الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
1 -
قصة اليهودي ومروحة دوفال
كانت الحكومة الإفرنسيه تشتري ما تحتاجه من المواد الغذائية من الموانىء الجزائرية بطريقة مباشرة. وتولت ذلك (الشركة الملكية الإفرنسية) ثم (الوكالة الوطنية الإفرنسية)(1) التي كانت تدفع ثمن ما تشتريه إلى الحكومة الجزائرية. ثم غيرت فرنسا طريقة الدفع - أثناء حكومة المؤتمر - فلجأت إلى التاجرين اليهوديين - بكري وبوشناق - ليقوما بالدفع إلى الحكومة الجزائرية نيابة عن الحكومة الإفرنسية.
كان (ميشيل كوهين بكري - المعروف باسمه المستعرب ابن زاهوت) قد أقام تجارة له
في أوروبا قبل أن يفتح له مركزا في الجزائر سنة (1770م). وكان هذا المركز متواضعا في البداية، غير أنه لم يلبث أن ازدهر بسرعة عندما انضم إليه الإخوة اليهود الثلاثة لبكري - ابن زاهوت - وابنه داوود، وصهره نافتالي بوشناق (المعروف باسمه
(1) الشركة الملكية الإفرنية: (COMPAGNIE ROYALE D'AFRIQUE) وقامت بدلا عنها بعد الثورة الإفرنسية الوكالة الوطنية: AGENCE NATIONALE.
المستعرب أيضا - بوجناح - والذي كان بدوره من أسرة لها علاقات تجارية في الخارج وجاءت إلى مدينة الجزائر سنة 1723 تقريبا).
اعتمد (بوجناح) الأسلوب الذي أتقنه اليهود في جمع الثروة واكتنازها، ووجد ضالته في تلك البيئة المتحللة من القيم الدينية والاجتماعية، وهي متوافرة في كل مجتمع وكل زمان، وقد مثلها في تلك الفترة طبقة من حكام الجزائر، وقد حفظ تاريخ الجزائر نماذج - عينات - من تلك الفئة. منهم على سبيل المثال (مصطفى بن عصانجي)(باي التيطري بين 1775 - 1795) الذي كان يخشى غضب الباشا عليه بسبب رحلاته الرتيبة إلى مدينة الجرائر في كل ثلاث سنوات، مما حمله على اعتزال الناس حتى لم تعد له الجرأة على مقابلة أحد. وهنا قام (بوجناح) بالوساطة وشجعه ومنحه ما يحتاجه من المال وتوسط له عند الباشا حتى تم تعيينه بايا (حاكما) على قسنطينة. وحفظ (مصطفى بن عصانجي) في نفسه هذا الجميل وقدره، فجعل من (بوجناح) موقع ثقته ورجل أعماله، مما مكن (بوجناح) من استثمار نفوذه وسلطته للحصول على الثروة. ويذكر هنا أن (الباي مصطفى) أراد أن يتقدم بهدية ثمينة إلى امرأة الباشا فطلب من (بوجناح) أن يأتيه بهدية ثمينة تعرف في الجزائر باسم (الصريمة) فجاءه بها وثمنها (30) ألف فرنك. ولم يدفع له الباي ثمنها، وإنما أعطاه بالمقابل (75) ألف كيلة قمح بسعر الكيلة الواحده أربع فرنكات. وحمل (بوجناح) القمح وباعه في فرنسا - وكان محتكرا لتجارة الحبوب - فبلغ ربحه من هذه الصفقه (3،450،000) فرنك فرنسي.
وبذلك ازدهرت تجارة (بكري) و (بوجناح - بوشناق) تحت حماية بعض الباشوات (مثل حسن ومصطفى) وأصبح نفوذ اليهوديان
(بوجناح) و (ابن زاهوت) قويا في كل المجالات الحيوية في دولة الجزائر. وكانا على علم بأحوال البلاد الداخلية، وكانا يتجسسان على المواطنين الجزائريين لصالح الحكام. وإذا كان (ابن زاهوت) قد حدد فعالياته في مجال التجارة، فإن (بوجناح) قد تجاوز ذلك إلى حدود نشاط الدولة، فكان يرفع الموظفين والبايات ممن يخضعون له ويدمر من يقاومه أو يعترض سبيله، مما جعل الجزائريين يطلقون عليه اسم (ملك الجزائر). وبلغ من نفوذه أنه كان يستقبل هو وزملاءه - باسم الباشا - القناصل الأجانب، كما فعل مع قنصل الدانمارك والسويد وهولاندا (سنة 1801 م) كما قام هو وشركاءه اليهود بالمفاوضات من الجزائر والبرتغال. وفي سنة (1804 م) استقبل مبعوث السلطان إلى الجزائر. وتجاوز نشاط اليهوديين الحزائر، وتطور ليشمل البحر الأبيض المتوسط، فأصبحت لهما مراكزهما التجارية في مرسيليا وجنوا ونابولي وأزمير والإسكندرية وتونس وليفورنيا وقرطاجنة (الإسبانية) ومنطقة الراين وبلجيكا. وأصبح لهما بالتالي نفوذهما الواسع لدى الدول الكبيرة أو الصغيرة نظرا لما كانا يقدمانه من قروض - وعمولات - للمتعاونين معهما. وكان هذين اليهوديين مدينين للدولة الجزائرية في حين كانت فرنسا مدينة لليهوديين بمبلغ تم تقديره في سنة 1795 م بمبلغ مليونين من الفرنكات. أما دين اليهوديين للجزائر فقدر بمبلغ (300) ألف فرنك. وعين اليهوديان ممثلا لهما في مرسيليا هو (يعقوب البكري) الذي لم يلبث أن نقل نشاطه إلى باريس. وقد ثار الرأي العام الإفرنسي ضد نفوذ اليهود الجزائريين في فرنسا، ولكن الوزير الإفرنسي (تاليران) الذي كسبه اليهود، تدخل لمصلحتهم، وحمل الحكومة الإفرنسية على التراجع عن تنفيذ الإجراءات التي كانت
تعتزم اتخاذها ضدهم. كان من نتيجة ذلك، أن تورطت الحكومة الجزائرية في قضية الدين الإفرنسي المتوجب دفعه لليهود، إذ كتب (حاكم الجزائر مصطفى باشا) إلى (تاليران) يطلب إليه أن تقوم الحكومة الإفرنسية بدفع الدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود، وأصبحت قضية الدين مطروحة على المستوى الحكومي. وأصبح (سيمون أبوقية) بعد فترة، هو ممثل تجارة يهود الجزائر في باريس، وتقدم بمذكرة إلى فرنسا عن القرض الذي بلغ (3،377،445) فرنك. وفي سنة 1802، ارتفع هذا الدين حتى بلغ (8،151،000) فرنك. وكان (باشا الجزائر) لا يفتأ يطالب الحكومة الإفرنسية بالدين الذي يجب عليها دفعه لرعاياه اليهود. ولكن بدون جدوى، ومما يذكر أن الحكومة الإفرنسية قد سجنت ممثلي يهود الجزائر في بلادها إثر إعلان الحرب بين الدولتين (1798 م) على أساس أنهم رعايا جزائريون، ثم أطلقت سراحهم بعد انتهاء الحرب (1801 م). وفي الجزائر، كان اليهود عامة، وابن زاهوت وبوجناح خاصة، يتعرضون للاضطهاد بسبب نشاطاتهم غير النظيفة، وكانت حماية (الباشا) لهم حماية موقتة لهدف معين (على نحو ما كان عليه الباشا مصطفى). وأدى تدخل اليهود السافر - والفاضح - في شؤون الدولة إلى كراهيتهم، وكان ذلك هو السبب الذي دفع أحد الإنكشارية إلى قتل (بوجناح الملقب بملك الجزائر) في صيف سنة 1805، وتبع ذلك رد فعل عنيف ضد اليهود، وفي السنة ذاتها اغتيل (مصطفى باشا) الذي كان يعمل على حمايتهم. وعندما تولى (أحمد باشا) الحكم في الجزائر، صادر أملاك (بوجناح) واضطهد الأفراد البارزين من أسة (بكري - ابن زاهوت) وقد مارس (داوود دوران) منافس (ابن زاهوت) و (بوجناح) دورا هاما
في المصير الذي لحق بصاحبيه، وفي رئاسة الطائفة اليهودية في الجزائر. غير أن أيام ازدهار (دوران) لم تكن طويلة، فقد استعاد (يوسف بكري) سمعة العائلة، كما حل ابنه (داوود) محل (دوران) في رئاسة الطائفة اليهودية. وتابع (دوران) ممارساته في الكيد لهما إلى أن نجح في تجريدهم من جميع سلطاتهم. ففي سنة 1811، قطع رأس (داوود بكري) الذي اتهم بالوشاية بالباشا لدى السلطان، وحل (دوران) محله. ولكن هذا لم يستمر في عمله سوى ثمانية شهور، لأن يوسف بكري الذي كان عجوزا قد ثأر منه لابنه داوود. غير أن سلطة يوسف لم تدم طويلا أيضا، لأن (عمر آغا) قد أمر بنفيه (سنة 1816) فذهب يوسف إلى (ليفورنيا). وقد حل محله بالجزائر (يعقوب بكري) الذي كان ممثلا لتجارة هؤلاء اليهود الجزائريين في باريس والذي لم يكن محل ثقة العائلة. ومما يذكر أنه كان قد حصل على الجنسية الإفرنسية. وأصبح يعقوب في الجزائر هو المسؤول عن التجارة التي تديرها أسرة بكري، وهو زعيم الطائفة اليهودية في الوقت ذاته.
عينت الحكومة الإفرنسية لجنة رباعية لدراسة الدين الذي على فرنسا لرعايا الجزائر اليهود في سنة 1819، وقدرته اللجنة بمبلغ (42) مليون فرنك. ولكن هذا المبلغ انخفض شيئا فشيئا حتى وصل (7) ملايين فرنك فقط، نتيجة مطالبة أطراف أخرى بديونها على أسرة (بكري - بوشناق) ولكن المذكرة التي أصدرتها الحكومة الإفرنسية في 28 تشرين الأول - أكتوبر - 1819 م. أكدت أن ملك فرنسا عازم على إرضاء مطلب باشا الجزائر للمحافظة على العلاقات الودية بين الجزائر وفرنسا. (غير أن المذكرة نصت على أن فرنسا لن تسدد الدين إلا بعد إعلان الباشا التخلي عن مطالبته
بتسديد الدين له بدل بكري). وأعلن الباشا رسميا - يوم 12 نيسان - أبريل - أنه يوافق على أي طريقة لتسديد الدين - حتى لو سددت الحكومة الإفرنسية الدين الذي عليها إلى يعقوب بكري مباشرة. والأمر الواضح هو أن يعقوب سيدفع ما عليه من الدين للجزائر بمجرد استعادته لما له من دين على الحكومة الإفرنسية. وفي 24 تموز - يوليو سنة 1820 م. صدر قانون عن البرلمان الإفرنسي بتخصيص (7) ملايين فرنك لتسديد الدين إلى يعقورب بكري. وعندئذ واجهت الحكومة الإفرنسية - على ما قيل - مطالب كثيرة يدعي أصحابها بأن لهم دين عند يعقوب بكري. وأمام ذلك، أحالت الحكومة الإفرنسية القضية بكاملها إلى القضاء، وكان ذلك يعني عدم حصول (حاكم الجزائر) على ديونه المتراكمة عند (يعقوب بكري).
كان (الباشا حسين) قد تولى حكم الجزائر سنة (1818 م) خلفا للباشا (علي خوجة). وقد اشتهر بالغيرة على الدين، وباليقظة الدائمة والميل إلى الأهالي. وكان دون الخمسين من عمره حين تولى الحكم. وقد ورث قضية الدين الذي على فرنسا لرعاياه اليهود. كما واجه عدة ضغوط من فرنسا وبريطانيا، بعد مؤتمر فيينا لإلغاء الرق وإبطال دفع الضريبة السنوية على الدول الأوروبية والواقع أن هناك أقوالا متضاربة حول شخصيته ومزاجه وقدرته، فبعضهم يتهمه بالقسوة والتهور والتهاون، وبعضهم يصفه بالخيرية والأمانة والشهامة. والمهم في الأمر هو أن الباشا طلب من فرنسا أن تدفع إليه شخصيا الدين الذي عليها ليعقوب بكري، وسيتولى هو وليس المحاكم الإفرنسية تسديد الديون التي على البكري للدائنين. وكتب الباشا بذلك إلى الحكومة الإفرنسية التي لم تحاول
الرد بحجة أن وزير الخارجية (البارون داماس) لم يفهم طلب الباشا طالما أن سلفه قد وافق على أن تدفع فرنسا مباشرة إلى (بكري). وقد اتهم الباشا القنصل الإفرنسي (دوفال) بإخفاء رد فرنسا عنه، وزاد في سوء التفاهم بينهما ما قاله (يعقوب البكري) من أنه دفع بعض الأموال للقنصل الإفرنسي، فزاد ذلك من عدم ثقة الباشا في القنصل. ولذلك طلب الباشا إلى فرنسا استدعاء قنصلها، ودفع الدين الذي لبكري له شخصيا. ولكن فرنسا بدلا من أن تسمي قنصلا جديدا. وفقا للعادة المتبعة في التمثيل الديبلوماسي - وبدلا من أن تجيب الباشا بخصوص الدين، أرسلت إلى الجزائر سفينة حربية بقيادة الضابط (فلوري). طالبة من الباشا دفع تعويضات معينة، ومدعية عليه إدعاءات مختلفة.
ويذكر هنا أن (الباشا) قد سجن في سنة (1826) يعقوب بكري لعدم وفائه برد الدين المستحق للقنصل الإنكليزي. كما حمله على التنازل عن كل الديون التي يدعيها (بكري) على إسبانيا وفرنسا وسردينيا، وإجراء هذا التنازل للداي (حسين باشا). الذي كرر مطالبته لفرنسا بتعيين قنصل جديد ودفع الديون، وعادت فرنسا من جديد فأرسلت في هذه المرة أربع سفن حربية بقرار من مجلس الوزراء وذلك في شهر نيسان (أبريل) 1827 م.
أقبل عيد الفطر الأول من شوال سنة 1243 هـ - مصادفا ليوم 27 نيسان - أبريل - 1827، وحضر القناصل الأجانب كالعادة إلى الديوان لتهنئة الباشا بالعيد. ودخل قنصل فرنسا (الجنرال دوفال) ليهنئه بعيد الفطر السعيد (وكان يتقن التركية - في حين تذكر مصادر أخرى أنه لا يتقن التركية إلا بقدر ما كان والي الجزائر حسين باشا
يتقن الإفرنسية:. فسأله حسن باشا عن سبب عدم رد ملك فرنسا على رسالته. فما كان من (دوفال) إلا أن أجابه محتدا: (ليس من العادة أن يخاطب الملك من هو أدنى منه بدون وساطة) ففهم منها الباشا أن ملك فرنسا لا يتنازل لإجابته، فاشتد غضبه وثارت ثائرته لهذه الإهانة، وصاح بالقنصل مشيرا بمروحة من ريش النعام كانت بيده (أخرج من هنا!) وبتلك الإشارة لمست أطراف المروحة وجه القنصل. فعظم هذا الأمر على (دوفال) الذي خرج صاخبا متوعدا، وطير إلى فرنسا برقية ينبىء حكومته بما جرى له، وكيف لطمه الباشا بمروحة على وجهه، فأتاه الأمر بمبارحة الجزائر حالا فهيأ أمتعته وغادر الجزائر ورافقه أكثر الإفرنسيين المقيمين هناك (1) فلما رأى الداي ما فعلت فرنسا بنقل رعاياها، أدرك أنها لا بد لها من أن تحاربه، فأصدر أمره بالقبض على من بقي من الإفرنسيين في بلاده، وضبط أملاكهم، وخرب قلعة - دي كار - الفرنسية. فأعلنت فرنسا الحرب على الجزائر في 16 من حزيران - يونيو - سنة 1827 م.
(1) جاء في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال - الدكتور أبو القاسم سعد الله - الجامعة العربية 1970 - القاهرة، ما يلي:(وأمر الباشا القنصل بالخروج، وعندما لم يتحرك، ضربه بالمروحة التي كانت بيده. وادعى دوفال في تقريره إلى حكومته بأنه ضربه ثلاث مرات ، أما الباشا فقال بأنه ضربه لأنه أهانه. وتذهب رواية أخرى إلى أن الضرب لم يقع أصلا ولكن وقع التهديد بالضرب - وفي حاشية المصدر المذكور ص 20 - يقر خوجة - حمدان عثمان مؤلف كتاب - المرآة -: بوقوع ضربة المروحة، ولكنه يلقي المسؤولية على دوفال).