الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
3 -
عروج في الخالدين
873 -
924 هـ = 1468 - 1518 م
عاش عروج مجاهدا في سبيل الله منذ نعومة أظفاره - في العاشرة من عمره - وحتى يوم استشهاده (ببني سناسن) وعمره لا يتجاوز الخمسين عاما - ويقال أربعة وأربعون -.
ولقد أثارت حياته بقدر ما أثار استشهاده نوعا من الإثارة التي لا يمكن وصفها، وحتى اسمه بقي موضع جدل كبير، فلقد أريد - عن جهل أو عن عمد - الإساءة لهذا المجاهد العظيم، وأمكن بالإعتماد على الوثائق إجراء تصحيح اسمه فجاء كالتالي:(1).
(الإسم الحقيقي لهذا البطل الإسلامي العظيم، مؤسس دولة الجزائر، إنما هو (عروج - بضم العين وضم الراء) وهي عربية صميمة معناها الإرتفاع والصعود، ودخلت التركية عن طريق ذكرى حادث عظيم في حياة رسول الله محمد صل الله عليه وسلم، هو حادث (الإسراء والمعراج).
(1) حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 159 - 161 و 192 - 195.
ولا ريب في أن البطل قد ولد في ليلة المعراج، فدعاه أيوه (عروج) تيمنا بذلك الحادث العظيم، كما يطلق الأتراك كثيرا على مواليدهم الذين يولدون خلال تلك الأشهر الحرم أسماء (رجب وشعبان ورمضان ومحرم). ومعروف أن الأتراك لا ينطقون حرف العين، بل يقلبونها ألفا يندمج مع ما بعده. فمدينتا (عشاق وعين أوني) مثلا وهما في بلادهم تلفظان حسب نطقهم (أوشك وأين أوني) وكلمة (عروج) ينطقون بها (أوروج). وهذا هو الإسم الذي اشتهر به بطلنا شرقا وغربا. وقبل أن يرجع الجزائريون هذا الإسم إلى أصله العربي، ويعيدون له (عينه) نطقا، كانوا في مستهل الفتح يكتبونه على الطريقة التركية (أوروج) ويدل على ذلك أثران قديمان، لا يزالان موجودين إلى اليوم: أحدهما الرخامة المنقوشة والتي كانت موضوعة على باب حصن شرشال. وثانيهما: الرخامة المنقوشة التي كانت على باب مسجد الشواش بالعاصمة الجزائرية. فرخامة شرشال قد نقش عليها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله - هذا برج شرشال أنشأه القائد محمود بن فارس التركي، في خلافة الأمير القائم بأمر الله، المجاهد في سبيل الله، أوروج بن يعقوب، بإذنه، بتاريخ أربع وعشرين بعد تسعمائة).
أما رخامة مسجد الشواش الذي هدمه الإفرنسيون، والذي كان على مقربة من ساحة الشهداء في الجزائر فهي تحمل اسم:
أوروج بن أبي يوسف يعقوب التركي
ويظهر من ذلك أن والد البطلين المنقذين كان تركيا صميميا،
خلافا لما يدعيه كثير من مؤرخي الإفرنج ويمكن أن يضاف إلى ذلك، لتصحيح هذا النسب وإضفاء نور جديد عليه، هذه الرخامة الموجودة بمتحف مدينة الجزائر، والتي كانت موضوعة فوق باب المسجد الذي أمر ببنائه في الحضرة الجزائرية السلطان خير الدين وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
({في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} أمر ببناء هذا المسجد المبارك السلطان المجاهد في سبيل رب العالين مولانا خير الدين بن الأمير الشهير المجاهد أبي يوسف يعقوب التركي. بلغه الله سؤله، وأعانه على جهاد عدو الله ورسوله. بتاريخ أوايل جمادى الأولى من عام ستة وعشرين وتسعمائة) أي نيسان - أبريل - سنة 1520م.
ولقد سقط (عروج) فوق ثرى الجزائر الطهور، ولم يصدق الأعداء حصولهم على مثل هذا النصر، فما كان من الإسبانيين إلا أن احتزوا رأس (عروج). وساروا به توا نحو وهران، ومن هنالك سير بها إلى إسبانيا، حيث طيف بها على أكبر مدنهم، وذهبوا بها بعد ذلك أوروبا، حيث طيف بها كذلك خلال أغلب المدن الأوروبية التي كانت فرائصها ترتعد من مجرد ذكر اسم (بربروس) أما ثيابه المزركشة التي تركها في تلمسان، فقد أخذت إلى إسبانيا، وطيف بها أيضا أغلب المدن قبل إيداعها في معتكف (سان جيروم) القرطبي. ويذكر أن جثمانه حمل إلى العاصمة (الجزائر حيث دفن بجوار ضريح (سيدي رمضان). وقبره عن يمين الداخل متصلا بجدار المسجد.
ومضى الشهيد المجاهد إلى (جنة الخلد) تاركا للدنيا ذكرا
خالدا، قيل فيما ذكر عنه:
(كان للشقيقين - عروج وخير الدين - من الإقدام والجرأة، مقدارا يفوق التعارف عند الرجال، وكان لهما من الدهاء السياسي الخارق للعادة، ما يجعل الناس مشدوهين من وجود مثله عند رجلين لم تؤهلهما ثقافتها البدائية ليقوما بهذا الدور العظيم، دور قيادة الشعوب.
وهكذا كانت الخاتمة البطولية لهذا القرصان المغامر الذي لا نتمالك أنفسنا عن الإعجاب بإقدامه وبجرأته النادرة، كما نعجب أيما إعجاب بهذه العبقرية التي سادت أعماله في ميدان الحرب، وفي ميدان تنظيم الدولة. كما أننا نستنكر إلى جانب إعجابنا هذا كل الإستنكار، ما كان متصفا به من مصانعة ومن قسوة فظيعة).
تلك كانت كلمات المؤرخ بيشو في كتابه - تاريخ شمال أفريقيا - ولكن لا بد من التوقف قليلا عند عبارته الأخيرة التي وصف بها (عروج) بالقسوة الفظيعة، فهل كانت (قسوة الإسبانيين) أقل فظاعة وهم يجتاحون (وهران)؟ أم هل كانت قسوة (شارلكان) في تونس أقل (قسوة ووحشية؟) وهل كان بالمستطاع مجابهة تلك الوحشية - بإنسانية -؟ المهم أن أقنعة الإنسانية هي أقنعة غريبة الألوان، غريبة الأشكال، وفقا للوجوه التي تضعها. والمهم في الأمر متابعة ما قاله المؤرخ - دي قرامون - في كتابه (تاريخ الجزائر تحت حكم الأتراك) حيث ذكر ما يلي:
(لا يرى كثير من المؤرخين في - عروج - أكثر من زعيم عصابة - لا غير - وإنني لا أعرف حكما جائرا مخالفا للحقيقة كمثل هذا الحكم. فإن البربروس الأول - عروج - ما كان إلا جنديا من جنود
الإسلام المغاوير، جاهد فوق متن البحار جهادا لا هوادة فيه، ضد أعداء ملكه، وضد أعداء دينه. على أنه كان ملتزما خلال جهاده هذا، بكل القواعد والأسس التي كان العمل جاريا بها خلال تلك الحقبة من التاريخ، فلم يكن أبدا، أكثر قسوة ولا أقل قسوة، من الأعداء الذين كان يمعن في محاربتهم، وعندما سنحت له الفرصة، وأمكنته غزواته من جمع قوة كافية حوله، تمكنه من القيام بجلائل الأعمال، حاول إنشاء إمبراطورية في الشمال الأفريقي، حيث كانت الفوضى ضاربة أطنابها. أما الوسيلة الوحيدة التي كانت تمكنه من إدراك تلك الغاية وتضمن له البقاء والاستمرار، إنما هي إبعاد المسيحيين عن البقاع التي يحتلونها في البلاد. ومن أجل تحقيق هذا الهدف أخذ يحارب المسيحيين قبل كل شيء، في شخص حلفائهم والخاضعين لهم، حتى يقطع عن النصارى كل طريق يتزودون منه، ويضطرهم بذلك إلى الإعتماد خاصة على ما يرد عليهم من إسبانيا. ولقد كانت بداية أمره سعيدة. وكان انتصابه بالجهات الغربية، يسمح له بإلقاء المهاجمين الإسبانيين إلى البحر لولا أنه قتل بسبب خديعة حلفائه. ولقد مات، مأسوفا عليه كل الأسف من قبل جميع الذين انضووا تحت رايته وعملوا تحت لوائه).
أما المؤرخ الكبير (شارل أندري جوليان) فيقول في مؤلفه (تاريخ الشمال الأفريقي):
(وهكذا انتهت في سن الرابعة والأربعين، هذه الحياة المجيدة في ميدان المغامرة، إنه هو الرجل الذي أنشأ القوة العظيمة لمدينة الجزائر وللبلاد البربرية - إنه بنظرة صادقة لا تخطيء، وهي نظرته المعتادة، قد أدرك مدى ما تستطيع أقلية عاملة تحقيقه في وسط مليء
بالمنافسات بين مختلف الإمارات المغربية، لكي يؤسس على حساب تلك الإمارات، دولة إسلامية قوية، لا تستطيع أن تنالها بسوء هجمات النصارى.
وعلى هذه الصفة، تمكن من بسط سلطانه على جهات متيجة (أو متوجة - بضم الميم وفتح التاء والواو والجيم) ووادي شلف وتيطري والظهرة والونشريس ثم تلمسان، ونسف مملكة بني زيان نسفا لم تقم لها من بعده قائمة، إنما كانت مأثرته هذه تتلاشى وتضمحل، لو لم يتلقفها ويحتضنها باليمين، شقيقه خير الدين، الذي سار بها في طريق النجاح والكمال).
تلك هي كلمات قليلة لا يمكن لها أبدا أن تفي المجاهد الشهيد بعض حقه، لقد كان من أول مآثره إبراز أهمية الجهاد في البحر. وكان من ثاني مآثره إعداد أخيه (خير الدين) لمتابعة دوره. وكان من ثالث مآثره انصرافه الكلي لإقامة الجزائر وتنظيمها بالتعاون مع شعبها وبإرادته ودعمه وتأييده، وكان في ذلك انتصاره الكبير الذي مهد لهذا الوطن العربي المسلم سبيل بناء المستقبل، وضمن له القدرة لمقاومة الحملات الصليبية طوال خمسمائة عام تقريبا (من الاستعمار الإسباني ثم الإستعمار الإفرنسي).
ولقد كان عدد المجاهدين من الأتراك العثمانيين قليلا، وهنا يبرز الدور العظيم الذي اضطلع به الشعب الجزائري العربي المسلم عبر تاريخه الطويل، وما قدمه من تضحيات، وما تحمله من نوائب. وبقي ذكر (عروج) خالدا في طليعة الشهداء الخالدين.
ومضت قوافل الشهداء فكانت تضحياتها بحق هي المنارات التي أضاءت لها دنيا الجزائر (المحروسة الخالدة).