الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير أن ما تركه للدنيا يبقى خالدا في الدنيا، وما عمله لآخرته يلقاه خالدا مع الخالدين. وأفضل ما أقامه في الدنيا هو تكوينه للدولة الجزائرية التي أخدت على عاتقها واجب (الجهاد في سبيل الله) ضد كل الحملات الصليبية.
و- خير الدين وموقعه في فن الحرب
لم تكن حروب (خير الدين) في البر والبحر إلا نوعا من (حروب الإيمان) التي عرفها العرب المسلمون ونشروها على الدنيا كلها. ولقد أبرزت الملامح العامة لسيرة (خير الدين) وفقا لما سبق عرضها أن هذا القائد العظيم قد جابه في حياته صعوبات لا نهاية لها، بل إن هذه السيرة لم تكن أكثر من سلسلة من العقبات والصعوبات الآخذ بعضها برقاب بعض والتي لم يكن أقلها مجابهة قوات متفوقة على قوته بما لا يمكن قياسه أو مقارنته في موازين القوى التقليدية، ولم يكن أقلها أيضا التعرض لنكسات مريرة وصلت به إلى حد التجرد من كل القوى، إلا قوة الثقة بالنفس والإيمان الذي لا حدود له، والتي لم يكن أقلها كذلك فقد الأعزاء - أخوته في الدم وفي الجهاد في سبيل الله حيث سقط الثلاثة فوق ثرى المغرب العربي الإسلامي -.
والأمر مماثل فيما تلقاه (خير الدين) من الغدر على أيدي أعداء الداخل من الخونة والذين خذلوه المرة بعد المرة، غير أن ذلك لم يضعف من تصميمه، أو ينال من عزيمته. ثم جاءت أخطار البحر والجوع والعطش والحرمان كلها لتحتل مكانتها في جملة ما جابهه (خير الدين) من العقبات والصعوبات.
وقد كان من المحال احتمال ذلك كله - أو حتى بعضه لولا
ضريح البطل خير الدين باشا بحي باشكطاش باستامبول
(الإيمان المطلق) ولولا ما يفرضه هذا الإيمان من فضائل كثيرة: كالوفاء والإخلاص وإنكار الذات والاستعداد الدائم للتضحية والصدق والشجاعة بكل أشكالها.
وكانت حروب (خير الدين) نوعا من (حروب الإيمان) في البر والبحر، وهو ما أكدته سيرة القائد الخالد، وهو ما تبرزه القصة التالية:
(عندما توفي عروج، وأسندت إلى خير الدين القيادة، استدعى رجاله ليتهيأوا للحرب ضد الإسبان الصليبيين، وبينما هو يعمل من أجل إخراج هذه الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل، إذ جاءه رسول من ملك إسبانيا (شارلكان) يأمره بالتخل عن الجزائر لأنها كانت تحت تصرف الإسبان، ويستطيع الإسبانيون أن يخرجوها من أيدي العثمانيين وخير ملك إسبانيا (خير الدين) بين أمرين: أولهما أن يسلمها دون قتال، وثانيهما أن يستعد للقتال. وذكر له بأنه يجب ألا ينسى أن الإسبان لم تخذلوا في معركة، وأنهم قتلوا أخويه إلياس وعروج، وإن تمادى فيما هو عليه وركب رأسه فإن عاقبته ستكون كعاقبة أخويه. فأجاب خير الدين:((سترى غدا، وإن غدا ليس ببعيد، أن جنودك ستتطاير أشلاؤهم، وإن مراكبك ستغرق، وإن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة).
عند ذلك طاش عقل الملك من هذا الجواب الحاسم، وطار لبه، وجهز كل ما عنده من قوة وحضر إلى الجزائر، وخرج له خير الدين ومعه حزم وعزم، وتلا على جميع قواده وجنوده قوله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} . وتقدم للميدان ومعه رجاله، وقال لهم: (إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق، لأن
انتصاركم انتصار لهم، وإن سحقكم لهؤلاء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن الإسلام). فصاحوا كلهم (الله أكبر) وهاجموا الإسبان فأبادوهم عن آخرهم) (1).
إن هذه الصورة لا تختلف أبدا، لا في شكلها ولا في مضمونها عن صور أولئك القادة المجاهدين في سبيل الله، والذين خرجوا من جزيرتهم فحملوا إلى الدنيا رسالة الإسلام. غير أن الموقف العام لم يكن في عهد (خير الدين) مشابها لما كان عليه أيام الفتح، فقد أخذ الضعف طريقه إلى قلوب المسلمين وأنظمتهم، فقد كانوا من قبل تحت قيادة واحدة لا تسمح لأعداء الداخل بالظهور أو بممارسة دورهم في التأثير على التيار العام. في حين أصبح لهؤلاء دورهم في توجيه الأحداث وكان أخطر ما في الأمر أن هؤلاء كانوا يحتلون مراكز قيادية تسمح لهم بممارسة دور خطير ضد مواطنيهم وإخوانهم في الدين.
والواضح أن قضية (أعداء الداخل) هي من أخطر القضايا التي جابهت المسلمين في عصر التحول من الهجوم الشامل إلى الدفاع الشامل، وهي الظاهرة التي سبق لها أن برزت أيام الحروب الصليبية في المشرق، ثم تكرر حدوثها في الأندلس الإسلامية، وجاءت لتبرز من جديد على مسرح أحداث المغرب العربي - الإسلامي، فكانت في طليعة العقبات التي اصطدم بها (خير الدين) والتي أمكن له معالجتها بحزم أحيانا، وباللين والإغراء في أحيان أخرى، وفقا لما كان يتطلبه الموقف.
وقد كان القضاء على أعداء الداخل هو المرحلة الأساسية
(1) تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول ص 81 - 82.
لتحقيق الانتصار الخارجي. ومن هنا أيضا، فقد كان للإنتصار الخارجي دوره بإضعاف أعداء الداخل وكشف خياناتهم، الأمر الذي ساعد على تصفيتهم. ولقد بقيت هذه العلاقة الجدلية الثابتة بين القوة الخارجية والقوة الداخلية هي العلاقة الثابتة والمميزة لقوة الأنظمة وقدرتها على البقاء والاستمرار، والأمر صحيح بالنسبة للعلاقة الجدلية المضادة، فالتمزق الداخلي وبروز (أعداء الداخل) ما هو إلا دليل في الواقع على مرحلة احتضار الدول وبرهان على قرب انهيارها. ومن هنا أيضا تظهر أهمية الدور الذي اضطلع به خير الدين في إنقاذ المغرب العربي الإسلامي من المحنة التي كان يجابهها، والتي كان يتعرض لها. فقد أدت الهجمة الصليبية إلى ظهور الطبقة المتسلطة من (أعداء الداخل)، ولم يكن هناك من أمل لتحويل التيار إلا بظهور قوة يمكن لها مجابهة القوى الصليبية، الأمر الذي يفسح المجال للقوى المؤمنة الصادقة لممارسة دورها التاريخي والاضطلاع بمسؤوليتها القومية والدينية، وكانت الجزائر بأرضها وبشعبها منبت تلك القوى التي عملت على تحويل تيار الاستسلام إلى تيار المجابهة.
لقد استطاع (خير الدين) مجابهة الهجمة الصليبية في أشرس مراحلها، مرحلة تصفية الأندلس الإسلامية، واستطاعت (الجزائر المحروسة) مجابهة الهجمة الصليبية وهي في ذروة قوتها وجبروتها. ونشأ عن هذا التلاحم الصادق بين (تيار الأحداث) و (قصة البطل) ظهور الملحمة الخالدة. ملحمة بناء الجزائر قوة لها وللعرب المسلمين فوق كل أرض العرب المسلمين. غير أنه في مرحلة التحول الحاسم، كان من المحال إعادة العجلة إلى الوراء، والعودة بالأندلس إسلامية كما كانت أيام الفتح، فقد أظهرت مسيرة الأحداث - عبر سيرة القائد خير الدين - تلك القوى الهائلة التي تكتلت للعمل ضد المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها وعلى كافة الجبهات في أوروبا كما في أفريقيا الإسلامية، وفي البر كما في البحر. ومن هنا تظهر أهمية الدور الذي اضطلع به (خير الدين) ومن ورائه (الإمبراطورية العثمانية) في إيقاف الهجمة الضارية، والتصدي لها، والعمل على إحباطها. ومن هنا أيضا تظهر كفاءة (خير الدين) السياسية، وتفكيره السليم، عندما ربط جهوده بجهود المسلمين في الجزائر - وفي المغرب العربي - الإسلامي من جهة مع جهود الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى.
ذلك هو موقع (خير الدين) في التاريخ، إنه قائد التحول في مسيره الصراع من مستوى العمليات المحدود إلى المستوى الشامل. ومن المستوى المحلي إلى المستوى الدولي. ولقد مر هذا التحول بمراحل مختلفة، بداية من ممارسة القرصنة (الحرب الدفاعية المحدودة) إلى مستوى العمليات المحدودة لمصلحة (دولة تونس) ومنها إلى مستوى المغرب العربي - الإسلامي، ومن هذا المستوى إلى مستوى العالم الإسلامي عبر ربط الصراع بالإمبراطورية العثمانية. ولقد مر هذا التطور عبر الإدراك التام لطبيعة المرحلة وطبيعة الصراع الذي كانت تخوضه الأمة العربية الإسلامية خاصة والأمم الإسلامية عامة، وهنا نعود إلى بداية القصة.
لقد خرج (عروج) إلى البحر غازيا مجاهدا لمقاومة الظلم الذي يتعرض له المسلمون في الأندلس وفي كل مكان من أوروبا، ووقع في قبضة الأمر، وعانى عبودية القيد، فكان لذلك دوره في تحديد هدفه من الصراع (الجهاد في سبيل الله). وانطلق مع أخوته، ومع فئة من المجاهدين، في هذه الحرب غير المتكافئة، ووظف الأخوة (ذوي اللحى الشقراء) انتصاراتهم لمصلحة (سلطان الحفصين في تونس)
غير أن هؤلاء كانوا دون مستوى المسؤولية خلال تلك المرحلة التاريخية، وجاءت مسيرة الأحداث والتي دفع (الأخوة ذوي اللحى الشقراء) ومعهم الشعب المجاهد في المغرب العربي الإسلامي ثمنها غاليا من دمائهم وكرامتهم. وتأكد خير الدين عبر هذه التجارب الذاتية أنه من المحال مجابهة الهجمة الصليبية الشاملة بحروب محدودة ذات هدف محدود، كغنم سفينة أو الدفاع عن مدينة، أو الإغارة على جزيرة. فكان الدفاع الشامل هو الأسلوب الوحيد لمجابهة الهجوم الصليبي الشامل.
وكان (عروج) وأخوه (أصحاب اللحى الشقراء) قراصنة، بذلك اشتهروا وبذلك عرفوا، غير أنهم لم يكونوا قراصنة في أساليبهم وأهدافهم ، لقد خرجوا للجهاد في سبيل الله، فكانوا زاهدين بما يحوزونه من غنائم، وما أرادوا من الغنائم إلا استنزاف قدرة العدو وزيادة قوة المسلمين، بدلالة تقديم ما كانوا يحصلون عليه إلى (والي تونس) وإلى (بيت مال المسلمين) وإلى صندوق الخزانة في الإمبراطورية العثمانية. ء وأفاد الجميع من هذه الغنائم ما عدا (الأخوة أصحاب اللحى الشقراء) غير أن فائدتهم كانت أكبر من كل تقويم عندما أمكن لهم دعم القدرات في الجزائر بعد أن أهدر (ملك تونس) هذا الدعم ووظغه في غير مصلحة الإسلام والمسلمين.
ولم يكن (خير الدين) يبحث عن (مجد شخصي) بدلالة عزوفه عن هذا المجد عندما عرضه عليه (شارلكان) في حين تهاوى (أعداء الداخل) فكان في ذلك سقوطهم، وكان في ذلك المجد الحقيقي والخالد للبطل (خير الدين) الذي ربط جهده وعمله ووجوده بقضية المسلمين ، في حين انتهى أولئك الذين عملوا لدنياهم، وسطروا أبشع
صورة (لأعداء الوطن والدين).
يمكن بعد ذلك الانتقال للملامح العامة لأسس (فن الحروب) التي استخدمها (خير الدين) والتي مكنته من تحقيق انتصاراته الخالدة.
لقد كانت تلك الأسس في الواقع، صورة عن أسس (فن الحرب عند العرب المسلمين) بطرائقها التقليدية والثوروية. فقد بدأ (أصحاب اللحى الشقراء) بالبحث عن قاعدة قوية ومأمونة، بدأت (بحلق الوادي) و (جزيرة جربة) وانتهت بقاعدة الجزائر. وقد كان تكوين القاعدة القوية والمأمونة هو أول عامل من عوامل النجاح.
وكانت طرائق القتال - في البر والبحر - نموذجا من الحروب التشتيتية - التي برزت كظاهرة مميزة في الحروب الثوروية الحديثة والتي تعتمد على مرحلتين أساسيتين - مرحلة الاستنزاف ومرحلة الهجوم الشامل.
وفي الواقع فقد كان من المحال مجابهة التفوق للقوى الصليبية بغير هذا الأسلوب الذي أكد فاعليته في حروب الجزائر - الثلاثة وآخرها حملة شارلكان - بقدر ما أكد فاعليته في الحروب البحرية. حيث كانت تقوم مجموعات خفيفة الحركة، بتوجيه ضربات عنيفة ومباغتة ثم الانسحاب قبل أن يستفيق العدو من ذهول الصدمة. وقد أدى تنفيذ هذه العمليات باستمرار إلى استنزاف قدرة العدو المادية والمعنوية قبل مجابهته بهجوم شامل يدمر بقية قدرته على الصمود والمقاومة.
ولقد كان من المحال تحقيق النجاح في مثل هذه العمليات لو لم
تتوافر كفاءة قيادية عالية، تتولى إدارة المعركة في كل مرحلة من مراحلها الصعبة.
وقد توافرت العوامل الثلاثة للنصر: شعب مجاهد في سبيل الله، وتطبيق رائع للعقيدة القتالية الإسلامية وقيادة على درجة عالية من الكفاءة.
بذلك انتصر (شعب الجزائر) وبذلك انتصر (خير الدين) فكتب شعب الجزائر مع خير الدين قصته الرائعة في الجهاد والمجاهدين.
ولم يكن (خير الدين) قادرا على تحقيق ما يريده لولا ما قام به شعب الجزائر المجاهد، وما كان شعب الجزائر ليصل إلى هدفه لولا توافر قيادة حازمة مارس (خير الدين) دوره في تكوينها وصنعها لتصبح على مستوى الأحداث.
لقد مضى خير الدين إلى جوار ربه راضيا مرضيا، وبقي شعب الجزائر يردد على مدى الدهر تلك الأسطورة الخالدة (أسطورة بابا خير الدين) الذي تولى قيادة الجزائر المجاهدة في أصعب ظروف الجهاد. وضمن لها مصادر القوة الذاتية - قوة الإيمان وقيم الجهاد في سبيل الله.
ومضى خير الدين إلى جوار ربه راضيا مرضيا، وبقي المسلمون يرددون الأغنية الحلوة، أغنية القوة والكرامة: لقد نصر الله فنصره الله {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} صدق الله العظيم.