الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأطلسي، حيث كانت السفن الإسبانية والبرتغالية تحمل وهي عائدة من أمريكا الجنوبية، ذهب الهنود الحمر وثرواتهم. فركز خير الدين وقادته جهودهم لحرمان إسبانيا من هذه الثروة ووضعها في خدمة المسلمين ليتقووا بها على أعدائهم.
وجمع (خير الدين) حوله نخبة من الرجال جعلهم هيئة قيادته، ومنهم ابنه (حسان خير الدين) و (طورغود رايس) و (صالح رايس - موحد الأرض الجزائرية فيما بعد) و (سنان منقذ تونس فيما بعد أيضا) و (محمد حسن آغا)(1) الذي جعله ناشبا عنه أثناء غيابه عن الجزائر.
واشتدت الحرب الصليبية ضراوة بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا التي تتزعمها الإمبراطورية الإسبانية. وتبع ذلك تصعيد في الصراع البحري الذي تولى قيادته (أندريا دوريا). ورد السلطان سليمان على ذلك بتعيين (خير الدين) أميرا عاما على البحر (قبودان باشا) مع بقائه على رأس دولة الجزائر.
ب - خير الدين - أميرا عاما للأسطول العثماني
كان لا بد للأمير (خير الدين) من التوجه إلى عاصمة
= الأبيض المتوسط، وهي حاليا تابعة لفرنسا وتشمل جريرة (بوركورول: PORQUEROLLE) و (بورت كروس: PORT - CROS) وجزيرة الشرق ILF DE LEVANT وجزيرتين صغيرتين.
(1)
محمد حسن آغا: يقال إن أصله كان عبدا خصيا من جزيرة سردينيا، تولى خير الدين تربيته تربية إسلامية متينة، وأشرف على تعليمه وتثقيفه، ولم تلبث مؤهلاته أن تفجرت عن كفاءة قيادية عالية فكان يتولى إدارة الجزائر أثناء غياب (خير الدين). وقد بذل جهده لتحصين الجزائر تحصينا حولها إلى قلعة شامخة، كما أنجز بناء مرسى الجزائر. وأفاد من موجات النازحين الأندلسيين لبناء عاصمة الدولة الجديدة (الجزائر) فأقام فيها القصور الشامخة على الطراز الأندلسي ونظم الحدائق وأكثر من بناء المساجد.
الإمبراطورية العثمانية، فخلف نائبه (محمد حسن آغا) على ولاية الجزائر. وسار توا نحو (إستانبول) على رأس جزء من الأسطول يتكون من عشرين سفينة وهناك، في دار الخلافة والسلطنة، استقبل السلطان سليمان القانوني أمير بحره (خير الدين) استقبالا يليق بأفضل المجاهدين وأكبر قادة المسلمين.
ولم يغادر (خير الدين) عاصمة الإمبراطورية، إلا وقد تولى لأول مرة قيادة أسطول ضخم يتكون من ثمانين سفينة، علاوة على سفن الأسطول الجزائري وبات بإمكان (خير الدين) مجابهة التحديات المتعاظمة للأسطول الصليبي - الإسباني.
ومن جهة أخرى أخذت الأمور في التدهور بسبب سوء إدارة الحفصيين (بتونس) ، وكان الملك قد انتهى فيها إلى (السلطان محمد) الذي خلف أباه (محمد بن الحسن) على العرش الحفصي، والذي وصفته المصادر التاريخية بما يلي:(كان محمد بن الحسن مشتغلا باللهو والخمر، مهملا لأمور الملك، وترك خمسة وأربعين ذكرا. خلفه منهم الحسن، فقتل إخوته، ولم ينج منهم إلا (الرشيد وعبد المؤمن) لغيبتهما، واشتغل - مثل أبيه - بالخمور والفجور، وجمع حوله أكثر من أربعمائة غلام أمرد. فمالت عنه الأمة إلى الرشيد. ولجأ الرشيد إلى خير الدين صاحب الجزائر، واستعان به على حرب أخيه ، وما كاد السلطان يطلع على حقيقة الحالة (بتونس) ويدرك أن هذه المدينة التي انحصر فيها ملك بني حفص، هي نقطة الضعف في التنظيم الإسلامي الجديد، وأن العدو يوشك أن ينقض عليها ليستخدمها مع طرابلس، لضرب هذا الجهاز ومحاولة تقويضه، حتى أمر خير الدين بالسير توا نحو تونس، وإبعاد هذه الأدران عنها). وصل الأسطول
العثماني الذي تولى قيادته خير الدين إلى عنابة في شهر آب - أغسطس - (1533م) وأخذ منها دعما جاءه به نائبه (حسن آغا) ثم تقدم نحو (بنزرت) برا، ونحو (حلق الوادي) بحرا، فتمكن منهما بدون عناء، ووقف على أسوار مدينة (تونس) ففتحت له أبوابها، واستقبله أهلها اسقبالا رائعا عبر فيه الأهالي عن تطلعاتهم وآمالهم.
وجمع (خير الدين) حوله الأعراب الذين انساقوا في تيار الفوضى وإثارة الفتن ووحدهم في تيار الجهاد. كما كتب إلى الأعراب وحذرهم سوء عاقبة الفتنة في الإسلام. وأجابوه إلى ذلك، غير أنهم اشترطوا عليه الإبقاء في أيديهم على ما أعطاه لهم بنو حفص من الإقطاعات، فالتزم لهم بذلك، واشترط عليهم، أن يكون مشتاهم بالصحراء. وأن يكفوا اليد العادية ثم بعث إلى نائبه بالجزائر في إرسال عسكر وأربعمائة فارس، ولما وصلوا وزعهم بالجهات، لما رأى من حال أمر المملكة.
أثناء ذلك، كان سلطان تونس السابق (الحسن بن محمد) قد وجد طريق النجاة، فهرب متنقلا من بلد إلى آخر حتى انتهى به المطاف إلى إسبانيا، وقابل الإمبراطور شارلكان، واستثاره لحرب قومه، ولم تكن هناك حاجة لمثل هذه الاستثارة، إذ كان (شارلكان) قد أعد عدته لقيادة حملة قوية ضد المغرب الإسلامي، غير أنه وجد في شخص (الحسن بن محمد) أداة جيدة يمكن استخدامها لتنفيذ مخططه.
قاد (شارلكان) قواته، وأبحر من مدينة برشلونة يوم 31 أيار - مايو - سنة 1535م. وقد تولى قيادة حملة صليبية حقيقية تضم (30) ألفا من المقاتلين الأشداء حملتهم (500) سفينة شراعية. ووصل هذا الأسطول إلى مواجهة (قرطاجنة) وسواحل مدينة (تونس) في يوم 16 حزيران (يونيو).
ولم تكن القوة التي يقودها (خير الدين) كافية لإيقاف هذه الحملة الضخمة، إذ لم يكن الجيش الإسلامي يضم أكثر من سبعة آلاف من الأتراك وخمسة آلاف من التونسيين، وتخلف الأعراب عن الجهاد، فكانت النتيجة الحتمية هي استيلاء (شارلكان) على معقل (حلق الوادي) وهو مرسى مدينة تونس. واستعد لمهاجمة العاصمة الحفصية، يتقدم صفوفه بصفة رمزية (الحسن بن محمد) الذي كان قد أبرم مع صاحبه (شارلكان) معاهدة رهيبة خان فيها قومه ودينه.
وتقدم الجيش الإسباني نحو مدينة تونس. وفي نفس تلك الساعة، وقع بتونس الحدث الذي عجل بالانهيار، والذي كان السبب المباشر للكارثة العظمى، ذلك هو انتفاض عشرة آلاف أسير نصراني كانوا محبوسين في العاصمة الحفصية. فعندما خلت المدينة من الجيش الذي تقدم لقتال العدو، وجد هؤلاء الأسرى فرصتهم السانحة، فخرجوا من معتقلهم، ونظموا صفوفهم. ثم هاجموا معقل القصبة الذي لم يكن به من الحرس إلا القليل. فتمكنوا منه، ووجهوا مدافعه في اتجاه جيش المسلمين، الذي وقع بين نارين، وأوصدوا أبواب المدينة وأقاموا عليه الحراسة، ليمنعوا خير الدين وجيشه من الرجوع إليها والتحصن لمقاومة شارلكان ريثما تصل قوات الدعم. وشعر (خير الدين) بالخطر من قبل أن يغادر مدينة تونس، وكان قد اتخذ قراره بإبادة هؤلاء الأسرى غير أن سرعة تقدم (شارلكان) أعاقته عن تنفيذ ما قرره. وهكذا خرج خير الدين للقاء الحملة الصليبية فاستولى على (برج العيون) ثم رجع بمن معه إلى المدينة، فاضطرب عليه أهلها، بعضهم تمسك بطاعته، وبعضهم انحرف عنه وانضم إلى السلطان أبي حفص، فجمع أعيان الناس، وتحدث إليهم، فاختلفوا عليه، فتركهم وخرج بمن معه إلى الحرب. وأبلى خير الدين
في ذلك اليوم البلاء الحسن. غير أنه لم يتمكن من الصمود طويلا، واضطر إلى الانسحاب إلى (القصبة) ، ودخل السلطان الحفصي - الحسن - إلى تونس في مقدمة الجيش الصليبي. ولقيهم الأعراب بالمقاومة، فقاتلهم قائد الجيش الصليبي - الصبنيول - ودخل السلطان القصبة، ووعد أهلها بالأمان، وهو لا يملك حق إعطاء الأمان بعد أن تعهد للصبنيول بالموافقة على شرطه وهو استباحة البلاد لمدة ثلاثة أيام. وما إن أمن الناس، وخرجوا من معاقلهم، وتخلوا عن أسلحتهم وانصرفوا إلى أعمالهم ومتاجرهم، حتى باغتتهم القوات الإسبانية، وأعملت فيهم قتلا وبمتاجرهم نهبا وببيوتم سبيا. وفر إلى (زغوان) من استطاع أن يجد الفرصة للفرار بنفسه وبأهله.
وانتهت هذه المذبحة الرهيبة بإبادة ثلث أهل تونس ونجاة الثلث ووقوع الثلث في قبضة الأسر والمأسور يفتدي نفسه إن كان له مال. وبلغت الفدية ألف دينار، وتغيرت البلاد وطمست أعلامها وكانت هذه النكبة التي تعرضت لها تونس في سنة 941 هـ (1535 م) هي أقسى ما عرفته في حياتها من نكبات وكوارث، إذ أن عدد القتل من سكان تونس خلال الأيام الرهيبة الثلاثة قد بلغ سبعين ألفا. ونهبت خلال ذلك ثروات المدينة وكنوزها ونفائسها وأموالها وما تراكم فيها عبر مئات السنين بفضل ما عرف عن أهلها من الجهد والنشاط. وأضيفت إلى قائمة الكوارث التي تعرضت لها المدن الإسلامية (مثل بغداد على أيدي التتار والقدس على أيدي الفرنج الصليبيين) كارثة جديدة عرفت (بكارثة تونس).
لقد استمرت معركة تونس 36 يوما، مما يؤكد قسوة الصراع وعنفه، فقد نزل الإسبان فوق أرض تونس يوم 16 حزيران - يونيو -
واحتلوا حلق الوادي يوم 14 تمرز - يوليو - أي بعد شهر تقريبا. واحتلوا تونس ونكبوها يوم 21 تموز - يوليو - وقد حاول (شارلكان) التخفيف من وقع المذبحة، وإلقاء تبعاتها على أهل تونس، فكتب إلى عميله حاكم مدينة (بجاية) رسالة يوم 23 تموز (يوليو 1535 يقول فيها:
(ولكن، ربما أن سكان مدينة تونس لم يقابلوا ملكهم قبولا حسنا، كما يستحق، وكما هو واجبهم، فقد رأينا أن نأمر بنهب المدينة، انتقاما منهم على سوء سلوكهم).
استقر السلطان (الحسن بن محمد) على عرش تونس، فوق أشلاء أمته الممزقه وعلى جثث الضحايا من رجال قومه ونسائهم وأطفالهم. وعقد مع الإسبانيين معاهدة نصت على ما يلي:
1 -
اعتراف الدولة الحفصية بتبعيتها للدولة الإسبانية.
2 -
ملكية الإسبانيين ملكية مطلقة لمرسى (حلق الوادي) و (قرطاجنة) و (مدينة عنابة) و (مدينة المهدية).
3 -
إلتزام السلطان بألا يدخل بلاده أحدا من مهاجري الأندلس، يهوديا كان أو مسلما.
وانسحب (شارلكان) بأسطوله ومعظم جيشه إلى قاعدقه في صقلية. وعاد (خير الدين) إلى قاعدته الأساسية (في الجزائر) بعد أن عانى وقواته من الجوع والظمأ والحر. واستقر حينا بمدينة (قسنطينة). واستقبل أهل الجزائر رجوعه بالبهجة. وانصرف (خير الدين) لإعادة تنظيم قواته من أجل استئناف الجهاد ضد الإسبانيين، لا سيما وقد ظهر بوضوح أن (شارلكان) قد صمم على تدمير دولة الجزائر مهما بلغ الثمن وقد تبين أن مخطط (شارلكان) يعتمد على انتقاص حدود
الجزائر بصورة تدريجية قبل الانقضاض على قلبها (عاصمتها). ومن أجل ذلك، فقد قام بالاستيلاء على (مرسى هنين) ومدينتها.
كانت مدينة (هنين) هي المرسى الطبيعي لعاصمة تلمسان، نظرا لقرب المسافة بينهما، إذ تقع داخل جون حسن، في منتصف الطريق بين (بني صاف) و (جامع الغزوات) وبينهما وبين تلمسان - على خط مستقيم - مسافة (45) كيلومترا ، وكان ملك (تلمسان) قد أرسل مددا لمرسى هنين عندما قام الإسبانيون باحتلال مدينة (وهران) في سنة 1509.وقام بتحصينها وتنظيم الدفاع عنها نظرا لما لها من أهمية اقتصادية باعتبارها مركز المبادلات التجارية مع أوروبا بصورة عامة ومع بلاد البندقية بصورة خاصة.
ووجه الإمبراطور (شارلكان) أمرا إلى قائده (دون الفارو دوبازان) في شهر آب (أغسطس) سنة 1531، باحتلال مدينة (هنين) ومهاجتها بقوة. ولم يتأخر (دوبازان) عن تنفيذ الأمر، فركب وجيشه البحر على متن 11 سفينة حربية بالإضافة إلى سفينتين ناقلتين للجنود، وأخذ معه أعتدة وموادا تموينية تكفيه لمدة شهرين. وخرج - من مالقة في شهر آب (أغسطس). ثم حل بمدينة وهران حيث انضمت لقوته مجموعة من المقاتلين تتكون من (250) جنديا، وغادرها يوم (عيد سان برتلمي - في 24 آب - أغسطس) ووصل إلى مدينة هنين يوم 8 أيلول - سبتمبر - سنة 1531. ودخل الأسطول الإسباني المرسى واحتل المدينة والقصبة.
لم تكن المدينة تتوقع هذا الهجوم المباغت، ولم تكن قوة الحامية متمركزة في مواقعها عندما وقع العدوان وعلى الرغم من ذلك فقد قاوم المواطنون عملية الغزو وقتلوا (40) إسبانيا، بالإضافة إلى مائة
جريح. وكتب راهب - أسقف - طليطلة إلى الإمبراطور - مبشرا بالفتح، وكان في رسالته ما يلي:
(أكد لنا الدين يعرفون البلاد، أن لمدينة هنين ومرساها أهمية بالغة، فهنين بلدة محصنة ذات أسوار منيعة، ولها قلعة عظيمة، ولا تبعد عن تلمسان أكثر من (12) مرحلة، وهذا أمر له أهميته العظمى بالنسبة للحركة التجارية التي يمكن أن نتداولها مع العرب، كما أن امتلاكنا لمدينة هنين يساعدنا بصورة خاصة على إبقاء ملك تلمسان تحت قبضة أيدينا، فهو لن يفكر في مهاجمتنا عندما يرانا قد تمكنا من البلاد داخل حدودنا الجديدة وتحصنا بها).
اما الدكتور لبربخا ممثل الإمبراطور بوهران فقد كتب لسيده يوم 2 أيلول - سبتمبر - 1531 ما يلي: (أعتقد أن احتلالنا لمرسى هنين إنما هو حدث عظيم جدا، ذلك أننا باستقرارنا وبتمكننا من هذه البلدة، نستطيع أن نعاقب ملك تلمسان، ونجبره على القيام بتعهداته، ذلك أن الطريق من هنين إلى تلمسان، أقرب وأضمن من طريق وهران والمرسى الكبير، ونستطيع من هذه البلدة، دون كبير عناء، أن ندخل مدينة تلمسان، وأن نأخذ من مولاي عبد الله أحسن ممتلكاته (1)).
(1) تجدر الإشارة إلى تلك المقاومة البطولية التي نظمها الشعب المجاهد في (هنين) حيث حرم الإسبانيين من متعة انتصارهم، وأحكم الحصار حولهم، ولم يترك لهم الفرصة للتوغل إلى داخل البلاد، وحرمهم من الحصول على متطلباتهم من المواد التموينية. وشن عليهم الغارات باستمرار، وأرغمهم بعد ثلاث سنوات من الصراع المرير على الجلاء عن (هنين) حيث انسحبت القوات الإسبانية في كانون الثاني - ديسمبر - 1534. وقد كان انتقام الإسبانيين رهيبا، إذ أمعنوا في تخريب المدينة وتدميرها حتى جعلوا عاليها سافلها، وقوضوا معالمها، وأفسدوا مساجدها، وضربوا مرساها، ومحوا آثارها من الوجود، بعد أن كانت طوال خمسامائة عام منارا من منارات الإسلام الشهيرة.
أراد (شارلكان) استثمار الظفر الذي أحرزه في تونس، وتنفيذ شروط معاهدته مع عميله (الملك الحسن بن محمد) والإفادة من حالة العطالة التي تعرض لها خير الدين بعد معركة تونس، فأصدر أمره إلى قائد حملته (المركيز دي مونديخار) بالاستيلاء على مدينة (عنابة) بونة، والتي كانت تابعة بصورة اسمية للسلطان الحفصي في تونس. وهكذا تحرك الأسطول الإسباني في شهر آب أغسطس - نحو عنابة.
ووصلها، وقام باحتلالها، وأرسل قائد الحملة إلى الإمبراطور تقريره عن نجاحه في تنفيذ مهمته وذلك في يوم 29 آب - أغسطس - 1535. وتضمن التقرير ما يلي:
(كان البحر هادئا، إنما كانت الرياح معارضة، فلم يصل الأسطول إلا بعد خمسة أيام إلى عنابة، وكان - دون الفارو دي بازان - قد سبقنا إليها مع الناقلات، وما كاد يصل حتى تلقى بعض ضربات المدفعية مما يدل على أن السكان قد صمموا على الدفاع. وأنزلنا الجند، ثم شكلنا كتيبتين وأرسلناهما لمهاجمة القصر ، ولم يكن العرب ينتظرون هجومنا عليه، فبادروا بالتخلي عنه. ولم نفعل ذلك اليوم شيئا آخر. فاكتفينا باحتلال القصبة والمدينة. أما الناقلات التي منعتها مدافع العدو من الاقتراب، فإنها قد دخلت المرسى، وانصرفنا خلال الأيام الثلاثة التالية إلى إنزال المدفعية والذخائر والمؤن إلى البر، وبعد دراسة وضع المدينة والقلعة، تأكدنا أنه يجب احتلالها معا وفي وقت واحد. لأن الجند الذي يحتل القلعة لا يتمكن بسهولة من نجدة العرب الذين يحتلون المدينة ويدافعون عنها، ويجب علينا أن لا تترك العرب يدخلون المدينة إلا بعد التصريح لهم بذلك. فإذا دخلوها فيجب ألا يجدوها خالية من قواتنا لأنهم في هذه الحالة قد يفكرون
بالعودة إليها، أو أن يدخلها عرب آخرون مكانهمم ويتصرفون فيها بصفة تجعلها غير صالحة للسكنى - ولقد تركت (200) جندي بالقصر، و (600) جندي بالمدينة، وإذا ما رأينا السماح للعرب بسكنى المدينة من جديد، فعلينا أن نقيم حصنا قوق المرتفع الذي يعلو المرسى، حتى نستطيع نجدة جند القصر).
لم يكن باستطاعة (خير الدين) وهو يتابع شراسة الهجمة الصليبية، الوقوف في حالة من العطالة أو الجمود، فقرر توجيه ضربة للإسبانيين في قواعدهم، ووقع اختياره على مدينة (ماهون) عاصمة جزائر الباليئار، والمدينة الأولى في جزيرة (مينورقة).
قاد (خير الدين) أسطوله بكفاءة، حتى إذا ما وصل إلى (ماهون) قام باحتلالها، غير أنه تجنب سفك الدماء، ولم يفعل ما فعله الإسبانيون في تونس. واكتفى باستحواذ كل ما ضمته المدينة من الثروات. وعاد بها إلى الجزائر، حيث تم توزيعها على المجاهدين بعد تخصيص الخمس (لبيت مال المسلمين) أما الأسرى الذين اقتادهم (خير الدين) من جزيرة (مينورقة) وعددهم ستة آلاف نسمة فقد احتفظ بهم في الجزائر.
كان من أثر هذه الإغارة الانتقامية أن تناقصت أهمية انتصارات الإسبانيين في المغرب الإسلامي وأخذت الشكوك في التعاظم حول أهمية ما تبذله القوات الصليبية طالما أن التهديد الذي تمثله الجزائر لا زال قائما، وطالما أن الخطر الذي يمثله (خير الدين) لا زال مستمرا.
وترددت أصداء انتصار (خير الدين) - كالعادة - وبصورة متضادة في العاصمتين المتصارعتين (استانبول - و - مدريد) حيث كان الصراع قد وصل ذروته على كافة الجبهات، الأمر الذي دفع السلطان سليمان القانوني إلى استدعاء (خير الدين) إلى القسطنطينية لتولي قيادة