الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
الجهاد في البحر والقرصنة
.
عرف (ذي اللحى الشقراء) بأنهم قراصنة - ويتطلب ذلك في الواقع التوقف قليلا عند كلمة (القرصنة والقراصنة). فمن المعروف أن الصراع في البحر والإغارة على المدن الساحلية هو أمر قديم جدا، قدم ظهور البحرية ذاتها. فكانت الدول البحرية تمارس عملها بهدف النهب والسلب بالدرجة الأولى، نظرا لعدم الحاجة الكبرى للقدرة البشرية. وبقي البحر الأبيض المتوسط هو المسرح الأول للصراع بين الحضارات المختلفة بداية من المكدونيين والفينيقيين ونهاية بالرومانيين.
وعندما اقتحم العرب المسلمون هذا المجال، لم تكن بهم حاجة لممارسة القرصنة، إذ أنهم استطاعوا فرض سيطرتهم على البحر، لا ينازعهم فيه منازع. وكانت الهجمات البحرية على سواحل القسم الشمالي من البحر الأبيض المتوسط تهدف إلى تأمين الفتوحات الإسلامية، فكانت ملتحمة بمفهوم الجهاد في سبيل الله.
غير أن شعوبا أخرى اضطلعت بأعمال القرصنة، وأبرزها شعب النورمان - الفايكنج - (1) الذي أغارت قوة منه في عهد الأمير
(1) الفايكنخ: (VIKINGS) شعب إسكندينافي مارس أعمال القرصنة والسلب =
الأموي عبد الرحمن بن الحكم على الأندلس بما وصفته المصادر الأندلسية كالتالي: (وفي أيامه ظهر المجوس الأرومانيين - النورمان - ودخلوا إشبيليا. فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القواد من قرطبة، فنزل المجوس من مراكبهم، وقاتلهم المسلمون فهزموهم بعد مقام صعب. ثم جاءت العساكر مددا من قرطبة، فقاتلهم المجوس.
فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها. ورحل المجوس إلى شذونة، فأقاموا عليها يومين، وغنموا بعض الشيء. ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية، فأقلع المجوس إلى لبلة، وأغاروا وسبوا، ثم إلى باجة ثم إلى أشبونة، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة وسكنت البلاد وذلك سنة 230 هـ = 844 م (1).
تكررت العملية ذاتها في عهد الحكم المستنصر: (حيث ظهرت في سنة 254 هـ = 868 م مراكب المجوس في البحر الكبير - المحيط الأطلسي - وأفسدوا بسائط أشبونة، وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل).
وتطور مفهوم القرصنة عبر العصور إلى نوعين متمايزين، أولهما القرصنة القائمة على السلب والنهب (2) والقرصنة التي تعتبر نوعا من
= طوال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وروع المدن الأوروبية كلها. وأغار مرات على المدن الأندلسية الإسلامية.
(1)
فتح الطيب - المقري التلمساني - دار صادر بيروت 1/ 345 - 346.
(2)
ويطلق الإفرنسيون على هؤلاء اسم PIRATERIE .
الحروب البحرية - الدفاعية - وهدفها ضرب اقتصاديات العدو (1) وقد شهدت الحروب الصليبية في المشرق النوعين معا. وكثيرا ما دعمت الدول (وبصورة خاصة إنكلترا) النوعين معا، حيث مضى البحارة الإنكليز - في عهد (الملكة إليزابيت)(2) لممارسة كافة أنواع القرصنة. ويذكر أن السبب في ذلك يعود إلى ركود التجارة الإنكليزية، وإصابة الأسطول بحالة من العطالة، بالإضافة إلى وجود آلاف البحارة بدون عمل. في حين كانت السفن الإسبانية تسير مثقلة بالثروات والكنوز وهي تمخر عباب البحر.
وسرعان ما راجت أعمال القراصنة الإنكليز لا في البحر وحده، وإنما بالهجوم على المدن الساحلية الإسبانية - وبصورة خاصة على سواحل أمريكا الإسبانية، واشتهر بصورة خاصة القرصان (فرنسيس دريك) الذي قام بجولة حول العالم. وعندما عاد إلى إنكلترا محملا بالغنائم، طالب السفير الإسباني بمعاقبته، وكان رد الملكة إليزابيت أن قامت بزيارة دريك على سطح سفينته (الكلب الذهبي) ومنحته لقب فارس.
وارتبطت بعد ذلك أعمال القرصنة بتجارة الرقيق نتيجة تعاظم الحاجة للقدرة البشرية (بسبب اكتشا ف أمريكا). وهيمنت إسبانيا على القرصنة وتجارة الرقيق فلم تسمح لإنكلترا بإرسال أكثر من سفينة واحدة في العام إلى أمريكا، وعندما اندلعت حرب الوراثة الإسبانية
(1) ويتميز هؤلاء بما يطلق عليهم اسم COURSE .
(2)
الملكة إليزابيت: (1 ELISABETH) ملكة إنكلترا ومن مواليد غرينويتش. (1533 - 1603 م) وهي ابنة هنري الثامن. اشتهرت بحزمها ودعمها للبروتستانتية. وبدعمها للأدباء والفنانين والتجارة والاستعمار. لم تتزوج، وبها انتهى فرع تيودور TUDORS.
(1712 - 1714) انصرف هم إنكلترا إلى السيطرة على ما وراء البحار، وجردت فرنسا من ممتلكاتها، ودمرت ونهبت الأسطول الإسباني في مرات متتالية. وعندما انتهى الصراع بمعاهدة (أوتريخت - و - راستات) تضمنت المعاهدة فقرة خاصة (بمنح إنكلترا امتيازا لمدة ثلاثين سنة باحتكار تجارة الرقيق بين إسبانيا وأمريكا).
قد يكون من التجني على الملكة الإنكليزية (إليزابيت) اتهامها بأنها أول من شجع تجارة الرقيق ذلك أن هذه التجارة قديمة قدم التاريخ. غير أن مجالها كان محصورا في أفق الحروب، فللمنتصر المجد وأكاليل الغار وللمهزوم الذل والعبودية والرق. ومن هنا نشأت أسواق النخاسة.
وجاء الإسلام فلم يحرم الرق، وإنما أفسح المجال لإعتاق الأرقاء، ومنحهم حرياتهم ومساواتهم بالمعاملة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من سن القدوة فأعتق عبيده. وكان المسلمون في فتوحاتهم يتجنبون الحصول على الأرقاء، ويفادونهم، غير أن الحروب الصليبية، وما لقيه المسلمون فيها على كل الجبهات، دفعتهم إلى المعاملة بالمثل؛ (فكان عدد الأسرى الأرقاء من الفرنج في القاهرة - أيام الملك العادل - يزيد على عدد جيش الإفرنح في الشام).
وعندما انتهت الحروب الصليبية في الشرق، شهدت تجارة الرقيق نوعا من الجمود حتى بعثها من جديد ملوك الغرب الذين شجعوا استرقاق المسلمين، كوسيلة من جملة وسائل الحرب الصليبية الشاملة. ويذكر هنا ما أقدم عليه الملك (شارل الخامس) أو (شارلكان) الذي أقام جماعة أوروبية في جزيرة مالطا جلهم من الإفرنسيين المتعصبين للديانة المسيحية (وهم فرسان سان جاك الذين
عرفوا فيما بعد باسم فرسان مالطا. وكانوا من قبل في جزيرة رودس قبل أن يحتلها الأتراك سنة 1522)؛ وكلفهم بمطاردة المسلمين أينما وجدوا في البر والبحر وبيعهم إلى الأوروبيين.
وفي الوقت ذاته، انطلقت البرتغال في تشجيع تجارة الرقيق. وبدأت منذ سنة 1013 م بشراء العبيد واقتناص الزنوج من افريقية المسلمة ونقلهم إلى المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد، وإلى المستعمرات الإسبانية. وتقدم عدد من تجار الرقيق إلى الكاهن (خمينيس) للحصول على رخصة تحلل تجارة الرقيق، بحجة تعمير جزر الأنتيل التي أباد الاستعمار الإسباني سكانها الأصليين. غير أن الكنيسة عارضت اقتناص الأحرار ثم بيعهم عبيدا. ولكن تأثير الكنيسة بقي معدوما فيما يتعارض مع أمور الدنيا، فمضى المغامرون الأوروبيون في استثمار هذه التجارة الرابحة.
وفي سنة 1517، منح ملك الغرب (شارلكان) رخصة احتكار تجارة الرقيق إلى (بريزا) الذي نقل خلال فترة وجيزة أكثر من (4) آلاف عبد افريقي إلى العالم الجديد، ودرت هذه التجارة ربحا خياليا سمع به عدد من التجار الأوروبيين الذين طلبوا من حكوماتهم رخصا مماثلة لمباشرة هذه الحرفة. وأدنت فرنسا في عهد لويس الثالث عشر (1601 - 1643 م) بممارسة هذه التجارة. وتبعتها بقية الدول الأوروبية، فنشطت بذلك تجارة الرقيق التي أصبحت شرعية وشائعة لدى الدول الأوروبية، وهي منظمة بمراسيم حكومية وقوانين معروفة.
ونظرا لما كانت القرصنة تدره من أرباح، فقد حول التجار الأوروبيون كل من وقع في قبضتهم من سكان افريقية الزنجية أو
افريقية البيضاء إلى عبيد. وأدت هذه الحرفة إلى نقل ما يقرب من ثلاثين مليون افريقي إلى العالم الجديد، وتسخيرهم في الأعمال الشاقة. إذ على أكتاف الأفارقة قام التطور الإقتصادي لأمريكا الشمالية، وعمرت أمريكا الوسطى والجنوبية. وبالأسارى المسلمين، كانت تشق بعض السفن المسيحية عباب البحر. ويعترف الأب دان في مفاوضاته مع الباشا بأن عددا كبيرا من الأسارى الجزائريين مسجونين في فرنسا منهم (68) تركيا في مرسيليا وحدها.
ولم يكن المسلمون في المغرب الإسلامي بمعزل عما كانت تدره النخاسة على تجارة الأوروبيين. لذلك وجهوا اقتصاد مدينة الجزائر نحو تجارة الرقيق - والعبيد المسيحيين بصورة خاصة - إلا أن الجزائر لم تكن لها مستعمرات تصرف فيها هؤلاء العبيد، فاحتفظت بهم رهائن في البلاد حتى تبادلهم بالنقود مع حكوماتهم، أو حتى تبادلهم مع الأسرى الجزائريين الذين هم في قبضة المسيحين، كما حدث بين الجزائر وفرنسا سنة (1692 م) حيث حررت الجزائر ثلاثين عبدا فرنسيا مقابل تحرير فرنسا ثمانية أتراك، وكما حدث بين الجزائر وإسبانيا سنة (1770 م) وبين دول أوروبية أخرى.
ثم أخذت تنتشر في أوروبا مع نهاية القرن الثامن عشر، فكرة تحرير العبيد وتحريم النخاسة، وذلك لأن الزراعة والصناعة في أوروبا ومستعمراتها بلغت في حينها مرحلة من التقدم التي لم تعد هناك معها حاجة للقدرة البشرية. وبالإضافة إلى ذلك فقد نشبت مخاوف من أن يؤدي تكاثر العبيد الأفارقة في العالم الجديد إلى تغلب العرق الأفريقي على العرق الأوروبي، مما قد يؤدي بالتالي إلى استيلاء الأفارقة على العالم الجديد وطرد الأوروبيين منه وضياع المستعمرات؛ وهي المناطق
الغنية التي وجدت فيها الدول الأوروبية مناخا ملائما لتفريغ شحناتها من (التفجر السكاني). وجمع الأموال الطائلة لبناء اقتصادها.
وهكذا، ومنذ سنة (1780 م) بدأ الصراع بين أنصار مبدأ جواز استغلال الإنسان للإنسان، وعلى رأسهم تجار الرقيق والإقطاعيين، وبين أصحاب فكرة حرية الإنسان، ومن هذا الصراع تغذت الثورة الإفرنسية التي رفعت شعار (حقوق الإنسان)، ثم أصدرت بريطانيا في سنة 1784 (قانون حماية العبيد)(1) الذي حددت فيه مستقبل العبيد في العالم. فاشتد بذلك تخوف الشركات البريطانية ومن أهمها شركة (ليفربول) وشركة (بريستول) اللتان كانتا تجنيان أرباحا خيالية من النخاسة، إذ كان دخلهما السنوي لا يقل عن مليون وأربعمائة ألف جنيه إسترليني. وكان دخل الخزينة البريطانية السنوي من الرسوم على النخاسة يقرب من (256) ألف جنيه إسترليني. وهكذا أخذت مصلحة الشركات والخزينة تتصارع مع فكرة تحريم تجارة الرقيق. وفي النهاية وافق مجلسي العموم واللوردات (في سنة 1794) على مشروع يتضمن تحريم بيع العبيد من طرف البريطانيين وأتباعهم للأجانب. ثم استمرت المحاولات للوصول إلى تحريم عام، إلى أن جاءت سنة 1808 حيث قرر البرلمان البريطاني في أول كانون الثاني (يناير) من السنة المذكورة، بداية التحريم النهائي والشامل للنخاسة. وشرعت قوانين العقوبات لمن يتعاطى هذه الحرفة ابتداء من سنة 1811.كما طلب البرلمان الإنكليزي من ملك بريطانيا أن يشرع في إجراء اتصالات ومفاوضات بين بريطانيا
(1) قانون حماية العبيد:
LA LOI DE LA CONSOLIDATION DES ESCLAVES
والدول العظمى لتعميم تحريم بيع الرقيق.
وفي شهر أيار - مايو - من سنة 1814 بدأت هذه الاتصالات والمشاورات لتحريم تجارة الرقيق واحترام حقوق الإنسان المقدسة وقمع القرصنة وفرض عقوبات على الدول التي تتعاطاها. وفي 16 كانون الثاني - يناير - من سنة 1815، عقدت ثمانية دول عظمى هي بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا والنمسا والسويد وبروسيا والدانمرك مؤتمرا بباريس للنظر في هذه المشكلة. وانبثقت عن المؤتمر لجنة خاصة للعمل على إيقاف - النخاسة - إما عاجلا أو آجلا. وفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان. وبذلك بادرت كل من هولندا وإسبانيا والبرتغال إلى تحريم تجارة العبيد سنة 1810 م. ثم حرمت فرنسا النخاسة سنة 1819 م. أما الدانمرك فكانت سباقة إلى ذلك حيث قررت منذ سنة 4 179 م تحريم تجارة العبيد. وأمهلته سكانها من المزارعين في المستعمرات عشر سنوات لتهيئة أنفسهم إلى تطبيق القانون الذي بدأ العمل به في أول كانون الثاني - يناير - سنة 1804. ثم تلتها السويد سنة 1813 م.
وبعد مؤتمر تحريم النخاسة بعثت أوروبا قائدا من فرنسا وآخر من بريطانيا لإطلاع داي الجزائر على رغبة أوروبا في أن تتوقف الجزائر عن حرفة القرصنة، وأن توافق على قوانين تحرير العبيد وتحريم النخاسة. واستقبل داي الجزائر - وديوانه - هذين المبعوثين بسخرية، لأن القرصنة كانت المورد الرئيسي للإقتصاد الجزائري، ولأن الجزائر لم تدع إلى المشاركة في تلك المؤثمرات. وكانت مصالحها تتناقض تماما والمصالح الأوروبية، لذلك رفضت المعاهدة الأوروبية، وظلت
تمارس أعمال القرصنة إلى أن احتلت فرنسا الجزائر (1).
يظهر من خلال ذلك. وكما كتب مؤرخ أجنبي: (بأن القرصنة لم تكن في غرب البحر المتوسط بالشيء الجديد، فمنذ قرون عديدة، كان المسلمون، وكان المسيحيون يقومون بأعمال القرصنة في البحر، ولا يحق لنا أن نغالط التاريخ. فإن القراصنة المسيحيين كان عددهم كبيرا جدا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بهذا البحر المتوسط، ثم خفت وطأة القرصنة المسيحية بعد ذلك - بسبب نقل أفق عملها إلى المحيط الأطلسي بعد اكتشاف أمريكا - لكن القرصنة الإسلامية ازدادت ضراوة في الشمال الافريقي بعد إبعاد مسلمي إسبانيا واضطرارهم الالتجاء إلى هذا الشمال (2)).
الأمر الجدير بالملاحظة هو ذلك الإجماع - لدى المسلمين وأعدائهم - على أن القرصنة كانت بالنسبة للمسلمين نوعا من الجهاد في سبيل الله، مسرحه البحر. وقد شهد هذا الجهاد تطورا مع نهاية القرن الخامس عشر. ذلك أنه لما سقطت القسطنطينية في قبضة الأتراك العثمانيين (سنة 1403) واشتد ساعد البحرية التركية في البحر الأبيض المتوسط، زاد نشاط المغامرين المسلمين في البحر، وكان سقوط غرناطة آخر القواعد الأندلسية في يد الإسبان (في سنة 1492 م). مع ما تبع ذلك من اضطهاد الإسبان لبقايا الأمة الأندلسية المغلوبة إيذانا بتطور المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والمغاربة
(1) مدينة الجزائر - نشأتها وتطورها - علي عبد القادر حليمي. الطبعة الاولى - 1972 ص 290 - 294.
(2)
الأستاذ. ف. أبروديل - المجلة الافريقية 1928 وعنها أخذ الأستاذ أحمد توفيق المدني - حرب الثلاثمائة سنة. ص 75
.
(الموريسكيين) المنفيين إلى ميدانها، واتخاذها صورة الجهاد والانتقام القومي والديني لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق.
وبدأت هذه الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية منذ أوائل القرن السادس عشر - عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم المسلمين على التنصر؛ ففي ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من المسلمين المجاهدين الذين آنفوا الذلة والاضطهاد. وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، واستقروا في بعض القواعد الساحلية، مثل (وهران والجزائر وبجاية) ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد في سبيل الله والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم وظلموا أمتهم. وكان البحر يهييء لهم هذه القرصنة التي لم تهيئها الحرب البرية.
وكانت شواطىء المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها، وخلجانها الكثيرة التي تحميها الصخور العالية أصلح ملاذ لمشاريع أولئك البحارة المجاهدين والقراصنة المغيرين، وكانت مياه الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع. وكانت غاراتهم على الشواطىء الإسبانية ولا سيما في المياه الجنوبية تتجدد بلا انقطاع، وتنجح في معظم الأحيان في تحقيق غاياتها، وكان حكام الثغور الغربية من تونس إلى وهران يشجعون هذه الإغارات، ويسمحون للمجاهدين بالرسو والتموين في ثغورهم. ولقد ظهر في هذا الوقت بالذات عنصر جديد أذكى موجة الغارات البحرية في هذه المياه: ذلك أن البحارة الأتراك أخذوا يندفعون نحو غرب البحر الأبيض المتوسط، وبرز منهم على الأخص الأخوان الشهيدان (عروج وخير الدين) المعروفان في الرواية الأوروبية (بارباروسا - أصحاب اللحى الشقراء).
إن الإسبان الذين قضوا على آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس، سولت لهم أنفسهم أنهم باستيلائهم على المغرب الإسلامي سيتمكنون من إعادته إلى النصرانية كسابق عهده على ما يزعمون.
في تلك الفترة، أنجز الأتراك العثمانيون أعظم انتصاراتهم على مسرح أوروبا ووصلت قواتهم إلى مصر. وكان من الصعب عليهم وهم يرفعون راية الإسلام، ويجاهدون لإعلائها، تجاهل تلك الأنات والزفرات التي أطلقها شهداء العدوان بالأندلس وفي المغرب الإسلامي. ومن هنا فقد جاء الدعم الإسلامي من قبل الأتراك العثمانيين بهدف دعم أبناء الغرب الإسلامي للتصدي لهذه الموجة الصليبية الجديدة. وكان الفضل في ذلك يعود للأخوين عروج وخير الدين. وقد لا يكون هناك ثمة مبالغة إذا قيل بأن المسلمين خاضوا ضد الصليبيين حربا لا هوادة فيها اشتملت هذه الحرب على معركتين حاسمتين:
المعركة الأولى: كانت في المشرق العربي - الإسلامي - من مصر إلى العراق بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
المعركة الثانية: وكانت في المغرب العربي - الإسلامي - من تونس إلى أقصى المغرب بقيادة الأخوين عروج وخير الدين (أصحاب اللحى الشقراء)(1).
(1) المرجع الرئيسي هنا هو: تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول ص 70 - 77 - فصل (دور الأساطيل الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط).