المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الموقف على جبهة المغرب الإسلامي - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأولمقدمات الحرب وظروفها

- ‌ ذوي اللحى الشقراء

- ‌ الموقف على جبهة المسلمينفي المشرق

- ‌ الموقف على جبهة الأندلس

- ‌ الموقف على جبهة المغرب الإسلامي

- ‌أ - أعداء الداخل (في تنس)

- ‌ب - وهران بعد المرسى الكبير:

- ‌ج - احتلال بجاية:

- ‌د - أعداء الداخل للمرة الثانية:

- ‌ الجهاد في البحر والقرصنة

- ‌الفصل الثانيخير الدين (بربروسا)

- ‌ سنوات الصراع المرير

- ‌أ - من جيجل إلى الجزائر

- ‌ب - الصراع في تلمسان واستشهاد عروج

- ‌ خير الدين على طريق الجهاد

- ‌أ - بناء الجزائر والجهاد في البحر

- ‌ب - خير الدين - أميرا عاما للأسطول العثماني

- ‌ج - أعداء الداخل في غياب (خير الدين)

- ‌د - شارلكان وغزو الجزائر

- ‌هـ - الصفحة الأخيرة في حياة (خير الدين)

- ‌و- خير الدين وموقعه في فن الحرب

- ‌قراءات

- ‌ 1 -تجربة استعمارية(معاهدات إسبانية)

- ‌ 2 -في أدب الحرب(الشعر في الحض على القتال والجهاد)

- ‌ 3 -عروج في الخالدين

- ‌ 4 -معاهدة ملك تلمسانمع الإمبراطورية الإسبانية

- ‌ 5 -رسالة السلطان سليمانالقانوني إلى ملك فرنسا

- ‌ 6 -شارلكان - وبربروس

- ‌مراجع البحث الرئيسية

- ‌فهرست الكتاب

الفصل: ‌ الموقف على جبهة المغرب الإسلامي

4 -

‌ الموقف على جبهة المغرب الإسلامي

تعرض المغرب الإسلامي لمجموعة من المتحولات، منذ الأيام الأولى للفتح. وإذا كانت الموجة الأولى للفتح قد وحدت بين مراكز القرى المختلفة، إلا أن انهيار الحكم الأموي، وقيام الحكم العباسي، ثم قيام الحكم الأموي في الأندلس، قد أدى إلى نوع من التمزق المؤقت الذي لم يلبث أن تمخض عن حركات إصلاحية دينية كرد على الدعوات التي أفرزتها حركة الفاطميين التي ترعرعت في المغرب الإسلامي قبل أن تنتقل إلى مصر. ولعل أفضل تعبير لتلك الحركات الإصلاحية هي ظهور المرابطين ثم الموحدين (أبناء عبد المؤمن).

ولم يكن ظهور هذه الحركات وتطورها سلميا، وإنما رافقها عنف دموي لم يلبث أن ترك رواسب عميقة كان لا بد لها من أن تتفاعل لتأخذ أبعادها في التأثير على مستقبل المغرب الإسلامي.

إذ ما كادت دولة الموحدين تضعف حتى ظهر نوع من استقلال مراكز القوى الناجم عن ضعف المركزية. فكان من أبرز مراكز القوى:

ص: 53

1 -

دولة بني حفص (الحفصيون) والذين جعلوا من تونس قاعدة لهم، فكانت حدود دولتهم تمتد من طرابلس حتى شرقي الجزائر - في المفهوم الحالي للحدود.

2 -

دولة بني زيان (الزيانيون) وقد جعلوا من وسط الجزائر وغربها مقرا لهم وقاعدة لكيانهم.

3 -

دولة بني مرين (المرينيون) وقد جعلوا من المغرب الأقصى قاعدة لهم ومستقرا.

وقد بقيت هذه الكيانات قوية، صلبة، حتى إذا ما استنزفت قدراتها في الحروب الداخلية والحروب الخارجية، وصلت إلى مرحلة من الانهيار المريع الذي فتح المجال أمام مزيد من التمزق، حتى أصبحت كل مدينة وكل منطقة مستقلة بأمورها. وانعكس ذلك على زعماء هذه الكيانات والدول فلم يبق لهم من السلطة إلا اسمها. وأمام هذا الموقف - وكما يحدث عادة في كل التجارب التاريخية - أصبحت الأقلية الحاكمة - الأوليغاركية - على استعداد للتعاون مع أي سلطة أو قوة داخلية أو خارجية للمحافظة على وجودها، فكان في ذلك القضاء النهائي على هذا الوجود.

لقد تمت هذه التحولات بصورة بطيئة وتدريجية، على الرغم من ظهورها المباغت كتحولات عنيفة في بعض الأحيان. ويتطلب ذلك التوقف قليلا عند بعض ظواهر هذه التحولات.

عندما انهار حكم الموحدين حاول بنو مرين (في المغراب) السيطرة على المغرب الإسلامي بكامله، فاصطدموا بقوة الحفصين (في تونس) والذين كانوا يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين للموحدين وأدى ذلك إلى صدامات دامية لم تحقق الهدف المنشود في توحيد المغرب

ص: 54

الإسلامي ، وإنما أدت إلى نتيجة مضادة تماما هي استنزاف قدرة الدولتين وإضعافهما معا. وخلال هذا الصراع المرير كان على الزيانيين (في الجزائر) دفع ثمن هذا التمزق عن طريق التناوب في الخضوع لهؤلاء وأولئك تبعا لارتفاع موازين القوى وانخفاضها. وانعكس ذلك بصورة خاصة على بني مرين (1196 - 1428م) الذين كانوا أفضل سند للأندلس الإسلامية. فانهار بذلك أقوى دعم للأندلسيين، وانتهى الأمر ببني مرين إلى زوال سلطتهم وظهور فرع منهم اقتصرت سلطتهم على (مدينة سلا) ومنطقتها (هم بني وطاس).

وكان ذلك هو الموقف يوم هاجت القوات الإسبانية مدينة تطوان (سنة 1400 م) فأخذتها ودمرتها، وأبادت نصف سكانها وساقت الباقين من رجالها ونسائها سبايا وأسرى إلى إسبانيا. في حين كان ملك المغرب (أبو سعيد عثمان المريني) يحارب مملكة بني زيان بتلمسان من أجل إخضاعها. فاحتل تلمسان وطرد ملكها (أبا زيان) ونصب مكانه (أبا محمد عبد الله). وتكرر هذا الموقف ذاته (سنة 1410) عندما قاد ملك البرتغال جيشه بنفسه فاحتل مدينة (سبتة) عندما كان (أبو سعيد عثمان أيضا) يحارب (أبا حسون) من أجل تلمسان ذاتها من جديد.

وأدى ذلك إلى الوضع الذي وصفه مؤرخ فرنسي بقوله: (وإن العائلات المالكة الحفصية والزيانية والمرينية، والتي كانت قبل ذلك تلمع لمعانا منيرا، قد انغمست في حروب طويلة مزمنة، وروت أرض هذه البلاد - المغرب العربي الإسلامي. بالدماء، ثم سقطت في مهاوي الانحطاط. فطوال قرن كامل لم يبق لأمراء هذه العائلات

ص: 55

المالكة من السلطة إلا اسمها. وكان الملوك لا يفكرون إلا في إحباط المؤامرات والفتن التي يثيرها ضدهم أفراد من عائلاتهم من أجل الاستيلاء على العرش، أو في إخماد الثورات التي تقوم بها قبائل سئمت حكم العجز والطغيان. ولقد ضربت الفوضى أطنابها في كل مكان. فكان الولايات القسنطينية، وسكان مدينة الجزائر، وأهل الشرق الوهراني، لم يبقوا معترفين بسلطة أحد عليهم. أما بالمغرب الأقصى، فإن أمراء عائلة بني مرين، قد اقتطع كل واحد منهم لنفسه إمارة صغيرة لم يكن في وسعه الدفاع عنا ضد مطامع جيرانه. فهذه الفوضى قد سهلت بصفة غريبة مهمة البرتغاليين والإسبانيين سواء في احتلال البلاد، أو في توسع منطقة نفوذهم فيها) (1).

ويذكر مؤرخ آخر: (أن جاسوسا من الجواسيس الذين أرسل بهم - فرديناند - إلى بلاد المغرب العربي، قد أرسل إلى ملكه تقريرا مفصلا جاء فيه: إن كامل بلاد شمال افريقيا تجتاز فترة من الانهيار النفسي، ويظهر معها أن الله قد أراد أن يجعل هذه البلاد ملكا لصاحبي الجلالة المسيحية).

ثم يقول: (في نهاية القرن الخامس عشر كانت الفوضى السياسية والاضطرابات، وتداخل الممالك بعضها ببعض، قد بلغت في الشمال الافريقي مبلغا لا يمكن تلخيصه في صفحات. ويصاب الإنسان بنوع من الذهول وهو يتلو قائمة الممالك والإمارات التي اقتسمت رقعة هذا الشمال الأفريقي. وكانت - وهران - تبدو وهي تحت السلطة الإسمية لبني زيان في صورة جمهورية تجارية حقيقية

(1) حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا - أحمد توفيق المدني - ص 67 - 71.

ص: 56

مستقلة، أما مدينة بجاية فقد كانت في الفترة ذاتها تكتسب ثروة طائلة وبصفة مستقلة، من التجارة الواسعة التي كانت تتعاطاها مع البلاد الإيطالية ومن القرصنة. وكانت مملكة تلمسان تشمل بصفة غير محددة الغرب الجزائري، الحالي. وكان رجال الدولة قد تحرروا من السلطة المركزية، فكان أدعياء الملك لا يجدون صعوبة في جمع الأنصار لمحاربة السلطان القائم. وكان الأبناء يثورون ويخلعون آباءهم. كما كان الأبناء يحاربون بعضهم بعضا لاقتسام ملك أبيهم. وكانت هذه الفوضى ذاتها موجودة بالبلاد التونسية حيث آل أمر بني حفص إلى العجز التام، فكان الملك لا يملك حق التصرف، ولا في نفس العاصمة تونس، حيث كان يحتمي بحرس من المرتزقة المسيحيين. وكان جبل الرصاص على مقربة من مدينة تونس خارجا عن طاعة السلطة المركزية، بينما كانت أكثر القبائل التونسية مستقلة فعلا.

على الرغم من ذلك، فقد خشي - فرديناند - أن يؤدي طرد ملك غرناطة - أبي عبد الله - إلى المغرب إلى رد فعل عنيف من جانب دول المغرب الإسلامي، غير أن الراهب (خمينيس) تمكن من إقناعه بأن لا خطر البتة من وراء إرسال ملك غرناطة إلى المغرب لأن حالة الخلاف والشقاق المستحكمة هناك لن تسمح لأهلها بالإقدام على مثل هذا العمل. واتقاء لخطر اتحاد إسلامي موسع في أفريقيا ضد الصليبية الإسبانية فقد أرسل الملك - فرديناندو - في العام 1501، وبعد سقوط غرناطة بسنوات، وفدا إلى مدينة القاهرة عاصمة دولة المماليك - يرأسه بطرس ماريتر دانغريرا - من أجل عقد معاهدة صداقة وحسن تعامل بين الإسبان ودولة المماليك التي كان يترأسها يومئذ قانصوه الغوري. وتم له ذلك.

ص: 57

وأثارت مشكلة السباق بين البرتغال وإسبانيا لاحتلال المغرب الإسلامي صراعا بين الدولتين كاد يؤدي إلى الحرب فيما بينهما. غير أن البابا تدخل في الأمر من أجل اقتسام النفوذ في العالم (وفقا لمعاهدة تورد - سيلاس - سنة 1495). وأعقب ذلك الاتفاق على اقتسام المغرب العربي - الإسلامي (وفقا لمعاهدة فيلافرنكا - 1509) والتي نصت على منح المغرب الأقصى للبرتغال مقابل حصول إسبانيا على المغرب الأوسط (الجزائر).

وهكذا ومع بداية القرن السادس عشر، كانت دولة البرتغال تملك في المغرب الأقصى مدن (سبتة وطنجة وأصيلا وأزمور والصويرة وأسفي مع كامل مقاطعة دكالة الممتدة بين مصب نهري أم الربيعة وتنسيفت على المحيط الأطلسي).

أما الإسبان فقد ملكوا بالبلاد المغربية (صخرة باديس - فاليس - ومدينة مليلة)، وانطلق الإسبانيون لتطوير الحرب الصليبية ضد الجزائر.

ولقد تطلب الإعداد لهذه الحملة الصليبية الجديدة إعدادا طويلا، وإمكانات كبيرة، بدأها البابا في روما الذي عمل على وضع كل الإمكانات البشرية والمادية تحت تصرف الملوك الإسبان من أجل إبعاد المسلمين عن بلاد الأندلس أولا، ومن أجل إخضاع بلاد الشمال الأفريقي للحكم المسيحي وللدين المسيحي ثانيا. ومن أجل ذلك، أصدر البابا أمره السامي لكل المسيحيين بأن يستمروا في دفع الضريبة الصليبية (كروزادا) لملوك إسبانيا من أجل الحرب الافريقية. وجمع القساوسة والرهبان أموالا ضخمة من أجل ذلك. بل إنهم باعوا ذخائر الكنائس وكنوزها الثمينة لكي يزودوا الجيوش المسيحية بالمال والعتاد.

ص: 58

وعندما توفيت الملكة (إيزابيللا) تركت وصية (طلبت فيها لمن يتولون الملك بعدها بأن يحققوا الأمنية الغالية على قلبها، والتي كانت تود ولو أنها قد حققتها بنفسها لو طال بها الأجل، ألا وهي فتح افريقيا وعدم الكف عن القتال في سبيل الدين ضد الكفار - الذين هم المسلمون؟).

وعندما جهزت إسبانيا تحت ضغط الكنيسة واستفزازات الراهب (خمينيس) جيشها وأسطولها لغزو المغرب العربي - الإسلامي، بادر البابا بنشر قرار يعطي به الولاية لملكي إسبانيا على كامل الأرض التي يفتحانها بهذا المغرب. وكان نفس البابا (اسكندر السادس - بورجيا الشهير)(1) قد أصدر سنة 1494، عهدا يبارك به الصليبية الإسبانية بأفريقية.

لم تحدث عمليات الاحتلال، رغم كل التمزق والتشتت، ورغم الإطار العام الذي أحاط عملية الغزو، لم تحدث بدون مقاومة باسلة من قبل الشعب المسلم في المغرب وقد يكون من الأفضل استقراء بعض ملامح الصراع خلال هذه المرحلة لأنها توضح أسباب التطورات في المرحلة التالية.

عندما أتم فرديناند ملك إسبانيا تجهيز الحملة، وهي الحملة التي مول أسطولها الكاردينال الوزير - خمينيس - بأمواله الخاصة وبما قدمته له الكنيسة من الأموال، توجه الأسطول للغزو، فغادر مالقة يوم

(1) اسكندر الرابع - بورجيا: (ALEXANDRE VI BORGIA) من مواليد جاتيفا JATIVA في إسبانيا في سنة 1431، أصبح (بابا) من سنة 1492 حتى سنة 1503 م وقد مارس دورا سياسيا كبيرا حتى أطلق عليه أنه أمير أكثر منه بابا أو رجل دين - اشتهر بقسوته في تنظيم الحرب ضد المسلمين.

ص: 59

29 آب - أغسطس - 1505، تحت قيادة (دون رايموند دي قرطبة) وكان الأسطول ينقل معه قوة من (5) آلاف رجل (بقيادة دون ديتوفر فرنانديز دي قرطبة). ووصل هذا الأسطول إلى المرسى الكبير يوم 11 - أيلول - سبتمبر - وأحكم الحصار على المدينة لمدة خمسين يوما، وكانت الاشتباكات خلال هذه الفترة مستمرة. وكانت السفن الإسبانية تضع على مقدماتها أكياس الصوف حتى لا تصيبها قذائف المسلمين. وقد تبادلت منذ اقترابها من الساحل طلقات المدفعية النارية. غير أن دوي تلك الطلقات كان أكبر من مفعولها. وعندما بدأ الإسبانيون عملية الإنزال، قاومهم المسلمون مقاومة يائسة عنيفة، وأظهروا شجاعة كبيرة وحماسة ضارية، غير أن المدفعية الإسبانية أرغمتهم على ترك مواقعهم والانسحاب إلى الداخل. ورافقت عملية الإنزال عاصفة قوية وأمطار غزيرة، لكن ذلك لم يضعف المقاومة التي استمرت تجاهد صابرة حتى منتصف الليل، ثم استؤنفت المعركة من الغد، وكان يوم جمعة، واستمرت عنيفة قاسية طوال النهار. ثم ازدادت شدة وعنفا عندما جاء المجاهدون من الداخل، بعدما بلغهم نبأ نزول الإسبان في حمية جنونية، بينما كانت مدفعية الحصون الإسلامية ترمي الأسطول الإسبانى بقذائف من الحجارة تزن أربعين رطلا. واستمرت المعركة إلى الليل رغم استشهاد قائد الموقع الذي أصابته قذيفة مدفع إسباني. وأثناء الليل تشاور المسلمون فيما بينهم - في اجتماع عقدوه في دار المزوار - وكانت الأغلبية تميل إلى متابعة الجهاد في حين كانت الأقلية ترغب في الاستسلام وحجتها، أنه من المحال على الحامية التي لا تزيد في الأصل عن خمسمائة مجاهد التغلب على قوة خمسة آلاف مقاتل إسباني. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتصار الإسبان يعني استباحة المدينة وأهلها. وفي النهاية انتصر المعتدلون

ص: 60

وتقرر مفاوضة القائد الإسباني على شروط التسليم. ولم تفلح حماسة الشاب المجاهد (موسى بن علي) بإثارة مشاعر الناس وحضهم على متابعة القتال.

وافق القائد الإسباني على انسحاب المسلمين من المدينة، وحدد لهم فترة ثلاث ساعات من أجل الجلاء عن المدينة وبقية الحصون، واشترط عليهم أن لا يأخذوا معهم أي شيء من الزاد والمؤن، ولا من حيوانات الجر، ولا من الأسلحة. وأخلى المسلمون أول الأمر النساء، ثم تبعهم الرجال، وعندما تم انسحاب المسلمين في الفترة المحددة من التاسعة صباحا إلى الظهر، اقتحم الإبان المدينة، ورفعوا فوقها أعلامهم. وتوجه المركيز القائد الأعلى إلى مسجد المدينة الأعظم، فأمر بتحويله إلى كنيسة للنصارى فورا. وكرسه وباركه وأطلق عليه اسم (كنيسة القديس ميكائيل). وأقيم به القداس صبيحة الأربعاء 15 تموز - يوليو.

وانصرف الإسبان على الفور لتحصين المدينة. وعندما وصل المجاهدرن وجيش تلمسان في صباح يوم السبت، وكان عددهم (22) ألفا من المشاة وألفين من الفرسان، كانت الحامية الإسبانية قد تمركزت بقوة في المدينة، وحاولت قوة من الفرسان اقتحام المدينة غير أن الحامية الإسبانية أحبطت هذه المحاولة التي وصفها أحد شهود المعركة بقوله:(لم أر في حياتي إطلاقا أبدع من هذه الفرقة المؤلفة من ثلاثمائة من الفرسان العرب التي كان يقودها - القائد ابن دالي - ولا أرهف سلاحا، سواء من حيث خيولها المطهمة البالغة منتهى الجمال، أو من حيث ذلك الجهاز الفاخر المطرز الذي كان يكسوها).

وما كاد خبر الاستيلاء على المرسى الكبير يصل إسبانيا، حتى

ص: 61

اجتاحتها موجة من الفرح والابتهاج، وأعلن فيها العيد لمدة أسبوع، وعملت الحامية الإسبانية (بالمرسى الكبير) على فتح سوق تجاري إلى جانب المدينة بهدف تأمين متطلبات الحامية من جهة، ولإقامة علاقات مع السكان من جهة أخرى. وأغدقت الحامية الذهب والفضة على المتعاونين معها من التجار. غير أن جماعة المسلمين اعتبرت أولئك المتعاونين خونة مارقين، وعاملتهم معاملة الأعداء. وأخذت توالي إغاراتها عليهم.

ثم أخذت القيادة الإسبانية في الإعداد للمرحلة الثانية من التوسع. ونظم قائد حامية المرسى الكبير (فرنانديز دي قرطبة) حملة بهدف الهجوم على (مسرغين) بإغارة مباغتة. وكانت هذه المدينة تبعد عن المرسى الكبير مسافة ثلاث مراحل. ويصل بينها طريق سهلي يمر من تحت حصون مدينة (وهران الإسلامية). وكان اتباع هذا الطريق خطرا لأن حامية وهران سترد الجيش الإسباني وستتصدى لمقاومته، ولهذا قرر اتباع الطرق الجبلية والأودية، وجند لقيادة الحملة أدلاء استأجرهم بالمال - من رجال قبيلة جيزة - التي كانت تنتشر حول المرسى الكبير ووهران، فاتخذ من بينهم أدلاء وحرسا من المرتزقين.

وغادرت هذه الحملة (المرسى الكبير) في يوم 6 حزيران (يونيو) وبدأت تحركها في الساعة (21) ليلا. وقد ضمت هذه الحملة القوة الإسبانية بكاملها تقريبا بحيث لم يترك في المرسى الكبير إلا العدد الضروري لحماية المدينة وأسوارها. ودخلت الحملة في الشعاب الجبلية خلف الأدلة وهي تسير بالرتل الأحادي - على الطريقة المعروفة بالسلك الهندي - وكانت المسيرة شاقة، زاد من متاعبها حرص أفراد الحملة على تجنب إثارة أي صخب أو ضجيج. ووصلت الحملة إلى هدفها مع

ص: 62

الفجر، وأحاطت بدوار العرب المسلمين. وباغتته بالهجوم من كل جهاته. وذهل العرب لأول وهلة، غير أنهم استعادوا بسرعة ثباتهم، وقابلوا الهجوم بمقاومة عنيفة، وقاتلوا بعناد وشراسة، غير أن القوات الإسبانية أفادت من عاملي المباغتة والمبادأة فدمرت المقاومة بسرعة، فاستشهد المجاهدون المسلمون وهم يحملون سلاحهم، وسيق بقية الرجال والنساء والأطفال إلى الأسر، واستخدم الإسبان كل ما وجدوه من الخيول وعربات الجر لحمل الغنائم، ونظموا سيرهم، وأخذوا يعبرون المسالك الجبلية على طريق العودة.

وأثناء ذلك كان بعض الرجال قد أفلتوا من المعركة وذهبوا لاستنفار القرى المجاورة. وأسرع المجاهدون (من الدواوير القريبة) لنجدة إخوانهم - الغرابة - وهم لا يبغون من الدنيا إلا إنقاذهم من الأسر والهوان، وليصونوا شرف النساء الحرائر من العربيات خوفا من أن يلحق بهن العار. ولم تمض إلا ساعة من نهار، حتى أحدق المجاهدون. بالقافلة الإسبانية التي كانت تدفع أمامها غنائمها وأسلابها وأسراها.

والتحمت بين الجانبين معركة قاسية عنيفة، وكان الضباب يغطي ميدان المعركة، فلم يتمكن الإسبان من استعمال أسلحتهم، ولم يتمكنوا من رؤية أعدائهم. وقد أدخلت صيحات العرب الوحشية الفزع والهلع إلى قلوبهم، فاختل نظامهم وفقدوا الأمل في

النجاه. وأثناء ذلك، كانت أنباء الإغارة الوحشية قد وصلت إلى مدينة (وهران). فبادر حاكم المدينة إلى دفع قواته لنجدة المجاهدين. ووصل الجيش إلى ميدان المعركة المتسع عبر الفجاج العميقة والشعاب الجبلية. فارتفعت أصوات التهليل والتكبير من كل جانب. واستبشر

ص: 63