الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمُعَافَاةَ، فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ» ) . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ إِزَالَةَ الشُّرُورِ الْمَاضِيَةِ بِالْعَفْوِ، وَالْحَاضِرَةِ بِالْعَافِيَةِ، وَالْمُسْتَقْبَلَةِ بِالْمُعَافَاةِ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَافِيَةِ.
وَفِي الترمذي مَرْفُوعًا: ( «مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ» ) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «وَرَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ مَعَكَ الْعَافِيَةَ» ) .
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: مَا أَسْأَلُ اللَّهَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ فَقَالَ: (" «سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ "، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) .
وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْعَافِيَةِ وَالصِّحَّةِ، فَنَذْكُرُ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَتَبَيَّنُ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنَالُ بِهِ حِفْظَ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وَحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
[فَصْلٌ هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ]
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالطَّبِيعَةِ جِدًّا، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا، فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ، ضَعُفَ أَوْ هَلَكَ، وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ، لَمْ تَقْبَلْهُ الطَّبِيعَةُ، وَاسْتَضَرَّ بِهِ، فَقَصَرَهَا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ دَائِمًا - وَلَوْ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ - خَطَرٌ مُضِرٌّ.
بَلْ كَانَ يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُبْزِ وَالتَّمْرِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَدْيِهِ فِي الْمَأْكُولِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ هُنَاكَ.
وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطَّعَامَيْنِ كَيْفِيَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ، كَسَرَهَا وَعَدَلَهَا بِضِدِّهَا إِنْ أَمْكَنَ، كَتَعْدِيلِ حَرَارَةِ الرُّطَبِ بِالْبِطِّيخِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ، تَنَاوَلَهُ عَلَى حَاجَةٍ وَدَاعِيَةٍ مِنَ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ، فَلَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الطَّبِيعَةُ.
وَكَانَ إِذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطَّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ، وَلَمْ يُحَمِّلْهَا إِيَّاهُ عَلَى كُرْهٍ، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، فَمَتَى أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ، وَلَا يَشْتَهِيهِ، كَانَ تَضَرُّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنِ انْتِفَاعِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:( «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ» ) ، ( «وَلَمَّا قُدِّمَ إِلَيْهِ الضَّبُّ الْمَشْوِيُّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» ) ، فَرَاعَى عَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ بِأَرْضِهِ، وَكَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَشْتَهِيهِ، أَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ مَنْ يَشْتَهِيهِ، وَمَنْ عَادَتُهُ أَكْلُهُ.
وَكَانَ يُحِبُّ اللَّحْمَ، وَأَحَبُّهُ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَمُقَدَّمُ الشَّاةِ، وَلِذَلِكَ سُمَّ فِيهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ":( «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ» ) .
وَذَكَرَ أبو عبيدة وَغَيْرُهُ عَنْ ضباعة بنت الزبير، أَنَّهَا ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ: مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إِلَّا الرَّقَبَةُ، وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:( «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَقُلْ لَهَا: أَرْسِلِي بِهَا، فَإِنَّهَا هَادِيَةُ الشَّاةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الْأَذَى» ) .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَخَفَّ لَحْمِ الشَّاةِ لَحْمُ الرَّقَبَةِ وَلَحْمُ الذِّرَاعِ، وَالْعَضُدِ وَهُوَ أَخَفُّ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَأَسْرَعُ انْهِضَامًا، وَفِي هَذَا مُرَاعَاةُ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ. أَحَدُهَا: كَثْرَةُ نَفْعِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْقُوَى. الثَّانِي: خِفَّتُهَا عَلَى الْمَعِدَةِ، وَعَدَمُ ثِقَلِهَا عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: سُرْعَةُ هَضْمِهَا، وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالتَّغَذِّي بِالْيَسِيرِ مِنْ هَذَا أَنْفَعُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ - أَعْنِي: اللَّحْمَ وَالْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ، وَأَنْفَعِهَا لِلْبَدَنِ، وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلِلِاغْتِذَاءِ بِهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ بِهِ عِلَّةٌ وَآفَةٌ.
وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَأْدُومًا مَا وَجَدَ لَهُ إِدَامًا، فَتَارَةً يَأْدِمُهُ بِاللَّحْمِ وَيَقُولُ:( «هُوَ سَيِّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَتَارَةً بِالْبِطِّيخِ، وَتَارَةً بِالتَّمْرِ، فَإِنَّهُ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةِ شَعِيرٍ وَقَالَ:( «هَذَا إِدَامُ هَذِهِ» ) ، وَفِي هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ أَنَّ خُبْزَ الشَّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَالتَّمْرَ حَارٌّ رَطْبٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَأَدْمُ
خُبْزِ الشَّعِيرِ بِهِ مِنْ أَحْسَنِ التَّدْبِيرِ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ تِلْكَ عَادَتُهُمْ، كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِالْخَلِّ، وَيَقُولُ:( «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» ) ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ، لَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا يَظُنُّ الْجُهَّالُ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمًا، فَقَدَّمُوا لَهُ خُبْزًا، فَقَالَ:(" «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ إِدَامٍ؟ " قَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَقَالَ: " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» ") .
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَأْدُومًا مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ. وَسُمِّيَ الْأُدْمُ أُدْمًا؛ لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ، وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصِّحَّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي إِبَاحَتِهِ لِلْخَاطِبِ النَّظَرَ:( «إِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا» ) ، أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الِالْتِئَامِ وَالْمُوَافَقَةِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَدْخُلُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَا يَنْدَمُ.
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا، وَلَا يَحْتَمِي عَنْهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهَا فِي وَقْتِهِ، فَيَكُونُ تَنَاوُلُهُ مِنْ أَسْبَابِ صِحَّتِهِمْ وَعَافِيَتِهِمْ، وَيُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَقَلَّ مَنِ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ خَشْيَةَ السَّقَمِ إِلَّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النَّاسِ جِسْمًا، وَأَبْعَدِهِمْ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمَا فِي تِلْكَ الْفَاكِهَةِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَحَرَارَةُ الْفَصْلِ وَالْأَرْضِ، وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ شَرَّهَا إِذَا لَمْ يُسْرِفْ فِي تَنَاوُلِهَا، وَلَمْ يُحَمِّلْ مِنْهَا الطَّبِيعَةَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ، وَلَمْ يُفْسِدْ بِهَا الْغِذَاءَ قَبْلَ هَضْمِهِ، وَلَا أَفْسَدَهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ بَعْدَ التَّحَلِّي مِنْهَا، فَإِنَّ الْقُولَنْجَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا يَنْبَغِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، كَانَتْ لَهُ دَوَاءً نَافِعًا.