الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الموقف على جبهة المسلمين
في المشرق
حرر المسلمون مدينة عكا من بلاد الشام في السنة (694 هـ - 1294 م) وطردوا بقايا الإفرنج الصليبيين من كل قلاعهم وحصونهم.
واعتنق دين الإسلام من رغب البقاء في الشرق الإسلامي. وأصيب الغرب بخيبة أمل مريرة وهو يرى البناء الضخم الذي أقامه طوال مائتي عام وهو ينهار دفعة واحدة وتبتلعه رمال الشرق الدافئة. فانطلقت الدعوات التي تزعمها البابا نقولا الرابع في محاولة لتنظيم حملة صليبية جديدة، غير أنه بات واضحا أنه من المحال إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، فانهارت كل الجهود لإرسال حملة للمشرق الإسلامي ، ولم تثمر إلا عن توجيه قوة مختلطة أغارت على الإسكندرية ونهبتها ودمرتها (سنة 1265 م). بالإضافة إلى تلك الحملة المشؤومة التي قادها لويس التاسع سنة (1270 م) فوصلت تونس وانتهت هناك بموت لويس التاسع (أو القديس لويس) على أبواب تونس، بدون أن تحقق نتيجة أكثر من النهب والتدمير.
وعاشت مصر والشام بعد ذلك تحت حكم المماليك البرجية الذين بدأ عهدهم بالمظفر قطز بطل (عين جالوت) وانتهى بقانصوه
الغوري سنة (1517 م). وقد انصرف المسلمون في المشرق خلال هذه الفترة إلى تضميد جراحهم، ومتابعة الصراع ضد المغول (التتار) أحيانا وضد الروم (البيزنطيين) في الشمال أحيانا أخرى. وتميزت هذه الفترة بصورة عامة بالهدوء والاستقرار، فانصرف الناس للصناعة والتجارة، وعرف المشرق الإسلامي حالة من الرخاء لم يعهدها منذ زمن طويل.
غير أن توقف الحروب الصليبية في المشرق لم يضع حدا نهائيا للحروب. فقد تحول الصراع إلى جبهتين أولاهما (أوروبا) والثانية (الأندلس) بالإضافة إلى جبهة وسيطة بين الجبهتين هي جبهة البحر. وقد ظهرت خلال هذه المرحلة قوة جديدة أخذت على عاتقها قيادة (الجهاد في سبيل الله) وكانت هذه القوة هي قوة (الأتراك العثمانيين).
وكان العرب المسلمون قد نظموا الدفاع عن الثغور منذ الأيام الأولى للفتح. فأقاموا الحاميات في المواقع الحصينة على امتداد حدودهم مع بلاد الروم البيزنطيين، وكانت هذه الثغور مواقع دفاعية هجومية في آن واحد، واجبها رد الغزوات المباغتة للأعداء، والإنطلاق منها لغزو بلاد هؤلاء الأعداء.
واستمر هذا التنظيم القتالي طوال العهدين الأموي والعباسي. وعندما أقام عبد الرحمن الداخل الحكم الأموي في الأندلس، أعاد تطبيق التجارب القتالية. وكانت طبيعة الحدود الجبلية مع الروم البيزنطيين (حيث جبال الأمانوس) تتشابه مع الحدود الجبلية الشمالية للأندلس (حيث جبال البيرينه - أو جبال البرتات كما يسميها المؤرخون العرب). فكانت تجرية الثغور هي التجربة الرائدة التي حفظت للعرب المسلمين حدودهم وثغورهم.
وكانت هذه الثغور هي الميادين المثلى للجهاد في سبيل الله، وهي في الوقت ذاته مجال التجاربة لتطوير الكفاءة القتالية وإغناء التجارب الحربية. غير أن ظروف الحروبة الصليبية قضت على (استراتيجية حروب الثغور) إذ انتقل الصراع إلى قلب العالم العربي الإسلامي.
ولكن ما أن طردت جحافل الغزاة الافرنج، حتى بعثت قيم الجهاد في سبيل الله من جديد، ونزل في بلاد الأناضول عدد كبير من المجاهدين ورجال الدين - من العرب والترك والفرس - أخذوا على عاتقهم إثارة الحماسة ضد الروم (البيزنطيين). وبتأثير تلك الحماسة الدافقة، اجتاح الأتراك غربي آسيا الصغرى، وأقام أمراء الغزاة دويلاتهم المستقلة في مختلف المقاطعات، فنزل القرمانيون في ليقاؤنية القديمة وايسوريا، ونزل الكرمانيون في كوتاهية، واستقر الحميديون في ميسية، والصاروخان في مغنيسية. ولم يقض على هذه الإمارات نهائيا إلا عند ظهور العثمانيين. وبينما كان هؤلاء الغزاة يتقدمون برا كانت قبيلة (المنتشا) التي نشأت نشأة بحرية فشكلت أقوى الإمارات وأعظمها شأنا، كانت هذه القبيلة تنطلق من سواحل ليقية وبمفيلية إلى قاريا، لتجتاح منها شواطىء بحر ايحه. ثم تفتح رودس، مهددة بذلك روما وامبراطوريتها.
وكان العثمانيون من بين أولئك الأتراك الذين حملوا راية الجهاد في سبيل الله ضد (البيزنطيين) وحالفهم الحظ أكثر من سواهم، ولا يعني البحث هنا التعرض لأصول هذه القبيلة ومراحل تطورها، وما عانته من صداماتها مع المغول (التتار). الهم في الأمر هو أن المؤسس الحقيقي لهذه الأسرة وهو (أرطغرل) قد لجأ ومعه مائة أسرة إلى آسيا
الصغرى ليلتحق وإياهم بخدمة علاء الدين الثاني السلجوقي، سلطان قونية. فأقطعه علاء الدين منطقة المستنقعات الواقعة على الحدود المواجهة للبيزنطيين عند (سكود) في وادي (قره صو) حيث الفرات الغربي وجبلي طومانيج وأرمي طاغ، وترك له حرية توسيع ممتلكاته على حساب جيرانه النصارى.
وتولى (عثمان) بن (أرطغرل) على عاتقه هذا الواجب، فكان أول عمل له هو فتح (ملانجنون) وتسميتها باسم (قره جه حصار) والانتقال إليها وجعلها بمثابة عاصمة للدولة الجديدة في سنة (1288 م). واستأنف الحرب ضد البيزنطيين. فتقاطر إليه المجاهدون من أرجاء آسيا الصغرى جميعا، وانضم إليه المقاتلون من القبائل التركية المختلفة، ولحق به (الأخيان - أو الأخوان) وهم جماعات الصناع والتجار.
ومن (قره جه حصار) قاد عثمان شعبه القوي، الذي كانت ترفده القبائل التركية كلها على الدوام بعناصر جديدة تزيد في قوته وحيويته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود، وفي اتجاه الغرب إلى يني شهر (يكي شهر) التي تسيطر على مخاضة نهر سقارية. وفي سنة (1300 م) أقطع عثمان ابنه أورخان مدينة (قره جه حصار). فأخذ هذا في متابعة الجهاد.
وفي سنة (1326م) وبينما كان عثمان على فراش الموت، في سكود، كان ابنه أورخان يتوج أعماله الكبيرة باحتلال (بروسة) الواقعة على سفح جبل الأولمبوس (كشيش طاغ). فكان أول عمل له أن دفن أباه في كنيسة القصر التي حولت للتو والساعة إلى
مسجد (1) ومن ذلك الحين أضحت (بروسة) مدينة العثمانيين المقدسة.
وقد عرف عن (أورخان) اهتمامه بالتنظيم الشامل للدولة، وعنايته الخاصة بإعادة تنظيم الجيش، وخاصة قوات (يني جري - القوة الجديدة - ومنها الإنكشارية).
وفي سنة 1362 م، توفي أورخان؛ فخلفه على العرش ابنه الثاني مراد الذي اتجه في الحال نحو شبه جزيرة البلقان، وأمكن له احتلال (ادرنة) وجعلها عاصمة له حتى سقوط القسطنطينية.
وحاول البابا (أوربانوس الخامس) أن يدعو النصارى إلى حملة صليبية تستنقذ أدرنة من أيدي المسلمين، ولكن عبثا. وعلى الرغم من أن جيشا من فرسان النصارى يقوده كونت سافوا (أماديوس) استطاع أن يوطد أقدامه في غاليبولي لفترة قصيرة، غير أنه أخفق في التفاهم مع البيزنطيين على خطة مشتركة، فاضطر إلى الانسحاب في وقت قريب.
ثم تجمعت قوات الصرب بقيادة (ووقاجين) لقتال العثمانيين الذين انتصروا عليهم (على ضفاف نهر مريج). واحتل العثمانيون على أثر ذلك مقدونيا بكاملها (في سنة 1371) ثم احتلوا صوفيا ونيتش (سنة 1385 - 1386 م). وتزعم ملك بلغاريا (ششمان الثالث) حلفا مع الصرب والبشناق، وألحق الهزيمة بالجيش العثماني (سنة 1387 م) غير أن قوات العثمانيين انتصرت في السنة التالية على
(1) صمت نقوش جامع بروسه الذي بناه (أورخاى بن عثمان) سنة 1334 م ما يلي: (شيد هذا المسجد السلطان بن سلطان الغزاة، الغازي بن الغازي مرزبان الآفاق بطل العالم) تاريخ الشعوب الإسلامية - كارل بروكلمان ص 408.
(ششمان) وأسرته في مدينة (نيقوبوليس).
وفي سنة 1389، تجمعت قوات ضخمة من الصرب والبشناق والمجر والبلغار والألبانيين - الأرناؤوط - والتقت بالقوات العثمانية عند (قانصوه - ميدان الطيور السود) وقاد مراد الهجوم بنفسه، غير أنه سقط قتيلا وهو في ذروة انتصاره. فتولى ابنه (بايزيد) إكمال النصر وذلك بأسر بلك الصرب - لازار - وقتله. وتابع (بايزيد) سيرة الجهاد، فلم تمض أكثر من ثلاث سنوات حتى تم إخضاع الصرب بكاملها وبلاد البلغار، مع الاستيلاء على (آلاشهر) آخر ممتلكات البيزنطيين في آسيا الصغرى.
وعاد البابا (بونيفاسيوس التاسع) ليرفع راية الحرب الصليبية وهو يشهد انتصارات العثمانيين ويسير الدعاة بدعوته للحرب ضد المسلمين في فرنسا والبلدان المجاورة لجبال الألب وجنوبي ألمانيا. وما أن أطل ربيع سنة (1394 م) حتى كان (سيجسموند) ملك المجر قد جمع حوله في (بودا) جيشا ضخما من الفرسان تقاطروا إليه من بلدان أوروبا الغربية. واصطدم هذا الجيش بجيش المسلمين الذي كان يقوده (بايزيد) يوم (27 - أيلول - سبتمبر) عند نيقربوليس، وانتهمت المعركة بانتصار المسلمين انتصارا حاسما. وتوغلت الجيوش العثمانية اللاحقة بفلولهم حتى (ستيريا). ثم إن بايزيد اقتص من حكام شبه جزيرة المورة اللاتين الذين حالفوا الصليبيين فدمر أراضيهم.
أما الخطر المغولي فقد عاد من جديد بظهور (تيمور) الذي اجتاح بلاد الشام، ثم انكفأ للهجوم على العثمانيين. وحدثت المعركة بين جيش المسلمين بقيادة بايزيد وبين المغول عند جبق آباد (جبوق
آباد) يوم 20 تموز (يوليو سنة 1402 م. وانتصر (تيمور) فحمل معه (بايزيد) في قفص من حديد الذي لم يلبث حتى توفي في 8 آذار - مارس - سنة 1403، فأكرمه (تيمور) بأن سمح بدفنه في جامع بروسة.
وتعرضت الدولة العثمانية على أثر هذه النكسة إلى حالة من العطالة والتمزق الداخلي لم ينقذها منها إلا ظهور مراد الثاني الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه السلطان محمد في أدرنة سنة 1421 م.
أمضى (مراد الثاني) فترة من الوقت لإعادة تنظيم الدولة والقضاء على مناوئيه. حتى إذا ما جاء يوم 29 آذار (مارس) 1430 م اقتحمت قوات المسلمين مدينة سالونيك ودمرتها تدميرا تاما. ثم إن مرادا حاول أن يبسط سلطانه على البلقان، فتصدت له القوات المجرية، واستطاع (يوحنا هونيادي) الترانسلفاني تكبيد قوات العثمانيين خسائر فادحة أوقفت تقدمهم. وشكل ذلك حافزا للقيام بدعوة صليبية جديدة تشنها النصرانية على أعدائها. ورحب النصارى بإعلان (البابا أوجانيوس الرابع) لهذه الحرب ترحيبا حماسيا في المجر وبولندة - بولونيا - وألمانيا وفرنسا.
وغادر الجيش الصليبي مدينة (بودا) في تموز - يوليو سنة (1443 م) ليحرز في 24 كانون الأول - ديسمبر - انتصارا كبيرا عند (جالوواز) بين صوفيا وفيليبوبوليس ، وتوقفت هذه الحملة لتستأنف تقدمها في صيف السنة التالية حيث اصطدمت عند وارنا (فارنا) بجيش العثمانيين الذي كان يقوده (مراد الثاني) وحدثت المعركة يوم 9 تشرين الثاني - نوفمبر - 1444. وكان انتصار العثمانيين رائعا تم به إزالة آثار هزيمة السنة السابقة.
وحدثت معركة أخرى في 17 تشرين الأول - أكتوبر - 1448 بين حاكم المجر (هونيادي) وبين مراد الثاني، في سهل قوصوه. وبعد معركة استمرمت يومين انتصر مراد الثاني انتصارا حاسما.
وتوفي (مراد الثاني) في 5 شباط (فبراير) سنة (1451 م) وتولى ابنه (محمد) الملك فمضى لتوطيد دعائم حكمه، ثم انطلق لمتابعة سياسة أسلافه، فقام بتشييد قلعة (روم إيلي حصار) المنيعة على بعد لا يتجاوز سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية، عند أضيق نقطة من البوسفور، وذلك في آواخر سنة (1401 م). وعندما أرسل الإمبراطور البيزنطي احتجاجا للسلطان محمد أمر هذا بقطع رؤوس أفراد الوفد الذي حمل الاحتجاج عليه، وكان ذلك بداية المرحلة الأخيرة للصراع الذي قضى على ما تبقى من إمبراطورية الروم (البيزنطيين).
فقد حاصرت جيوش الأتراك العثمانيين القسطنطينية، وعزلتها عن العالم، وحاولت أوروبا دعمها غير أنها فشلت في مساعيها. وفي 29 أيار (مايو) اقتحمت قوات المسلمين عاصمة الروم التي أعجزت المسلمين من قبل. ودخل السلطان محمد المدينة، فتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا. واستولى عليها رسميا باسم الإسلام، وحولها إلى مسجد. وانتهى عصر، وبدأ عصر جديد.
انصرف السلطان محمد الفاتح لإعادة تنظيم الدولة وتحويل (استانبول) إلى عاصمة جديرة بالدولة الإسلامية الواسعة الأرجاء، وذلك قبل انتقاله لتحقيق أول هدف له، وهو دعم الوجود الإسلامي في شمال شبه جزيرة البلقان، حيث كان المجر الأشداء في الحرب لا يزالون يتهددونها باستمرار. وكان لا بد للسلطان محمد من دعم
الوجود الإسلامي في الصرب بقوة حتى يمكن له الانطلاق لحرب المجر. وحدثت معارك كثيرة، انتهت بجعل نهر الدانوب (نهر الطونة) هو الحاجز بين قوات العثمانين المسلمين وأعدائهم.
وفي سنة (1456 م) قاد السلطان محمد الجيش بنفسه إلى بلغراد وحاصرها، غير أنه لم يتمكن من فتحها، فعاد في سنة (1458 م) لمهاجتها من جديد واستطاع فتحها. وفي الوقت ذاته القضاء على التمرد في شبه جزيرة المورة. وانتقل بعد ذلك لإخضاع اليونان، وتم له ذلك في الفترة من سنة 1462 م حتى سنة 1466م. وبذلك لم يعد (للبنادقة) دور يذكر في التحريض ضد المسلمين. وأمكن بعد ذلك تدمير مقاومة الألبانيين - الأرناؤوط من البوسة إلى حدود البندقية. وتدفقت جموع الأتراك العثمانيين على أوروبا. واضطرت البندقية إلى عقد صلح شريف مع العثمانيين في 26 كانون الثاني - يناير - سنة (1479م) حيث تنازلت فيه عن جميع ممتلكاتها في ألبانيا لمصلحة العثمانيين. وفي جملتها دراج (دوراجو) وانتيغاري وأوبة ولمنوس
وتايجت في المورة.
توفي السلطان (محمد الفاتح) في 3 أيار (مايو) سنة 1481. فعرفت الدولة فترة من الجمود الخارجي في عهد ولديه (جم وبايزيد) واستمر ذلك في عهد (سليم وأحمد) ابني بايزيد. وعندما استتب الأمر للسلطان (سليم) انصرف لحرب الشيعة في فارس. ثم انتقل لتصفية حكم المماليك البرجية في الشام ومصر، وتم له ذلك بعد معركة (مرج دابق شمالي حلب بتاريخ 24 آب اغسطس سنة 1516)، حيث سار السلطان سليم بعدها إلى مصر، فانتصر على (طومان باي) وقتله في 21 كانون الثاني - يناير (سنة 1517 م).
وأحدثت فتح سليم ذعرا صارخا في أوروبا، حتى لقد خشي البابا (ليو العاشر) من اتحاد كلمة المسلمين مرة أخرى فشرع يعد العدة للحرب، ولتوجيه حملة صليبية جديدة بحجة حماية المسيحين من أذى المسلمين. ولعل سليما كان يفكر في استئناف خطته لتفح الغرب يوم رجع إلى (أدرنة) سنة 1518م غير أنه لم يلبث أن توفي وهو في طريق عودته إلى (استانبول) في 2 - أيلول - سبتمبر - سنة 1520 م.
ورقي ابنه (سليمان - الذي اشتهر بالقانوني) عرش المملكة بدون معارضة. وانصرف أول ما انصرف إلى تحقيق أخطر ما تركه له أسلافه من مهام، وذلك بالاستيلاء على الحدود الشمالية. وتمكن العثمانيون بقيادة السلطان، من احتلال بلغراد (سنة 1021 م) ، ثم إن سليمان اختصر بعد هذا النصر الحملة الشمالية ابتغاء إنفاذ خطة أبيه الأخيرة الهادفة إلى فتح (رودس)، حيث كان فرسان القديس يوحنا لا يزالون يمدون حملات القراصنة النصارى العائثين فسادا، بالمساعدة. وفي نهاية تموز (يوليو) سنة 1522، ضرب العثمانيون الحصار على القلعة. ولكن قائد المنظمة الأكبر لم يستسلم إلا في 21 كانون الأول - ديسمبر - بعد أن تكبد الجانبان المتصارعان خسائر مريعة. وبعد أن منح حرية الإنسحاب لجميع الفرسان، وتعهدت الدولة العثمانية بالمحافظة على سلامة أشخاصهم وممتلكاتهم، وبإسقاط الجزية عن أهل الجزيرة الأصليين - وهم نصارى - خمس سنوات كاملة.
كانت السياسة الإفرنسية تقوم على مناهضة أسرة (هابسبورغ)(1) الملكية، وبذلك خطا (السلطان سليمان) خطوات
(1) أسرة هابسبورغ: (MAISON DE HABSBOURG) عائلة ألمانية تكونت في =
بعيدة في تحالفه مع (آل بوربون)(1) من أجل تنفيذ مخططاته ضد جارته الشمالية (المجر). وما لبثت العلاقات الودية أن تطورت منذ ذلك الحين بين باريس واستانبول، فضمنت فرنسا لنفسها طوال القرون التالية مركزا ممتازا بين الدول الكبرى في كل ما يتصل بالسياسة الشرقية، غير أن ذلك لم يمنع فرنسا في بعض الفترات من الإسهام بدعم الحملات الصليبية ضد الأقطار الإسلامية، وأحيانا ضد الدولة العثمانية ذاتها 0
استأنف سليمان الحرب ضد المجر في سنة 1526. ووقعت معركة (موهاج أو موهاكس) (2) في 28 آب - أغسطس -
= البداية ونشأت في إقليم السواب (SOUABE) أو بالألمانية (SCHWABEN) الذي كان دوقية وأصبح اليوم بشكل القسم الجنوبي - الغربي من بافاريا وعاصمته أوغسبورغ AUGSBOURG. وقد عرفت هذه الأسرة بثرائها الفاحش. وقد اشتقت الأسرة اسمها من قصر حصين كانت تمتلكه في سويسرا (إقليم أوكانتون أرغوفي: ARGOVIE) وقد وسعت هذه الأسرة حدودها فضمت إليها سويسرا والالزاس منذ سنة (1153 م) وشكلت بعد ذلك مملكة (إمبراطورية) في عهد رودولف هابسبورغ ضمت بالإضافة إلى أملاكها السابقة أقاليم بوهيميا وهنغاريا وإسبانيا وسيطرت على النمسا والبلاد المنخفضة وقسما من إيطاليا والعالم الجديد - أمريكا - وفي عهد الإمبراطورة ماريا تيريزا - إمبراطورة النمسا التي شنت الحروب السيليزيه ضد فريدريك الثاني (حرب السبع سنوات) توطدت عرى الصداقة مع (آل لورين) ثم جاءت عملية زواج ابنة ماريا تيريزا (من لويس السادس عشر) لتغير من علاقات هذه الأسرة، وتشكل لها فروعا جديدة.
(1)
آل بوربون: (MAISON DE BOURBON) يعود تاريخ هذه الأسرة إلى القرن العاشر الميلادي. وقد انتقلت سيادة البوربونيين عن طريق المصاهرة إلى (الدامبير: DAMPIERRE) ثم إلى الكابيسيين CAPETIENNE وبدأ فرع من هذه الأسرة بحكم فرنسا منذ حكم هنري الرابع (1089) وابنه لويس الثالث عشر. ومنهم الفرع الذي يحكم إسبانيا حاليا (خوان كارلوس).
(2)
مواهاج: (MOHACS) مدينة هنغارية تقع على الدانوب قريبا من الحدود اليوغوسلافية. وفيها انتصر السلطان سليمان على (لويس الثاني) سنة 1526. وفيها أيضا قتل الأتراك العثمانيون شارل أمير اللورين سنة (1687 م).
وانتهت هذه المعركة بمقتل ملك المجر (لويس) ومعه عدد كبير من رجال دولته. ولم تلبث (بودا)(1) أن سقطت في قبضة القوات العثمانية (في 11 أيلول - سبتمبر) ثم إن الحرب نشبت بين ملك النمسا (فرديناند) وأمير ترانسلفانيا (جان زابوليا) بسبب النزاع على تاج المجر، فلم يكن من سليمان إلا أن ناصر (زابوليا) على خصمه، واحتل (بودا) مرة أخرى في سنة (1529 م) ليحتفل فيها بتتويج حليفه ملكا على المجر. ومن ثم تقدم سليمان إلى (فيينا) فحاصرها، ولكن قلة المؤن اضطرته إلى رفع الحصار عنها في (15 - تشرين الأول - أكتوبر) ولم تكن حملة سنة (1532 م) أوفر حظا من سابقتها. فقد صمدت قلعة (كوسك) - المجرية الصغيرة في وجه القوات العثمانية طوال شهر آب - أغسطس - فعمل على عزل القلعة، وقطع الإمدادات عنها حتى سقوطها في قبضة العثمانيين يوم (28) من الشهر نفسه.
ولكن أسطول الإمبراطور شارل الذي كان يقوده أمير البحر الجنوي (اندربا دوريا) والذي كان يعمل في نجاح على شواطىء المورة، لم يلبث أن أضاع على السلطان سليمان ثمرة انتصاره. فتم عقد معاهدة للصلح بين المجر والسلطان سليمان. غير أن الصراع لم يتوقف، وأحرز سليمان نصرا حاسما على (آل هابسبورغ) وضم إليه مساحة واسعة من بلاد المجر وفي (2 - أيلول - سبتمبر - 1543) احتلت القوات العثمانية مدينة بودا، وحولت كنيستها إلى مسجد، وأقامت إدارة عثمانية تتولى إدارة بلاد المجر.
ذلك هو الموقف على الجبهة الشرقية يوم ظهر الأخوان (ذوي اللحى الشقراء).
(1) بودا: (BUDA) كانت عاصمة المجر، تقع على الدانوب، ودمجت مع مدينة بست (PEST) سنة (1873) لتشكل مدينة واحدة حملت اسم (بودا - بست).