الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ، وَكِبْرِيَاءَ الرَّبِّ عز وجل تَقْمَعُ الشَّيْطَانَ وَفِعْلَهُ.
وَلِهَذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ عز وجل لَهُ أَثَرٌ فِي إِطْفَاءِ الْحَرِيقِ، فَإِنَّ كِبْرِيَاءَ اللَّهِ عز وجل لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَإِذَا كَبَّرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ، أَثَّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ النَّارِ وَخُمُودِ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ مَادَّتُهُ، فَيُطْفِئُ الْحَرِيقَ، وَقَدْ جَرَّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا، فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ
لَمَّا كَانَ اعْتِدَالُ الْبَدَنِ وَصِحَّتُهُ وَبَقَاؤُهُ إِنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُقَاوِمَةِ لِلْحَرَارَةِ، فَالرُّطُوبَةُ مَادَّتُهُ، وَالْحَرَارَةُ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا، وَتُصْلِحُهَا وَتُلَطِّفُهَا، وَإِلَّا أَفْسَدَتِ الْبَدَنَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِيَامُهُ، وَكَذَلِكَ الرُّطُوبَةُ هِيَ غِذَاءُ الْحَرَارَةِ، فَلَوْلَا الرُّطُوبَةُ لَأَحْرَقَتِ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ، فَقِوَامُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبَتِهَا، وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِمَا جَمِيعًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ لِلْأُخْرَى.
فَالْحَرَارَةُ مَادَّةٌ لِلرُّطُوبَةِ تَحْفَظُهَا وَتَمْنَعُهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ، وَالرُّطُوبَةُ مَادَّةٌ لِلْحَرَارَةِ تَغْذُوهَا وَتَحْمِلُهَا، وَمَتَى مَالَتِ احْدَاهُمَا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَصَلَ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ الِانْحِرَافُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَالْحَرَارَةُ دَائِمًا تُحَلِّلُ الرُّطُوبَةَ، فَيَحْتَاجُ الْبَدَنُ إِلَى مَا بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ مَا حَلَّلَتْهُ الْحَرَارَةُ - لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ - وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التَّحَلُّلِ، ضَعُفَتِ الْحَرَارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ، فَاسْتَحَالَتْ مَوَادَّ رَدِيئَةً، فَعَاثَتْ فِي الْبَدَنِ، وَأَفْسَدَتْ، فَحَصَلَتِ الْأَمْرَاضُ الْمُتَنَوِّعَةُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ مَوَادِّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31][الْأَعْرَافِ: 31] ، فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى إِدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إِسْرَافًا، وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنَ الصِّحَّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ، أَعْنِي عَدَمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَوِ الْإِسْرَافَ فِيهِ.
فَحِفْظُ الصِّحَّةِ كُلُّهُ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْإِلَهِيَّتَيْنِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَدَنَ دَائِمًا فِي التَّحَلُّلِ وَالِاسْتِخْلَافِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ التَّحَلُّلُ ضَعُفَتِ الْحَرَارَةُ لِفَنَاءِ مَادَّتِهَا، فَإِنَّ كَثْرَةَ التَّحَلُّلِ تُفْنِي الرُّطُوبَةَ، وَهِيَ مَادَّةُ الْحَرَارَةِ، وَإِذَا ضَعُفَتِ الْحَرَارَةُ، ضَعُفَ الْهَضْمُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَفْنَى الرُّطُوبَةُ، وَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ جُمْلَةً، فَيَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْأَجَلَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ.
فَغَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ حِرَاسَةُ الْبَدَنِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، لَا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ اللَّتَيْنِ بَقَاءُ الشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ بِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يَحْصُلْ لِبَشَرٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الطَّبِيبِ أَنْ يَحْمِيَ الرُّطُوبَةَ عَنْ مُفْسِدَاتِهَا مِنَ الْعُفُونَةِ وَغَيْرِهِ، وَيَحْمِيَ الْحَرَارَةَ عَنْ مُضْعِفَاتِهَا، وَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فِي التَّدْبِيرِ الَّذِي بِهِ قَامَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، كَمَا أَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ، إِنَّمَا قِوَامُهَا بِالْعَدْلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَدْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَهُ أَفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصِّحَّةِ بِهِ، فَإِنَّ حِفْظَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْهَوَاءِ وَالنَّوْمِ، وَالْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْمَنْكَحِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَالِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ الْمُلَائِمِ لِلْبَدَنِ وَالْبَلَدِ وَالسِّنِّ وَالْعَادَةِ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى دَوَامِ الصِّحَّةِ أَوْ غَلَبَتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ، وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ، بَلِ الْعَافِيَةُ الْمُطْلَقَةُ أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يُضَادُّهَا، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» ) .
وَفِي الترمذي وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عبيد الله بن محصن الأنصاري، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» ) .
وَفِي الترمذي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:( «أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ) .
وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8][التَّكَاثُرِ: 8]، قَالَ: عَنِ الصِّحَّةِ.
وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ للعباس: ( «يَا عباس، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) .
وَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ، فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» ) ، فَجَمَعَ بَيْنَ عَافِيَتَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَا يَتِمُّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ، فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ.
وَفِي " سُنَنِ النَّسَائِيِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: ( «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ