الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
معركة نافاران
(1827 م)(1)
اندلعت نار الثورة اليونانية ضد الخلافة العثمانية بزعامة (ابسلانتي) في سنة 1821 م. وفي سنة 1823 اعترفت إنكلترا باستقلال اليونان، وحذت روسيا حذوها حفظا لنفوذها في البلقان، وانضمت إليهما فرنسا. فتم تشكيل التحالف الثلاثي. وأرسلت مذكرة بذلك عن طريق إنكلترا، لإنذار الخليفة، غير أن السلطان محمد رفض الإنذار، وأنكر على دول أوروبا مجتمعة التعرض لشؤون السلطنة العثمانية، وعلى أثر ذلك بدأت دول الحلف في تنظيم قواتها للتدخل المسلح، واستثارة الرأي العام المسيحي كله تحضيرا لحرب الانفصال الأولى ضد العثمانيين، مدعمين في ذلك باندفاع رومانسي ألهب مشاعر أوروبا كلها ودفعها لحمل راية الصليبية. ومقابل ذلك طلب السلطان محمد مساعدة جيش محمد علي لسحق هذه الانتفاضة، وفي 16 كانون الثاني - يناير - سنة 1824، صدر مرسوم (فرمان) يقضي بالتنازل عن ولاية المورة
(1) نافاران: (NAVARIN) مدينة في البيلوبونيز، إقليم مسينا، وبها خليج على البحر الايوني.
لمحمد علي. فتم بذلك تكليفه بحكم هذه المنطقة الثائرة حكما فعليا. وفي العاشر من شهر تموز التالي، كان إبراهيم باشا - ابن محمد علي - يبحر من الإسكندرية بأسطول مؤلف من (63) بارجة و (100) زورق نقل وبجيش قوامه (60) ألف رجل. وكان يرافق إبراهيم باشا هيئة أركان نصفها أوروبي، ونصفها شرقي. وأمكن لهذا الجيش أن يقضي على الثوار اليونانيين، ويدمرهم مع مدربيهم ومعاونيهم وأنصارهم الأوروبيين - واهتمت أوروبا بهذا التطور الذي أحبط سياستها الرامية إلى تحرير اليونان، ودفعت الدول الصليبية الكبرى، للمرة الأولى منذ مائة عام، على التشاور والتحالف للقيام بهجوم مضاد. وكان إمبراطور روسيا - نيقولا - هو أول من استثمر هذا التحالف فوجه إنذارا مباغتا إلى الخليفة العثماني يوم 17 آذار - مارس - 1826م طالبه فيه بجواب حاسم خلال ستة أسابيع، وإلا فسيقطع العلاقات الديبلوماسية ويحمله كل العواقب المترتبة على مثل هذا الإجراء. وفي يوم 8 أيار - مايو - وجدت تركيا نفسها مرغمة على القبول بفقرات هذا الإنذار الذي كان يقضي بمنح مقاطعات مولدافيا وفالاشيا وصربيا البلقانية استقلالها الذاتي. وفي أثناء ذلك كان الاتفاق الروسي الإنكليزي قد رسم بالضبط حدود هذا الاستقلال الذاتي الذي فرض على الباب العالي، تحت طائلة تدخل مسلح تشترك فيه فرنسا أيضا، وكان يقصد من وراء ذلك إيقاف تقدم الجيش المصري الذي كان يستعد لمهاجمة أثينا بعد أن احتل (ميسولونجي).
تابعت القوات العثمانية - المصرية القضاء على ثورة المورة، وأرسل السلطان دعما إلى (إبراهيم باشا) يتكون من (4) آلاف
جندي من المشاة و (500) من الفرسان. وألقى مراسيه إلى جانب الأسطول المصري في نافاران. وعلى أثر ذلك اجتمع مؤتمر لندن - الذي لم تشترك فيه النمسا - يوم 6 تموز - يوليو - 1827، وأسفر المؤتمر عن معاهدة لحل الأزمة التركية - اليونانية بالقوة - إذا ما تطلب الأمر. وأرسلت هذه الدول أساطيلها إلى الشرق لإنفاذ قرارها، وأرسلت الأميرالية البحرية الإنكليزيه إلى قائد أسطولها في البحر الأبيض المتوسط (الأميرال كاردنجتن) بتلقي الأوامر من سفير إنكلترا في القسطنطينية. فأقلع الأميرال الإنكليزي من (أزمير). ورافقه الأسطول الإفرنسي بقيادة (الأميرال ريني) وتوجها معا إلى (نافاران) في جنوبي - غربي المورة ولحق بهما الأسطول الروسي. وكتب الأميرال الإنكليزي إلى (إبراهيم باشا) يطلب إليه التوقف عن ضرب اليونان ريثما تنتهي المفاوضات بين السفراء والباب العالي. فوعدهم إبراهيم باشا وعدا شفهيا بأنه لن يحرك أية قوة ضد اليونان حتى ترد إليه أوامر جديدة من الباب العالي.
واستمر أسطول الحلفاء في محاصرة (نافاران) والأسطول الإسلامي. ورأى قائد الأسطول أعمدة من الدخان تتصاعد في المورة، فكتب الأميرال الإنكليزي من جديد لإبراهيم باسم الحلفاء، أن يتوقف عن كل نشاط عسكري في المورة. فورد له جواب من أركان حرب إبراهيم باشا:(بأنه غاب منذ يومين ولا يعرفون له مقرا). ودخلت أساطيل الحلفاء على الفور مياه (نافاران) وحلت بين البوارج التركية والمصرية. ودارت معركة حاسمة تركز فيها الجهد على الأسطول التركي - العثماني، وفي ظرف (6) ساعات غرقت قطع الأسطول العثماني بكاملها مع بعض القطع المصرية. ولم تشرق شمس يوم 22 تشرين الأول -
أكتوبر - 1827 حتى كان الحلفاء قد دمروا القدرة الحربية العثمانية، ونفذوا العمل الذي بدأته المحالفة المقدسة سنة 1571م. وكان ضياع هذه القدرة البحرية هو نقطة التحول الحاسمة في الصراع الإسلامي - الصليبي. إذ أنها فصلت ما بين المشرق الإسلامي - والمغرب الإسلامي والذي كان البحر وسيلة الاتصال الأساسية فيه. وخسر العثمانيون أكثر من مائة بارجة وسفينة لم يكن من السهل تعويضها.
استجاب الباب العالي لهذا الهجوم الوحشي الذي تم في رابعة السلم، فاستولى على جميع القطع البحرية الأجنبية الراسية في القرن الذهبي. وبعد مفاوضات فاشلة، غادر ممثلو الحلف الثلاثي (إستانبول). غير أن الحرب على الباب العالي لم تعلن، وبدأتها روسيا في أيار - مايو - 1828 م بعد استعدادات ضخمة. وعلى الرغم من ذلك فقد عجزت الجيوش الروسية في السنة
الأولى عن إحراز أي نصر، سواء في البلقان، أو في القبق (القوقاز)، فلما كان ربيع سنة 1829 تولى الأمير (ديبتش) قيادة الجيوش الروسية في أوروبا. فحاصر (شملا) التي أوقفت تقدمه من قبل، وتابع تقدمه حتى (أدرنة) حيث فرض شروط معاهدة الصلح على السلطان في 14 - أيلول - سبتمبر - 1829 م. وتخلى العثمانيون بموجب هذه المعاهدة للروس عن جزر الطونة (الدانوب) والمقاطعات التركية الواقعة في (القبق - القوقاز) وأرغم السلطان أيضا على الاشتراك في معاهدة لندن، فأجبر بذلك على الاعتراف باستقلال اليونان.
وصل خبر هزيمة الأسطول الإسلامي في (نافاران) إلى
الشرق في مطلع تشرين الثاني - نوفمبر - وإذ توقع حكام مصر وسوريا هياج الجماهير، أصدروا الأوامر المشددة لحماية القناصل وجاليات التجار الأوروبيين. وقد نقل القنصل الروسي في الإسكندرية هذه الوقائع إلى حكومته بتاريخ 13 كانون الأول - ديسمبر - 1827. وأضاف أن خبر الهزيمة لم يحدث النتيجة المرجوة: أي أن يرضخ السلطان لمطالب الحلفاء. وكانت ردة الفعل الأولى لمحمد علي عند قراءته هذه الأخبار أن هتف قائلا: (الأقوياء دائما على حق). وبعد هذا بقليل - أي في يوم 27 كانون الأول ديسمبر - كان القنصل الروسي - بزوني - ينقل إلى الأميرال - هايدن - الذي كان في - مالطا - الحالة النفسية لمحمد علي بقوله: (
…
إن حدث نافاران لم يوثر على نفسية محمد علي، وأنه أفاد من هذه الفرصة ليكرر بأنه، بصفته طائعا لإرادة السلطان، لا يأسف لفقدان سفنه، وأن الخليفة سيجده دائما مستعدا لبذل كل الجهود الممكنة لمساعدته إذا ما قرر استئناف الحرب، أما بالنسبة للنكبة التي حلت بأسطوله في نافاران فأشار الباشا بكل برود إلى أنه كان يتوقع هذا) وعندما اطلع القنصل محمد علي على ما نشرته الصحف عن قضية نافاران، وعن العدوان الذي قام به الأتراك، أعلن هذا الأخير (بأن هذا العدوان لم يصدر عن هؤلاء، ولكن الأقوياء يريدون دائما أن يكونوا على حق) لم يفصح محمد علي للقنصل، وهو الدبلوماسي المحنك، بكل ما كان يفكر به، بالرغم من أن هذا الأخير كان مكلفا من قبل الأميرال الروسي - هايدن - بتاريخ 17 كانون الأول - ديسمبر - بالتأكيد له بأن الدول الكبرى لم تكن تريد شيئا بشكل مباشر من مصر، ولا من الإمبراطورية العثمانية، ولكنها كانت ترمي فقط إلى منح الاستقلال الذاتي لليونان، لذلك
فقد نصح محمد علي بالبقاء على الحياد في هذا الصراع: (ليس عندي في الوقت الحاضر أية تعليمات أريد أن أبلغك إياها سوى أن في استطاعتك أن تقول لباشا مصر أن روسا ليس لها أي مطمع لا في مصر ولا في تركيا، وأن رغبتها الوحيدة هي أن ترى السلام وقد عاد عن طريق وضع حد للآلام التي تحاصر اليونان. وأن الوسيلة الوحيدة التي تراها الدول الكبرى الثلاث هي في الاعتراف لليونان بكيان سياسي يضمن لها العيش بهدوء. وأن باشا مصر، يحسن صنعا لخيره وخير الإنسانية بالوقوف على الحياد في هذا القتال إذا ما قدر له أن يستأنف).
تجدر الإشارة إلى تلك الحاشية التي أضافها الأميرال الروسي - هايدن - في رسالته إلى قنصل بلاده في الإسكندرية - والتي جاء فيها: (أن حوالي عشرين سفينة مصرية تركت عمدا، بمنأى عن نيران الحلفاء وذلك لكي يثبتوا لمحمد علي أن نواياهم لم تكن عدائية لمصر عندما دخلوا الميناء) وفي مطلع عام 1828 أبلغ الأميرال الروسي (هايدن) حاكم مصر محمد علي، بعزم الحكومة الروسية الأكيد على إقامة علاقات طيبة معه، كما كان الحال قبل الأزمة - لكونه هو شخصيا مستعد للقيام بأي شيء للحفاظ على (حسن التفاهم) ورغم ذلك فقد كان وضع محمد علي يزداد صعوبة، إذ كان عليه التوفيق بين مقتضيات الطاعة للسلطان، وبين مقتضيات مصالحه الخاصة. وكانت إنكلترا قد أوفدت إليه العقيد (الكولونيل كرادوك) ليقنعه بسحب جيوشه من المورة نهائيا. كما كان هو نفسه يؤكد أنه سيكتب إلى السلطان بهذا الموضوع، وأنه سيستعمل التعابير الحازمة للحصول على نتيجة مرضية. وكانت فرنسا تريد بدورها إزالة أثار (هزيمة نافاران)،
والاستمرار في تشجيع مصر على المضي بسياستها الاستقلالية. فعينت (دوفيتي) صديق الباشا القديم قنصلا عاما في الإسكندرية. ووصل (دوفيتي) إلى الإسكندرية في 6 كانون الثاني - يناير - 1828. وهو محمل بالهدايا الملكية من قبل حكومته ، ومنذ ذلك الحين، أصبح يتتبع محمد علي في كل تنقلاته وذلك بهدف استمالته وإدخاله ضمن المخططات التي كان يراد منه أن ينفذها. وكانت المسألة تتعلق بتشجيع الباشا على الاستقلال وعلى القيام بتشجيع من فرنسا، بحملات يمكن أن تبعث من جديد لصالحه، نفوذ وحقيقة الإمبراطورية العربية، القومية.
لقد أراد الحلفاء تحطيم مقاومة السلطان العثماني من خلال التدمير المتعمد والمنتظم للأسطول العثماني في (نافاران) غير أن هذه الهزيمة جعلت السلطان أكثر تصلبا في موقفه. فأخذت الدول الأوروبية التي فشلت بإقناع السلطان (بفضائل السلم) بالتوجه إلى محمد علي للإفادة منه كأداة لإقناع السلطان. وأخذ محمد علي في كتابة رسائل إلى السلطان وإلى أصدقائه بالديوان، بضرورة الجنوح إلى السلم (بحجة بناء القدرة الذاتية) وفي رسالة له جاء ما يلي: (لقد سبق وكتبت إليك بأن مصيرنا مرتبط بخيط واه، وقصدت بهذا بالضبط أن أعالج العواقب الخطيرة التي تتهدد وجود الأمة ووجود الدين الإسلامي. أما بالنسبة للكرامة التي تذكرها فإنها لا تعطى بل تؤخذ بالأفعال التي تجهد النفس، إذا صح التعبير، وهي تقضي بالعمل على تقوية الدولة وتنمية مواردها وقوتها بمجهود كبير لا يعيقه شيء
…
وفي مثل هذه الظروف فإن القبول بالسلام يبرز كواجب يأمرنا به مثل محمد ذاته (ص) في حروبه مع أعدائه. إن السلام يصبح أمرا ضروريا في حالة
الانحطاط الراهنة التي تحل بالإمبراطورية العثمانية، والتهرب من هذا عن طريق اللجوء إلى المشاعر الأنانية، أو الاندفاع الزائد لا يفيد شيئا، إلا أن لا شيء يحملنا لأن نيأس ونقنط من قضيتنا نفسها، وأن نرمي بذلك الدولة والدين في كارثة نكون المسؤولين عنها أمام الله والتاريخ).
لقد بقي موقف السلطان صلبا، وهو ما عبر عنه مبعوث النمسا في رسالة كتبها إلى فيينا من القسطنطينية، يوم 15 آذار - مارس - 1828 وجاء فيها: (لا شيء استطاع أن يحمل السلطان على تغيير موقفه، وسواء كان هذا الموقف صادرا عن خوف من خطر قد يتهدده إذا تراجع أمام مقترحات الدول الكبرى، أم أنه كان ناجما عن حرج ديني مبالغ فيه، أم عن تجاهل لواقع لا علاج
له، فإن الواقع هو أن مقاومته ازدادت ولم تضعف). غير أنه لم يمض أكثر من شهرين حتى استطاع محمد علي وبطريقة مذهلة إقناع السلطان بالموافقة على سحب جيوشه من المورة، وكذلك استطاع إقناع ابنه إبراهيم الذي كان السلطان يريد أن يستبقيه في المورة. وكان - محمد علي - يعود مفاوضيه شيئا فشيئا على تقبل هذا الحدث. إلا أن الاتفاق النهائي بين الجانب المصري والأميرال الإنكليزي (إدوارد كودرينغتون) لم يوقع إلا في الخامس من آب - أغسطس - 1828 م. وكان القنصل الإفرنسي دروفيني قد ساهم بقسط كبير في إزالة الصعوبات من الجانب المصري. وانسحبت مصر من المورة وأخذت في الاستعداد للتحولات الجديدة.
كان من أول هذه التحولات التوقف عن دعم الإمبراطورية
العثمانية في صراعها ضد روسيا وذلك استجابة لتحذير قائد الأسطول الروسي الأميرال (هايدن) الذي حمله القنصل بيزوني إلى حاكم مصر. وكان في التحذير: (فليبق محمد علي هادئا ولا يتدخل في حربنا، هذا ما نستطيع أن ننصحه به. وسيجد نفسه مرتاحا في نهاية المشهد. وإلا فإنه سيخسر أسطوله ومصر .. إن الدول الكبرى الثلاث لا تتحرش به، ولن تتحرش به وذلك من أجله ولصالحه. إننا لا نخشاه، لا بل على العكس، فسنكون مسرورين لو تمكنا من الاستيلاء على بعض سفنه الجميلة لكي نزين بها أسطولنا ولكننا وفرناه. وخاصة أنا
…
).
أما التحول الثاني فهو الاستقلال بمصر والاستيلاء على سوريا بالتعاون مع روسيا وبدعم من فرنسا. وبحياد من إنكلترا.
وكان ذلك هو الموقف الذي توافق في الزمن مع الهجوم الإفرنسي على الجزائر. والذي يمكن تلخيصه بعزل الجزائر برا وبحرا عن كل إمكانات للدعم من قبل الخلافة العثمانية.
مدينة الجزائر ومرساها في القرن الثامن عشر