الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإقران.. والمخالفة
وقد يكون من قُرِنَ معه يروي الحديث أيضاً، ولكنه يخالفه في إسناد الحديث أو متنه، فيجيء من يروي الحديث عنهما، ويقرن بينهما في روايته، فيحمل رواية أحدهما على رواية الآخر على الاتفاق، خطأ منه، والصواب أن بين روايتيهما اختلافاً.
فمن لا يفطن لذلك، يحسب الرواة متفقين، بينما هم في الواقع مختلفون؛ فهي مخالفة، وليست متابعة.
ولهذه العلة؛ لم يقبل الأئمة من كل أحد الجمع بين الرواة في الأسانيد، اللهم إلا أن يكون الراوي ممن اشتهر بالحفظ وبرز فيه، بحيث لا يختلط عليه حديث شيخ بحديث شيخ آخر، بل يميز بين ذلك.
وقد كان ابن عيينة يروي عن ليث ابن أبي نجيح جميعاً، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن علي؛ حديث القيام للجنازة.
قال الحميدي: فكنا إذا وقفناه عليه، لم يدخل في الإسناد:" أبا معمر "، إلا في حديث ليث خاصة (1) .
وقال أبو يعلى الخليلي (2) : " ذاكرت يوماً بعض الحفاظ، فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في " الصحيح "، وهو زاهد ثقة؟!
(1)" شرح علل الترمذي "(2/865-866) .
(2)
في " الإرشاد "(1/417-418) .
فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس،فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز وصهيب "، وربما يخالف في بعض ذلك!
فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد؛ فيقول:" حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي "، ويجمع بين جماعة غيرهم؟!
فقال: ابن وهب؛ أتقن لما يرويه، وأحفظ له " اهـ.
…
وهكذا؛ يدل على أن الجمع بين الرواة في الأسانيد، لا يقبل من كل أحد، ولا من كل ثقة، لاسيما من عُهد عليه الخطأ في مثل ذلك، وجُرب عليه (1) .
وبالله التوفيق.
مثال آخر:
وهذا؛ أحد أنواع الإدراج في الإسناد، وقد مثل له ابن الصلاح:
بحديث: عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن كثير العبدي، عن الثوري، عن منصور والأعمش وواصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ ـ الحديث.
قال ابن الصلاح (2) :
" وواصل؛ إنما رواه عن أبي وائل، عن عبد الله، من غير ذكر
(1) وقد توسع الحافظ ابن رجب الحنبلي في ذكر أمثلة ذلك في كتابه " شرح العلل "(2/813-817) ؛ فراجعه؛ فإنه مهم.
(2)
" المقدمة "(ص 129-130) .
" عمرو بن شرحبيل " بينهما ".
مثال آخر:
وذكرالحافظ ابن حجر (1) مثالاً آخر، وهو:
ما رواه: عثمان بن عمر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حلام، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت سودة رضي الله عنها فإذا امرأة على الطريق قد تشوقت، ترجو أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:" إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه، فليأت أهله؛ فإن معها مثل الذي معها ".
قال الحافظ:
" فظاهر هذا السياق؛ يوهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وليس كذلك، وإنما رواه أبو إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن عبد الله بن حلام، عن ابن مسعود رضي الله عنه متصلاً؛ بينه عبيد الله بن موسى وقبيصة ومعاوية بن هشام، عن الثوري متصلاً ".
مثال آخر:
روى
…
: عبد الرزاق (6/184) ، عن معمر، عن ثابت وأبان، عن أنس بن مالك، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا شغار في الإسلام ـ والشغار
(1) في " النكت "(2/833-834) .
أن يبدل الرجلُ الرجلَ بأخته بغير صداق ـ ولا إسعاد في الإسلام، ولا جَلَبَ في الإسلام، ولا جَنَبَ ".
وقد أنكر الإمام أحمد وأبو حاتم الرازي وغيرهما هذا الحديث عن ثابت، وأنه إنما هو من حديث أبان فقط، لا شأن لثابت به.
والظاهر؛ أن ثابتاً إنما روى عن أنس تفسير الشغار فقط، من قوله ليس مرفوعاً، وأما الحديث؛ فإنما يرويه أبان، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخطأ عبد الرزاق ـ أو معمر ـ، حيث حمل رواية ثابت على رواية أبان وساقهما على الاتفاق، مُدْرجاً الموقوف الذي رواه ثابت بالمرفوع الذي جاء به أبان.
ومما يقوي ذلك؛ أن عبد الرزاق روى تفسير الشغار، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، من قوله بعده بأحاديث، من غير ذكر القدر المرفوع في روايته.
وراجع كتابي في علل الأحاديث، فقد بينت فيه علة هذا الحديث، وشرحتها شرحاً مفصلاً.
والله الموفق.
مثال آخر:
ما يرويه: عمرو بن عاصم، عن همام وجرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل.
أخرجه: الترمذي في " الجامع "(2051) و " الشمائل "(357) والحاكم (4/210) .
وهذا؛ يوهم أن هماماً يروي الحديث كمثل ما يرويه جرير بن حازم، من غير اختلاف بين روايتيهما، وليس كذلك؛ وإنما يرويه همام بن يحيى، عن قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، بدون ذكر " أنس بن مالك " في الإسناد.
هكذا؛ رواه عنه: عفان بن مسلم.
أخرجه: ابن سعد (1/2/145)
ويؤكد ذلك؛ أن الأئمة أنكروا وصل هذا الحديث على جرير بن حازم، وذكروا أن الصواب فيه الإرسال.
قال ابن رجب (1) :
" وقد أنكروا عليه ـ يعني: جريراً ـ أحمد ويحيى وغيرهما من الأئمة أحاديث متعددة، يرويها عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن بعضها مراسيل أسندها؛ فمنها: حديثه بهذا الإسناد في الذي توضأ وترك على قدمه لمعة لم يصبها الماء. ومنها: حديثه في قَبِيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم، أنها كانت من فضة، ومنها: حديثه في الحجامة في الأخدعين والكاهل " اهـ.
مثال آخر:
وقد وقع عمرو بن عاصم في نفس الخطأ في حديث قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره الإمام ابن رجب، وذكر عن الأئمة أنهم أعلوه بالإرسال.
فقد رواه: عمرو بن عاصم، فقال: حدثنا همام وجرير، قالا: حدثنا قتادة، عن أنس، ـ فذكره.
(1) في " شرح علل الترمذي "(2/784- 785) .
أخرجه: النسائي (8/219) وابن سعد (1/2/172) . وأيضاً الطحاوي في " المشكل "(1399) ؛ لكن ليس عنده ذكر جرير.
والصواب؛ الذي رجحه أهل العلم: أن الذي يرويه هكذا هو جرير فقط، وأنه هو المتفرد به عن قتادة، وأنه أخطأ فيه، والصواب الذي يرويه أصحاب قتادة: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم فضة ـ أي: مرسلاً.
فقد أنكره العقيلي على جرير في ترجمته من "الضعفاء"(1/199) ، وابن عدي (2/550) أيضاً.
وقال البيهقي (1) :
"تفرد به جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس؛ والحديث معلول".
ثم ذكره من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن ـ مرسلاً (2) .
ثم قال: "وهذا مرسل وهو المحفوظ".
وقد أنكره أيضاً وجزي نصر بن طريف على جرير بن حازم، وذكر أن الصواب أنه عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً.
ذكر ذلك عبد الله بن أحمد، عن أبيه في "العلل"(312)(1288) ، وعنه العقيلي في ترجمة جرير (1/199) .
وأبو جزي، وإن كان ضعيفاً؛ إلا أن الإمام أحمد قال عقب قوله
(1) في "السنن الكبرى"(4/143) .
(2)
وهو عند ابن سعد أيضاً.
وإنكاره على جرير:
"وهو قول أبي جزي ـ يعني: أصاب ـ، وأخطأ جرير".
وقال الدارمي (1)، بعد أن خرج رواية جرير الموصولة:
"هشام الدستوائي خالفه؛ قال: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وزعم الناس أنه هو المحفوظ".
وكذلك؛ ذهب إلى الحكم بأن الحديث مرسل الإمام أبو حاتم الرازي (2) .
وقد سبق؛ أن الذي يرويه عن قتادة مرسلاً هشام الدستوائي، وأضاف إليه العقيلي (1/199) شعبة بن الحجاج، وهما من أثبت أصحاب قتادة ومن أعرف الناس بحديثه.
وأيضاً: أبو داود رجح الرواية المرسلة:
فقد أسند في " سننه "(3/68-69) في " باب: في السيف يحلى " ثلاثة أحاديث.
الأول: حديث جرير هذا، برقم (2583) .
والثاني: حديث سعيد بن أبي الحسن المرسل، برقم (2584) .
والثالث: حديث عثمان بن سعد، عن أنس ـ بمثله، برقم (2585) .
ثم قال:
" أقوى هذه الأحاديث: حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية
(1) في "السنن"(2/221) .
(2)
كما في "العلل" لابنه (938) .
ضعاف ".
ومما يؤكد ذلك:
أن في رواية أبي داود لحديث قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن: زيادة من قول قتادة، وهي:
" قال قتادة: وما علمت أحداً تابعه على ذلك ".
يعني: سعيد بن أبي الحسن.
وهذا؛ يقتضي أن قتادة لا يعرف هذا الحديث إلا عن سعيد بن أبي الحسن، ولو أنه كان عنده موصولاً عن أنس، لما جاز له أن يقول ذلك.
فإن قيل:
إن أبا عوانة قد رواه أيضاً، عن قتادة، عن أنس.
أخرج حديثه: الطحاوي في " المشكل "(1398) .
قلت:
ليس: هذا بذاك؛ فإن راويه عن أبي عوانة عند الطحاوي، هو: هلال بن يحيى الرأي، وهو ضعيف، لا يعتد بروايته.
وقد ذكره ابن حبان في " المجروحين "(3/87-88) ، وساق له هذا الحديث بعينه، وأنكره عليه، وقال:
" كان يخطئ كثيراً على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد "!
فهذا؛ ليس له أصل عن أبي عوانة (1) .
ومما يُتعجب له:
صنيع المعلق على " المشكل " للطحاوي؛ فإنه ذكر إنكار ابن حبان لرواية أبي عوانة على هلال الرأي، وساق كلامه من " المجروحين " ثم أهمله واتخذه وراءه ظهرياً، فجعل أبا عوانة متابعاً لجرير بن حازم معتمداً على رواية هلال الرأي، وهذا من أعجب ما نراه في حواشي المطبوعات!!
مثال آخر:
ما أخرجه: البيهقي في " السنن الكبرى "(9/329) من طريق الحسن ابن سلام وجعفر الصائغ كلاهما، عن عفان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت وأبي إسحاق، عن البراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أنهم أصابوا يوم خيبر حمراً، فطبخوها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أكفئوها.
فهذه الرواية؛ تُوهِم أن كلاً من عدي بن ثابت وأبي إسحاق قد روى هذا الحديث عن كلٍ من البراء وابن أبي أوفى؛ وليس الأمر كذلك.
وإنما الذي يرويه عنهما جميعاً هو عدي بن ثابت فقط، أما أبو إسحاق، فهو إنما يرويه عن البراء فقط، ليس يرويه عن ابن أبي أوفى.
وحديث عدي؛ أخرجه: البخاري (5/173) ومسلم (6/64)(7/123) وغيرهما.
(1) وراجع: " إرواء الغليل "(822) .
ثم إن أبا إسحاق لم يسمع هذا الحديث من البراء.
فقد رواه: الفسوي في " المعرفة "(2/622-623) من حديث معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء ـ ولم نسمعه من البراء ـ أنهم أصابوا يوم حنين أو خيبر حمراً ـ فذكره.
فقد صرح أبو إسحاق هاهنا بأنه لم يسمعه من البراء.
وبهذا؛ أعله أبو السعود الدمشقي (1) .
مثال آخر:
حديث: صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر، عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ".
فهذا الحديث؛ يرويه عن صفوان هكذا: أبو اليمان الحكم بن نافع، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وإسماعيل بن عياش.
فحديث أبي اليمان:
أخرجه: الفسوي (2/339) .
وحديث أبي المغيرة:
أخرجه: أحمد (4/182) والدارمي (2/322) .
وحديث إسماعيل بن عياش:
سيأتي الكلام ابن أبي حاتم.
لكن؛ رواه أبو المغيرة ـ مرة ـ، فذكر لفظ السماع بين يحيى بن جابر والنواس.
قال ابن أبي حاتم (2) :
(1) كما في هامش " تحفة الأشراف "(2/56) .
(2)
في " العلل "(1849) .
" سمعت أبي وذكر حديثاً: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن صفوان بن عمرو، عن يحيى ابن جابر الطائي، قال: سمعت النواس بن سمعان، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم والبر ـ (فذكره) .
فسمعت أبي يقول: هذا حديث خطأ؛ لم يلق ابن جابر النواس.
قلت: الخطأ؛ يدل أنه من أبي المغيرة، فيما قال:" سمعت النواس ".
وذلك؛ أن إسماعيل بن عياش روى عن صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر، عن النواس؟ لم يذكر السماع؛ فيحتمل أن يكون أرسله.
ويحيى بن جابر؛ كان قاضي حمص يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس " اهـ.
لكن؛ رواه الطبراني في " مسند الشاميين "(980) من طريق أبي اليمان وأبي المغيرة ـ قرنهما ـ، عن صفوان، به؛ إلا أنه وقع عنده لفظ السماع بين يحيى بن جابر والنواس بن سمعان.
وقال الطبراني: " زاد أبو اليمان في حديثه: قال صفوان: وحدثني عبد الرحمن بن
جبير، عن النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك ".
قلت: والوجه الأول عند الطبراني، يقتضي أن أبا اليمان تابع أبا المغيرة على ذكر لفظ السماع، ولم يتفرد به، كما سبق.
لكن؛ الظاهر أن الطبراني ـ عليه رحمة الله ـ حمل رواية أبي اليمان على رواية أبي المغيرة، ولم يميز مَن ذكر السماع منهما ممن لم يذكره.
هذا؛ ما استظهرته عند تعليقي على " جامع العلوم والحكم " لابن رجب (2/78) ؛ إستناداً إلى الروايات الأخرى المفصلة، وإلى ما تقدم عن أبي حاتم وابنه.
ثم وجدت الإمام البخاري ـ عليه رحمة الله ـ ذكر في " التاريخ الكبير "(4/2/126) روايتيهما، وقرن بينهما أيضاً، إلا أنه فَصَّلَ رواية كلٍ منهما فقال:
" وعن أبي اليمان وأبي المغيرة، عن صفوان:
قال أبو اليمان: عن عبد الرحمن بن جبير، ويحيى بن جابر، عن النواس، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال المغيرة: حدثنا صفوان، عن ابن جابر، قال: سمعت النواس، قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم " اهـ.
فقد بين البخاري ـ كما ترى ـ أن الذي ذكر لفظ السماع، إنما هو أبو المغيرة فقط، وهذا من دقته ـ عليه رحمة الله ـ وشفوف نظره.
هذا؛ والوجه الثاني، الذي عند الطبراني، وهو ما زاده أبو اليمان، من أن صفوان بن عمرو روى الحديث أيضاً عن عبد الرحمن بن جبير
، عن النواس؛ فهو يقتضي أن لصفوان في هذا الحديث شيخين، وإسنادين:
الأول: عن يحيى بن جابر، عن النواس.
الثاني: عن عبد الرحمن بن جبير، عن النواس.
وهذا؛ قد ذكره البخاري أيضاً، فيما نقلناه عنه آنفاً.
لكن؛ إذا وضعنا في اعتبارنا قول أبي حاتم السابق:
"لم يلق ابن جابر النواس".
وقول ابنه:
"ويحيى بن جابر، يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس"
إذا وضعنا في اعتبارنا ذلك؛ تبين لنا أن الإسنادين يرجعان إلى أصل واحد ومخرج واحد، وأن الظاهر أن يحيى بن جابر إنما أخذه عن عبد الرحمن بن جبير.
ولهذا؛ اعتبر الإمام المزي رواية يحيى بن جابر عن النواس، من قبيل المرسل، في ترجمة يحيى (1) .
والله أعلم.
وقد أخطأ أبو المغيرة نحو هذا الخطأ أيضاً في حديث آخر، سيأتي في "فصل: التدليس.. والسماع".
مثال آخر:
حديث: سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب
(1)"تهذيب الكمال"(31/249) .
،عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا اشتد الحر فأدبروا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. واشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير".
أخرجه: البخاري (2/18) والحميدي (942) وأحمد (2/238) وغيرهم.
فهكذا؛ يرويه ابن عيينة، عن الزهري، عن "سعيد" عن أبي هريرة، وجمع في حديثه بين هذين المتنين: "إذا اشتد الحر فأدبروا بالصلاة
…
" و "اشتكت النار إلى ربها
…
".
وعامة أصحاب الزهري؛ لا يروون الحديث عن الزهري هكذا، وإنما يروون المتن الأول منه فقط، عن "سعيد وأبي سلمة"، عن أبي هريرة.
منهم من جمع بينهما، ومنهم من ذكر أبا سلمة وحده، ومنهم من قال: أحدهما أو كلاهما.
أما المتن الثاني ـ أعني: حديث: "اشتكت النار" ـ، فلم يروه أحد من أصحاب الزهري عن "سعيد"، وإنما رواه شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد، عن الزهري، عن "أبي سلمة"، عن أبي هريرة (1) .
إلا ما يروى عن جعفر بن برقان، حيث تابع ابن عيينة على رواية المتن الثاني، عن الزهري، عن "سعيد".
(1) انظر: "العلل" للدارقطني (9/392) .
وجعفر بن برقان؛ في الزهري ليس بشيء، فلا تنفع متابعته.
فظهر بهذا؛ مخالفة ابن عيينة لأصحاب الزهري؛ حيث حمل إسناد المتن الثاني على إسناد المتن الأول، وجعل المتنين من حديث "سعيد"؛ والأمر ليس كذلك؛ بل المتن الأول من حديث "سعيد وأبي سلمة" جميعاً، بينما الثاني من حديث "أبي سلمة" فقط.
والفضل في معرفة علة هذه المتابعة يرجع ـ بعد الله عز وجل إلى الإمام أحمد بن حنبل ـ عليه رحمة الله ورضوانه ـ، فقد قال ـ فيما حكاه عنه أبو طالب (1) .
"سفيان بن عيينة في قلة ما روى نحو من خمسة عشر حديثاً، أخطأ فيها في أحاديث الزهري، فذكر منها: حديث: "اشتكت النار إلى ربها"؛ إنما هو عن أبي سلمة".
وهذا من شفوف نظر الإمام أحمد ودقة نقده، عليه رحمة الله تعالى.
وقد سُئل الإمام الدارقطني في "العلل"(9/390) عن حديث "الإبراد" خاصة، فذكر أوجه الخلاف فيه على الزهري، ثم قال:
"والقولان محفوظان عن الزهري".
يعني: عن سعيد وأبي سلمة جميعاً.
وإنما يقصد الإمام الدارقطني بتصحيح القولين عن الزهري، أي
(1) هو في "المنتخب من علل الخلال"(186) .
: في حديث "الإبراد" خاصة؛ لأنه قال هذا في معرض الكلام عليه والسؤال عنه، دون حديث "اشتكت النار"(1) .
وصنيع الإمام البخاري في "الصحيح" يدل على ذلك أيضاً:
فإنه خرج حديث: "اشتكت النار" مع حديث "الإبراد" من رواية ابن عيينة، من حديث "سعيد" في كتاب "المواقيت" في "باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر"، وذِكْر حديث "اشتكت النار" في هذا الباب ليس مقصوداً، وإنما خرجه البخاري عرضاً؛ لأن ابن عيينة هكذا جمع في روايته بين المتنين، والمقصود في هذا الباب إنما هو حديث "الإبراد" خاصة.
بينما في كتاب "بدء الخلق" في "باب: صفة النار" خرج حديث "اشتكت النار" من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده؛ وهذا بابه.
وفي هذا؛ إشارة إلى أن حديث: "اشتكت النار" ليس من حديث "سعيد"، بل من حديث "أبي سلمة"، وهو ما خرجه في "المواقيت" من حديث "سعيد"، إلا لمجيئه مع حديث "الإبراد" في رواية سفيان بن عيينة.
والله أعلم.
مثال آخر:
حديث: يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري وشعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُلَمي، عن
(1) واعلم؛ أن المتابعات التي ساقها الحافظ ابن حجر وكذا ابن رجب في شرحهما للحديث، إنما هي لحديث "الإبراد" خاصة؛ فتنبه.
عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
فهذا الحديث؛ هكذا رواه يحيى القطان، عن شعبة وسفيان، على الاتفاق.
وهذا مما خطَّأ فيه الأئمة يحيى القطان؛ وحكموا بأنه حمل رواية الثوري على رواية شعبة، وهو إنما يخالفه في هذا الحديث؛ فإن أصحاب الثوري لا يذكرون في هذا الحديث "سعد بن عبيدة" في إسناده، عن الثوري، وإنما يذكره فقط أصحاب شعبة، عن شعبة.
وقال ابن عدي:
"يقال: لا يُعرَف ليحيى بن سعيد خطأ غيره"(1) .
مثال آخر:
قال الترمذي في "الجامع"(2107) :
"حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري ـ ح.
وحدثنا علي بن حجر: أخبرنا هشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".
فظاهر سياق الترمذي؛ أن هشيماً يرويه كما يرويه سفيان بهذا اللفظ.
وهذا خطأ؛ فإن هشيماً لا يرويه بهذا اللفظ، إنما يرويه بلفظ: "لا
(1) راجع "الجامع" للترمذي (3908) و "الكامل" لابن عدي (3/1234) و "تحفة الأشراف"(7/257-258) .
يتوارث أهل ملتين".
هكذا؛ رواه عنه علي بن حجر ومسعود بن جويرية الموصلي؛ وحديثهما عند النسائي.
إلا أن الترمذي أخطأ حيث حمل رواية هشيم على رواية سفيان.
قال ذلك الحافظ المزي في "تحفة الأشراف"(1/56) .
وشبيه بهذا:
وقع في "مقدمة صحيح مسلم"(1/8) ما صورته:
"حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري: حدثنا أبي ـ ح.
وحدثنا محمد بن المثنى: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ـ، قالا:
حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع".
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا علي بن حفص: حدثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بمثل ذلك" اهـ.
فظاهر هذا السياق؛ يوهم أن هؤلاء الثلاثة: معاذ بن معاذ العنبري، وابن مهدي، وعلي بن حفص؛ متفقون على رواية الحديث، عن شعبة بهذا الإسناد.
وليس الأمر كذلك؛ وإنما الذي يرويه بهذا الإسناد هو علي بن حفص فقط، وأما معاذ العنبري وابن مهدي، فيرويانه، عن شعبة بدون ذكر "أبي هريرة" في إسناده؛ أي: مرسلاً.
وليس هذا الخطأ من الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله ـ، بل من أحد رواة "الصحيح" عنه.
وقد نبه على هذا الخطأ الإمام المازري في "المعلم بفائد مسلم"(ص184)، فقال:
"رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ، فأتى به مرسلاً، لم يذكر فيه " أبا هريرة "؛ هكذا روي هذا من حديث معاذ بن معاذ وغندر وعبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة.
وفي نسخة أبي العباس الرازي وحده في هذا الإسناد: " عن شعبة، عن خبيب، عن حفص،
عن أبي هريرة " ـ مسنداً؛ ولا يثبت هذا ".
قال: " وقد أسنده مسلم بعد ذلك من طريق علي بن حفص المدائني عن شعبة ".
قال: " قال علي بن عمر الدارقطني: والصواب أنه مرسل عن شعبة، كما رواه معاذ وغندر
وابن مهدي" اهـ.
وكذلك؛ أشار إليه الإمام المنذري في " مختصر السنن "(7/181) .
والنووي؛ في " شرح مسلم "(1/74)، صرح بأن مسلماً أخرجه من طريقين: أحدهما مرسل، والآخر متصل؛ وأن المرسل عنده من طريق معاذ وعبد الرحمن بن مهدي؛ وهذا يدل على أن النسخة التي اعتمد عليها
النووي ليس الحديث فيها متصلاً من الطريقين.
وقد صرح الدارقطني في " التتبع "(ص 175-176) بأن الذي يرويه موصولاً، هو على بن حفص فقط، وأن معاذاً وابن مهدي وغندراً يروونه مرسلاً، وأنه هو الصواب (1) .
فقد صرح بأن حديث معاذ وابن مهدي مرسل، وليس متصلاً.
وقال أبو داود:
" لم يسنده إلا هذا الشيخ ـ يعني: علي بن حفص المدائني ".
قلت: فقد تبين بهذا، أن معاذاً وابن مهدي لم يوصلا الحديث عن شعبة، وإنما الذي وصله بذكر " أبي هريرة "
(1) وراجع " العلل "(10/275-276) أيضاً.
وكذلك؛ " الصحيحة "(2025) .