جزء منها في الإسناد أو في المتن، ثبت خطؤه، ونكارته، لم يُعتبر بهذا الجزء منها خاصة، وإن اعتُبر بأصل الرواية.

فمثلاً؛ إذا اختُلف في وصل رواية وإرسالها، وترجح لدينا أن من وصلها أخطأ، وأن الصواب أنها مرسلة، فالرواية الموصولة غير صالحة للاعتبار بها؟ لأنها خطأ متحقق، فوجودها وعدمها سواء، وإنما يُعتبر بالرواية المرسلة فحسب.

وإذا اختُلف في ذكر زيادة معينة في متن حديث، أثبتها بعض الرواة،

ص: 47

ولم يثبتها البعض الآخر، وترجح لدينا أن من أثبتها أخطأ في ذلك، وأن الصواب عدم إثباتها في هذا المتن.

فإن وجدت هذه الزيادة في متن آخر، لم يكن ورودها في المتن الأول شاهداً لها في المتن الثاني، لأنه قد تُحقق من أن إدخالها في المتن الأول خطأ من قِبَل بعض الرواة، وأنها مقحمة في هذا المتن، وليست منه، بل قد يكون من زادها في المتن الأول إنما أخذها من المتن الثاني، ثم أقحمها بالأول، من غير تحقيق (1) .

وهذان الأمران؛ اللذان يترجح بوجودهما في الرواية كونها خطأ، وأنها لا تصلح للاعتبار، هما ما أشار إليه الإمام الترمذي ـ عليه رحمة الله تعالى ـ عند تعريفه للحديث "الحسن" وبيان شرائطه؛ فإنه ذكر: أن كل ما "يُروى من غير وجه" لا يكون "حسناً" حتى يجتمع فيه شرطان.

الأول: "لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب".

فهذا؛ ما يتعلق بحال الراوي.

الثاني: "لا يكون الحديث شاذاً".

(1) انظر: "فصل: الشواهد.. وحديث في حديث".

وانظر أيضاً: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني (1/160)(3/2869)(5/25)(6/107) و "الإرواء"(4/33)(7/120) .

وفي "مجموع الفتاوى"(30/372-373) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله حديثاً في "المسند" عن بشير بن الخصاصية، وذكر فيه زيادة، ليست هي فيه في "المسند"،ولا غيره، وإنما هي في حديث آخر في بابه.

وإنما يقع ذلك، بسبب الاعتماد على الحفظ، وقد كان شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ آية في حفظه، وعجباً من العجب.

ص: 48

وهذا؛ ما يتعلق بحال الرواية نفسها.

وكل من تعرض لشرائط اعتضاد الروايات، إنما يدور كلامه في هذا الفلك، وأنه لا بد من تحقق هذين الشرطين فيها جميعاً، فإذا لم يتحقق أحدهما في الرواية، سقطت عن حد الاعتبار، وإن تحقق الآخر (1) .

فهذا هو الأساس الأول في هذا الباب، وهو ما حرره الحافظ ابن حجر ـعليه رحمة الله ـ، ولخَّصه في قوله (2) :

"لم يذكر ـ يعني ابن الصلاح ـ للجابر ضابطاً، يُعلم منه ما يصلح أن يكون جابراً، أو لا.

والتحرير فيه: أن يقال: إنه يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد:

فحيث يستوي الاحتمال فيهما؛ فهو الذي يصلح لأن ينجبر.

وحيث يقوى جانب الرد؛ فهو الذي لا ينجبر.

وأما إذا رجح جانب القبول؛ فليس من هذا؛ بل ذاك في الحسن الذاتي. والله أعلم ".

وهذا التفصيل؛ هو الذي أراده الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ، من قول الجامع، والذي هو بمنزلة قاعدة عريضة، ومَثَل سائر؛ حيث يقول (3) :

"الحديث عن الضعفاء؛ قد يُحتاج إليه في وقت،

(1) ستأتي ـ إن شاء الله ـ أكثر هذه الأقوال في "فصل: المنكر.. أبداً منكر".

(2)

"النكت"(1/409)، وسيأتي أيضاً في "فصل: المنكر.. أبداً منكر".

(3)

"العلل" للمروذي (ص287) ، و "مسائل أحمد " لابن هانيء (1925)(1926) ، وسيأتي أيضاً في الفصل المشار إليه.

ص: 49

والمنكَر أبداً منكر".

ففَّرق الإمام؛ بين أن يوجد في الرواية ما يكون مظنة لوقوع الخطأ فيها، وهو أن تكون من رواية مَن هو ضعيف الحفظ، وذكر أن هذا النوع "قد يُحتاج إليه في وقت"؛ أي: في باب الاعتبار.

وبين أن تكون الرواية في نفسها منكرة، وذلك حيث يترجح وقوع الخطأ فيها، فمثل هذه لا تنفع في الاعتبار، بل هي منكرة أبداً، وجودها كعدمها؛ ولو كانت من رواية من يصلح حديثه للاحتجاج أو للاعتبار في الأصل.

الأساس الثاني:

أن الخطأ هو الخطأ، مهما كان موضعه، لا فرق بين خطأ في الإسناد وخطأ في المتن، فإذا تُحُقق من وقوع خطأ في الرواية، في إسنادها أو متنها لا يعرج إلى هذا الخطأ، ولا يُعتبر به، بل هو منكر، له ما للمنكر، وعليه ما على المنكر.

فإذا كان ما ثبت خطؤه من المتن أو بعض المتن غير صالح للاعتبار؛ فكذلك ما ثبت خطؤه من الإسناد أو بعض الإسناد غير صالح للاعتبار.

فالخطأ والنكارة؛ كما يعتريان المتون، فكذلك يعتريان الأسانيد، لا فرق بينهما في ذلك، بل وقوعهما في الأسانيد أكثر، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.

لأن الأسانيد، هي مادة الاعتبار، فالمعتَبِر إنما يعتبر الأسانيد المتعددة لهذا المتن، ويجمعها من بطون الكتب، ثم يضم بعضها إلى

ص: 50

بعض، فيحكم بثبوت المتن، بناءً على أن هذا المتن قد جاء بعدة أسانيد،مختلفة المخارج، وإنْ كان في بعضها ضعف من قِبَل الإرسال أو سوء حفظ بعض الرواة، إلا أن الاجتماع يجبر ذلك الضعف.

فصارت هذه الأسانيد ـ مجتمعة ـ هي الحجة التي يقوم عليها ثبوت هذا المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأن هذه الأسانيد لو لم توجد، لما كان هناك من حجة لإثبات هذا المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا تحققنا من أن كل أسانيد هذا المتن وجودها كعدمها؛ لأن كل إسناد من هذه الأسانيد، غنما هو خطأ في ذاته، ومنكر على حدته، وأن وجوده كعدمه؛ سقطت ـ حينئذٍ ـ الحجة التي يقوم عليها ثبوت هذا المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لأننا إذا ذهبنا نقوِّي ثبوت هذا المتن بانضمام هذه الأسانيد، التي ثبت لدينا أن كل إسناد منها منكر وخطأ، فقد ذهبنا إلى تقوية المنكر بالمنكر، والخطأ بالخطأ، وانضمام المنكر إلى المنكر لا يدفع النكارة عنه، بل يؤكدها ويثبتها، وما بُني على منكر فهو منكر، وما بُني على باطل فهو باطل.

نعم؛ إن كان بعض هذه الأسانيد، من قسم "الخطأ المحتمل"، كان هذا هو الذي يصلح للاعتبار، وينتفع المتن به عند انضمامه إلى ما هو مثله.

أما إذا كانت كل الأسانيد هذا المتن من قسم "الخطأ الراجح"، لم

ص: 51

ينتفع المتن بها، ولا بانضمامها؛ لأن المنكر أبداً منكر.

وأيضاً؛ ما كان من هذه الأسانيد من القسم الأول، فهو لا ينتفع بأسانيد القسم الثاني، بل إذا وُجد من أسانيد القسم الأول ما يكفي لجَبْرِ المتن وتَقْويته؛ فبها، أما إذا لم تكن بحيث تكفي لذلك، فلا تنفعها أسانيد القسم الثاني بحال؛ لأن " ما ثبت خطؤه لا يُعقل أن يقوى به رواية أخرى في معناها "(1)

ولو كانت الرواية المقواة صالحة للتقوية، وذلك؛ " أن الشاذ والمنكر مما لا يُعتد به، ولا يُستشهد به، بل إن وجوده وعدمه سواء"(1) .

بل؛ لو كان هذا المتن صحيحاً مفروغاً من صحته، لمجيئه من وجه صحيح لذاته، أو أكثر، فإنه لا ينتفع أيضاً بما يجيء له من أسانيد القسم الثاني، بل هو صحيح بإسناده الصحيح، أو بأسانيد الخطأ والمنكرة التي جاءت له.

ولهذا؛ لم يصحح الأئمة حديث: " الأعمال بالنيات " إلا من طريق واحدة، وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة، ولم يُقووا الحديث بها، مع أن بعض هذه الأسانيد أخطأ فيها من هو صدوق في الحفظ، وليس ضعيفاً، فضلاً عن أن يكون متوغلاً في الضعف (2) ؛

وما ذلك إلا لأنه " ترجَّح " لديهم أن هؤلاء الموصوفين بالصدق قد أخطئوا في هذه

(1) هذا؛ تضمين من كلام للشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، وسيأتي بنصه في "فصل: المنكر.. أبداً منكر"، وهو من درر كلامه، فلله دره.

(2)

راجع: المثال الأول في "فصل: المتابعة.. والقلب"، وكذلك المثال الأول أيضاً في "فصل: الشواهد.. وإسناد في إسناد"..

ص: 52

الأسانيد، ولم يحفظوها كما ينبغي؛ فكانت أسانيدهم " شاذة ".

ولهذا؛ وجدنا الحافظ ابن حجر، بعد أن ذكر أن هذا الحديث مما تفرد به يحيى بن سعيد، ولك من فوقه، قال (1) :" قد وردت لهم متابعات، لا يُعتَبر بها؛ لضعفها ".

وهكذا؛ الشأن في كثير من الأحاديث، مثل حديث " المغفرة "(2)، وحديث:"نهى عن بيع الولاء وعن هبته " وحديث " المؤمن يأكل في معيٍ واحد "، وحديث " نهى عن الدُّباء والمُزفَّت "، وغير ذلك مما لا يخفى عن مشتغل بهذا العلم الشريف، عالم بأقوال أهل العلم فيه.

وهذا الأحاديث وغيرها؛ صحيحة ثابتة من وجه أو أكثر، وسيأتي في الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان وجه نكارة الأسانيد التي جاءت لها، وليست هي أسانيدها المحفوظة، بل هي من أخطاء بعض الثقات أو الضعفاء، وموقف أهل العلم منها، المتمثل في عدم الاعتداد بها، ولا الاعتبار بها.

***

ومما يؤسف له؛ أن كثيراً من المشتغلين بتخريج الأحاديث، لا يعرفون النكارة إلا في المتن، بينما نكارة الإسناد يغفلون عنها غالباً؛ فإذا بالمتن المنكر ساقط عن حد الاعتبار، وهذا صحيح لا غبار عليه؛ ولكن كذلك الإسناد المنكر

ساقط عن حد الاعتبار، لا يُشتغل به، ولا يُلتفت إليه.

(1)"نزهة النظر"(ص 68) .

(2)

انظر: "النكت" لابن حجر (2/654 ـ 670) .

ص: 53

ومعرفة نكارة الإسناد؛ مما يختص به المحدثون، الحفاظ الناقدون، فلا يعرج على قول غيرهم؛ بخلاف نكارة المتن، فقد يتكلم فيه المحدثون وغيرهم من الفقهاء، أما هذا الباب؛ فهو من أخص علوم الحديث، وأدق مباحث الأسانيد.

فإن أئمة الحديث ونقاده، حيث يحكمون على الإسناد بالصحة والاستقامة، وعدم النكارة والسقامة؛ لا يكتفون بالظاهر من اتصاله وثقة رواته؛ بل لهم نظر ثاقب، وفهم راجح، ورأي صادق، مبني على اعتبار معان في الإسناد، حيث وُجدت فيه، أو

وجد بعضها؛ دعاهم ذلك إلى إنكاره، والحكم عليه بعدم الاستقامة؛ وإن كانت متصلاً برجال ثقات.

وحيث افتُقدت، أو وُجد فيه من المعاني ما يدل على عكس ما تدل عليه المعاني السابقة، من حفظ الحديث وصحته؛ دعاهم ذلك إلى تصحيحه، والحكم عليه بالاستقامة وحفظ الرأي له.

وهذه المعاني؛ هي التي يعبر عنها بعض أهل العلم، كالحافظ ابن حجر، والعلائي، وابن رجب، وغيرهم: بـ "القرائن".

ويقولون (1) : للحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا، وإنما يُعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم.

ويقولون: والقرائن كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الروايات، بل كل رواية يقوم بها ترجيح خاص، لا يخفى على العالم المتخصص، الممارس الفَطِن، الذي أكثر من النظر في العلل والرجال.

(1) انظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/582) ، و "النكت على كتاب العلل" لابن حجر (2/778ـ876) .

ص: 54

وفي معرض ذلك يقول الحافظ ابن حجر (1) : "وبهذا التقرير؛ يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم؛ بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه ".

ويقول الحافظ السخاوي (2) :

" وهو أمر يهجم على قلوبهم، لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها؛ ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث؛ كابن خزيمة، والإسماعيلي، والبيهقي، وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم؛ وربما يُطالبهم الفقيه أو الأصولي ـ العاري عن الحديث ـ بالأدلة ".

هذا؛ مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا في الرجوع في كل فن إلى أهله؛ ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو مُتَعَنِّي.

فلله تعالى؛ بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً، تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.

فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت؛ مع الفهم، وجودة التصور، ومدوامة الاشتغال،

(1)"النكت"(2/726) .

(2)

"فتح المغيث"(1/274) .

ص: 55

وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك ـ إن شاء الله ـ معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله " اهـ.

هذا؛ ولسنا في حاجة هاهنا إلى التوسع في بيان هذه القرائن؛ فقد حوى كتابي هذا بين دفتيه الكثير منها، وإن كانت النية منعقدة على التفرغ لبيانها وشرحها والتمثيل لها في كتاب مستقل، أسأل الله تعالى أن يعينني عليه، وقد كنت بينت طرفاً منها في كتابي "لغة المحدث"(1) ، فليرجع إليه من شاء.

***

فعلى الباحث أن يعامل الإسناد معاملة المتن، وأن كل معنى لا يُقبل في المتن لا ينبغي أن ألا يُقبل مثله في الإسناد، فالإسناد مثل المتن هو من جملة ما رواه الراوي، فالراوي لا يروي متناً فحسب، بل يروي إسناداً ومتناً؛ فهو يخبر بأن شيخه حدثه بهذا الحديث، وأن شيخ شيخه حدث شيخه به، وهكذا إلى آخر الإسناد، وأن هذا المتن هو الذي تحمله بهذا الإسناد.

ولا يوصف الراوي بأنه أصاب إلا إذا حدَّث بالحديث على وجهه إسناداً ومتناً، أما إذا أخطأ في الإسناد أو في المتن، أو في بعض الإسناد أو في بعض المتن، فلا يستحق هذا الوصف، اللهم فيما أصاب فيه من بعض الرواية مما لم يُخطىء فيه منها.

فإن كان خطؤه في المتن، بأن زاد فيه أو نقص، أو قدَّم فيه أو أخَّر،

(1) ص 90 ـ 108) .

ص: 56

أو أبدل فيه كلمة بكلمة، أو جملة بجملة، أو صحف فيه أو حرف، أو أدرج فيه ما ليس منه، أو رواه بالمعنى فقلب معناه =حَكمنا ـ حينئذٍ ـ بأن هذا المتن خطأ، أو وقع فيه بعض الخطأ، وإن لم يخطئ الراوي في

الإسناد، بل أتى به على الجادة والاستقامة.

وكذلك؛ إن كان خطؤه في الإسناد، كأن يكون زاد فيه أو نقص، أو قدم فيه أو أخر، أبو أبدل فيه راوياً براوِ، أو دخل عليه إسناد في إسناد، أو صحف فيه أو حرف، أو أدرج فيه ما ليس منه حكمنا ـ حينئذِ ـ بأن هذا الإسناد خطأ، أو وقع فيه بعض الخطأ، وإن أتى بالمتن على الاستقامة.

وإذا كان "المتن" الذي تفرد بروايته بإسناد ما رجل ضعيف، لا يُبل من مثله حتى يجيء له متابع عليه أو شاهد بمعناه، يُثْبِت للفظه أو لمعناه أصلاً لأن الضعيف لا يقبل ما يتفرد به.

فكذلك؛ "الإسناد" الذي يتفرد بروايته رجل ضعيف، لا يقبل من مثله حتى يجيء له ما يثبت له أصلاً من رواية غيره.

فإن الخطأ في الإسناد، ليس بدون الخطأ في المتن، فمن يُخطيء، يُخطيء في الإسناد والمتن جميعاً، بل إن الخطأ في الأسانيد أكثر وقوعاً منه في المتون؛ لأن الأسانيد متشعبة ومتداخلة ومتشابهة، بخلاف المتون، ولذا؛ تجد كثيراً من الرواة يحسنون حفظ المتون دون الأسانيد، ويكون خطؤهم في الأسانيد أكثر منه في المتون.

فدونك؛ إمام في هذه الصنعة: شعبة بن الحجاج، قال فيه إمام عصره

ص: 57

أبو الحسن الدارقطني (1) : "كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيراً، لتشاغله بحفظ المتون"؛ فإذا كان هذا شأن شعبة بن الحجاج، وهو من هو، فما ظنك بمن هو دونه في الحفظ والإتقان والتثبت؟! .

وأكثر أخطاء الرواة تقع في الأسانيد؛ ولهذا تجد أكثر العلل التي ذكر أهل العلم أنها تقع في الروايات، تجده خاصة بالإسناد، والقليل جداً منها مما يقع في المتن، وما يشتركان فيه تجد أمثلته في الأسانيد أكثر منه في المتون.

فرفع الموقوف، ووصل المرسل، وقلب الرواة، ودخول إسناد في إسناد، وزيادة رجل فيه أو نقصانه، والتصحيف في أسماء الرواة؛ كل ذلك وغيره إنما يعتري الأسانيد، ويختص بها.

وأكثر أخطاء الثقات من هذا القبيل، أما الضعفاء، الذين لم يُعرفوا بالحفظ؛ فإن أخطاءهم في الأسانيد أكثر من أن تُحصر؛ ولهذا تجد أئمة الحديث الذين صنفوا في ضعفاء الرواة؛ كالعقيلي وابن عدي وابن حبان، تجدهم يسوقون في تراجم الضعفاء بعض الأحاديث التي أخطئوا فيها، واستُنكرت عليهم؛ والمتتبع لهذه الأخطاء، وتلك المناكير، يجد أكثرها أخطاء في الأسانيد (2) والقليل منها مما يتعلق بالمتون.

وفي هذا الكتاب الذي بين يديك عشرات من الأحاديث التي أخطأ بعض الثقات أو الضعفاء في أسانيدها، دون متونها، فأتوا لها بأسانيد

(1) قلت في كتابي "ردع الجاني"(ص 143) : "أبو الفضل الدارقطني"، وهذا سبق قلم مني، لا أدري كيف وقع! إنما هو "أبو الحسن".

(2)

انظر مثلاً "الكامل"(3/1164ـ1178)(4/1419)(5/1809، 1810) .

ص: 58

ليست هي أسانيدها، أو وقع لهم في أسانيدها بعض الأخطاء، وإن أصابوا أصلها؛ كزيادة، أو قلب، أو إدراج، أو تصحيف أو تحريف، أو نحو ذلك.

وقد تبين من خلال ما ذكرته من كلام أهل العلم في نقد هذه الأسانيد، أنهم إنما أنكروا الأسانيد فحسب، وأن نقدهم كان منصباً عليها، دون أن تتأثر المتون به.

فالرجل الضعيف؛ يحفظ المتن ـ غالباً ـ، وقد يكون فقيهاً فاضلاً يحفظ المتن، إلا أنه ليس بالحافظ للأسانيد، فإذا به يجيء بالمتن المعروف على وجهه، بَيْدَ أنه يخطيء في إسناده، أو يجيء له بإسناد آخر غير إسناده الذي يُعرف به.

***

إن الذي يقبل من الضعفاء ـ غير المتهمين ـ ما اتفقوا عليه وتتابعوا على روايته من "متن الحديث" ويرد ولا يقبل ما تفرد به بعضهم من المتن أو بعض المتن، يجب أيضاً أن يزن قبول "الإسناد" ورده بنفس الإسناد.

فالضعيف ـ غير المتهم ـ الذي يجيء بإسناد لحديث ما، يتفرد هو بروايته بهذا الإسناد دون غيره، يجب رد ما تفرد به من الإسناد؛ كالمتن سواء بسواء.

والضعيف ـ غير المتهم ـ الذي يتفرد بزيادة ما في إسناد ما، لا يُتابع عليها من قِبَل غيره ممن روى الإسناد ذاته، يجب رد تلك الزيادة التي زادها في الإسناد، ولم يتابع عليها؛ كما هو الحال فيما يزيده في المتن.

ص: 59

فإن قبول بعض الرواية دون بعض، والمعنى الذي من أجله رُد ذلك البعض متحقق في الكل غير معقول، ولا مقبول.

إن هذا هو الميزان الذي توزن به روايات الثقات ـ إسناداً ومتناً ـ؛ فكيف بالضعفاء؟!

أليس يقتضي النظر، فيما تفرد به ضعيف ـ غير متهم ـ من الأسانيد، أن ننظر في حفظه لها قبل الحكم بأنها صالحة للاعتبار، اعتماداً على أن راويها ليس من المتهمين بالكذب.

نعم؛ قد يكون راوي الإسناد غير متهم، ولكن روايته تلك شاذة منكرة من حيث الإسناد، والمنكر أبداً منكر، لا اعتداد به في باب الاعتبار.

أليس هذا الضعيف بذاته إذا تفرد بمتن لم يُقبل منه؛ لعدم أهليته لقبول ما يتفرد به؟ فما باله إذا تفرد بإسناد، ولم يُتابع عليه قُبل منه؟!

***

إن تقوية إسناد يتفرد به ضعيف، بإسناد آخر يتفرد به ضعيف آخر، ليس هو من باب الاستشهاد حتى يُتسامح فيه، بل هو من باب الاحتجاج.

فلو جاء متن ـ مثلاً ـ بإسنادين:

أحدهما: يرويه ضعيف ـ غير متهم ـ عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والثاني يرويه ضعيف آخر مثله، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الذي يذهب إلى تقوية هذا بذاك، اعتماداً على أن كلا من

ص: 60

الروايتين قد اتفقتا على المتن، وأنه ليس في الإسنادين من هو متهم بالكذب، بل في كل منهما ضعف هين من قِبل حفظ هذين الضعيفين، فيعتبر أحدهما بالآخر، ويتساهل في شأنهما.

إن الذي يفعل ذلك، ظناً منه أن هذا ليس من باب الاحتجاج، بل من باب الاستشهاد، قد جانبه الصواب، وحاد عن النظر الصحيح، والقواعد العلمية، وصنيع أهل العلم.

فإن هذين الضعيفين، إنما اتفقا على جزء من الرواية، وليس على الرواية كلها.

فهما؛ إنما اتفقا على المتن فحسب، أما الإسناد؛ فقد جاء كل منهما لهذا المتن بإسناد يختلف عن إسناد الآخر.

وعليه؛ فمن قوى رواية هذا برواية ذاك، فهو في الواقع قد احتج بما يتفرد به الضعيف.

أليس الضعيف الأول هو الذي تفرد بزعمه أن الزهري حدثه بهذا الحديث، عن سالم عن ابن عمر؟!

أليس هذا الضعيف لم يتابع على هذا الزعم؟!

أليس الضعيف الثاني، هو الذي تفرد بزعمه، بأن ثابتاً البناني حدثه بهذا الحديث، عن أنس بن مالك؟!

أليس ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرعاً من ثبوته عن صحابييه: ابن عمر، وأنس؛ أو أحدهما؟!

ص: 61

إذ كيف يعقل أن الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يثبت أصلاً عمن رواه عنه؟! إن هذا غير معقول، ولا مقبول.

أليس ثبوت هذا الحديث عن هذين الصحابيين فرعاً من ثبوته عمن رواه عنهما؟!

فإذا لم يكن ثبت عمن رواه عنهما، فكيف يثبت عنهما؟! إن هذا دونه خرط القَتَاد!!

فالذي يُثبت بمقتضى الرواية الأولى أن الزهري حدث بهذا الحديث عن سالم عن ابن عمر، فهو بذلك قد احتج بالراوي الضعيف في إثبات هذا الإسناد لهذا المتن.

وهذا احتجاج؛ ليس من الاستشهاد بسبيل.

والذي يثبت بمقتضى الرواية الثانية، أن ثابتاً بالبناني حدث بهذا الحديث عن أنس بن مالك، فهو أيضاً قد احتج بالضعيف.

نعم؛ لو أن هذين الضعيفين اتفقا على الإسناد كما اتفقا على المتن، فرويا المتن بإسناد واحد، من شيخهما فصاعداً، لكان لنا معهما شأن آخر، ولاتَّجه بنا البحث وجهة أخرى.

لأنهما ـ حينئذ ـ قد اتفقا بالفعل، وتابع كل منهما الآخر على الرواية إسناداً ومتناً، فلم يتفرد أحدهما، لا بالإسناد ولا بالمتن، أما أن يتفرد كل منهما بإسناد للمتن، ونسمي ذلك اتفاقاً؛ فليس بشيء.

***

نعم؛ إن التساهل في اعتبارات الروايات، إنما يقل خطره، بل ربما

ص: 62

يتلاشى أثره، إذا كان الحديث له أصل ثابت قائم بنفسه يُرجع إليه.

فإن الحديث الصحيح لذاته أو الحسن لذاته ليس في حاجة إلى شاهد أو متابع يُقوي ثبوته، فما جاء له من شواهد ومتابعات غير ناهضة، ولا معتبرة، إن لم تنفعه لن تضره.

لكن؛ إنما يجيء الضرر، ويُوجد الخطر، حيث لا يكون لهذا الحديث أصل ثابت يُرجع إليه في بابه، بل كل رواياته ضعيفة، تدور على الرواة الضعفاء؛ فإن التساهل في اعتبار روايات مثل هذا الباب، وعدم تمييز ما ضعفه محتمل، وما هو منكر لا يحتمل؛ يُفضي إلى إقحام أحاديث منكرة وباطلة في الأحاديث الثابتة؛ وهذا ضرر كبير، وشر مستطير.

***

هذا؛ وإنما تركَزَت عنايتي في هذا الكتاب ببيان العلل التي تعتري الشواهد والمتابعات، فتُظهر جانب الخطأ فيها، وترجح جانب الرد لها، وتحقق نكارتها وشذوذها؛ فتوجب اطراحها، وعدم الاعتداد بها في باب الاعتبار.

ولم أتناول في هذا الكتاب ما يتعلق بشرائط الاعتداد المتابعة والحكم بما يقتضيه من تقوية الحديث، ودفع الخطأ عن راويه.

ففرق بين إثبات المتابعة، وبين الاعتداد بها والحكم بما تقتضيه.

فليس كل متابعة ثبتت إلى المتابع تصلح لدفع الخطأ عن المتابع، فمثلاً؛ قد تكون المتابعة من راوٍ كذاب أو متهم، وثبوت متابعة الكذاب أو

ص: 63

المتهم لغيره، لا تكفي لدفع الوهم عن الغير.

فثبوت المتابعة؛ يشترط له أمور:

الأول: صحة الإسناد إلى المتابِع والمتابَع (1) .

الثاني: أن تكون الرواية محفوظة إليهما، وليس ذلك من خطأ بعض الرواة عنهما، أو أحدهما؛ فتكون منكرة لا أصل لها (2) .

الثالث: أن يكون كل من المتابِع والمتابَع قد سمع هذا الحديث من الشيخ الذي اتفقا على روايته عنه.

أما إذا كان أحدهما ـ أو كلاهما ـ لم يسمع الحديث منه، فلا تثْبُت هذه المتابعة (3) .

فهذه؛ هي شروط إثبات المتابعة، بصرف النظر عن كون هذه المتابعة مما ترقى إلى التقوية، فيعتد بها في دفع الخطأ عن المتابَع، أو لا.

فهذا؛ هو الذي اعتنيت به في هذا الكتاب خاصة، فقد أبرزت التي تعتري الشواهد والمتابعات، فتدل على عدم ثبوتها من أصلها، أما الشواهد الثابتة، والمتابعات المحفوظة، متى يُعتد بها في دفع التفرد، أو في تقوية الحديث، ومتى لا يعتد بها؛ فلم أتعرض لذلك في هذا الكتاب، وإنما هذا له كتاب آخر.

(1) انظر: "فصل: ثبت.. ثم انقش".

(2)

هذا الشرط؛ يدل عليه أكثر فصول هذا الكتاب.

(3)

انظر: "فصل: التدليس.. والمتابعة"، والفصول التي بعده، وكذا الفصل الذي قبله.

ص: 64

فالمرسل ـ مثلاً ـ: ما هي شرائط تقويته؟ وهل يشترط في مُرْسِلِه أن يكون من كبار التابعين أم لا؟ وهل يتقوى بالمسند الضعيف أم لا؟ وهل المنقطع والمعضل مثل المرسل في ذلك أم لا؟ وهل الموقوف يقوي المرفوع الضعيف أم لا؟ ومتى تنفع متابعة سيء الحفظ لمثله، ومتى لا تنفع؟ وهل يتقوى الحديث بالقياس أم لا؟ وهل المجهول يعتد بمتابعته أم لا؟ فكل هذا، وما كان بسبيله، لم أتعرض له في هذا الكتاب؛ ولعلي أفرد له كتاباً خاصاً.

وبالله التوفيق.

***

هذا؛ وإن مما أحب أن أنبه عليه، هو: أن هذه الروايات التي سقتها في أثناء فصول الكتاب، كأمثلة على الأخطاء التي يقع فيه الرواة، في الأسانيد أو المتون، فتفضي إلى اطِّراح هذه الروايات، وعدم الاعتبار بها.

إن الحكم على هذه الروايات بالخطأ والنكارة، لا يستلزم ضعف المتن الذي رُوي بهذه الأسانيد؛ لاحتمال أن يكون صحيحاً ثابتاً، ولكن من وجه آخر أو وجوه أخرى.

فالأحكام التي ذكرتها، إنما تتعلق بتلك الأسانيد فحسب، وهي غير ضارة أصل الحديث، وإن كان له إسناد آخر صحيح أو حسن، أو له م الشواهد المعتبرة والكافية، ما يُغني عن هذا الإسناد المنكر الخطأ.

ص: 65

واعلم! يا أخي الكريم ـ علمك الله الخير، وجعلك من أهله ـ أن ما كتبته في هذا الكتاب من بحوث وتحقيقات حول هذا الموضوع الهام والخطير، وما ذكرت من أمثلة لأخطاء وقع فيها بعض الأفاضل، لم أقصد بها شخصاً بعينه، ولا باحثاً بذاته، بل غاية قصدي، ونهاية هدفي: نصيحة إخواني المشتغلين بهذا العلم الشريف، وصيانتهم

من الوقوع في مثل ما وقع فيه غيرهم؛ فإن "الدين النصيحة؛ لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو كان في وسعي، أن لا أسمي أحداً، أو أشير إليه؛ لفعلت؛ لولا الخوف من أن أُنسب إلى الادعاء والتهويل.

ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما كتبت ما كتبت، ولا سطرت ما سطرت؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِين َيَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ

اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160] .

فلا يظنن أحد أنني قصدت من كتابي هذا، أو من الأمثلة التي ذكرتها فيه، التشهير بأصحابها، أو الانتقاص منهم أو من أقدارهم، أو أنسبهم إلى ما لا ينبغي،أن يُنسب إليه آحاد الناس؛ فضلاً عنهم، وهم إما عالم فاضل، وإما باحث مجتهد، وكلهم ـ فيما نحسب وحسابهم على الله ـ إنما يقصدون الحق، ويلتمسون سبيله، اللهم إلا

القليل جداً ممن عُرف بنصرة البدعة ومناهضة السنة، فهؤلاء لم آل جهداً في بيان حالهم، وكشف عوارهم.

ص: 66

فليعلم من يبلغ به سوء الظن بأخيه إلى هذا الحد، أنني أبرأ إلى الله عز وجل من ذلك كله، وأبرأ إليه سبحانه من كل مَنْ ظن بي سوء، أو نسب إليّ ما أنا منه بريء.

وليحذر امرؤ أن يقف بين يدي أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وقد أتى بصلاة وصيام وزكاة، أتى وقد أساء الظن بأخيه، أو نسب إليه ما ليس فيه، فيؤخذ من حسناته وتُعْطَى لأخيه، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياه، فطرحت عليه،

ثم طُرح في النار، نعوذ بالله من دار البوار.

فإياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، وإن بعض الظن أثم، نعوذ بالله من حالة تقربنا إلى سخطه، وأليم عذابه.

وقولي في ذلك؛ ما قال الحافظ الخطيب البغدادي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العظيم "مُوضح أوهام الجمع والتفريق"(1) ، الذي أفرده لبيان خطأ من أخطأ في هذا الباب ممن تقدمه.

قال الخطيب:

"ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه؛ يُلحق سيء الظن بنا، ويرى أن عمدنا إلى الطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا؛ وأنى يكون ذلك؟ ! وبهم ذًُكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا، وما مثلهم، ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء؛ قال: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في

(1)"الموضح"(1/5 ـ 6) .

ص: 67

أصول نخل طوال".

ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاماً، ونصب لكل قوم إماماً؛ لزم المهتدين بمبين أنوارهم، والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم، ممن رزق البحث والفهم، وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا، وتسديد ما أغفلوا.

إذ لم يكونوا معصومين من الزلل، ولا آمنين من مفارقة الخطأ والخطل، وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم " اهـ.

ولست أدعي لنفسي عصمة من الزلل، ولا أمناً من مفارقة الخطأ والخطل، فحق واجب على من وقف على خطأ، أو وقعت عينه على وهم، أو أداه اجتهاده ونظره إلى ما فيه مخالفة لي، أن يبذل لي النصيحة، مدعمة بالحجة القوية، ومقدَّمة بالأساليب السوية، وبالطريقة المرضية.

وإني ـ إن شاء الله تعالى ـ مرحب بكل ملاحظة ونقد، يصدر عن روية ونظر، وليس عن تعصب وهوى، وراجع عن كل خطأ وقعت فيه في حياتي وبعد مماتي.

والله من وراء القصد.

والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكتب

أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد

ص: 68