المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ محمد علي باشا في مصر - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٣

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول

- ‌ الموقف في دار الخلافة العثمانية

- ‌ محمد علي باشا في مصر

- ‌ معركة نافاران

- ‌الفصل الثاني

- ‌ ذريعة الاستعمار (البراغماتية)

- ‌ عشية ليل الاستعمار

- ‌ بدايات المقاومة

- ‌أ - فئات من المجاهدين

- ‌ب - ثورة ابن زعمون:

- ‌ج - سيدي السعدي والجهاد

- ‌د - ثورة الآغا محيي الدين بن المبارك

- ‌هـ - بومزراق - باي تيطري:

- ‌و- الحاج أحمد (باي قسنطينة):

- ‌ز - حمدان خوجة والصراع السياسي:

- ‌ حمدان عثمان خوجة:

- ‌ أحمد بوضربة:

- ‌ المفتي الحنفي سيدي محمد بن العنابي:

- ‌ الإدارة الإفرنسيةوتكوين وحدات خاصة

- ‌ الإدارة الإفرنسية(من التردد إلى التصميم)

- ‌الفصل الثالث

- ‌ في النظرية الاستعمارية

- ‌ في الجهاد والمقاومة

- ‌قرءات

- ‌ 1 -قصة اليهودي ومروحة دوفال

- ‌ 2 -نداء (دوبرمون) إلى أهل الجزائرعشية الغزوة الصليبية الإفرنسية

- ‌ 3 -معاهدة الاستلام التي وقعها داي الجزائر(حسين باشا) يوم 4 تموز (يوليو) 1830 م

- ‌ 4 -من تقرير اللجنة الإفريقية(سنة 1833)

- ‌ 5 -رسائل وثائقية(للحاج أحمد باي قسنطينة)

- ‌المراجع الرئيسية للبحث

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ محمد علي باشا في مصر

2 -

‌ محمد علي باشا في مصر

(1)

بقي المماليك هم القوة الحاكمة في مصر منذ نهاية الحروب الصليبية وامتد حكمهم لأكثر من ثلاثة قرون، حتى إذا ما جاء الفتح العثماني، لم يغير كثيرا من العلاقات التي كانت سائدة، غير أن حملة نابليون على مصر (1798 م) دمرتهم في معركة الهرم،

(1) محمد علي باشا، من مواليد فواله على الساحل المقدوني (1769 - 1848).كان عمه يشغل منصب (متسلم - أو نائب والي) وفي ديوان عمه هذا تمرس محمد علي بالأعمال والمعاملات من غير أن يحظى بتربية مدرسية صحيحة. حتى إذا بلغ من العشرين كان قد نجح في تجارة التبغ وعقد الصفقات فيها، والتبغ مادة التجارة الرئيسية في بلده الأم. وظهرت عليه أمارات النزوع إلى السلطة وقوة الشخصية منذ نعومة أظفاره. وعندما قام (نابليون) بغزو مصر، فأرسل السلطان سليم الثالث بضع سفن حاملة جنودا إلى مصر في صيف سنة 1799. وكان على (عم محمد علي) أن يبعث إلى مصر أيضا بكتيبة مؤلفة من ثلاثمائة رجل، فعهد إلى ابنه الصغير بقيادتها، وعين (محمد علي) مستشارا لابنه. ولم تكد الكتيبة تصل إلى مصر حتى تولى محمد علي القيادة الفعلية وأظهر في المعارك التي قادها ضد الإفرنسيين حتى أكرههم على الجلاء عن مصر من الكفاءة القيادية ما أهله للوثوب بقفزة واحدة إلى منصب القيادة العامة في سنة (1801). وفي سنة 1805، أصبح حاكم مصر بدون منازع، مستعينا على بلوغ مأربه بشيوخ الأزهر. ووافق السلطان على تعيينه واليا على مصر. ومنحه لقب (باشا).

ص: 25

وأرسلت الخلافة قوة لمحاربة الإفرنسيين تولى (محمد علي الألباني - الأرناؤوطي) قيادة كتيبة منها، ثم لم يلبث حتى أفاد من التناقضات التي اعقبت إخراج الإفرنسيين من البلاد. وأصبح في سنوات قليلة الحاكم المطلق لمصر، وأظهر من الغيرة على الدين، والرغبة في الجهاد، والعمل لبناء مصر، ما جعله يستحوذ على محبة أهل مصر الذين التفوا حوله وساندوه. وخلال هذه الفترة ترك - للمماليك حرية الحكم في أعالي مصر، حتى إذا ما شرعوا في مفاوضة انكلترا (وكان محمد علي قد هزم جيوشها التي حاولت النزول إلى البر، عند رشيد، في نيسان - أبريل - سنة 1807) قرر التخلص منهم. ودعا زعماءهم إلى القاهرة في آذار - مارس - 1811، زاعما أنه يبتغي استشارتهم في أمر حملة يريد شنها على الوهابيين في بلاد العرب. وهناك أعمل السيف في رؤوسهم (في 11 من الشهر نفسه) وكانت عدتهم ثلاثمائة رجل. فدانت مصر لمحمد علي كما لم تدن لحاكم آخر من قبله. غير أن جنوده الألبانيين (الأرناؤوط) الذين كانوا لا يزالون خاضعين خضوعا بعيدا لتأثير الروح العثمانية، أظهروا تهاونا فحاول قمعهم بالقوة، وأدى ذلك إلى نشوب فتنة في القاهرة سنة 1816 استطاع محمد علي إخمادها دون عناء كبير. وعلى إثر ذلك سرح جنوده الألبانيين واستعاض عنهم بالفلاحين المصريين الذين دعاهم إلى الخدمة العسكرية. وانطلق لإعادة تنظيم البلاد داخليا وعسكريا على أسس جديدة.

بدأ محمد علي بالعمل للإمساك باقتصاد مصر بقبضة قوية، فقام بإحصاء عام للأراضي، ثم وزعها على الممثلين الرئيسيين للمجتمع المصري الريفي على أساس الاستفادة منها مدى الحياة.

ص: 26

ومكنه ذلك من تدعيم نظام حكمه، وكسب تأييد جماهير السكان العاملة. وفرض نفسه في الواقع كمالك فعلي وحيد للبلاد وكسيد لمصائرها الحيوية. وبعدما حقق كل ذلك، اختط لنفسه سياسة داخلية وخارجية ذات جوانب متعددة ومتكاملة: كان يسيطر بقبضته الإدارية القوية على ثروات وادي النيل الضخمة، وثروات المناطق التي ضمها إليه، وكان يفرض نفسه على السلطان العثماني الذي أنهكته التهدئة العسكرية) ورأى اتباع سان سيمون، رواد اشتراكية الدولة، في شخص محمد علي حاكما يحمل لواء نظريتهم الاقتصادية ويعمل على تطبيقها) والتفت محمد علي بعد ذلك إلى الصناعة:(فنشر في مالطا بتاريخ 4 نيسان - أبريل - 1814 إعلانا يدعو فيه العمال من كافة الاختصاصات إلى التعاقد معه للعمل. وفي السنة التالية أمر وكلاءه في العواصم الأوروبية الكبرى أن يزودوه بعمال مهرة ومتخصصين في صناعة النسيج التي كان ينوي دفعها إلى الأمام. لقد أدرك أنئذ أهمية تحويل المواد الأولية الوطنية في مصر نفسها وبيعها مصنعة إلى الخارج. وهكذا بدأت اليد العاملة في الهجرة إلى مصر. وفي أثناء ذلك أقدم على مصادرة العمال الحرفيين في القاهرة والمقاطعات للعمل في المؤسسات التي أنشأها). (وإلى جانب صناعة النسيج أقام محمد علي صناعات أخرى مثل صناعة السكر والزجاج والدباغة والورق والبارود والمنتجات الكيميائية، وعهد بهذه الصناعات إلى خبراء أوروبيين من مختلف الجنسيات)(كذلك برزت أيضا سياسة الانفتاح والتودد تجاه الخبراء الأجانب. وألغى محمد علي القوانين التمييزية، وأطلق حرية ممارسة الشعائر الدينية المسيحية جهارا وإنشاء المدارس والكنائس، ومنح المساواة خاصة بالنسبة لليهود). وأقبل

ص: 27

الافاقون والمغامرون لتجربة حظهم في مصر، وعندما حذره المقربون إليه من الاختيار المتسرع للأجاب أجابهم:(إنني أعرف أنه بين الخمسين شخصا الذين يأتون ليعرضوا علي خدماتهم هناك تسعة وأربعون يمكن اعتبارهم حجارة كريمة مزيفة. إلا أنني لا أستطيع أن اكتشف الجوهرة الحقيقة الوحيدة بينهم دون تجربتهم جميعا، إني أشتريهم كلهم، وعندما أكتشف العنصر الحقيقي بينهم فإنه يعوض علي الخسارة التي سببها لي الآخرون)(وأرسل محمد علي عشرات الطلاب في بعثات خارجية - إلى فرنسا بصورة خاصة - وسافرت البعثة الأولى المكونة من أربعين طالبا سنة 1818 م. ونظمت إدارة ومراقبة الطلاب إلى الجغرافي جوزيف أيوب، أستاذ اللغة العربية في ثانوية (سانت لويس الكبير) وكانت الدراسة مجانية على نفقة الحكومة وتشمل كافة الاختصاصات. وكان محمد علي ينتظر عودة المتخرجين الأوائل من أوروبا، ووصول اتباع سان سيمون الإفرنسيين لكي ينظم وزارة التعليم العام. وأقام مطبعة بولاق التي بقيت منشوراتها ذات شهرة في تكوين الثقافة العربية المعاصرة، والتي وضع أمامها الكاهن (دوم رافائيل) إلى جانب ترجمات لأفضل الكتب الإفرنسية والإنكليزية).

وفي مجال تنظيم الجيش، اعتمد محمد علي على ضابط فرنسي قديم اسمه (سيف - وعرف في التاريخ العربي باسم - سليمان باشا)(1) ثم أقام المدارس العسكرية لكافة الاختصاصات. وفي نهاية

(1) سيف (SEVE) واسه جوزيف (JOSEPH) ضابط إفرنسي، خدم في روسيا وغروشي وواترلو. حتى إذا رجعت الملكية إلى فرنسا، بقي بدون عمل طوال ثلاث سنوات في فرنسا، ثم يمم شطر مصر، فقدمه المهندس المعماري (باسكال كوست) إلى محمد علي، الذي ألحقه في خدمته كمهندس أولا، ثم عهد إليه بعد ذلك بمهمة =

ص: 28

سنة 1823، انتهى محمد علي من مرحلة التنظيم، ووقف يستعرض قواته الجديدة وإلى جانبه قنصلا فرنسا وانكلترا.

(كانث الحكومة الإفرنسية تنظر دائما بعطف كبير، وتشجع باستمرار هذه النهضة المصرية. وقد أرسلت إلى محمد علي بعد ذلك بأسابيع قليلة بعثة عسكرية استقبلها محمد علي بترحيب كبير. وكانت الحكومة الإفرنسية تهدف من وراء ذلك إلى توجيه مجرى الأحداث لخدمة مصالحها، وقد وصلت البعثة إلى الإسكندرية بقيادة الجنرال (بوير) في 24 تشرين الثاني - نوفمبر - 1824 م. وفي السنة التالية (أب - أغسطس - 1825) كان عدد ضباط البعثة قد ارتفع إلى الضعف تقريبا. وكان الجنرال (بليارد) الذي تفاوض مع المراجع العليا بصدد هذه البعثة قد أعطى الجنرال - بوير - تعليمات ذات مغزى مستقاة من نصائح الوزارة الإفرنسية) (وكان على - بوير -أن يقنع محمد علي بعدة مبادىء وأن يجعله يتصرف بشكل يكسب فيه عطف أوروبا المسيحية. وهكذا فقد كان عليه أن يحمله على إعادة النظر بحملة المورة التي كانت تستنزف قوته العسكرية الناشئة بدون طائل، وتجعله على تعارض مع سياسة أوروبا المسيحية. فهو إذا ما حشد قواه من أجل إعادة البناء الداخلي عن طريق إصلاح البنى القائمة، فقد يجعله ذلك يحقق كسبا أكثر في نظر - العالم

= تدريب الوحدات الجديدة في الجيش المصري. واعتنق (سيف) الإسلام في حزيران (يونيو 1824 ليؤكد انصهاره الكامل في النظام، غير أن معاونيه الإفرنسيين الآخرين مثل (بلانا ودومرغ وكادو وكيسون وغيرهم) لم يحتذوا حذوه. وقد أسند هذا قيادة الفرق والكتائب الجديدة إلى قادة مرتزقة من الإفرنسيين والإسبانيين والإيطاليين وسواهم. وأصبح (سيف) مستشارا لإبراهيم باشا في كافة حروبه. (المرجع: أوروبا ومصير الشرق العربي - جوزف حجار 120 - 26).

ص: 29

المتمدن - أما إذا أراد أن ينطلق في سياسة توسع وطنية - فإن إفريقيا وسوريا تشكلان إمكانات عظيمة لا تحمل معها مجازفات ذات شأن).

(كانت الحكومة الإفرنسية تفكر في الواقع باستخدام محمد علي لتنفيذ ما عجز نابليون بونابرت عن تحقيقه وهو السيطرة على مصر لتهديد طريق الهند. وعبر القنصل الإفرنسي في القاهرة - دروفيني - عن هذه النوايا بصراحة تامة في رسالته إلى وزير الخارجية الإفرنسي (يوم 7 آب - أغسطس - 1826) حيث قال: (إن عملية البناء العسكري للقوات المصرية التي عهد بها إلى بعثة الجنرال الإفرنسي، تمهد للأحداث التي يجب أن تجعلنا يوما ما نمتلك هذا البلد) وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الإفرنسية منصرفة لوضع مخطط أوسع شمولا يضم المغرب الواقع على البحر الأبيض المتوسط. وقد أثار - دروفيني - نفسه فيما بعد اهتمام الباشا بهذا المخطط، الذي انتهى باحتلال الجزائر، حيث غادر بوير وكبار معاونيه مصر بعد ذلك مباشرة.

لم تكن الدول الغربية - وبصورة خاصة فرنسا - تهتم بزيادة القدرة العسكرية المصرية طالما أنها تسيطر على توجيه هذه القدرة ضد الإمبراطورية العثمانية ذاتها من أجل إضعاف العالم الإسلامي من الداخل، ولم تكن هذه الدول تتردد في إعطاء محمد علي ظواهر الحضارة الغربية - عن طريق إقامة المصانع طالما أن هذه المصانع ترهق مصر أكثر مما تفيدها. وهذا ما أشار إليه القنصل الإفرنسي في مصر: (إن وضع محمد علي المالي يزداد خطورة شيئا فشيئا

وأن تشبثه في إقامة المعامل التي لا تعود عليه بأي ربح قد استنزف

ص: 30

موارده. إن بناء وصيانة المصانع تقدر هذه السنة (1826) بعشرين مليون فرنك. ورغم هذا فقد أقدم على حفر عدة أقنية إضافية، وأمر بتنفيذ أشغال أخرى من هذا النوع).

خلال هذه الفترة كانت الثورة اليونانية تتطور باستمرار. وأراد الخليفة العثماني الإفادة من قدرة الجيش المصري، فطلب إلى محمد علي التدخل ووعده بمنحه (المورة)(1) ونفذ محمد علي ما طلبه السلطان. وكان ذلك مخالفا لمخططات الدول العظمى التي أرادت استخدام قوة محمد علي ضد العالم الإسلامي لا ضد الصليبية الأوروبية، فبدأت الدول - الأوروبية الغربية في التحرك المضاد. وتمخض هذا التحرك عن التقارب الإنكليزي - الروسي التي انضمت إليه فرنسا بعد فترة قصيرة، وبات هذا التقارب هو الذي يوجه الدبلوماسية الأوروبية نحو حل المسألة اليونانية. فبعد مفاوضات دقيقة تم التوقيع على بروتوكول (سان بطرسبورغ) في 13 آذار - مارس - سنة 1825 م. وقبل الموقعون على هذا البروتوكول مبدأ التدخل الأوروبي في شؤون الإمبراطورية - الخلافة - العثمانية من أجل ما أسموه (وضع حد للحوادث التي كانت تثير الاضطراب في المشرق). وأصبح موضع العالم الإسلامي اعتبارا من هذا التاريخ تحت مبضع التشريح الذي تمسك به القبضة الأوروبية، غير أن أوروبا حاولت قبل اللجوء إلى التدخل المسلح،

(1) المورة: (MOREE)، شبه جزيرة في اليونان حاليا، حملت هذا الاسم منذ القرون الوسطى، وهي تتبع جغرافيا شبه جزيرة البيلوبونيز (PELOPONNESE) الواقعة إلى جنوب اليونان والمتقطعة بدورها إلى مجموعة من شبه الجزر التي تتصل ببرزخ كورينث، وتضم الأرغوليد ولاكوني ومسينا واليد واخاي واركادي.

ص: 31

إقناع محمد علي بالتخلي عن الخلافة العثمانية، لأنها لم تكن تريد له التدخل كطرف ثالث في الصراع الدائر بين الخلافة الإسلامية وأوروبا المسيحية، وأخدت الدول الكبرى تغري خياله الطموح بمناطق أخرى من الإمبراطورية العثمانية تكون (أكثر ربحا) من ولاية المورة التي منحها له السلطان العثماني، فكان البعض يغرونه بخيرات سوريا، والبعض الآخر يصورون له بمبالغة النفوذ الذي سيكسبه من فتح بلاد المغرب العربي - الإسلامي. وكانت الديبلوماسية الإنكليزية تريد له سوريا، فكتب وزير الخارجية الإنكليزي (ستراتفورد كانينغ) إلى قنصله في الإسكندرية (سالت) رسالة بتاريخ 10 حزيران - يونيو 1826 جاء فيها:(إذا استطعنا أن نحمل محمد علي على فهم مصالحه الخاصة، إلى حد دفعه إلى تبني وجهات نظرنا، فلا شك في أن مساهمته ستساعد على نجاح مفاوضاتنا. وسيكون من الأفضل له التنازل عن جزء من الجزية التي سيدفعها اليونانيون مقابل احتفاط ابنه بولاية سوريا) وكان ستراتفورد كانيبغ قد أرسل مثل هذه التعليمات الدقيقة إلى سفيره في القسطنطينية (جورج كانينغ) في الرابع من حزيران - يونيو - 1826 كالتالي: (إن إغراء محمد علي بسوريا كحل للأزمة اليونانية يدخل في نطاق بروتوكول سان بطرسبورغ، فهل من الممكن إقناع والي مصر، بالتجاوب مع الوساطة بصدد المسألة اليونانية وذلك عن طريق إعطائه الأمل في ولاية سوريا، وبوعده، إذا كان سلوكه حسنا بمساعدة معينة في مشاريعه لبناء السفن؟ إني أفهم تماما أن بروتوكول سان بطرسبورغ لا يعني اسخدام القوة، إلا أنه لا يقول بأي رفض لهذه الوسيلة

).

ص: 32

كانت عروض القنصل الإفرنسي (دروفيني)(1) المبطنة ومساعدة البعثة العسكرية والبحرية تغذي أوهام محمد علي، وفي آب - أغسطس - 1825، نزال الكولونيل ري ومعه عدد من التقنيين في الإسكندرية، ومعه عدة نماذج من المدافع الحربية قدمها (شارل العاشر) وكان ري مكلفا بإعادة تنظيم ترسانات ومعامل الأسلحة. وفي نيسان (أبريل) 1827، وصلت أيضا، بناء على طلب والي مصر، بعثة بحرية إفرنسية أخرى. وبعد فترة قصيرة انضمت السفن الجديدة التي أوصى عليها في أوروبا إلى أسطوله البحري (بين حزيران وآب - يونيو وأغسطس - 1827) أي قبل هزيمة نافاران مباشرة.

عملت فرنسا بعد ذلك على تطوير علاقاتها مع مصر محمد علي باشا، وتوثيق عرى التعاون في كل المجالات. ففي 18 آب - أغسطس - 1828، نزلت في الإسكندرية بعثة علمية تضم بين أعضائها الشاب (شامبوليون) والسيد (لونورمان) ورسامين وعالم طبيعي ومهندس معماري وكانت مهمة البعثة القيام بأبحاث تنقيب عن الآثار، وبفك رموز الكتابة الهيروغلوفية (المصرية القديمة). وفي الخامس والعشرين من الشهر ذاته، وصلت بعثة دبلوماسية أخرى مؤلفة من (الكونت دوسان يجي) ابن أخ المسيو (دوهيد دونوفيل) وزير البحرية. والمسيو كرو، من وزارة الخارجية، واجتمعت مطولا إلى محمد علي الذي كان يعيد بناء أسطوله ويرغب في توسيع ترسانته في الإسكندرية، وأن يقيم فيها ورشات لبناء السفن بمساعدة التقنيين

(1) دروفيني: DROUYN DE LIUYS EDOURAD ديبلوماسي (فرنسي، من مواليد باريس (1805 - 1881 م) أصبح وزيرا للخارجية الإفرنسية في عهد الإمبراطورية الثانية (نابليون الثالث).

ص: 33

الإفرنسيين. وقد وقعت مهمة القيام بهذه العملية الصعبة على عاتق (لوفيبور دوسيريزي) الذي وصل في نيسان - أبريل من سنة 1829م. وفي غضون عام 1829 أيضا وصل إلى مصر (مسيو بوكي ديشان) والسيدة (إيد سانت إيلم) اللذان خلقا وضعا ظريفا ومسليا لإقامتهما، وكان الهدف البعيد لهذا الغزل الإفرنسي المصري الطويل هو احتلال المغرب العربي - الإسلامي - (أو الدويلات البربرية كما كانت تسميها فرنسا). وبعد هذه المكاسب الأولى التي حققها - دروفيني - حاولت بعثتا (هودر - و - لانفسدورف) دفع محمد علي إلى هذه المغامرة الإفريقية ضد مقاطعات شبه مستقلة. إلا أن رفض باشا مصر كان مهذبا. فقد كان هناك سببان رئيسيان لإيقافه عن سلوك هذه الطريق الخطرة والبعيدة: أولهما التحالف مع أمة مسيحية ضد المسلمين، وثانيها، إدراكه بأنه يستعمل أداة لهذا الاحتلال. ولقد صرح أمام دروفيني: بأن مثل هذا التحالف قد يكون قاضيا بالنسبة إليه، وأن العالم الإسلامي قد يتخلى عنه ساخطا. ثم أنه كان يعرف مدى معارضة إنكلترا لمثل هذا التوسع الإفرنسي وهو الذي كان يعير السياسة الإنكليزية - طوال حياته - حذرا حقيقيا) (1).

وإذا كانت فرنسا لم تكسب إقحام قوة محمد علي في المغرب العربي الإسلامي، فيكفيها منه أنها عزلت المغرب العربي الإسلامي عن الإمبراطورية العثمانية، وضمنت حياد قوة مصر عند تدخلها ضد دول المغرب.

(1) G.DOUIN (L'EXPEDITION D'ALGER) PARIS 30

ص: 34