الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
ذوي اللحى الشقراء
.
اجتاحت العالم العربي والإسلامي موجة من الحزن والأسى في يوم من أيام شهر أيار (مايو) سنة (952 هـ = 1547 م) لفقد علم من أعلام الجهاد، ولغياب سيف من سيوف الإسلام. وقوبلت هذه الموجة في الغراب بموجة مضادة، حيث عمت الفرحة وسارت البشائر في كل الأقاليم الأوروبية بزوال الكابوس المرعب الذي طالما أرق ملوكها وأمراءها، وطالما هدد تجارتها واسطولها، وطالما أغار على ثغورها ومدنها الساحلية وقراها. لقد توفي أشهر أصحاب (اللحى الحمراء) أو (الشقراء) وهو الذي أمضى حياته في البحر، مجاهدا في سبيل الله، صابرا محتسبا ، لم يطلب في حياته مجدا ولا مالا، ولم يعمل من أجل الجاه أو المنصب، ولو أنه حصل على المنصب دونما إرادة منه، وسعى إليه الجاه بدون أن يعمل هو من أجله. ومضى شيخ المجاهدين عن عمر يناهز الثمانين. لم يتبعه الجهاد، ولم تنل من عزيمته المحن والنوائب، ولم تصرفه عن مبتغاه الخطوب الجسام. لقد ابتلع البحر أعز أهله وأصدقائه، وقضى في الجهاد أحب إخوته إليه وأغلى ما في الدنيا لديه، فما في الحياة بعد ذلك ما يشده إليها غير الأمل في المضي قدما لرفع راية الجهاد التي سقط تحتها الأبرار الأطهار، ففي ذلك وفاء
لأرواحهم. لقد قضى هؤلاء دفاعا عن حرمة الدين التي انتهكت، فما في الدنيا أعز ولا أغلى من طلب إحدى الحسنيين الشهادة أو النصر.
وعلى هذا الطريق سار (ذوي اللحى الشقراء) مدافعين عن ثغور المسلمين خلال فترة تاريخية، تألبت فيها قوى الصليبية ضد المسلمين في الأندلس الإسلامية، فأخرجوهم من ديارهم، وشددوا عليهم الخناق، وعملوا فيهم تقتيلا وتشريدا وسبيا ونهبا حتى ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت. وظهر البطل المنقذ كما يبزغ الشهاب في السماء المظلمة. فمد يد العون لمن امتنع عليهم كل عون، وقدم المساعدة عندما عزت المساعدة على أحوج الناس إليها.
وخلال تلك الفترة التاريخية، انتقلت القوات الإسبانية للهجوم على المغرب العربي الإسلامي - تحت راية الصليبية - وتم لهذه القوى احتلال المدن الساحلية، وأعملوا فيها تدميرا للمساجد وانتهاكا للحرمات ونهبا للثروات والأموال. فمضى (أصحاب اللحى الشقراء) لتقديم ما يستطيعون من أجل دعم إخوانهم في الدين.
فسطروا بذلك أروع الملاحم وأعظم الانتصارات، وعرفت ميادين الجهاد في البر والبحر فضائلهم ومآثرهم، فكان في ذلك خلودهم الذي وقر في قلوب العرب والمسلمين، لا في المغرب الإسلامي فحسب، وإنما في كل دنيا العرب وسائر ديار المسلمين.
وذوي اللحى الفقراء، صفة أطلقها الإفرنج - الإفرنسيون - على تلك العائلة التي تزعم أفرادها عملية الجهاد في البحر (باربروس - برباروسا) ثم نقلت إلى العربية بحرفيتها، وبقيت سائرة حتى كادت تطغى على الأسماء الأصلية لمجموعة الإخوة المجاهدين. (1)
(1) باربروس، BARBEROUSSE، اسم اطلق على الأخوين عروج وخير الدين.
نشأ هؤلاء الأخوة في جزيرة (مدلي) من بحر الأرخبيل، لأب تركي اسمه (يعقوب بن يوسف) كان متزوجا من سيدة أندلسية ولدت له أربعة أبناء هم (اسحاق وعروج وخسرف ومحمد الياس). وقد حرص الأب عل تنشئة أبنائه نشأة إسلامية صلبة، وقد اختار الابن الأكبر طريق العلم والمعرفة فمضى في دراساته الإسلامية. في حين انصرف بقية الأخوة للجهاد، واختاروا البحر ميدانا لهم. فكان عروج (بضم العين والواو) هو الذي افتتح المجال أمام إخوته إذ أنه ركب البحر ولما يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلا. وأمكن له بعد فترة قصيرة أن يجهز مركبا خاصا به، تولى قيادته بنفسه غير أنه لم يبتعد كثيرا حتى أسره الأعداء في بحار الشرق، فعمل في المجاذيف والقيد في رجله مدة سنتين.
لكنه تمكن من الفرار، إذ ألقى بنفسه في البحر وهو على مقربة من سواحل مصر، ومنها ركب البحر عائدا إلى جزيرته (مدلي) حيث أبوه وإخوته. غير أنه كاد يسقط أسيرا من جديد، وكان على مقربة من سواحل قرمان التركية، فأكرمه كوركود ابن السلطان (بيازيد) الذي كان يتولى إمارة (قرمان) ورأى فيه جنديا بارزا ومقاتلا شجاعا، فجهز له سفينة قرصنة، وبعث به غازيا في بحار إيطاليا، حيث كانت الحرب ضد الإسلام والمسلمين على أشدها، فاقتنص سفينتين محملتين بالبضائع الثمينة كانتا تابعتين لدولة البابا. وأقتنص سفنا إيطالية أخرى، رجع بها إلى ميناء الإسكندرية بعد أن دفع الخمس من الغنائم لبيت مال المسلمين.
ثم ركب البحر من جديد على رأس أسيطيله الصغير (عمارة) بعد أن ضم إليه السفن التي غنمها ، وانضوى تحت لوائه جماعة من المجاهدين الأشداء. وعزم أن يلقي بثقله في غربي البحر الأبيض
المتوسط، وبجهة الأندلس موطن أمه بصفة خاصة. واختار جزيرة جربة قاعدة لنشاطه، وهناك انضم إليه أخوه خسرف، وقد أصبح مثله على رأس سفينة قرصنة حربية، وانطلقا من هناك إلى ناحية الأندلس، ينصران الإسلام، ونتقذان اللاجئين الأندلسيين إلى العدوة المغربية. ويمعنان في أساطيل النصارى تدميرا وأسرا. هنالك أطلق النصارى لقب (بربروس) على كل من الأخوين (عروج وخسرف).
وهنالك أيضا اقترح بعض الأندلسيين والمغاربة على (خسرف) أن يغير اسمه، وأطلقوا عليه منذ تلك الساعة اسم - خير الدين -.
كان (بنو حفص) يحكمون تونس وطرابلس والشرق الجزائري، وفي سنة (1510 م) تقريبا رأى السلطان الحفصي أبو عبد الله محمد أن يستعين بهذين البطلين لحماية الدين والدولة من إغارات النصارى وهجماتهم البحرية، وأن يجعل مما يدفعانه من خمس الغنائم موردا يدعم خزانة الدولة التي لم تكن مزدهرة، فاقطعهما مرفأ (حلق الوادي) يتخذان منه قاعدة لمحاربة من يحارب الإسلام.
خرج الأخوان (عروج وخير الدين) من قاعدتهما الجديدة ومعهما قوة ثلاث سفن صغيرة، وعندما أوغلا في البحر اصطدما بسفينة حربية كبيرة كانت تنقل من نابولي إلى برشلونة ثلاثمائة جندي إسباني. وكانت سفينة نابولي أقوى بحجمها وبنيران مدفعيتها من قوة مجموعة السفن الثلاث. وعلى الرغم من ذلك فقد قرر الأخوان (عروج وخير الدين) مهاجمتها انتقاما لما كان يرتكبه الإسبان من جرائم ضد المسلمين.
واندفعت السفن الثلاث الصغيرة في محاولة لأسر السفينة غير
أن هذه استطاعت الإفادة من قدرتها النارية الضخمة، فأحبطت محاولات السفن الإسلامية سبع مرات متتالية. وفي الهجوم الثامن، وبعد أن أصيب (عروج) بجرح بليغ، نجح خير الدين بالوصول إلى السفينة العادية وقذف بنفسه فوقها، ولحق به المجاهدون بسرعة، وأمكن لهم الاستيلاء على السفينة بعد معركة عنيفة وقاسية، وأسروا كل من فيها واقتادوها إلى مرسى (حلق الوادي) وهي تحمل رايتها.
واعترافا بجميل السلطان أبي عبد الله محمد، فقد ساق الأخوان (عروج وخير الدين) إليه في أبهة تفوق الوصف الهدايا الفاخرة مما غنماه، زيادة على الخمس الشرعي، وقد شملت الهدايا عددا من كبار وكبيرات الأسرى، واشتد إعجاب السلطان بهما وتقديره لهما. ومضى خير الدين يمارس نشاطه، حتى إذا ما شفي أخوه (عروج) من جراحه، انضم إليه وانطلقا للعمل معا (في سنة 1512 م).
تلك كانت البداية ..