الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توافر لها من الخبرة والثقافة والمكانة الاجتماعية. وهذه المجموعة هي من النوع الذي يمكن وصفه (بالمعتدلين) أو (الواقعيين) والذين
حاولوا التحرك في إطار الظروف الزمنية والمكانية ضمن مفهوم (انقاذ ما يمكن انقاذه). وظهر بعضهم وهو يحاول إقامة علاقات مع فرنسا لمصلحة الإسلام ولمصلحة الجزائر المجاهدة. غير أن هؤلاء لم يلبثوا أن سقطوا تباعا، ذلك أن أرضيتهم الدينية والقومية والوطنية تجعلهم بصورة حتمية يقفون في النهاية في الصف - أو في الخندق - المعادي للاسعمار. وقد يكون من المناسب، إكمال صورة الموقف باستقراء الملامح العامة لبعض هذه الشخصيات وجهادها خلال مرحلة التحول الحاسم في حياة الجزائر.
1 -
حمدان عثمان خوجة:
كان حمدان عثمان خوجة، منسوبا إلى حضر الجزائر، تاجرا كبيرا، ومالكا غنيا من أثرياء مدينة الجزائر وكانت له أراضي في سهل (متوجة - متيجة) وله أملاك في المدينة. وقد ولد في أواخر القرن الثامن عشر من أسرة لها مكانتها البارزة في الدولة. فكان عمه أمين السكة (أي مسؤول المالية) وكان والده أستاذا للقانون، ثم كاتبا من الدرجة الأولى للدولة. وقد مكنه ذلك من الحصول على ثقافة عميقة ومعرفة شاملة بشؤون الدوله والبلاد عامة، كما مكنه من السفر إلى المشرق وإلى أوروبا للتعرف على أحوال العالم القديم (الشرق) والجديد (أوروبا) وكان ذلك في وقت دقيق يشهد تغيرات جذرية في السياسة الدولية (مؤتمر فيينا) وفي التفكير الإنساني نتيجة الثورة الصناعية.
طلائع المجاهدين بقسنطينة يراقبون الفرنسيين
كان حمدان عثمان خوجة في مدينة الجزائر عندما وقع الغزو الاستعماري الإفرنسي، ويظهر أنه مارس دورا خفيا في الدعوة إلى اجتماع الحضر الذين طلبوا إلى الداي الاستسلام. وكان محل ثقة الباشا (الداي حسين) الذي أرسله إلى صهره (الآغا إبراهيم) ليقنعه باستئناف القتال بعد هزيمته في معركة (اسطاوالي)، وكان ابنه حسن هو التي صحب بوحزبة، وكاتب الباشا للتفاوض مع (دوبورمون) على شروط التسليم. ويظهر أن (خوجة) أصبح موضع ثقة (دوبورمون) الذي ولاه عضوية المجلس البلدي لمدينة الجزائر. واحتفظ خوجة بمكانته في عهد (كلوزول) الذي عينه في لجنة تقدير تعويضات الأملاك المصادرة، وأسند إليه دراسة مطالب اليهود من فرنسا لدفع تعويضات عن القروض التي كانوا قد دفعوها إلى (الكراغلة) كما أصبح (خوجة) متوليا شؤون المراسلة بين (باي تيطري بو مرزاق) وبين السلطات الإفرنسية. غير أن أسهمه لم تلبث أن تدهورت، حيث تآمر اليهود ضده ووقف في وجهه المسيحيون (بسبب موقفه غير المتسامح من احتلال المساجد) مما جعله في أعين الإفرنسين من الحاقدين عليهم. وكان ذلك سببا في عزله من الوظائف التي أسندت إليه والتي قال عنها بأنه قبلها لأنه لم يكن له الخيار.
حاول (الدوق دوروفيغو) إنصاف (خوجة) فأعاد إليه داره التي كان قد استقر فيها أحد الضباط الإفرنسيين. وأرسله للتفاوض مع (الآغا محيي الدين بن مبارك - مرابط القليعه) وكلفه بمهمة سرية لدى الحاج أحمد باي قسنطينه، فذهب مرتين إلى قسنطينة (آب - أغسطس وتشرين الأول - أكتوبر) 1832 م. ودامت رحلته حتى
كانون الأول - ديسمبر - من السنة ذاتها محاولا إقناع الباي باقتراح الدوق، وهو الاعتراف بالسيادة الإفرنسية، ودفع جزية سنوية لفرنسا. ثم توترت العلاقات بين (خوجة) وبين (الدوق) فنفاه من الجزائر. كما عمل اليهودي (بكري) على إغراق (خوجة) بقضايا ماليه شائكة جعلته يتابعها لدى مجلس الدولة في فرنسا.
اجتمعت فئة (المنفيين الجزائريين) في العاصمة الإفرنسية في أيار (مايو) 1833 م حيث تولى (خوجة) قضية الدفاع عن الجزائر وشرحها للرأي العام الإفرنسي والعالمي. وكان للضغط الذي قامت به فئة المثقفين الجزائريين المنفيين في باريس الفضل في تحرك
البرلمان الإفرنسي وتشكيل اللجنة الإفريقية. وفي الشهر ذاته أرسل (خوجة) مذكرة إلى مجلس الدولة الإفرنسي عن حالة الجزائر. وفي 3 حزيران - يونيو - أرسل مع إبراهيم بن مصطفى باشا مذكرة طويلة إلى المارشال (سولت) وزير الحربية، واقترح فيها بعض مطالب الجزائريين. وتشكيل لجنة تحقيق، وفي 9 تموز - يوليو - أرسل خلاصة للمذكرة إلى الحكومة الإفرنسية، وفي 10 منه أرسل نسخة من المذكرة ورسالة إلى الملك الإفرنسي، وناشده التدخل في الجزائر. وبعد أن تكونت اللجنة أصبح (خوجة) صوت الجزائريين الذين فوضوه ليتحدث باسمهم. ولذلك رفع في 6 أيلول - سبتمبر - رغبات الجزائريين إلى الملك الإفرنسي، وقد ألح فيها على شيئين: الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق التي يتمنع بها الأوروبيون. ثم كتب كتابه (المرآة) لتنوير الرأي العام. وكان الكتاب جاهزا تقريبا منذ تموز - يوليو - 1833. غير أن خوجة لم ينشره انتظارا لتحسن الأوضاع وظهور نتائج اللجنة الإريقية، غير أنه قرر نشره في تشرين
الأول - أكتوبر - وأرسل منه نسخة مع رسالة إلى أعضاء اللجة المذكوره. وينص المؤلف أن (المرآة) سيكون جزئين يتناول في الأول الجزائر في العهد العثماني وإدارة بورمون وكلوزول، ويتناول في الثاني إدارة برتزين وبيشون، ولكن لم يظهر منه سوى الجزء الأول.
لقد خاب أمل (خوجة) في (اللجنة الإفريقية) التي لم تحقق ما كان يريد. وقد عرضته آراؤه في (المرآة) إلى المحاكمات بدعوى التشهير بالغير. ولم يقبل أي طلب استئناف حتى الذي تقدم به أمام مجلس الدولة. ومن جهة أخرى عاد كلوزول الذي كان ساخطا عليه، حاكما عاما على الجزائر سنة 1835. وقد أصدر (كلوزول) قرارا في 26 أيلول (سبتمبر) 1836 بطرد (حسن بن حمدان خوجة) من الجزائر بدعوى أنه كان من المتآمرين على فرنسا. أما ابنه الآخر (علي) الذي كان قد صحبه إلى فرنسا، فقد عاد إلى الجزائر في شهر آذار - مارس - 1839. وأما (خوجة) نفسه فقد ذهب إلى (إستانبول) حيث ظل على اتصال (بالحاج أحمد باي قسنطينة) يترجم له رسائله إلى التركية، ويطلع السلطان على أحوال الجزائر.
لقد كان كتاب خوجه (المرآة) وثيقة من أغرب وأغنى وثائق التاريخ الجزائري الحديث. وبرزت فيه مجموعة من النقاط أبرزها:
1 -
إثباته أن عدد سكان القطر الجزائري كان عند الاحتلال عشرة ملايين، وكان السيد حمدان هو المدير الثاني لمصلحة الضرائب في الحكومة الوطنية الجزائرية، ولهذا فإن معلوماته أكثر
دقة من كل البيانات التي صدرت عن المصادر المختلفة - الإفرنسية الاستعمارية خاصة -.
2 -
أنه سجل أعمال اللصوصية والنهب التي قام بها الجنود الإفرنسيون. وصور أبشع الصور لتلك المنكرات التي فعلها الأدنياء دون حياء أو خجل، وبعث بوثيقة إفرنسية على يد محضر إفرنسي، أن الإفرنسيين كانوا يسرقون عظام موتى المسلمين من المقابر الإسلامية، ويرسلون بها ضمن عظام الحيوانات لمعامل تكرير السكر بمرسيليا.
3 -
بيانه عن الأملاك والأرزاق المصادرة، والمظالم التي ارتكبها الطغاة أثناء الاحتلال. لقد كان (حمدان عثمان خوجة) في طليعة المطالبين بتشكيل لجة تحقيق للنظر في المظالم التي أنزلها الإفرنسيون بالجزائريين، وعندما تشكلت (اللجنة الإفريقية) وجاءت إلى الجزائر، استدعت إليها (خوجة) في جلستها الرابعة عشرة، وظهر (خوجة) وكأنه متهما بقضية لا مدافعا عنها، حيث قال له رئيس اللجنة:(بأن اللجنة تعرف أمر الكتاب الذي وضعه عن الجزائر - المرآة - وأن الكتاب يحتوي على قضايا ليس من شأن اللجنة أن تتدخل فيها، وعلى شكاوى شخصية ستنال حقها من العدالة. وطلب منه الإجابة على الأمور العامة. وعلى ما أراد أن يطلع عليه الرأي العام. واتهمه بأن أكثر ما جاء في الكتاب خال من البراهين. ودعاه إلى تقديم البراهين إذا كانت لديه. وبناء على محضر الجلسة فإن خوجة قد أجاب بأنه ليس لديه لا حقائق ولا براهين غير أن رئيس اللجنة لم يلبث (أن طمأن (خوجة) على أن الأمور التي اشتكى منها ستنال نصيبها من الاهتمام والعناية. فالمساجد التي
احتلتها السلطات الإفرنسية ستعاد إلى ما كانت عليه، وستحترم الملكية في المستقبل، وستدفع الأجور، لأن هدف الحكومة الإفرنسية هو تطبيق نفس العدالة المطبقة في فرنسا على الجزائر). ثم سأل رئيس اللجنة وهو يستجوب (خوجة) عن رأيه:(في ما إذا كان يعتقد أن تطبيق مبدأ إعادة الأملاك سيحقق الازدهار للمناطق التي احتلتها فرنسا في الجزائر. كما سيؤدي إلى استمالة الجزائريين الذين عارضوا حتى الآن الوجود الإفرنسي، والذين هم بلا شك قد أقاموا معارضتهم نتيجة للشكاوى التي نشرها - خوجة - في كتابه، والتي بالغ فيها) وعلى الرغم من أن محضر اللجنة قد اختصر إجابة خوجة على هذا الموضوع، فإنه قد عبر عن اعتقاده بأن النتيجة التي توقعها رئيس اللجة لن تتحقق بسرعة، لأن نظام العدالة المشار إليه قد يفيد أهل المدن - على ما ذكره خوجة - غير أن لن يحقق إلا القليل من الفائدة لأبناء الريف.
كان من رأي خوجة - والذي أدلى به أمام اللجنة الإفريقية (بأن فرنسا لن تجني شيئا من محاولتها إغراء الجزائريين بإحلال النظام الإفرنسي محل النظام التركي الإسلامي، أو التظاهر باحترام الدين والمعتقدات، وقد سأله رئيس اللجنة ما إذا كان يعتقد بأن احترام الدين وحماية السكان وعدل الحكومة الإفرنسية الصارم قد يوفر للمواطنين فرصا مغرية لم تكن متوافرة لهم زمن الأتراك) فكانت إجابة - خوجه - واضحة، إذ أنه عبر بهذه المناسبة وبمناسبات أخرى على أنه من المحال التعايش بين الجزائريين والإفرنسيين في كل شيء.