الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(محيي الدين) تجنب مجابهة الموقف، فقبل تولي قيادة الجيش، تاركا للشعب الجزائري حرية تعيين الأمير الذي يختارونه لإدارة الحكم في الجزائر. وذكر للوفود أنه سيعتمد كل الاعتماد على (عبد القادر بن زيان) وعلى ولده (عبد القادر الجزائري) لما يعهده فيهما من الكفاءة والبطولة. فشكرته الوفود على ذلك، وعاهدته على أن تقدم لدعمه كل ما تستطيع. وكان ذلك نقطة التحول الحاسمة التي أدت إلى إعادة تنظيم الجزائر تحت قيادة (الأمير عبد القادر).
كان ذلك هو الوضع العام الذي جابه قوات الغزو الاستعماري للجزائر، فالمقاومة تتعاظم في كل مكان، وتحوك الانتصارات السهلة التي أحرزتها قوات الغزو في بداية الأمر إلى عبء ثقيل يرهق القوات الإفرنسية في الجزائر بقدر ما يقلق رجال الدولة الإفرنسية ذاتها، وزاد الأمر سوءا ببقاء الوضع المضطرب في ولاية هي من أكبر ولايات الجزائر، هي (ولاية قسنطينة) والتي تولى قيادة المقاومة فيها رجل أمكن له الصمود في وجه فرنسا وقواتها طوال ثمانية عشر عاما، على الرغم من مجموعة الظروف الصعبة التي كانت تحيط به، وتنتصب في مواجهته، خلال كل عمل من أعماله.
و- الحاج أحمد (باي قسنطينة):
تولى (الحاج أحمد) إمارة (بايليك قسنطينة) في سنة 1827 من قبل (حسن باشا)، حاكم الجزائر. وكان (الحاج أحمد) مرتبطا بإقليم قسنطينة بالمصاهرة، فكان كرغليا (أي من أب تركي وأم جزائرية) وكان أخواله من عائلة (ابن غانة) التي كانت لها مكانة وسلطة على عرب الصحراء في نواحي بسكرة والزاب: كان جده هو (أحمد القلي) الذي كان (بايا على قسنطينة) أيضا، أما والده فقد
الحاج أحمد باي ولد شريف
Hadj Ahmed Bey، Fils de Ahmed Cherif
كان خليفة لحسين باشا. وقد تصاهر أحمد مع عدد من الأسر والقبائل العربية في المنطقة هادفا إلى نيل تأييدهم. فتصاهر مع
(ابن غانة) و (المقراني) وقسم من قبيلتي (فرجاوة وزواوة). ولكن أعداءه كانوا أولاد فرحات الذين يتنازعون منصب (شيخ العرب) مع أولاد ابن غانة. وقد واجه الحاج أحمد عدوا لدودا في شخص (فرحات بن سعيد) عندما عزله الحاج أحمد من منصب شيخ العرب وإعطاه إلى خاله (بوعزيز بن غانة) كما واجه الحاج أحمد خصوصا في بقية فرجاوة وزواوة، وفي الحزب الذي ظهر ضده في عاصمة إقليمية.
وقف (الحاج أحمد) إلى جانب (الداي حسين باشا) عندما وقع الغزو الإفرنسي، واشترك في معركة (اسطاوالي) وعندما ظهرت
النتيجة، وتقررت معركة الجزائر - عسكريا - انسحب (الحاج أحمد) إلى (وادي القلعة) ثم إلى (عين الرباط - مصطفى باشا الآن) شرقي العاصمة، ثم تابع طريقه شرقا في اتجاه قسنطينة، بينما انضم إليه أكثر من ألف وستمائة مقاتل من الفارين من وجه الجيش الإفرنسي ومعهم بعض النساء. وعندما وصل إلى (أولاد زيتون) استلم رسالة من (دوبرمون) قائد الجيش الإفرنسي يطلب فيها من (الحاج أحمد) دفع اللازمة (الجزية) على نحو ما كان يدفعها إلى الباشا بعد أن تم توقيع معاهدة التسليم من قبل (الباشا حسين). ووعد (دوبرمون) بالإبقاء على (الحاج أحمد) والاعتراف به كما كان من قبل. غير أن (الحاج أحمد) رد على ذلك بقوله:(إن مثل هذا الأمر يتطلب موافقة أهل الإقليم الذي يحكمه) ثم واصل سيره نحو (قسنطينة) التي وصل ضاحيتها (الحامة) بعد اثنين وعشرين يوما. وتوقف (الحاج
أحمد) في الحامة لأنه عرف أن خصومه الأتراك قد قاموا بانقلاب ضده، وعينوا بايا جديدا مكانه يدعى (حمود بن شاكر). ولكن أنصاره تحركوا عندما علموا بعودته تحت قيادة خليفته (ابن عيسى) وبعض العلماء، وعندما تأكد خصومه من عدم تأييد أهل البلاد لهم قتلوا زعيمهم وأعلنوا توبتهم وولاءهم. وتظاهر (الحاج أحمد) بالعفو عنهم؛ ولم يلبث أن (حاكم قادة المنشقين) وأمر بقتلهم وجعلهم مثالا لغيرهم. وحصل منذئذ كره شديد ضد الأتراك وأصبح لا يثق بهم. واعتمد على تأييد العنصر العربي - الجزائري -الذي أخذ في تكوين جيشه من رجاله. وكان (الحاج علي) يتعرض لضغوط ديبلوماسية قوية، فكان أول عمل له جمع ديوانه واستشارته في موضوع رسالة القائد الإفرنسي (كلوزول) التي تتضمن (تعيين الحاج أحمد بايا على قسنطينة باسم الملك الإفرنسي، شريطة أن يدفع له اللازمة - الجزية -) غير أن الديوان رفض بشكل قاطع الاقتراح الإفرنسي باعتبار أن الحاج أحمد يستمد سلطته الشرعية من الشعب ومن السلطان العثماني - المسلم - لا من ملك فرنسا. وأرسل (الحاج أحمد) رسالة إلى السلطان محمود يشرح له الموقف. وأثناء ذلك، أصدر (كلوزول) قراره بعزل (الحاج أحمد) واتخذ في الوقت ذاته إجراء (خبيثا) لإضعاف موقف (الحاج أحمد) حيث وقع (كلوزول) معاهدة مع تونس يصبح بمقتضاها (سي مصطفى) أخو باي تونس في تلك الفترة (بايا على قسنطينة) خلفا (للحاج أحمد)(1). ولم توافق فرنسا على هذه المعاهدة، غير أن هدف
(1) وقعت هذه المعاهدة في 18 تشرين الأول - أكتوبر - 1830، وهناك معاهدة أخرى شبيهة بها وقعها الجنرال - كلوزول - مع ممثل آخر عن باي تونس (اسمه خير الدين) لحكم إقليم وهران.
المعاهدة قد تحقق بتصعيد الصراع بين (قسنطينة) و (تونس). إذ عمل (باي تونس) بعد توقيع المعاهدة على إرسال الرسائل إلى إقليم (قسنطينة) داعيا الناس إلى الثورة ضد (الحاج أحمد) متهمة إياه بالاستبداد والطغيان والخروج على طاعة السلطان، ومعلنة انضمام قسنطينة إلى تونس. وتجنبت هذه الرسائل ولو مجرد الإشارة إلى الاتفاق مع فرنسا (كلوزول). وأصبح على الحاج أحمد أن يخوض الصراع على عدة جبهات: جبهة ضد فرنسا، وأخرى ضد تونس، وثالثة ضد إبراهيم الذي أعلن نفسه بايا على عنابة، وطالب بعودته إلى (قسنطينة) ورابعه ضد باي (تيطري) الذي أعلن نفسه (باشا الجزائر) خلفا (لحسين باشا) وطالب الحاج أحمد الاعتراف به. وخامسة ضد (فرحات بن سعيد شيخ العرب) الذي عزله (الحاج أحمد) وعين بدلا منه خاله (بوعزيز بن غانه) هذا بالإضافة إلى المؤامرات التي حيكت ضده داخل عاصمته. ولم يقف (الحاج أحمد) مكتوف اليدين، فجمع ديوانه، وعرض عليهم دعوى (باي تونس) فقرر الديوان إرسال رسالة إلى باي تونس يعلمه فيها:(أنه لا حق له بالمطالبة بقسنطينة. وأن السلطان محمود هو المرجع، فكما أن باي تونس يستمد سلطاته منه، فكذلك باي قسنطينة، وأن أهل قسنطينة راضون بحكم الحاج أحمد).
اتخذ (الحاج أحمد) خطوة حاسمة بعد ذلك، إذ حمل لقب (باشا) وأمر بضرب السكة (النقود) باسمه وباسم السلطان العثماني. فانتزع المبادرة من (باي تيطري)(1) وأحبط مخطط (باي
(1) أعلن (باي تيطري) مصطفى بومزراق نفسه باشا، وطلب من الحاج أحمد الاعتراف به لكي يرسل إليه (القفطان) فلم يرد عليه. وقال للوفد (نحن سواء) والبارود =
تونس) ثم عين وزيرا للمالية (هو مساعده بن عيسى) باسم خزنجي - وأعلن أن هذه الإجراءات الإدارية تخوله ممارسة السيادة على الرأي العام. غير أن المعركة بينه وبين باي تونس لم تتوقف وإنما انتقلت إلى بلاط السلطان العدناني، فقد علم (الحاج أحمد) أن باي تونس قد بعث برسائل إلى السلطان يصف فيها باي قسنطينة بظلم الرعية والخروج عن الطاعة. فلجأ الحاج أحمد إلى إرسال وفد برئاسة (سي علي بن عجوز) أحد أعيان قسنطينة ومعه أحد ثقاته وهو (الحاج مصطفى) إلى استانبول، حيث ظل أربعة شهور. وقد حمل الوفد إلى السلطان موقف الإرادة العامة التي استندت على توقيعات رؤساء القبائل وأعيان البلاد وجميعها تؤيد حكمه وتنفي عنه الاستبداد والظلم. وبعد السيطرة على الموقف في قسنطينة، التفت (الحاج أحمد) إلى خصومه الذين تخلص من بعضهم بمساعدة الظروف، ولكن بعضهم ظل كالشوكة في حلقه. فقد خرج لمحاربة إبراهيم وفرحات بن سعيد. فهرب الأول إلى عنابة عن طريق تونس، والثاني إلى أولاد جلال في أعماق الصحراء، حيث ظل يحارب بدون هوادة، وكان (إبراهيم) في عنابة قد تواطأ مع الإفرنسيين أولا، ثم أعلن الحرب عليهم، وأخرجهم من المدينة، ولكن ابن عيسى، مساعد الحاج أحمد، حاربه واضطره للهروب، ثم تحولت المعركة على عنابة بين ابن عيسى والإفرنسيين. وعندما أيقن (ابن عيسى) من تغلب الإفرنسيين عليه، خرج منها هو وسكانها، ودخلها الإفرنسيون من جديد، واستقروا بها بعد سنتين
= هو الذي يقرر بيننا. فعزله بومزراق وعين بدله غريمه إبراهيم. ولكن بومزراق انهزم أمام الإفرنسيين وأسروه في تشرين الثاني - نوفمبر - 1830 واستقر بعد ذلك في الإسكندرية، وتخلص الحاج أحمد بذلك من أحد خصومه.
من احتلال الجزائر. وقد كان احتلالهم لعنابة، أهم موانىء إقليم قسنطينة، سببا في توتر مستمر بين فرنسا والحاج أحمد. وقد عين الإفرسيون على عنابة (يوسف المملوك)(1). أما إبراهيم، فقد احتمى بالجيال، وواصل مقاومته للحاج أحمد إلى سنة 1834 م. وكان في الوقت ذاته يحارب الإفرنسيين، ثم التجأ إلى (مدينة المدية) حيث مات، ويقال أنه اغتيل من عملاء الحاج أحمد. وإذا كان الإفرنسيون قد خلصوا (الحاج أحمد) من خصمه (بومزراق) حين أبعدوه إلى الإسكندرية (خريف 1830م) كان ابنه (سي أحمد) قد انضم إلى الحاج أحمد وأصبح خليفة له ورشحه أن يكون صهرا له. غير أن (سي أحمد) لم يلبث أن فر من عنده، والتجأ إلى الأمير عبد القادر (الخصم الآخر للحاج أحمد)(2).
بذل (الحاج أحمد) جهودا كبيرة للحصول على دعم عاجل من (السلطان محمود) غيرأن جهوده لم تنجح في تأمين المساعدات خلال الفترة التي كانت فيها (قسنطينة) أحوج ما تكون لهذه المساعدات. وعاد الوفد الذي أرسله (الحاج أحمد) لهذه الغاية وهو يحمل ردا غامضا من السلطان (يحمل توقيع رؤوف باشا).
(1) يوسف مملوك: يهودي مرتد، كان أسيرا لدى باي تونس، ووقع في غرام ابنة هذا الداي، وعندما اكتشف أمره، هرب إلى الجزائر، ثم التحق بالجيش الإفرنسي، وأصبح من المغامرين فيه. وأصبح جنرالا كبيرا فيه، وكان له دور خطير في احتلال قسنطينة، وزعم أنه ابن غير شرعي لنابليون الأول، وأنه من جزيرة (البا)(تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد الله ص 133 - 134).
(2)
جاء في (تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد الله - حاشية صفحة 135) ما يلي: (هرب سي احمد بأموال الحاج أحمد. وقد أكرمه الأمير - عبد القادر - ثم كواه بالنار عندما اكتشف انحرافه - ففر من عنده أيضا إلى الإفرنسيين).
وكان هذا الرد يذكر: (بأن السلطان في حالة سلم مع الدول المسيحية، وأنه لا يستطيع إعلان الحرب على فرنسا بسبب قضية الجزائر، أو بالأحرى قضية قسنطينة، ولكنه طلب من الحاج أحمد متابعة جهاده ضد الإفرنسيين، وألا يوقع صلحا معهم إلا بعد استشارته). غير أن الحاج أحمد لم ييأس. فأرسل وفدا آخر إلى السلطان (برئاسة السيد بلهوان) الذي كان يحمل رسالة إلى الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - (رؤوف باشا). وألح الحاج أحمد في رسالته على طلب المساعدة المادية، وأعلن أنه مستعد للتضحية من أجل الدين، وأن الإفرنسيين يقتربون منه يوما بعد يوم. ولكن (رؤوف) هذا استقبل بلهوان استقبالا فاترا، ووعده بإرسال مندوب عنه إلى قسنطينة لتقصي حقائق الموقف، فكان هذا المندوب هو (كامل بك). ولكن، وقبل وصول (كامل بك) كانت هناك الاتصالات قد استؤنفت بين الحاج أحمد وبين القائد العام الإفرنسي في الجزائر (الدوق دو روفيغو) للتفاوض، حيث قام (حمدان بن عثمان خوجة) بنقل رسالة من الدوق إلى الحاج (في صيف سنة 1832 م) تتضمن إعلان (الحاج أحمد) استلام بلاده لفرنسا، ودفع ثلاثة ملايين فرنك ضريبة حرب، ودفع اللازمة السوية - الجزية - وذلك مقابل اعتراف فرنسا بالحاج أحمد (بايا) على إقليم (قسنطينة). وجمع (الحاج أحمد) أعيان المدينة، بحضور خوجة، وأطلعهم على رسالة الدوق، وبعد المناقشة استقر رأيهم على دفع اللازمة، بشرط أن تعيد فرنسا الأراضي التي احتلتها من الإقليم، ولا سيما ميناء عنابة، وإقامة قنصل فرنسي في عنابة، وإعلام القائد العام الإفرنسي بعدم قدرة الإقليم على دفع ضريبة الحرب، وإبقاء ذلك كله مرهونا بموافقة السلطان وإرادته حيث
المدفعية الإسلامية في الدفاع عن قسنطينة
Raffet. Batterie Couverte Servie Par les Musulmans Lors De La Resistance De Constantine
يجب على الإفرنسيين الاتصال به مباشرة. وحمل (خوجة) رأي أعيان قسنطينة إلى الدوق، ثم رجع برسالة أخرى تحمل الشروط التالية:(دفع (50) ألف دورو، واللازمة السنوية، وتعهدت فرنسا بالحصول على القفطان للحاج أحمد من استانبول، ولكنها تبقي حامية عسكرية في كل من عنابة وقسنطينة، ويظل ميناء عنابة في قبضتها) ولكن الحاج أحمد لم يقبل هذه الشروط، وأحال الإفرنسيين على السلطان العثماني.
وصل موفد استانبول (كمال بك) إلى قسنطينة عند هذه المرحلة، واستقبله الحاج أحمد استقبالا حارا. وفي اجتماع عام لأعيان المدينة ورؤساء القبائل والمسؤولين، خطب كمال بك، وقال بأن:(السلطان لم ينسهم، وأن عليهم بالصبر والإيمان، وقال أن السلطان يعمل على إبقاء إقليم قسنطينة تحت طاعته، وأن عليهم أن لا يقبلوا أي شرط بدون موافقه). وقد تأكد (كمال بك) على تعلق البلاد بالحاج أحمد، وعرف أن الرسائل التي ترد إلى استانبول من باي تونس لا تستند على الواقع، وعاد كمال إلى استانبول، وكتب إلى الحاج أحمد يعلمه أنه أطلع السلطان على الوضع، وأنه يعمل للوصول إلى حل لصالح الباي، ولكنه لم ينجح، وطلب منه أن يراسل السلطان عن طريق (سي الطاهر باشا) الذي أصبح حاكما لطرابلس.
علم الحاج أحمد بعد ذلك أن القيادة الإفرنسية قد حشدت قواتها في عنابة للقيام بحملة كبيرة ضد (قسنطينة) مستفيدة من فصل الشتاء (سنة 1836 م). فخرج الحاج أحمد بقواته من عاصمة الإقليم وسار بها مسافة نصف يوم، وأقام معسكره عند مكان يدعى
(وادي الكلاب). وكانت قواته تضم (5) آلاف فارس و (1500) من الرماة المشاة. وقد التقى الجيشان في مكان يسمى (عقبة العشاري). فتظاهر (الحاج أحمد) بالتراجع إذ شهد التفوق الكبير لقوات عدوه، غير أنه لم يتوقف عن الاشتباك بهم واستنزاف قدرتهم وتكبيدهم الخسائر حتى دخل (قسنطينة). ونصب الإفرنسيون مدافعهم على جبل المنصورة وسيدي مبروك الذي يشرف على المدينة وبدأوا في قصفها. كان الجيش الإفرنسي بقيادة كلوزول. وكان الثلج والمطر يهطلان بغزارة. وحاول الإفرنسيون إرغام المدينة الباسلة على الاستسلام، غير أنهم فشلوا في محاولتهم، واضطروا إلى التراجع عنها وانطلق الحاج احمد على
رأس جيشه فطارد الإفرنسيين حتى (قالمة). وفي طريق عودته إلى قسنطينة، وجد عربات محملة بالمواد التموينية التي خلفها الإفرنسيون وراءهم. وقد كان لهذا الانتصار وقع كبير في رفع الروح المعنوية للمجاهدين ومواطني قسنطينة، كما أدى إلى عزل كلوزول واستدعائه إلى فرنسا. ورجع الحاج أحمد إلى المدينة بعد انتصاره الكبير، وبدأ على الفور بإعادة تحصينها والاستعداد للجولة التالية، إذ كان على ثقة بأنه لا بد للسلطات الإفرنسية من إعادة المحاولة والانتقام لهزيمتها السابقة. وعلم (الحاج أحمد) بوجود فئة كانت ترغب في تسليم المدينة إلى الإفرنسيين أثناء عملية القصف، فحكم على بعضهم بالإعدام. ثم أرسل إلى السلطان يعلمه بانتصار المسلمين ويطلب دعمه. وفي الوقت ذاته، أبرزت هذه الأعمال القتالية كفاءة اثنين - بصورة خاصة - من قادة الحاج أحمد، وأكدت قدرتهما وإخلاصهما وهما (ابن عيسى) الذي أصبح رمزا للمقاومة البطولية و (البجاوي) الذي أصبح خليفة (للحاج
أحمد). وكان مما زاد المقاومة ضراوة وعنادا، إعلان الإفرسيين عن إرادتهم بتعيين (يوسف المملوك) بايا على قسنطينة، بينما كان أهل قسنطينة يعرفون أن (يوسف) هذا لم يكن مملوكا فقط، وإنما كان أيضا يهوديا مرتدا.
علم (الحاج أحمد) عن طريق مبعوث من استانبول بإرسال مساعدات لدعمه، وقد حمل إليه هذا المبعوث (صراف افندي) معلومات عن إرسال حاكم طرابلس (سي الطاهر باشا) اعلاما إلى السلطان يخبره عن انتصار قوات قسنطينة على الإفرنسيين، مما دفع السلطان إلى إرسال دعم سريع - في ربيع سنة 1837م، عن طريق تونس، ولم يمض على انتصار (الحاج أحمد) أكثر من أشهر قليلة، فارتفعت الروح المعنوية في صفوف المقاومة. ووصلت أربع سفن عثمانية إلى ميناء تونس وهي محملة بالجنود الأتراك مع اثني عشر مدفعا ومائة وخمسين مدفعيا. غير أن (باي تونس) الذي كان مهددا بالضرب من الأسطول الإفرنسي إذا نزل الجنود العثمانيون فوق أرضه، أرسل إلى القبطان العثماني، يأذن له بإنزال المدافع فقط، أما الجنود فقد اعتذر لهم عن إنزالهم. وأرسل (باي تونس) إلى الحاج أحمد يعتذر له عن موقفه ويعلمه أنه يرغب في إقامة علاقات ودية مع الإفرنسيين. وهكذا عاد الجنود الأتراك بسفنهم إلى قواعدهم في تركيا، واستخدم (باي تونس) المدافع التي كانت مرسلة إلى حامية قسنطينة، وبقي (الحاج أحمد) محروما من الدعم في وقت كان هو أحوج ما يكون إليه.
حاول الإفرنسيون استئناف المفاوضات مع (الحاج أحمد) في حين كانوا يكملون استعداداتهم لغزوه في عاصمة إقليمه.
فاتصلوا أولا باليهودي (ابن باجو) الذي كان يعمل في دار الحاج أحمد والذي كان يتاجر في (تونس). وكان القائد العام الإفرنسي عندئذ هو (دامر يمون) بعنابة قادما من الجزائر استعدادا للحملة المرتقبة. ورفض الحاج أحمد اقتراحات الإفرنسيين، وخرج لقتالهم في مكان يدعى (بلاد عمر). وهناك أرسل إليه (دامر يمون) يهوديا آخر هو (بوجناح) الذي كان يعمل في زي إفرنسي، عارضا عليه دبف مليونين من الفرنكات (ضريبة حرب) وإقامة حامية إفرنسية في قصية قسنطينة، وذلك مقابل أن تعترف به فرنسا (بايا) على الإقليم فيما وراء (مجاز عمار) أي باستثناء الأجزاء التي كانت فرنسا قد نجحت في احتلالها. غير أن علماء قسنطينة وأعيانها ورؤساء القبائل فيها رفضوا الشروط الإفرنسية. وأرسل الحاج أحمد رفضه إلى (دامر يمون) عن طريق (بوجناح). ولم يلبث هذا أن عاد وهو يحمل شروطا أخرى، ولكن الحاج رفضها، وأرسل رفضه في هذه المرة مع كاتبه لأنه لم يعد يثق باليهودي (بوجناح).
كانت الإدارة الإفرنسية في الجزائر قد عقدت في تلك السنة معاهدة مع الأمير عبد القادر - الجزائري - وأصبح باستطاعتها تركيز ثقل قواتها للعمل ضد (الباي الحاج أحمد). وعندما فشلت مفاوضاتها معه، عرف أن المعركة مع الإفرنسيين قد باتت وشيكة الوقوع، فأخذ في الاستعداد للقتال، وجمع شيوخ القبائل والقادة، وحشد (5) آلاف فارس و (ألفين) من المشاة الرماة من المجاهدين بالإضافة إلى جيشه النظامي الذي كان يعمل تحت قيادته الشخصية، وترك في عاصمة الإقليم (قسنطينة) حامية صغيرة مكونة من (1500) مقاتل وانطلق ببقية القوات لمحاربة الإفرنسيين. فهاجهم مدة ثلاثة أيام متواصلة في معسكرهم الواقع في (مجاز عمار).
ولكنه فشل في هذه المرة في صد زحفهم على المدينة. فقد تمكنوا من نصب الحصار عليها ثم دخلوها بينما كان المواطنون يحاربونهم
من دار إلى دار وم شارع إلى شارع. وأثناء هذه الجولة قتل (دامر يمون) القائد العام للجيش الإفرنسي فتولى مكانه الجنرال (فالي)(1) - كما قل (البجاوي) خليفة الحاج أحمد في (قسنطينة) وتكبد الحاج أحمد خسائر كبيرة وفقد أفضل جنده ومقاتليه. وغنم الإفرنسيون بعد استيلائهم على المدينة، مغانم كثيرة وأموالا ضخمة، ذلك لأن الحاج أحمد كان قد رفض إخلاء المدينة، كما رفض إخراج الثروات والكنوز الثمينة. عندما طلب ذلك منه أعيان المدينة حتى لا يؤثر ذلك على الروح المعنوية، وتأكيدا على التصميم في القتال حتى النهاية، وهو ما حدث فعلا. وخسر الإفرنسيون بالمقابل أعتدتهم وقسما كبيرا من قواتهم هذا بالإضافة إلى تموينهم. وجاءت الضربة الحاسمة التي زادت من متاعب (الحاج أحمد) عندما تخلى عنه صديقه (ابن عيسى) وساعده الايمن وعرض خدماته على الإفرنسيين. ولكن، وعلى الرغم من الهزيمة التي نزلت بقوات (الحاج أحمد) وعلى الرغم أيضا من ضياع ملكه وعاصمته، فقد صمم على متابعة الصراع المسلح، وعرضت عليه فرنسا الأمان، وتعهدت له بنقله إلى بلاد إسلامية. فرفض العرض الإفرنسي، ومضى يحمل السلاح وقد وضع مخططا جديدا لمقاومة الإفرنسيين يعتمد على تهديد خطوط مواصلات الإفرنسيين بين عنابة وقسنطينة، وعزلهم. غير أن صهره (ابن غانة)
(1) فالي: (SYLVAIN - CHARLES - VALEE) ماريشال فرنسا. (1773 - 1840 م) من مواليد بريين لوشاتو، وهو الذي قاد العمليات للاستيلاء على قسنطينة سنة (1837 م).
اعترض على هذا المخطط، وأراده أن يحارب (فرحات بن سعيد) أولا، ثم الإفرنسيين ثانيا. وهي الخطة التي عبر عنها الحاج أحمد بقوله:((الخطة التي فيها هلاكي) غير أنه لم يكن يستطيع مقاومة اعتراضات صهره (ابن غانة) بعد أن تضافرت جميع العوامل ضده: (موت أو تخلي قادته عنه، وخلافه مع صهره بوعزيز الذي التحق بالإفرنسيين فعينوه في منصب (شيخ العرب). وكذلك محاولة الأمير عبد القادر بسط نفوذه على إقليم قسنطينة، بتوجيه نداء إلى أعيانه، وتعيين خلفاء له فيه أمثال: حسن بن عزوز، وفرحات بن سعيد الذي لم ينس عزله له حتى بعد سقوطه على أيدي الإفرنسيين، هذا بالإضافة إلى جهود (باي تونس) المضادة له بسبب غيرته من (الحاج أحمد) والكيد له في وسط القبائل المجاورة ولدى السلطان، ثم فرنسا التي كانت ترى في وجوده بين العرب علامة خطر، فكانت تؤلب عليه القبائل، وتخلق له الصعوبات أينما حل وحيثما ارتحل. ويمكن أن يضاف إلى ذلك سلبية السلطان العثماني الذي كان (الحاج أحمد) يعتمد عليه حتى بعد سقوطه) وظل (الحاج أحمد) يقاوم كل هذه العوامل من سقوط قسنطينة (سنة 1837) وحتى استسلامه (سنة 1848) حيث كان ينتقل طوال هذه الفترة من قرية إلى قرية، ومن الجبل إلى السهل. وبينما كان في (جبل أحمر خدو) اتصلت به السلطات الإفرنسية في (باتنة) و (بسكرة) وعرضت عليه الاستسلام، وإعادة كل أشيائه إليه وأخذه ليعيش في بلاد إسلامية. فقبل العرض بعد أن كبرت سنه ووهنت قواه. وذهب من بسكرة إلى باتنة في 5 حزيران - يونيو - 1848 م، ومنها إلى قسنطينة عاصمة ملكه القديم، التي عاد إليها مجردا من سلاحه، واستقبله أعيانها عند مدخلها، ودخل إليها وسطهم في كوكبة من الخيل.
وأقام فيها ثلاثة أيام كان فيها محل رعاية خاصة. فكان أهلها يأتون إليه كل يوم بالأطعمة والألبسة وبعض مصنوعاتهم. ولكن السلطات الإفرنسية خشيت العاقبة، فمنعت الأعيان من زيارته وقدمتهم إلى المحاكم العسكرية. ثم نقلت (الحاج أحمد) إلى العاصمة عن طريق (سكيكدة). وهناك عينت له أحد المترجمين لمرافقته (وهو الضابط دي روزي) وعينت له ولأهله دارا لإقامته، وخصصت له مبلغ (12) ألف فرنك فرنسي سنويا لتغطية نفقاته. غير أنها لم تنفذ وعدها بإطلاق حريته، فبقي سجينا - تحت الإقامة الإجبارية حتى وافته منيته في الجزائر (سنة 1850 م) ويوجد قبره الآن في زاوية (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) وسط مدينة الجزائر، ولعل موته لم يكن طبيعيا.
…
حاول (الحاج أحمد) إقامة دولة تعتمد على تأييد السلطان العثماني، وتأييد الأرستقراطية المحلية فحافظ على النظام العثماني، وطلب مساعدة السلطان حتى يعطي لحكمه الهيبة والشرعية. وحاول بعد احتلال الجزائر توسيع قاعدة حكمه بتأييد الجماهير له، فكان لا يقرر شيئا هاما إلا بالرجوع إلى العلماء والأعيان وشيوخ القبائل وقادة الجيش، وإذا كان قد اعتمد في بداية أمره على الجند العثماني، فإنه لم يلبث بعد الاحتلال أن غير رأيه وتخلص من هذا الجند، معتمدا على العرب الذين أراد أن يشكل لهم دولة يكونون هم سادتها. ولم يحاول (الحاج أحمد) أن يوسع سلطانه حتى يشمل الجزائر كلها، فبقي مكتفيا، سواء في مفاوضاته مع الإفرنسيين أو في مراسلاته مع السلطان العثماني بحدود إقليمه (قسنطينة) خلافا لما كان يعمل له (الأمير عبد القادر) أو حتى
(مصطفى بومزراق - باي تيطري) الذي أخذ لقب (الباشا) وطالب الاعتراف به سيدا على الجزائر كلها.
لم يتمكن (الحاج أحمد) من الاتفاق مع (الأمير عبد القادر) لأنه كان يرى فيه (دعيا أو منتحلا للسلطة). وزاد من شك الحاج أحمد في الأمير أن هذا قد وقع اتفاقات مع الإفرنسين (معاهدة ري ميشان - 1834 - ومعاهدة تافنة 1837م). وبعد اتصال الأمير بقبائل (قسنطينة) أثر المعاهدة الأخيرة وإخطارهم أنه متفق مع الإفرنسيين أحس الحاج أحمد بالشك فيه والخوف منه. لا سيما وقد هدده الأمير عبد القادر بأنه سيهاجم قسنطينة مع الإفرنسين إذا لم يستسلم له (الحاج أحمد). وزاد من اتساع شقة الخلاف بينهما أن الإفرنسيين كانوا يعملون على إثارة الرجلين ضد بعضهما البعض. والواقع أن (معاهدة تافنة) التي جاءت بعد فشل المحاولة الأولى لاحتلال قسنطينة سنة 1836، كانت مساعدة على نجاح الإفرنسين في المحاولة الثانية، فقد أطلقت أيديهم في شرق البلاد. وتذكر بعض المصادر، أن الأمير عبد القادر كان على علم بخطة الإفرنسيين نحو قسنطينة، غير أنه لم يتدخل لأنه كان يعتقد أن نجاحها سيزيل عنه منافسا خطيرا.
وكان للحاج أحمد رأي في اليهود الجزائريين، فقد قال عنهم:(إنهم هم الذين عكروا دائما الشؤون السياسية التي تدخلوا فيها، فهم لا يحاربون، ولكن مصلحتهم هي دائما في رؤية الآخرين ممزقين. إنهم كالذئاب التي تأتي لتأكل ما خلفته الأسود). ودافع عن نفسه في التفاوض مع اليهودي القسنطيني (ابن باجو) لأن الإفرنسيين هم الذين أرسلوه إليه. أما (بوجناح) الذي جاءه في (زي