الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون: باب ومن سورة الطور من أبواب التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
5/392-393 سنن الترمذي بتحقيق إبراهيم عطوة عوض
حدثنا أبو هشام الرفاعي: أخبرنا ابن فضيل، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس -ضي الله عنهما-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إدبار1 النجوم، الركعتان قبل الفجر، وأدبار السجود2، الركعتان بعد المغرب".
كلام الترمذي على هذا الحديث
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه من حديث محمد ابن الفضيل، عن رشدين بن كريب.
سألت محمد بن إسماعيل عن محمد ورشدين ابني كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح.
وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا؟ فقال: ما أقربهما ورشدين بن كريب أرجحهما عندي.
1 بكسر الهمزة وفتحها من قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} الطور: 48، 49. انظر: المفردات في غريب القرآن/164 وفتح القدير 5/81، 103.
2 بفتح الهمزة وكسرها قراءتان متواترتان في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}
ق: 39، 40. تحفة الأحوذي 9/162 وانظر: تفسير ابن جرير الطبري 26/182-183 والمفردات في غريب القرآن/164 وفتح القدير 5/81 قال في القاموس المحيط 2/26: الدبر بالضم وبضمتين: نقيض القبل، والدبر من كل شيء: عقبه ومؤخره، وأدبار النجوم: تواليها، وأدبار السجود: أواخر الصلوات.
قال: والقول ما قال أبو محمد، ورشدين أرجح من محمد، وأقدمه وقد أدرك رشدين ابن عباس، ورآه.
تخريج الحديث
أخرج الحديث سوى الترمذي:
ابن أبي حاتم في "تفسيره"1 وفيه أن ابن عباس بات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين خفيفتين قبل الفجر، ثم توجه إلى صلاة الفجر فقال لابن عباس: "
…
الحديث.
قال ابن كثير2 تعقيباً على رواية ابن أبي حاتم هذه: "وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر ركعة ثابت في الصحيحين وغيرهما، فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه، ورشدين بن كريب ضعيف، ولعله من كلام ابن عباس "رضي الله عنهما" موقوفاً عليه. والله أعلم".
ابن عدي في "الكامل"3.
ابن جرير الطبري في "تفسيره"4، وفيه الاقتصار على الجملة
1 انظر تفسير ابن كثير 4/246.
2 المصدر السابق الجزء والصفحة.
3 2 قسم 2 صفحة 97.
4 26/112.
الثانية منه: "يا ابن عباس: ركعتان بعد المغرب أدبار السجود".
الحاكم في "المستدرك"1، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
وقد تعقبه الذهبي بقوله: "قلت: رشدين ضعفه أبو زرعة، والدارقطني".
ابن مردويه2.
أخرجه هؤلاء من طريق محمد بن الفضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه، عن ابن عباس "رضي الله عنهما".
درجة هذا الحديث
ضعّف الترمذي هذا الحديث، وهو كذلك بهذا الإسناد؛ لأن رشدين بن كريب ضعيف، وقد مضت ترجمته في الحديث السادس والعشرين، ونقلت هناك ما قاله أئمة أهل النقد فيه، كما تعرضت لسؤال الترمذي وجواب الدارمي والبخاري عليه، حيث أعاده هنا، لكن للحديث شواهد سوف أذكرها إن شاء الله تعالى؛ تقوية وترتفع به إلى درجة الحسن لغيره.
وأما محمد بن الفضيل الذي انفرد بهذا الحديث، عن رشدين بن
1 1/32.
2 عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" 6/110.
كريب فهو: "محمد بن فضيل بن غزوان1 بن جرير الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي. روى عن: أبيه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وخلق كثير. روى عنه: الثوري وهو أكبر منه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وآخرون2.
احتج به الجماعة وقد رمى بالتشيع في كلام أحمد3، وأبي داود4، وابن سعد والعجلي5، وابن حبان6، والدارقطني7، ويعقوب بن سفيان8؛ لذلك لم يحتج به بعضهم.
قال ابن سعد9: "كان ثقة صدوقاً، كثير الحديث، متشيعاً، وبعضهم لا يحتج به" ا?.
قال ابن حجر في "هدي الساري مقدمة فتح الباري"10 حيث
1 بفتح المعجمة وسكون الزاي "تقريب التهذيب" 2/200.
2 تهذيب التهذيب 9/405.
3 انظر المصدر السابق الجزء والصفحة.
4 انظر المصدر السابق 9/406.
5 انظر المصدر السابق الجزء والصفحة.
6 انظر المصدر السابق الجزء والصفحة.
7 انظر المصدر السابق الجزء والصفحة.
8 المعرفة والتاريخ 3/412.
9 الطبقات الكبرى 6/389.
10 /441.
أورده فيه؛ لأنه أحد من طعن فيه من رجال البخاري: "إنما توقف فيه من توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن علي الأبار: حدثنا أبو هشام1 سمعت ابن فضيل يقول: "رحم الله عثمان، ولا رحم الله من لا يترحم عليه" قال:"ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة رحمه الله" احتج به الجماعة" ا?.
فالرجل ما أخذ عليه إلا تشيعه، وقد وثقه جماعة، وقال فيه أبو حاتم2:"شيخ"، وقال أبو زرعة3:"صدوق من أهل العلم"، وقال النسائي4:"ليس به بأس".
والذي قاله الذهبي في "ميزان الاعتدال"5: "كوفي، صدوق، مشهور".
1 أبو هشام هذا هو شيخ الترمذي في هذا الحديث، قال عنه ابن حجر في "تقريب التهذيب" 2/219: محمد بن يزيد بن محمد ابن كثير العجلي، أبو هشام الرفاعي، الكوفي قاضي المدائن، ليس بالقوي، من صغار العاشرة، وذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وجزم الخطيب بأن البخاري روى عنه، لكن قد قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه، مات سنة ثمان وأربعين أي ومئتين، روى له مسلم، وأبو داود، وابن ماجه. وقد تقدمت ترجمته في الحديث الخامس عشر.
2 الجرح والتعديل 4/1/58.
3 المصدر السابق الجزء والقسم والصفحة.
4 تهذيب التهذيب 9/406.
5 4/9-10.
وقال في "المغني في الضعفاء"1: "ثقة مشهور، لكنه شيعي".
وأورده في "تذكرة الحفاظ2" وقال عنه: "محمد بن فضيل بن غزوان المحدث، الحافظ، أبو عبد الرحمن الكوفي، مصنف "كتاب الزهد"، و"كتاب الدعاء"، وغير ذلك
…
وكان من علماء هذا الشأن وثقه يحيى ابن معين، وقال أحمد:"حسن الحديث شيعي". قلت: (القائل الذهبي) : كان متوالياً فقط" ا?.
هذا والذي اختاره ابن حجر من الحكم فيه "صدوق"، فقال في "تقريب التهذيب"3:"صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين أي ومئة، روى له الجماعة".
شواهد للحديث
قول الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه
…
وقول ابن كثير: "فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه"، عبر فيه كل واحد منهما عن معرفته، وإلا فالحديث جاء من غير هذا الوجه مرفوعاً، مما يصلح أن يكون شاهداً لحديث ابن عباس هذا.
1 2/624.
2 1/315.
3 2/200-201 وانظر في مصادر ترجمته: "التاريخ الكبير" 1/1/207-208 و"التاريخ الصغير" 2/276 و"الطبقات" لخليفة بن خياط/171.
قال السيوطي في "الدر المنثور"1: "وأخرج مسدد في "مسنده" وابن المنذر، وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدبار النجوم، وأدبار السجود فقال: "أدبار السجود: ركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم: الركعتان قبل الغداة".
وذكره ابن حجر في "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية"2، وعزاه لمسدد، وسكت عنه.
وما نحتاجه في هذا الحديث هو الوقوف على سنده؛ ليكون الحكم عليه بما يليق به3، كما أن للحديث شواهد موقوفة على بعض الصحابة رضي الله عنه وعلى بعض التابعين، أخرجها عنهم ابن جرير الطبري في تفسيره4، وأخرجها غيره. ومثل هذه لا تكون إلا توقيفية فإنه لا مجال للرأي فيها.
قال ابن حجر في "فتح الباري"5 عقب إيراده لحديث ابن عباس من رواية الطبري: "وإسناده ضعيف لكن روى ابن المنذر من طريق أبي
1 6/110.
2 3/377.
3 وقفت فيما بعد على سند هذا الحديث عند مسدد، وذلك بواسطة "المطالب العالية لمسنده"(1) ورقة (523) فألفيته سنداً ضعيفاً؛ لأجل الحارث الأعور، وأبي إسحاق الواقع أنه سبق الكلام عن هذين الراويين بما فيه الكفاية والغنية، فلا داعي لإعادته هنا.
4 26/112 وما بعدها.
5 8/598.
تميم الجيشاني1 قال: "قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} هي الركعتان بعد المغرب".
وأخرجه الطبري من طرق عن علي، وعن أبي هريرة، وغيرهما مثله.
وأخرج ابن النذر عن عمر مثله.
وأخرج الطبري2 من طريق كريب بن يزيد أنه كان إذا صلى الركعتين بعد الفجر، والركعتين بعد3 المغرب قرأ أدبار النجوم وأدبار السجود، أي بهما" ا?.
قال السيوطي في "الدر المنثور"4: "وأخرج ابن المنذر، ومحمد بن نصر في "الصلاة" عن عمر بن الخطاب في قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
قال: "ركعتان بعد المغرب {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قال ركعتان قبل الفجر
1 هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم: (بمهملتين) أبو تميم الجيشاني (بجيم وياء ساكنة بعدها معجمة) مشهور بكنيته المصري، ثقة، مخضرم من الثانية، مات سنة سبع وسبعين، روى له مسلم، وأبو داود في "القدر" والنسائي، والترمذي، وابن ماجة. "تقريب التهذيب" 2/444.
2 تفسير ابن جرير الطبري 26/181.
3 هكذا جاءت في الفتح صوابها "قبل" كما في تفسير ابن جرير الطبري.
4 6/110.
وقال أيضاً1: "وأخرج ابن مردويه عن أبي هري رة "رضي الله عنه" قال: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات تطوعاً، منها أربع في كتاب الله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
قال: الركعتين بعد المغرب".
1 الدر المنثور 6/110.
الخاتمة
بعد/ فهذا هي مجموع الأحاديث التي جرى عليها سؤال الترمذي لشيخه البخاري، والتي شاء الله عز وجل أن تكون موضوع رسالتي، ومحل دراستي، وقد بلغت ثلاثة ثلاثين حديثاً، تم تجميعها –ولأول مرة فيما أعلم- من "جامع الترمذي" بعد أن كانت متفرقة فيه، وهي وإن بدت قليلة في الكم، فإنها كبيرة وغزيرة في الكيف، ولقد كان العمل فيها –علم الله سبحانه وتعالى عسيراً وشاقاً أخذ مني الكثير من الجهد والوقت، مما أترك للقارئ الكريم أن يلمس مدى ما بذلته من خلال قراءته لبحوث هذه الرسالة، ويكفي –كمصداق على ما قلت- أن نعلم أنها في "علل الحديث" أدق علم وأعصوه، الذي لا يجيده إلا الأفذاذ من العلماء الحفاظ ذوي الفهم الثاقب، والنظر الفاحص.
كما نتصور أن الترمذي إمام وناقد معتبر لا يسأل ويحاور إلا في المهم المجدي من المسائل، والقضايا، أو فيما عسر عليه التوصل إلى البت في أمره مما هو مغلق، أو شكل، أو خاف عليه، وأنه يتوجه بأسئلة تلك إلى شيخه البخاري الذي هو إمام وناقد أعظم منه. وثمة ناحية مهمة تستحق التنويه والإشادة هي مدى ما كان يتمتع به الترمذي من استقلال، وقوة شخصية.
فالترمذي الذي راجع شيخه البخاري، وناظره، واستفاد
منه لم يكن مقلداً له بل وافقه، وخالفه، واجتهد في المسائل على ضوء ما ظهر له منها، مما يبرز ثقله في الميدان الحديثي والعلمي.
ولا شك أن هذه الناحية سببت لي حرجاً كبيراً، وتهيباً عظيماً في التوسط بين إمامين من كبار أئمة النقد والتعليل، يرى أحدهما الرأي ويخالفه الآخر، فيثبت ما يقابله. ومعنى هذا أنني أزج بنفسي في الفصل بين حكمين، وأقحمها في الحكم بين فارسين، وهذه وظيفة شاغرة ومرتبة يعز وجودها لاسيما في هذا العصر، إلا إن مما خفف من هذا التهيب، وقلل منه هو إيماني العميق بنبل مقصد الرجلين البخاري والترمذي، وسمو غايتهما، وتجردهما للعلم، وعدم ادعائهما العصمة والإحاطة، فمن هنا بعد الاستعانة بالله عز وجل حاولت جاهداً بما توفر لي من مصادر العلم التقريب بين وجهات النظر قدر الإمكان، فإذا لم يكن بد من الترجيح فإني رجعت القول الصائب بدليله.
ويتضح هذا جلياً في الحديث الثاني؛ إذ يرى الترمذي اختلاف الروايات فيه موجباً لاضطرابه، فيقوم بعرض الاضطراب- وذلك في سبيل البحث عن حل له ومخرج منه على الدارمي والبخاري، إلا أن الدارمي على جلالة قدره توقف ولم يقض فيه بشيء، فلم يبد رأيه في الموضوع، ولم
يفصل فيه بشيء لا بترجيح ولا غيره.
وأما البخاري فكان موقفه من الاضطراب مبدئياً يشبه تماماً موقف الدارمي، أقر بالاضطراب، ولم يحكم فيه بشيء، ثم أداه اجتهاده إلى غير ذلك، فاختار إحدى الروايات، وأودعها كتابه "الجامع الصحيح". يبقى بعد ذلك الترمذي فإنه –بما توفر لديه من أدلة- خالف شيخه، وخالف اجتهاده، فرأى ترجيح رواية غير تلك التي رجحها شيخه. كما يتضح ذلك جلياً في الحديث السادس والعشرون وقد ناظر الترمذي شيخه البخاري في ترجيح بعض الرواة الضعفاء على بعض، مما تظهر فائدته عند التعارض، فقد كان رأي البخاري أن رشدين بن كريب أرجح من أخيه محمد، وكان رأي الترمذي بالعكس، وهو أن محمداً أرجح من رشدين. إلى غير ذلك مما تجده في أحاديث هذه الرسالة.
…
ولا يخفى أنني أوليت تلك الناحية في الإمام الترمذي جل اهتمامي، وحرصت على إبرازها سواء عند الكلام على الأحاديث التي اقتضتها، أو في ترجمة الترمذي حيث ركزت على هذه الناحية فيه، ووجهت نظر القارئ إليها.
هذا ولما كان موضوع هذه الرسالة –كما أسلفت- في علل الحديث فقد دعاني ذلك إلى تخصيص كلمة تحدثت فيها عن أهمية علم علل الحديث، ومنزلته من علوم الحديث،
وسجلت فيها خلاصة دراستي عن العلة، والحديث المعل، ومواطن العلة، وأنواعها، وكيفية إدراكها، والطرق الموصلة إليها مما أرشد إليه النقاد، وأهم الكتب المؤلفة في علل الحديث مع ذكر مؤلفيها ووفياتهم.
وقد هدفت من وراء تلك الكلمة:
أن تكون تذكرة لي وعوناً للقارئ في تفهّم بحوث هذه الرسالة، ومتابعتها بنحو جيد ومرضٍ.
أن نكون على صلة من هذا العلم العظيم، وعلى ذكرى بما كان عليه سلفنا الصالح من تحري وتدقيق، وتنقير في مجال تصحيح السنة، وتضعيفها، مع ما بذلوه من جهود هائلة، وحرص بالغ، وعناية فائقة، في هذا المضمار.
وما هذا الذي قام به الترمذي تجاه الأحاديث التي معنا إلا مظهراً من مظاهر حفظ السنة، وصيانتها، والذود عن حياضها.
كانت مناسبة لي أوردت فيها بعض المعلومات الجديدة، ونبهت فيها على بعض الأخطاء، كما ناقشت بعض الناس في أمور مفتقرة إلى نقاش، وحققت أشياء بحاجة إلى تحقيق.
هذا وأما بالنسبة لسؤالات الترمذي وأجوبة البخاري عليها، فإنني بعد أن أشرت في المقدمة إلى مسلك ومنطق
وأسلوب كل من البخاري والترمذي فيها، وصدى ما تضمنته في شتى المصادر، قمت ببيان أثر هذه السؤالات والأجوبة في الفكر الحديثي، وتجلية النقاط التي جاءت هذه السؤالات والأجوبة بتوضيحها، من إيضاح قيمة بعض الرواة جرحاً وتعديلا، وإيضاح قيمة بعض الأسانيد من حيث الوصل والقطع، أو الرفع والوقف، أو الاتصال والإرسال، وإيضاح قيمة بعض الأحاديث من حيث الصحة أو الضعف. ولا يمنع هذا في أن البخاري أخطأ في بعض الأشياء، كما في الحديث الخامس عشر، والتاسع عشر.
كما أنني قمت بذكر المؤلفات على هذا الأسلوب، وهو نقل المعلومات التي تتعلق بنقد الرواة والمرويات من الشيوخ، فأوردت منها عدداً لا يستهان به أكثره مخطوط، ونزر منه مطبوع، وقد بينت عند ذكر كل مؤلف منها مادة النقد التي يحويها، سواء كانت في نقد الرجال، أو الأحاديث، أو فيهما معاً، كما حاولت أن أعطي معلومات وافية عنه تعين على تصوره والاهتداء إليه، وذلك من ناحية التنصيص على نسخة الوحيدة، أو نسخة المتعددة، ومن ناحية ذكر مكان أو أماكن وجوده، وذكر الرقم الخاص به في المكتبة المحفوظ بها وعدد أوراقه وهل هو كامل أو ناقص، ومحل النقص، وبيان ما طبع أو صور، أو حقق في رسالة علمية عالية، وبيان ما وقفت عليه
من ذلك. أما ما كان مفقوداً فقد أشرت إليه.
ولم يفتني أن أترجم بتراجم متوسطة لأصحاب تلك المؤلفات من التلاميذ، والشيوخ؛ نظراً لكونهم من الأئمة المحققين، والنقاد الكبار، واعتمدت عليهم رسالتي في جل بحوثها.
وفي التمهيد الذي عملته قبل إيراد تلك المؤلفات تمنيت لو تقوم دراسة واعية وجادة لتلك المؤلفات تجري مقارنة بينها، وتثبت نتائجها؛ وليكن محلها رسالة علمية عالية.
كما حبذت لو صرفت الجهود ليتميز هذا النمط من التأليف في جميع الفنون؛ لما في ذلك من النفع والمصلحة.
وفيما يتصل بسؤالات الترمذي للبخاري فقد عملت ترجمة موجزة للبخاري، حيث طبقت شهرته الآفاق، فأغنت عن الإطالة فيها، وأخرى للترمذي حافلة استقيتها من أكثر من أربعين مصدراً ومرجعاً، جاءت في أغلبها ترجمة الترمذي مقتضبة، ليقف القارئ عن كثب على حياة صاحبها، الذي يعتبر بحق أحد دعاة السنة النبوية، الذين أوقفوا حياتهم على إحيائها، وأفنوا أعمارهم من أجلها.
والواقع أنه كان بالإمكان الاكتفاء بما كتبه عن الترمذي كل من المباركفوري في "مقدمة كتابه تحفة الأحوذي"، وأحمد شاكر في "مقدمة جامع الترمذي"، ونور الدين عتر في رسالته
"الإمام الترمذي"، لولا ما ذكرت آنفاً ولولا إضافة معلومات توصلت إليها، وأخطاء نبهت عنها، وأمور مختلف فيها من حياة الترمذي، فصلتها وأدليت فيها بدلوي، وعلى قدر جهد المقل، ولولا صفحات مشرقة في حياة الترمذي لاسيما تلك التي تتصل بشيخه البخاري، وتتحدث عن عمق ما بينهما من صلة وعلاقة قوية، وتظهر مدى الترابط والتلاحم والتجاوب الذي حصل بينهما، وقد ركزت على هذه الناحية تركيزاً شديداً، وأفضت فيها، وأوليتها كامل عنايتي.
فالترمذي –وهذا من خصائصه وما يمتاز به- كان طلعة من الرجال، سآلا عن الأحاديث، وعللها، والرجال وأحوالهم، كتلة من النشاط والحيوية، والعمل الجاد الدؤوب في سبيل العلم، ولتضلع من الحديث يتنقل بين كبار العلماء، وجهابذة النقاد يباحثهم، ويناظرهم بفكر وقاد، وذكاء نادر في خفي المسائل العلمية، ودقيق المشكلات الحديثية، حتى حظي بسبب ذلك بالإعظام والإكرام من شيوخه، واستطاع بقيمة ما ذاكر به أن ينتزع تلك الشهادة القيمة من شيخه البخاري، وهي قوله له:"ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي".
وهذا بلا شك يبرز لنا قيمة سؤلات الترمذي، وأهميتها، والحق يقال: أن الترمذي أبان بهذه السؤالات عن تعمقه، ودقته، وبعد نظره.
والترمذي الذي أتيح له أن يتتلمذ على العديد من العلماء والمحدثين البارعين، اشتهر وعرف بين القاصي والداني بأنه تلميذ البخاري وهو الذي نشر علمه، وأظهر فضله، يصرح بتفوق شيخه البخاري، وتقدمه على سائر أئمة عصره في معنى هذه العلوم الحديثية المهمة والدقيقة، وهي علم العلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد، فقال:"ولم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد، كثيراً أحد علم من محمد بن إسماعيل رحمه الله".
وناهيك بهذه الشهادة التي تبرز قيمة أجوبة البخاري؛ لكونها أتت نتيجة مراس، وتجربة، ومعرفة، وخبرة بتلك العلوم، فالترمذي قد دار على الشيوخ وخبرهم، وميز ما بينهم، كما أنه شارك، وتصدى بالتأليف في هذه العلوم؛ إذ له كتاب العلل الكبير، والعلل الصغير، وكتاب التاريخ، وأحسبه في تاريخ الرجال، وجرحهم، وتعديلهم. ولا ريب أن البخاري كان أبصر وأعلم، وأفقه في علم علل الحديث ومرجعاً فيه لكبار علماء عصره، كما يتضح هذا من سيرته.
وعن أحاديث الرسالة وما تناولته فيها من دراسة وبحث، فإنني عزوتها إلى محالها من مصادرها المعتمدة، ما عدا قليلاً منها، بحثت عنها فلم أقف عليها لغير الترمذي، وقد تطلب مني ما التزمته من الاستقصاء في تخريجها، أن أجري خلف كل
حديث منها في شتى الكتب والأجزاء، سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة، وعلى مختلف فنونها من حديث، وتفسير، وأحكام، وغير ذلك. وقد كان لهذا فائدة كبرى في الوقوف على طرق أخرى رويت بها بعض الأحاديث، ساعدت في دفع بعض الأوهام، وتصحيح بعض الأخطاء، والكشف عن بعض العلل.
بعد ذلك قمت بفحص الأحاديث، وسبر أحوال رواتها، فأوضحت ما فيها من علل، وما وجه إليها من انتقاد، نص عليه البخاري، أو الترمذي، أو غيرهما من الأئمة الحفاظ، أو توصلت إليه من خلال بحثي ودراستي للأحاديث وطرقها.
وقد أردفت ذلك بما أجيب به عن تلك العلل، أو عن بعضها، ثم نظرت فيه تأييداً، أو رداً على ضوء الأدلة، كما ناقشت في ثبوت بعض العلل، أو محلها مدعما موقفي بالحجة والبرهان.
وفيما يتعلق بالرواة فقد عرَّفت بأحوال الرواة الذين عليهم مدار البحث جرحاً وتعديلا، فنقلت فيهم –بعد تتبع أحوالهم من شتى كتب الرجال؛ إذ لم اقتصر على تقريب التهذيب إلا في التعريف ببعض الرواة- وأقوال النقاد المعتبرين، لاسيما تلك التي نقلها الترمذي عن البخاري، وبعد دراستها وفحصها، وفقت أو رجحت بين الأقوال المتعارضة في نقدهم، حسب ما ظهر لي قوته، وفي نطاق قواعد علماء
الجرح والتعديل.
يأتي بعد ذلك الحكم على الأحاديث، وهو الغاية التي يسعى إليها الدارس من وراء دراسته للحديث، وما سرت عليه هو أنني قبل الحكم عليها أنظر في حكم الترمذي إن كان له حكم عليها؛ لأنه في بعض الأحاديث سكت فلم يحكم بشيء، فإن كان صواباً أقررته، وإلا فإني أبين درجة الحديث التي يستحقها، متبعاً قواعد أهل الفن في نقد الحديث، ومستعيناً بذكر الشواهد، والمتابعات، وكلمات الأئمة النقّاد المعاصرين والمحققين.
أما الأحاديث التي سكت عنها فحكمت عليها –بعد دراستها- حسب ما ظهر لي من حالها، وقد أجبت عن التعارض الناشئ بين بعض الأحاديث وبين ما أوردته من أحاديث معارضة لها، بعد أن بينت وجه التعارض بينهما، ثم حكمت عليها بما تقتضيه تلك الإجابة صحة أو ضعفاً.
وبالنسبة للأحاديث التي أشار إليها الترمذي بقوله "وفي الباب"، وهي أحاديث يرمز إليها الترمذي بأسماء الصحابة يصلح ذكرها في الباب، فقد أوردت معظمها، ولم يفتني إلا القليل منها، وخرجتها، وتكلمت عليها بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويتطلبه المقام. حيث إن بعضها يمكن اعتباره شاهداً، كما زدت أحاديث في الباب لم يشر إليها الترمذي، وهي
تصلح أن تكون شواهد ومتابعات.
أما ما اعترضني من مشكلات، ووقف أمامي من عقبات، فقد نبهت عليه في المقدمة، وفصلت القول فيه فلا داعي لذكره مرة ثانية.
وفي الختام أسأل الله عزّ جلّ أن يجعلنا ممن يريد بعمله وجهه والدار الآخرة، وألا يجعلنا نريد بعملنا هذا حظاً من حظوظ الدنيا. اللهم اجعلها مطية إلى الآخرة، وسبباً في رضاك عنا، وانفع بها اللهم من شئت.
إسماعيل/..