الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
أعداء الداخل والخارج
(1833)
بويع الأمير عبد القادر (أميرا على الجزائر) في مدينة (معسكر) بتاريخ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1832 م. غير أن هذه البيعة كانت محدودة، إذ لم يكن الذين بايعوا الأمير يمثلون الجزائر كلها. وقد عرف الأمير منذ البداية، أن وحدة القيادة لبناء دولة الحرب هي العامل الأساسي للنجاح. فمضى لتحقيق هذه الوحدة، وعندما حاول بعض الزعماء المحليين الخروج على الطاعة والجماعة، استفتى العلماء والفقهاء فقرروا بالإجاع مقاتلة المرتدين، حتى لو قصروا في تنفيذ شرط واحد مثل أداء الضرائب ودفع الزكاة، وأرسل الأمير عبد القادر بهذه الفتوى إلى علماء مراكش يستثيرهم في شرعيتها، فأفتوا بصحتها وعلق عليها سلطان مراكش بما يلي:(إن هذه الفتوى موافقة للسنة والقياس والإجماع وأن من عرض لتنفيذها، أو أولها تأويلا آخر، فإنه يعتبر من الظالمين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وأصبح باستطاعة الأمير، الاستناد إلى هذه الفتوى، لمحاربة أعداء الدين، أعداء الداخل، والذين كان بعضهم قد أخذ في توطيد صلاته بفرنسا، وبعضهم لا زال يحاربها غير أنه لا يرغب في الخضوع لسلطان هذا الشاب الذي لا يعتبر من وجهة نظرهم أكثر من
منافس لهم. وكان في طليعة هؤلاء (سيدي العريبي) وهو قائد قوي وله تأثير مطلق على قبيلة (فليته) في سهل الشلف - ناحية وهران - وكذلك (الغماري) قائد بني انجاد الذي رفض إطاعة الأمير. وشعر (محمد بن نونة) الذي كان يحب أن يقول أنه يحكم تلمسان باسم سلطان المغرب، أنه من السفالة الاعتراف بالولاء للأمير عبد القادر. أما (مصطفى بن اسماعيل) الذي كان محاربا قديما ومجربا والذي ابيض شعر رأسه في خدمة الأتراك (كزعيم للمخزن)(1) فإنه قد عبر عن تقززه من تقبيل يد (ولد ما يزال أمرد) حسب تعبيره.
ومضت أشهر ثلاثة فقط على (البيعة) يوم وجه الأمير عبد القادر دعوة لاجتماع عام في مدينة معسكر تحضره جميع القوى يوم 18 أيار - مايو - 1833م. واستجابت القبائل الكبرى في التل والصحراء لهذه الدعوة الخيرة، ورحبت بها، أما قبائل المخزن، وهي التي طالما كانت آلة في يد الأتراك، فقد تملص بعضها واتخذ موقفا سلبيا، في حين رد بعضها الآخر على الدعوة ردا مهينا، وكان من الصعب على مثل هؤلاء التخلص من الفوضى التي ألفوها في هذه الفترة. وأثناء ذلك، كان (بنو هاشم - الغرابة) وهم قبيلة الأمير، قد انطلقوا نحو وهران، وأخذوا في الاشتباك مع القوات الإفرنسية وإزعاجها. واجتمعت القبائل في اليوم المحدد، (يوم 18 - أيار - مايو) واصطفت للعرض المهيب، فكان
هناك (8) آلاف فارس و (ألف) راجل. ونشر الأمير علمه الخاص في سهل (خصيبية) - وهو علم كبير أبيض تتوسطه يد مفتوحة - وقد رفع أمام الجمهور الغفير في ابتهاج واحتفال كبير. وبعد ان استعرض الصفوف على فرسه. وخاطب الجمهور ببعض العبارات
(1) المخزن: تعبير يقصد منه تلك القبائل التي تحالفت مع الأتراك العثمانيين.
القصيرة الصارمة، والتي كانت كافية لإثارة الحماسة وتفجير الغضب ضد أعداء الدين، قادهم في اتجاه وهران، ووصل الأمير وقواته في الوقت المناسب لدعم قبيلته (بنو هاشم) والتي كانت تتعرض في ذلك اليوم لهجوم قوي شنه ضدها القائد الإفرنسي (دو ميشيل). فكان أول ما فعله هو أن قسم قوته إلى قسمين، وجه القسم الأول منها لمهاجمة الجناح الأيسر للقوات الإفرنسية، بينما قاد هو القسم الثاني للهجوم على حصن أقامه الجنرال الإفرنسي في مكان يدعى (الكرمة). وكانت هناك حامية تدافع عن هذا الحصن تضم فرقة مشاة - ألف جندي تقريبا - قطعتين من المدفعية بالإصافة إلى فصيلة من قناصي إفريقية. وقد حاول الأمير وفرسانه تسلق الأسوار، غير أن حامية الحصن نجحت في إحباط المحاولة، وعندها قاد الأمير عبد القادر قواته ودعم القسم الأول الذي كان يشتبك مع الإفرنسيين في السهل. وقد بذلت القوات الإفرنسية جهدا كبيرا للصمود أمام الهجمات الكثيفة والضربات المباغتة للمجاهدين، غير أن هؤلاء استطاعوا سحق الصنوف المنظمة للمشاة ودمروا التشكيلات المقاتلة، واستمرت المعركة القاسية طوال النهار، حتى إذا ما هبط الليل قرر (دي ميشيل) سحب قواته الممزقة تحت حماية مدفعيته، وتحت ستار الظلام.
توقفت الاشتباكات في الأيام التالية، ولم يقبل الأمير عبد القادر الخضوع لهذا الجمود، فنظم قوة من مائة فارس، وقادها بنفسه لنصب كمين في أجمة قريبة من وهران، كانت القوات الإفرنسية قد اعتادت على دفع فصائل من فرسانها إليها للعمل كمراكز مراقبة متقدمة. وظهرت سرية من القناصة الإفرنسيين في الموعد المعتاد. وعندما
وصلت إلى موقع الكمين فتح الأمير عبد القادر ورجاله النار عليها فمزقوها على الفور. وسقط عدد من قتلى الأعداء كما وقع (30) أسيرا في قبضة المجاهدين واكتفى الأمير بما حققه من نصر محدود في هذه المعركة التي أراد فيها اختبار رجاله وبعث الثقة في نفوسهم. وعاد إلى (معسكر) ليقطف ثمار عمليته التي انعكست على الصفحة الداخلية للبلاد. إذ أسرع إليه عدد كبير من الرؤساء والشيوخ الذين رفضوا الخضوع لسلطته حتى الآن، ليقدموا له دعمهم وولاءهم. وكان في طليعة هؤلاء (الحاج ابن قيسى) الذي كان مرابطا شهيرا، والذي جاء ومعه وحده نوابا يمثلون عشرين قبيلة صحراوية.
أصبح بالإمكان توجيه الصراع ضد أعداء الداخل، حيث كان (سيدي العريبي) زعيم قبيلة (فليتة) التي تضم بطون كثيرة وعشائر عديدة، يحشد قواته، ويعلن صراحة أنه (سيوجهها ضد ابن محيي الدين الطموح). وقد باغته الأمير عبد القادر بقوة تضم (5) آلاف فارس انطلقت للهجوم وهي تطلق نيرانها بكثافة، وتصرخ بصيحات الجهاد، مما شل قدرة (سيدي العريبي) وحرمه من كل إمكانات الدفاع، فمضت قوات الأمير وهي، تقتلع الخيام، وتجمع الأسرى، وتقود الماشية، ولم يحصل (سيدي العريبي) على العفو عن جرائم الماضي وقبول التزامه بالمحافظة على الأمن - في المستقبل - إلا بعد أن أرسل تعهدا مكتوبا بالطاعة، وتقديم ابنه رهينة لدى الأمير. وضمن بذلك خضوع أقوى المنافسين، كما ضمن زوال تلك الأعمال الشائنة من سلب للأموال وقطع للطرق وتهديد للنفوس، ولكن، وقبل أن يغادر الأمير عبد القادر البطحاء (المعروفة الآن بهبزة) بلغه انتفاض قبائل عكرمة وبني مديان، فسار إليهم وحثهم على الرجوع عن غيهم، فأظهروا تصميمهم على الخلاف والتمرد. فأغار عليهم،
واستولى على ممتلكاتهم، غير أنهم لم يلبثوا أن أظهروا الندم، فرد إليهم أموالهم، وضمن لهم أمنهم، وطلب إليهم الالتفاف حوله لمحاربة الأعداء. فاستجابوا لطلبه. وعملوا على دعم الوطن ورفع راية الجهاد بدلا من راية العصيان. وبيما كان الأمير في سبيله لإخماد الفتن والقضاء على الثورات المضادة، حاول عمه وأخوه مصطفى استثارة القبائل ضده، واتفق عمه وأخوه مع زاوية الدرقاوة، وكذلك مع
المرابطين في (الونشريس) وشكلوا كتلة تضم (600) مقاتل، وحاول الأمير استمالتهم، غير أنهم رفضوا الإذعان لرغبته، وصمموا عل مجابهته، فاضطر لمحاربتهم، وقد تغلب عليهم وفروا هاربين، أما عمه وأخوه، فقد وجدا لهم ملجأ في الجبال، ثم طلبا العفو، فعفا عنهما، وفرض على المهزومين مائة حصان وألف بندقية وخمسائة سلطاني فضة كضريبة. ومضى الأمير عبد القادر وقواته في سهل (الشلف) الواسع والمناطق المجاورة له، حيث انضم إليه عدد من القبائل الهامة، وخاصة القبائل الساكنة في بلدة (مليانة) والتي كانت خاضعة في ذلك الوقت للشيخ (ولد السائح) فخطبت وده، ووضعت جميع إمكاناتها تحت تصرفه. كما انضم إليه رؤساء قبائل (جحوط، ومرايا صومال وابن مناد وابن مناصر). وعندما وصل إلى (مليانة) اتصل بأسرة الوالي الصالح (سيدي أحمد بن يوسف) الذين يتمتعون بصيت كبير، فقدم أعضاء هذه الأسرة خدمات جليلة، وتقدم علاوة على هؤلاء مشايخ (جندل) وجميع الجنود الذي كانوا تحت قيادتهم. وقابلوا الأمير بحفاوة تامة وتوقف الأمير فترة في (مليانة) ريثما تمكن من إعادة تنظيم أمورها وعين عليها (خليفة) من أنصاره. جاء الآن دور مدينة (أرزيو) وحاكمها القاضي (سيدي أحمد بن الطاهر) الذي كان قد خالف تعليمات الأمير بعدم إجراء أي اتصال
مع الإفرنسيين، فأقدم بصورة علنية على إمداد الإفرنسيين بالماشية والعلف، وحتى الخيول التي كان يعتبر بيعها للإفرنسيين جريمة نكراء لا تغتفر. وقد حاول الأمير إيقافه عن الاسترسال في غيه، فكتب إليه محذرا من سوء تصرفاته، ومنذرا له من العقاب الشديد إن هو صمم على الاستمرار في سلوكه، غير أن (القاضي الطاهر) لم يتمكن من مقاومة إغراء الأرباح الضخمه التي كانت تؤمنها له تجارته، فاستمر في تعامله مع الإفرنسيين معتمدا على دعمهم له ووعودهم بحمايته. ودخل الأمير عبد القادر (مدينة أرزيو بصورة مباغتة وألقى القبض على القاضي، واقتاده مثقلا بالقيود إلى سجن (معسكر)، حيث أصدر تعليماته الصارمة بعدم اتخاذ أي إجراء ضده في الوقت الحاضر. وركب في اتجاه (بني عامر) لمعالجة بعض القضايا التي اضطرته للبقاء هناك عدة أيام. وكان في نية عبد القادر إعطاء الفرصة للقاضي حتى يفتدي نفسه (التي كان قد أحلها) بمبلغ (5) آلاف فرنك. ولكنه حين عاد إلى معسكر وجد أن القاضي قد قتل، وقد أذهله هذا الأمر، وعلم أن والده (محيي الدين) هو الذي أمر بمحاكمته، وأصدرت المحكمة ضده حكما بالعقاب الصارم. ونفذ فيه الحكم على الفور، وقد فقئت عيناه (وقطعت يداه ورجلاه ووضع في ساحة الصراية حتى مات بعد ثلاثة أيام بحسب ما تذكره بعض المصادر (1) وكان لا بد للأمير عبد القادر من تحمل تبعات هذا العمل، على الرغم من براءته منه.
أراد الأمير عبد القادر دعم قدرته بالاستيلاء على تلمسان (التي تبعد مسافة ستين ميلا تقريبا إلى الجنوب - الغربي من وهران) وهي
(1) تحفة الزائر (الأمير محمد) 107/ 1.
تقع على نجد في سفح جبال منحدرة عالية، وهي مشهورة بكثافة وقوة أسوارها التي طالما أعيت أعمال الحصار. وكانت قوة عبد القادر الرئيسية في هذه الفترة تتمثل في (بني عامر وبني هاشم). وبعد أن أخذ معه وحدات قوية من هذه القبائل اقترب من (تلمسان) وكان أهاليها منقسمين إلى حزبين: الأتراك والكراغلة. وكان الكراغلة يحتلون القلعة ويدافعون عنها، في حين كان العرب يعملون تحت قيادة (نونة) المتمرد والذي سبقت الإشارة إليه. وقد طلب عبد القادر من (نونة) الاستسلام، ولكنه رفضه. غير أن المقاومة التي حاولها سرعان ما انهارت، لأنه بينما كان عبد القادر يهاجه من جهة فتح عليه الكراغلة النار من القلعة. وبعد انتصاره في تلمسان عامل عبد القادر أهلها بكل احترام. لقد كان يأمل أن يعترف الكراغلة بسيادته. غير أنهم رفضوا كل العروض التي تقدم إليهم بها لأنهم شعروا بالأمان في تحصيناتهم، كما رفضوا البقاء معه على صلات طيبة. وما دام هو لا يملك المدفعية التي يخضعهم بها فقد قبل المساومة، وأقام أحد مساعديه حاكما على المدينة ثم عاد إلى (معسكر). وفي الطريق سمع بنعي أبيه. وقد شعر الابن الشجاع بفداحة الخطب الذي تركه فقدان الوالد الذي خلع عليه منذ طفولته كل حب وود، والذي كان يعامله دائما كصديق مقرب وزميل، والذي يدين له في الحقيقة بالمكانة التي وصل إليها. ولما كان لا يجد الوقت للدخول في عزلة مؤقتة يقتضيها المصاب الأليم، فإنه لم يستطع سوى أن يتبع جثمان والده إلى مثواه الأخير.
كان القائد الإفرنسي (دي ميشيل) قد استولى على (أرزيو ومستغانم) ولم يكن باستطاعة (عبد القادر) إضاعة لحظة واحدة - لقد كان واجبا عليه أن يبذل قصارى جهده لإيقاف هذا التوسع الإفرنسي
في إقليم وهران. وفي يوم (2 أب - أغسطس 1833) كان الأمير عبد القادر. قد وصل بقواته إلى أسوار مستعانم التي هاجمها على الفور. وبعد أن ترك (دو ميشيل) معسكره ليدافع عن نفسه، عاد توا إلى وهران. لقد كان يأمل في الإفادة من وجود الأمير عبد القادر أمام مستغانم للقيام بحركة تسلل ناجحة طالما فكر فيها. وفي يوم (5 - آب - أغسطس) وهو اليوم التالي لوصوله إلى وهران، أرسل (دو ميشيل) قوة من (3) آلاف فارس وراجل مع ثلاث مدافع ميدان لمهاجمة (الدوائر والزمالة) وهما القبيلتان اللتان تسببتا في خسائر فادحة للإفرنسيين عند قيامهما بتنفيذ الحصار الذي أمر به عبد القادر. وفي فجر يوم 6 آب - أغسطس - حل الجيش الإفرنسي بمضارب الخيام العربية. وفتحت المدفعية نيرانها على الفور، وتقدم المشاة في صفين وأطلق الفرسان النار. ولم يقم العرب الذين أخذوا على غرة فأذهلتهم المباغتة بأي رد فعل مناسب، فرفعوا خيامهم، وتركوا وراءهم مواشيهم وكثيرا من النساء والأطفال في يد العدو وفجأة بدأت حركة فرارهم تتوقف، بينما كان الإفرنسيون في حالة من الذهول، لقد أخذت قوات العرب بالتجمع، وأخذت أعدادهم في التزايد بسرعة، وتحول انسحابهم إلى دفاع، ثم تحول هذا الدفاع إلى هجوم، وحدث ذلك كله كما لو كانت عصا سحرية قد صنعته .. لقد وصل الأمير عبد القادر
…
كان الأمير قد شعر بنوايا العدو عند مغادرته (مستغانم) فتخلى عن إدارة الحصار في مستغانم وسارع إلى النقطة التي، كان يتهددها خطر أكبر، وأمكن له الوصول في اللحظة المناسة تماما. ولم يكلفه تحويل المعركة كثيرا من الجهد، فقد أسرع المشاة الإفرنسيون
بالتراجع، ونجح بعضهم في تشكيل تربيعات مقاتلة بسرعة، غير أن ذلك جعل صفوفهم غير كاملة. أما الفرسان فقد أطلقوا العنان لخيولهم، ولم يبق غير المدافع التي قامت بدورها بصورة جيدة. وتخلى الجنود الإفرنسيون عن غنائمهم التي اكتسبوها بسهولة. وداهمتهم عضة الجوع والظمأ علاوة على لهيب الشمس الحارقة فوق رؤوسهم، وفي الحال، أحاط بهم العرب من كل جانب. وهنا صاح عبد القادر بقومه (احرقوا السهل) وسرعان ما ركض مئات الفرسان بعيدا، وأشعلوا النار في الأعشاب الجافة والأجمات الممتدة وراء خطوط الإفرنسيين. وقد كان على الجنود المنكوبين الذين تأخروا في تقدمهم بسبب الجرحى الذين أبى عليهم الشرف تركهم، أن يمشوا فوق الجمر، وأن يخوضوا معركة التقدم عبر أمواج اللهيب. غير أن هذه المقاومة لم تلبث أن انهارت عندما تجاوزت المصاعب قدرة احتمال الطاقة البشرية. فألقى كثيرون منهم بأسلحتهم، واختنق بعضهم بالدخان، وقذف آخرون بأنفسهم فوق الأرض وهم في حالة من اليأس. ومكثوا يتعجلون الموت المحيط بهم، وعلم (دي ميشيل) بالنكبة التي نزلت بالحملة - عن طريق بعض الجند الفارين - فأمر على الفور بتحرك كل القوى الإفرنسية في معسكر وهران لنجدة رفاقهم، غير أن هؤلاء وصلوا متأخرين ولم يتمكنوا من القيام بأي عمل بعد أن أبيدت قوات الحملة السابقة إبادة تامة.
لم يتوقف الأمير عبد القادر فوق ميدان المعركة، إلا بقدر ما تحتاجه عملية مطاردة القوات الإفرنسية وتدمير فلولها، ثم قاد قواته وراج إلى (مستغانم) لتشديد الحصار عليها وكان مشاته قد توغلوا في الضواحي، وأخذوا في مهاجمة إحدى القلاع القريبة من البحر. وعندما ظهرت سفينة شراعية فرنسية وأطلقت النار عليهم، خلع
العرب ملابسهم، وسبحوا في اتجاهها وهم يحملون بنادقهم فوق رؤوسهم، وحاولوا الصمود إلى السفينة، غير أن بحارة السفينة استطاعوا دحرهم وإبعادهم.
بدأ الأمير عبد القادر بحفر الملاغم لتدمير الأسوار في محاولة منه للتعويض عن غياب المدفعية، ووصلت عملية التلغيم حتى أسفل السور، فأحدثت فيه ثغرة محدودة، وصدرت الأوامر بالهجوم العام واندفع العرب بحماسة غير أن قوات الإفرنسيين التي اصطفت فوق جانبي أعلى السور، أمكن لهم إيقاف حدة الهجوم، وركزوا نيرانهم الكثيفة على الثغرات، مما اضطر العرب للتوقف، ثم البدء بالتراجع في حالة من الفوضى بعد صراع مرير يائس. ووجد الأمير أن موارده المعدة للحملة قد نضبت، فرفع الحصار وعاد إلى قاعدته معسكر.
كان لهذه المعركة نتائجها البعيدة على إقليم (وهران) والقبائل المنتشرة فيه، إذ شعرت هذه القبائل شدة وطأة الإفرنسيين وثباتهم -رغم الهزيمة التي نزلت بهم. وفي الوقت ذاته كانت معركة (المدية) قد تركت نتائج مضادة، إذ أنها دفعت قائد القوات الإفرنسية (دو ميشيل) إلى البحث عن طرائق أخرى لضرب العرب بعضهم ببعض واستنزاف قدرتهم، وإضعافهم جميعا، مما يسمح بإخضاعهم بحد أدنى من الجهد.