الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
ذريعة الاستعمار (البراغماتية)
خرجت فرنسا من مجموعة الحروب الأوروبية (وأبرزها حرب السبع سنوات وحرب الوراثة الإسبانية)(1) وهي مجردة من مناطق نفوذها في أوروبا ومن مستعمراتها فيما وراء البحار .. في حين أصبحت إنكلترا وقد امتلكت قدرة بحرية صخمة جعلتها سيدة البحار في العالم، وانتزعت من فرنسا مناطق تجارتها وجردتها من مستعمراتها. وظهر بوضوح أن تفوق القوات الإفرنسية في البر قد عجز عن منافسة القوات الإنكليزية في البحر. غير أن انفجار الثورة الإفرنسية قد ضمن لفرنسا تأمين موارد بشرية ضخمة عبرت عنها الحروب النابوليونية أفضل تعبير. وقد حاولت فرنسا الانتقام من إنكلترا عبر دعمها لحرب الاستقلال الأمريكية (التي انتهت سنة 1783) غير أن هذه الحرب لم تفد فرنسا شيئا من الناحية الاقتصادية. كما حاولت فرنسا الثورة قطع طريق الهند باحتلال نابليون لمصر (1798) غير أن
(1) حرب السبع سنوات هي الحرب التي قادها فريدريك العظيم ضد النمسا وفرنسا وروسيا لتوحيد ألمانيا ويطلق على القسم الثاني منها الحروب السيليزية (1756 - 1763م) أما حرب الوراثة الإسبانية فهي الحرب التي قادتها إنكلترا والنمسا والإمارات الألمانية ضد فرنسا (1702 - 1714).
الاحتلال الإفرنسي فشل وعاد نابليون لفرنسا ليتابع الصراع من أجل (عظمة فرنسا) وانتصرت الأحلاف التي نظمتها إنكلترا على نابليون في واترلو (1815) وأعيدت الملكية إلى فرنسا في شخص لويس الثامن عشر، الذي توفي سنة (1824) ليترك لخلفه (شارل العاشر) أعباء التركة الثقيلة. ولم تفلح فرنسا في كل حروبها حتى الآن في اقتحام الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليها إنكلترا، فاستمرت في البحث عن أسواق لتجارتها وعن موارد المواد الأولية لصناعتها.
كانت علاقة فرنسا بالخلافة العثمانية جيدة طوال هذه الفترة، فقد وقفت إستانبول إلى جانب باريس أثناء صراعها ضد الإسبانيين في حروبها المتتالية (منذ أيام شارلكان أو شارل الخامس) ومنحتها (امتيازات قنصلية) للتجارة مع أقاليم العالم الإسلامي. ووقفت الجزائر إلى جانب فرنسا في أصعب الظروف وأقساها. وقدمت لها الدعم والعون كلما احتاجت لهذا الدعم. وكانت فرنسا قد أقامت لها من قبل أسواقا تجارية (مؤسسات) في عنابة والقالة ورأس بونة والقل. وكانت هذه المؤسسات تدفع ضريبة سنوية متفقا عليها إلى دار الخلافة العثمانية من جهة، وإلى باي قسنطينة من جهة أخرى نظرا لقيام هذه المؤسسات على أرض ولايته. وكانت فرنسا مقابل ذلك تتمتع بحق صيد المرجان وتصدير الحبوب إلى أوروبا (1). وقد تطورت هذه العلاقات لمصلحة فرنسا في فترة الثورة الإفرنسية، حيث اعترفت الجزائر بالجمهوية الإفرنسية الجديدة في وقت كانت فيه تحت الحصار الأوروبي المحكم. وتكونت بين الدولتين علاقات ودية خاصة باستثناء فترة الحملة الإفرنسية على مصر (1798 - 1802) حين طلب
(1) HISTOIRE DE LA CONQUETE D'ALGER (A. NETTMENT) PARIS 56. P.P 96 102.
السلطان من الجزائر إعلان الحرب على فرنسا. وكانت الجزائر قد قدمت إلى فرنسا الثورة قرضا في سنة 1796 بقيمة مليون فرنك - بدون فائدة - على أن تستعمل فرنسا هذا المبلغ في شراء الحبوب من الجزائر. وفي سنة (1794) أذنت الجزائر للحكومة الإفرنسية أن تتمول في موانىء الجزائر يوم كانت كل الموانىء والأسواق الأوروبية مغلقة في وجه التجارة الإفرنسية. غير أن العلاقات الودية تغيرت في عهد (نابليون بونابرت) بسبب (غزو مصر). ولكن السلام عاد من جديد في سنة (1801) وأعادت الجزائر إلى فرنسا امتيازاتها (صيد المرجان والتجارة).
وعندما وصل قنصل نابليون إلى الجزائر، لم يحمل معه الهدية التي اعتاد القناصل تقديمها - رمزا للخضوع - وحين طلبها الباشا مصطفى رسميا من القنصل (ديبوا تانفيل) على أساس أنها شيء واجب، رد عليه نابليون برسالة ساخطة هدد فيها بتحطيم الأسطول الجزائري. وأنذر بأن فرنسا على عهده ليست هي فرنسا التي كانت في عهد (آل بوربون). فتوترت العلاقات من جديد، وقامت الجزائر باحتجاز سفينتين فرنسيتين وضربت أخرى في ميناء تونس. فكتب نابليون إلى الباشا مصطفى يطالبه بدفع تعويض عن الخسائر، ومعاقبة الوزراء المسؤولين عن هذه الحوادث. وكان نابليون يحلم بجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة إفرنسية لذلك فقد كان يخطط لحملة كبيرة ضد دول المغرب العربي - الإسلامي، وإقامة مستعمرات عسكرية إفرنسية هناك، وضم المنطقة إلى إمبراطوريته في البحر المذكور. وتنفيذا لذلك، طلب من الإفرنسيين الذين كانوا أسرى في الجزائر أو الذين عاشوا فيها، معلومات عن سكانها وتحصيناتها، فأوصى قنصل فرنسي سابق في الجزائر (هو جون بون سان - أندري) بضرب الجزائر ضربة
قوية وسريعة وإنهاء الحرب في ثمانية أيام. واقترح فرنسي آخر بنزول حملة إفرنسية قرب (تنس) والهجوم على مدينة الجزائر برا. ولكن نابليون تخلى عن مشروع الحملة لانشغاله بالحروب على ساحة أوروبا. ولكنه أرسل إلى الجزائر قطعة من أسطوله (بقيادة الأميرال ليسيغ) حاملا رسالة إلى الباشا (سنة 1802) يطالبه فيها بدفع التعويضات، ويعلمه برفضه تسديد المبلغ الذي يطالب به وهو (200) ألف فرنك. وكان (القبطان بيرج) الذي جمع عندئذ معلومات هامة عن الجزائر، من بين الذين رافقوا هذه البعثة، وهو الذي سيكون من أعضاء الحملة البارزين في سنة (1830).
جاء (جيروم نابوليون) إلى الجزائر في سنة 1805، على رأس قطعة بحرية للمطالبة بإطلاق سراح (231) أسيرا إيطاليا: ولكن الباشا أحمد (الذي خلف مصطفى) لم يطلق سراحهم إلا بعد أن دفع جيروم مبلغ (80) ألف فرنك. ومن جهة أخرى أدت هزيمة الأسطول الإفرنسي في معركة (الطرف الأغر)(1) إلى أن سحبت الجزائر الامتيازات التي كانت قد منحتها لفرنسا، وأعطتها لإنكلترا (وذلك في سنة 1807). ولكن نابوليون ما عتم أن وقع (معاهدة تبليست)(2) مع روسيا، فعاد إلى مشروع الحملة ضد الجزائر، وأمر قنصله في
(1) الطرف الأغر: (TRAFALGAR) رأس إسباني إلى الشمال الغربي من مضيق جبل طارق. واشتهر بالمعركة التي وقعت قريبا منه في سنة (1800) وانتصر فيها الأميرال الإنكليزي (نلسون: NELSON) على الأسطول الإفرنسي - الإسباني المشترك.
(2)
تيليست: (TILSIT) وهي مدينة روسية تقع في ليتوانيا على نهر (نيمين) وتعرف اليوم باسم (سومينيتسك: SOVIETSK) عقدت فيها يوم 8 تموز - يوليو - 1807 معاهدة صداقة بين نابليوف بونابرت وقيصر روسيا (الكسندر الأول: ALEXANDRE I)
الجزائر بمغادرة مدينة الجزائر، وإعلام الباشا بأنه سيواجه الحرب إذا لم يطلق سراح الأسرى الجنويين والكورسيكيين والإيطاليين. كما أمر وزيره للبحرية بوضع مخططات الحملة ضد الجزائر سواء كانت برية أو بحرية، والقيام بجمع المعلومات الضرورية عن وسائل التموين وطبيعة الأرض، وتحديد مكان الحملة وزمانها، واقترح التمويه على العدو حتى يظن أن الحملة موجهة إلى صقليا. وطلب أن لا يزيد عدد أفراد الجيش عن (20) ألف رجل، وأمر أن تأتيه المعلومات في ظرف شهر واحد. وطلب من الوزير إرسال أحد جنوده الذين يمتازون بالروح العسكرية العالية والخبرة الهندسية إلى الجزائر بصورة سرية للتجسس وإعداد تقرير مفصل وخطة واضحة، فوقع الاختيار على ضابط يسمى (بوتان). الذي وصل إلى مدينة الجزائر في 24 أيار (مايو 1808م على متن سفينة تحمل اسم (لودكان). وقد ظل هناك متجسسا على الحصون دارسا خطة النزول بدقة، متنقلا من برج البحري (كاب ماتيفو) إلى سيدي فرج. وبعد أن كتب ملاحظاته، ورسم خطته، قفل راجعا في 17 تموز (يويو) من العام نفسه. غير أن الإنكليز ألقوا عليه القبض في عرض البحر وقادوه إلى مالطا. وأثناء ذلك أعدم الخطة ولكنه أبقى على ملاحظاته التي سيعتمد عليها في إعادة رسم الخطة من جديد وفي كتابة تقريره. وأمكن له بعد ذلك الفرار من مالطا متنكرا. وعاد إلى فرنسا في تشرين الأول - أكتوبر - عن طريق أزمير وإستانبول. وضمن تقريره معلومات دقيقة عن تحصينات الجزائر وطبيعة أرضها، وعدد قواتها، وزمن الحملة المقترحة والمدة التي تستغرقها، وعدد الجيش الضروري للحملة. واقترح (بوتان) أن يكون عدد الرجال من (35 - 40) ألف محارب معظمهم من المشاة، مع بعض المدافع، وقد أظهر الأخطار التي تتعرض لها الحملة من
منظر مدينة الجزائر على البحر في القرن السابع عشر
البحر، ونصح بدلا من ذلك أن تكون الحملة برية، والاستيلاء قبل كل شيء على قلعة (مولاي حسن) المعروفة بقلعة (الإمبراطور) لأنها تشرف على المدينة. واقترح بأن يتم الإنزال في (سيدي فرج) لخلوه من المدافع والجنود. وكان من رأيه بأن أفضل وقت لتنفيذ الحملة هو في الفترة ما بين أيار وحزيران (مايو ويونيو) وألا تتجاوز مدة الحملة الشهر الواحد. ولكن انشغال نابليون في قمع (الثورة الإسبانية) ثم بالحملة على روسيا، وضعف الأسطول الإفرنسي، ثم سقوط نابوليون، كل ذلك أعاق تنفيذ الحملة. عينت فرنسا قنصلا جديدا لها في الجزائر، وهو بيير دوفال، وذلك في 28 آب - أغسطس - 1815 وقد حمل إلى الباشا هدايا تقدر بمبلغ (112،924) فرنك، تضم مجوهرات وساعات وأقمشة وأسلحة. ومقابل ذلك، أعاد الباشا إلى فرنسا الامتيازات التي فقدتها، وكان ذلك في 17 آذار - مارس - 1817 (إثر حملة اللورد اكسموث على الجزائر)(1) وتساهلت الجزائر فخفضت مقدار الضريبة السنوية المقررة على فرنسا من (300) ألف فرنك إلى (118) ألف فرنك. وكان القنصل الإفرنسي الجديد (دوفال) ابنا
(1) اكسموث: (SOVIETSK) أميرال إنكليزي، من مواليد دوفر (1833 - 1757 م) وتولى قيادة القوات العليا البحرية في الهند سنة 1803، ثم قاد الأسطول الإنكليزي للهجوم على الجزائر وتدمير أسطولها سنة 1816، وهو الهجوم الذي وصفه الكتاب (المقاومة المسلحة الجزائرية: 1830 - 1920) والصادر عن وزارة الدفاع الوطني الجزائرية سنة 1974 بما يلي في ص 15 - 16: (وصل الأسطول الإنكليزي الهولاندي إلى الجزائر يوم 27 آب - أغسطس - 1816. واشتبك مع الأسطول الجزائري في معركة استمرت أحد عشر ساعة وثلاثة وعشرين دقيقة. انتهت بإحراق كامل البواخر والسفن التجارية الجزائرية. ووصف قائد الحملة اكسموث لمعركة بما يلي: لم أعرف عدوا في حياتي يقاتل بمثل هذه الضراوة).
لمترجم إفرنسي كان يعمل في السفارة الإفرنسية في إستانبول. وكان من قبل قد تولى جميع مهامه القنصلية الإفرسية بآسيا الصغرى حتى أصبح يتقن اللغتين العربية والتركية، وعلى الرغم من أنه قد اصطدم ببعض الصعوبات في بداية عمله في الجزائر، إلا أنه أمكن له تجاوز الصعوبات بفضل ما عرف عنه من اتباعه لأساليب الرشاوي والتوريط وخلف الوعد (فكان شخصا مشبوها). وأدت أساليبه المشبوهة إلى إثارة غضب الداي الذي عمل على (ضربه بالمروحة - وهي الحادثة المشهورة في التاريخ)(1) والتي ردت عليها فرنسا بإرسال قطعة من أسطولها إلى الجزائر بقيادة القبطان (كولي). وقد وصلت هذه القطعة التي حملت اسم (لابروفانس) إلى مياه الجزائر يوم 12 حزيران - يونيو 1827 م حيث طلب قائدها من الباشا القدوم شخصيا إلى السفينة للاعتذار للقنصل، ولما كان معروفا مسبقا أن الباشا لن يرضى بذلك، فقد تضمنت تعليمات (كولي) على اقتراحات تبادلية وهي:
1 -
أن يستقبل الباشا القبطان ورئيس أركانه والقنصل بحضور الديوان والقناصل الأجانب ويعتذر أمامهم إلى القنصل دوفال.
2 -
أن يرسل وفدا برئاسة وزير الحربية (وكيل الحرج) إلى قطعة الأسطول الإفرنسي ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل.
3 -
وفي كل الحالات، رفع العلم الإفرنسي على جميع القلاع الجزائرية، بما في ذلك قلعة القصبة، وإطلاق مائة طلقة مدفعية تحية له ، وكانت تعليمات (كولي) تقضي بأنه في حالة قبول الباشا لأحد
(1) أنظر قراءات - 1 - في آخر الكتاب عن قصة (الدين والمروحة) أو (اليهودي ومروحة دوفال).
المقترحات، فإنه يتقدم إليه بعد ذلك بعدة مطالب إفرنسية تتضمن دفع التعويضات، ومعاقبة الجزائريين المسؤولين عن الأضرار التي لحقت بالمنشآت الإفرنسية، وحق تسليح هذه المنشآت في المستقبل، وإعلان الجزائر أنه لا حق لها في دين (بكري). كما تتضمن التعليمات أنه في حالة عدم استجابة الباشا لواحد من الاقتراحات المذكورة، فإن عليه إعلان الحصار رسميا على الجزائر.
نفذ (كولي) مهمته. فأرسل الاقتراح الثالث بواسطة قنصل سردينيا في الجزائر (الكونت د. اتيلي) الذي أصبح يرعى المصالح الإفرنسية بعد انسحاب (دوفال) وذلك يوم 15 حزيران - يونيو - وحدد (كولي) فترة (24) ساعة كمهلة إنذارية لتلقي الإجابة. وكان رد (الباشا) على (د. اتيلي) أنه لا يفهم سبب هذا الإجراء، فبدلا من أن ترسل فرنسا بقنصل جديد، وتكتب إليه مباشرة، لجأت إلى إرسال الإنذار المضحك مع ضابط بحرية. وعندما انقضى أجل الإنذار بدون رد، أعلن (كولي) الحصار في 16 حزيران - يونيو - 1827. وفي نفس الشهر الذي أعلن فيه الحصار، كلف الجنرال (الوفيردو) بإعداد مشروع (يتضمن المعلومات التاريخية والجغرافية والإحصائية والعسكرية عن الجزائر. تمهيدا لتوجيه حملة ضدها) أنهى الجنرال عمله خلال ثلاثة أشهر. ولكن الحكومة الإفرنسية لم تقرر الحملة على ضوئه، واكتفت بالحصار نظرا لحوادث اليونان،
وبسبب فراغ المخازن من الأسلحة، ووجود الأسطول الإفرنسي في اليونان. فتراجعت فرنسا عن مطالبها - مرحليا -. واكتفت بالإصرار على تقديم باشا الجزائر الاعتذار لقنصلها عما ارتكبه نحوه. وأثناء ذلك كانت مشاريع إعداد الحملة تنضج على نار هادئة.
فقد تم تكليف الضابط (دوبتي ثوار) بإعداد مشروع لمهاجمة
الجزائر من البحر، ولكن الحكومة الإفرسية لم تأخذ به أيضا. ثم تولى مشروع آخر وزير الحربية عندئذ (كليرمونت تونير) واعتمد فيه على مشروع (بوتان). ورأى (تونير) أن حملة إفرنسية ضد الجزائر هي أمر (ضروري وممكن). ووصف الحملة بانها:(حرب صليبية هيأتها العناية الإلهية لينفذها الملك الإفرنسي الذي اختاره الله للثأر من أعداء الدين والإنسانية. ولغسل الإهانة التي لحقت بالشرف الإفرنسي). وأضاف (تونير) مخاطبا الملك - شارل العاشر - بقوله: (لعل الوقت سيجعل من حظنا نحن الإفرنسيين تمدين
الجزائريين بجعلهم مسيحيين). وتضمن تقرير (تونير) إغراءات لأصحاب رأس المال والمراكز الصناعية وذلك بوصف الحالة الاقتصادية للجزائر، وما تحتويه خزانتها في (القصبة) من كنوز متراكمه تزيد على ما قيمته (150) مليون فرنك. بالإضافة لما يتوافر للجزائر من الموانىء الكثيرة، والسهول الخصيبة، والغابات التي تؤمن الأخشاب لبناء السفن علاوة على مناجم الحديد والرصاص وجبال الملح والمواد الكيميائية الأخرى. وأثار في الوقت ذاته خيالات العسكريين ومطامعهم وذلك بالتوصية لإقامة مستعمرات عسكرية إفرنسية في الجزائر. وتضمن المشروع أيضا طريقة تنفيذ الغزو بهجوم بري، يتم فيه إنزال القوات عند جزيرة (سيدي فرج) وذلك في الفترة ما بين (نيسان وحزيران - أبريل ويونيو). وتوقع المشروع أن يتم تنفيذ العملية خلال فترة سنة أسابيع. وحددت تكاليف الحملة بمبلغ (50) مليون فرنك، وتضم (33) ألف رجل بالإضافة إلى فرقة من الفرسان - الخيالة - وعدد من فرق المدفعية. واقترح هذا (المشروع) احتلال الجزائر كلها احتلالا (طويل المدى). واقترح الوزير الإفرنسي أن تكون سنة 1828 هي الموعد
لتنفيذ الحملة، باعتبار أن أوروبا كانت تعيش فترة من السلم، ولأن الرأي العام الإفرنسي كان متهيئا لها. وقد ناقش مجلس الوزراء (مشروع توفير) في جلسة يوم 11 تشرين الأول - أكتوبر -. ولكن المجلس قرر في النهاية عدم األآخذ به في تلك الفترة.
ظهر بعد ذلك (مشروع جديد) تقدم به أحد نواب البرلمان، تضمن إقامة مستعمرات عسكرية شبيهة بما فعله الرومان، ودعوة الأوروبيين للهجرة إلى الجزائر بدلا من الهجرة إلى أمريكا. وقال صاحب هذا المشروع أن احتلال الجزائر سيعوض فرنسا عما فقدته في منطقة الراين، ويغنيها عن شراء بعض البضائع مثل التبغ والحرير والسكر والزيت والقطن. ولكن الحكومة الإفرنسية لم تقتنع بالمشروع نظرا لأن حملة الانتخابات كانت على الأبواب، ولأن نتائج الحملة المقترحة ستأتي بعد الانتخابات وبالتالي فإنها لن تؤثر في الرأي العام الإفرنسي لصالح الحكومة.
وهكذا استمر الحصار على الجزائر، وكان الإفرنسيون يهدفون من ورائه إلى قطع التموين عن الجزائر، فكان أسطولهم المحاصر يتكون من (12) سفينة واجبها مراقبة الموانىء الجزائرية. وإيقاف بعض السفن المشبوهة، واحتجاز بعض السفن الأخرى. ولكن هذا الحصار لم يتمكن من إيقاف أعمال القرصنة، ووقعت مجموعة من الاشتباكات كان من أبرزها معركة يوم 3 تشرين الأول - أكتوبر - حيث انطلقت مجموعة من (12) سفينة جزائرية و (3200) مجاهد و (252) مدفع واشتبكت مع القوة البحرية الإفرنسية في معركة استمرت أربع ساعات تقريبا، ولم تسفر هذه المعركة عن نتيجة إيجابية لأي طرف من الطرفين المتصارعين.
بلغت تكاليف الحصار الإفرنسي للجزائر سبعة ملايين فرنكا في السنة، وظهر احتمال قيام إنكلترا وإسبانيا بالحرب ضد فرنسا إن هي تحولت عن الحصار فقامت بحملة عسكرية، كما تغيرت الحكومة الإفرنسية يوم 4 كانون الثاني - يناير - 1828 م. وتضافرت هذه العوامل فأقنعت الحكومة الإفرنسية بمتابعة الجهد الهادىء والمماطلة في الأمر عن طريق فتح باب المفاوصات مع الجزائر لرفع الحصار بطريقة مشرفة. وذهبت بعثة إلى الجزائر يوم (29) نيسان - أبريل - 1828 م، برئاسة الضابط (بيزار) لاستئناف المفاوضات. غير أن البعثة فشلت في مهمتها بسبب إصرارها على إرغام الباشا بدفع تعويضات لفرنسا. ولكن فرنسا عادت فأرسلت بعثة أخرى برئاسة (بيزار) ذاته، وتكرر الفشل بسبب رفض الباشا لأحد الشروط الإفرنسية الأساسية والتي تقضي بإرسال وزير من حكومته إلى باريس للاعتذار، واشترط الباشا أن يفعل ذلك بعد توقيع معاهدة الصلح مع فرنسا. أما الإفرنسيون فقد وضعوا مسؤولية الفشل على عاتق القنصل السرديني في الجزائر والذي كان يرعى المصالح الإفرنسية، وزعموا أن (طيبته) و (سلامة نيته) هما سبب هذا الفشل، كما حاولوا الحاق السبب أيضا إلى نشاط القنصل الإنكليزي المضاد لفرنسا، ولم ينسو إلحاق نسبة من الفشل بالمترجم اليهودي (دوران) الذي اتهموه بعدم نقل الحقيقة.
عاد الإفرنسيون إلى متابعة دراسة (مشروع الحملة ضد الجزائر) بعد أن فشلت المفاوضات. وقام وزير الحربية الجديد (دوكو) بتكليف لجنة خماسية (بدراسة المسائل المتعلقة بحملة ضد الجزائر، وتقديم خطة كاملة للعمل، وتعيين الوسائل الضرورية
للتنفيذ) وكانت هذه اللجنة تضم الجنرال (بيرج) الذي كان قد أرسل سنة (1802 م) للتجسس على تحصينات الجزائر، وكان رئيسها هو الجنرال (لوفيردو).
شرعت اللجنة في عملها فور تلقيها الأمر - في صيف سنة 1828 - وجمعت المعلومات من كتب الرحالة ومعلومات الأسرى الأوروبيين والمذكرات التي كتبت عن الحملات السابقة ضد الجزائر من العام 1628 وحتى العام 1758. وخلصت إلى نتيجة تتوافق مع رأي (بوتان وتونير) اللذين سبقت الإشارة إليهما، سواء فيما يتعلق بتحديد مكان الإنزال أو فيما يتعلق بحجم القوى والوسائط، واقترحت اللجنة أن تغادر الحملة ميناء طولون في منتصف شهر نيسان - أبريل - حتى تتمكن من إنجاز مهمتها والعودة في نهاية شهر آب - أغسطس - وقدرت تكاليف الحملة بمبلغ (25) مليون فرنك. وتضمن تقرير اللجنة بعض التفاصيل، مثل جدول الهجوم على المراكز الرئيسية (منها قلعة مولاي حسن والقصبة) وتوقعت أن تشتبك القوات الإفرسية مع قوات بايات الجزائر الثلاثة مجتمعة - في معركة حاسمة - بعد عشرين يوما من بدء الإنزال. ولكن ظهور المعارضة القوية في البرلمان الإفرنسي لمشروع الحملة، وكذلك الخسارة الاقتصادية التي نجمت عن الحصار، والظروف الدولية التي لا زالت في غير مصلحة فرنسا، كل ذلك دفع فرنسا من جديد لسلوك درب المفاوصات، فأرسلت القبطان (دي نيرسيا) في سنة 1829 إلى الجزائر بمهمة مقابلة (الباشا حسين). وفتح الطريق أمام قائد الحصار الجديد (بريتونيير) - الذي خلف كولي - لتسهيل مهمته. وصدرت التعليمات بأن يصحب قائد الحصار عندما يأتي دوره في المفاوضات، مترجم إفرنسي بدلا من اليهودي (دوران).
وتم الاتفاق على خطة اجتماع الباشا وقائد الحصار بنجاح. غير أن نتيجة الاجتماع كانت سلبية، فقد طلب قائد الحصار من الباشا إرسال وفد على مستوى عال إلى باريس للاعتذار والتفاوض. ولكن الباشا استغرب هذا الطلب، وأصر على عقد الصلح في الجزائر أولا قبل إرسال الوفد إلى باريس. وأثناء عودة الوفد الإفرنسي خائبا، أطلقت المدافع من التحصينات الجزائرية نيرانها على سفينة قائد الحصار (لابروفانس). وقال الجزائريون أن السفينة اقتربت كثيرا من التحصينات، ولم ينكر الإفرنسيون ذلك غير أنهم زعموا بأن شدة الريح هي التي دفعتهم نحو التحصينات الجزائرية.
المهم في الأمر هو أن السفينة لم تصب أضرار فادحة، ونجح قائدها في إبعادها. والعودة بها بسلام. وتبرأ الباشا من هذه الحادثة التي وقعت يوم 3 آب - أغسطس - سنة 1829، وعبر عن أسفه، وعاقب وزير البحرية وقائد الميناء بالطرد من منصبيهما. واستثمرت فرنسا هذا الحادث لزيادة التوتر في العلاقات الجزائرية - الإفرنسية. وزاد الأمر سوءا بتولي (دي بولينياك) رئاسة مجلس الوزراء الإفرنسي في نهاية سنة 1829 م. وهو الذي عرف بوفرة مشاريعه الاستعمارية لا بالنسبة للجزائر وحدها وإنما بالنسبة للشرق كله وحتى لأوروبا. ورافق ذلك أيضا تغيير وزير البحرية، حيث أسندت هذه الوزارة إلى (البارون دو هوسيه) الذي كان من الأنصار المتحمسين لفكرة غزو الجزائر في فترة لا تتجاوز ربيع سنة (1830 م). وكان (بولينياك) قد استقبل في أيلول - سبتمبر - عام 1829 - عندما كان وزيرا للخارجية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، وفدا من مصر يضم القنصل الإفرنسي في الإسكندرية والمغامر الإفرنسي المركيز (دوليفرون) الذي أصبح ممثلا لمصالح محمد علي في فرنسا، وذلك لعرض مقترحات
قصر (الجنينة) مقر الإدارة المركزية العثمانية قبل أن يحرقه الفرنسيون
عرفت فيما بعد باسم (مشروع محمد علي) لحل قضية الجزائر). ويتضمن هذا المشروع قيام فرنسا بدعم محمد علي ليصبح حاكما على طرابلس وتونس والجزائر، وأن يتم ذلك بتوجيه الجيوش المصرية على امتداد الطريق الساحلي المتاخم لدول المغرب العربي الإسلامي، في حين تقوم قطع الأسطول البحري الإفرنسي بدعم هذا التحرك وحمايته. واقترح - محمد علي - لتنفيذ ذلك أن تمده فرنسا مسبقا بأربع قطع بحرية (سفن) و (28) مليون فرنك. وكان يرى أن السلطان العثماني لن يعارض هذا المشروع، الذي يحقق لفرنسا في الوقت ذاته مصالحها (التخلص من مشكلة الجزائر) وسيرضي أوروبا (بتنفيذ رغبتها في إيقاف أعمال القرصنة). وقال محمد علي للقنصل الإفرنسي في القاهرة، أنه قادر على إنهاء (المشكلة الجزائرية) بتجنيد (68) ألف رجل و (23) سفينة. وتوفير (100) مليون فرنك لتغطية نفقات الحملة. واقتنع (بولينياك) بما أطلق عليه اسم (مشروع محمد علي) وهو في حقيقته مشروع إفرنسي، لا سيما وأن (بولينياك) كان يرى منذ سنة (1814م) بضرورة الربط بين قضية مصر وقضية المغرب العربي - الإسلامي. حتى أنه تحادث مع زملائه عندما كان سفيرا لبلاده في لندن (سنة 1828) عن فوائد فرنسا وفوائد أوروبا أيضا من قيام حملة ضد الجزائر.
وحين وصل إلى الحكم بدأ في البحث عن الوسيلة التي يمكن استخدامها لتنفيذ هدفه. في تلك المرحلة التي لم تكن فيها فرنسا بعد مستعدة لتنفيذ الحملة وحدها وبطريقة مباشرة، لذلك تبنى مقترحات (محمد علي) وأرسل الضابط (هودير) إلى مصر للتفاوض. كما أرسل تعليماته إلى سفير فرنسا في إستانبول لمعرفة
رأي السلطان في المشروع. ويقال أن التعليمات قد تضمنت إقناع السلطان بأن الحملة التي يمكن لمحمد علي القيام بها ستحقق للسلطان:
1 -
جزية هامة من الولايات الثلاث المتمردة عليه (تونس والجزائر والمغرب - مراكش).
2 -
عدم إرسال الجنود الإفرنسيين إلى الجزائر.
وتذكر بعض المصادر أن الديوان العثماني (مجلس الوزراء) لم يعارض المشروع في البداية، غير أنه لم يلبث أن تحول عن موقفه، وحاول العثمانيون إقناع السفير الإفرنسي بأن تأييد هذا المخطط (يخالف الدين الإسلامي) وأن محمد علي لن يقدر على تنفيذ هذا المخطط. وبدلا من التأييد الذي كان يريده الإفرنسيون، وافق الديوان على إرسال شخصية هامة للتعرف على موقف باشا الجزائر، والتوسط في إيجاد حل سلمي بين الجزائر وفرنسا. وكان (السيد خليل أفندي) هو الشخصية التي وقع عليها الاختيار للقيام بالوساطة نظرا للصداقة التي تربطه بالوالي (باشا الجزائر) ونظرا لما عرف عنه من كفاءة ديبلوماسية عالية. وقد وصل (خليل أفندي) إلى الجزائر في شهر كانون الأول - ديسمبر (1828). ولكن خليل أفندي فشل في مهمته بسبب عناد فرنسا وتصميمها على إعادة حق صيد المرجان وإقامة منشآت مسلحة وغيرها من الشروط التعجيزية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطدم المشروع عندما عرض على مجلس الوزراء الإفرنسي بمعارضة وزير البحرية (دي بورمون) ووزير البحرية (دي هوسي) حيث اعتبر مشروع التعاون مع محمد علي إهانة للشرف الإفرنسي، إذ كان حاكم مصر في نظرهما لا
يختلف عن حاكم الجزائر (حسين باشا): كلاهما (بربري - مسلم) وهدد (هوسي) بالاستقالة إذا منحت فرنسا الأربع سفن إلى محمد علي. ولذلك اضطر (بولينياك) إلى تعديل المشروع بتخفيض المعونة، وتقديم السفن كإعارة فقط. واشترط أن تشترك فرنسا في الحملة بأسطول ضخم يحمي جيش محمد علي من البحر، مع الاشتراك أيضا بقوة برية ضخمة من الجنود والمهندسين للمشاركة في أعمال الحصار والهجوم. وفي 12 تشرين الأول (كتوبر) 1829 وافق الملك الإفرنسي (شارل العاشر) على المشروع المعدل.
فأرسل (بولينياك) على الفور بعثة إلى محمد علي لحقت (بهودير) الذي كان لا يزال في (طولون) ينتظر سفينة تحمله إلى مصر. وقد وصل إلى الإسكندرية في 16 تشرين الثاني - نوفمبر -. غير أن مجلس الوزراء الإفرنسي قرر خلال جلسة عقدها يوم 19 كانون الأول - ديسمبر - 1829، أن تقوم فرنسا وحدها بالحملة ضد الجزائر. وفي اليوم التالي وافق الملك مبدئيا على قرار مجلس وزرائه، وعاد (هودير) في هذا اليوم ذاته وهو يحمل رفض (محمد علي) للمشروع المعدل. ومع ذلك لم ييأس (بولينياك) من التعاون مع محمد علي فاقترح في جلسة مجلس الوزراء الإفرنسي يوم 3 كانون الثاني - يناير - سنة (1830 م) إجراء تعديل جديد على المشروع، وتقرر دفع (20) مليونا - كما اشترطها محمد علي، يتم دفع نصفها عند تحرك الجيش المصري، ونصنها الباقي بعضه عند الوصول إلى طرابلس، وبعضه الآخر عند الوصول إلى تونس. وتقرر أيضا دفع مبلغ (8) مليون فرنك كتعويض على (محمد علي) مقابل السفن الأربع التي رفضت فرنسا إعطاءها أو إعارتها. وقرر مجلس الوزراء الإفرنسي أيضا إرسال الأسطول الإفرنسي لحماية
الحملة ومرافقتها ابتداء من الإسكندرية. وحمل (هودير) المقترحات الجديدة - المعدلة - إلى محمد علي، ووصل إلى الإسكندرية في 20 كانون الثاني - يناير - ووافق محمد علي على المشروع المعدل. غير أن حملة إعلامية - صحافية - واسعة ثارت في وجه الحكومة، وأرغمتها على تعديل موقفها. فقد وصفت بعض الصحف مشروع (محمد علي - بولينياك) بأنه مشروع غير عملي (غير ممكن - فظيع - غير مجد لفرنسا لأنها تستخدم مسلما ضد مسلم) كما اعترضت روسيا وإنكلترا على المشروع.
وهكذا أرسلت الحكومة الإفرنسية رسولا آخر إلى (محمد علي) في 6 شباط - فبراير - عام (1830م) يعرض عليه ثمانية ملايين فرنك إذا اكتفى بطرابلس وتونس، أما الجزائر فقد رأت أن تتولاها فرنسا بنفسها. عندها يئس (محمد علي) وقطع المفاوضارت مع الإفرنسيين قائلا:(إنهم لن يصلوا أبدا إلى الجزائر، وإذا وصلوا فلن يجرؤوا على البقاء فيها لمعارضة بريطانيا لهم؟).
تواريخ احتلال فرنسا لمختلف مدن الجزائر