المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٤

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الوجيز في حياة الأمير عبد القادر

- ‌الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياةالأمير عبد القادر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الأصالة وبناء القاعدة الصلبة

- ‌ بناء دولة الحرب

- ‌آ - تنظيم الجيش:

- ‌ب - التسلح والصناعة الحربية:

- ‌ج - الحصون والتنظيم الدفاعي:

- ‌د - التنظيم الإداري والتموين:

- ‌ بناء الدولة الإسلامية

- ‌ في أفق العمليات والتكتيك

- ‌الفصل الثاني

- ‌ أعداء الداخل والخارج(1833)

- ‌ معاهدة عبد القادر - دو ميشال(1834م)

- ‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

- ‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

- ‌ الصراع المرير على تلمسان(1836)

- ‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م)

- ‌ نقض المعاهدة واستئناف الحرب(1838 - 1839 م)

- ‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م)

- ‌ على حدود المغرب(1845 م)

- ‌ وداعا يا جزائر الأحرار(1848 - 1852)

- ‌قراءات

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال(26 شباط فبراير - 1834 م)

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو(معاهدة تافنة)23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م

- ‌من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا(لويس فيليب)

- ‌رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادرإلى الماريشال بيجو

- ‌لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر(الأرتال الجهنمية)

- ‌المراجع الرئيسية للبحث

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

3 -

‌ معركة المقطع

(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

لم يقبل كل المسؤولين الإستعماريين في فرنسا - والجزائر - بمعاهدة (عبد القادر - دو ميشال) ولا قبل بها كل المسؤولين من عرب الجزائر المسلمين، وكانت حوافز الرفض للمعاهدة متباينة لدى الطرفين، ومختلفة في كل طرف من الطرفين أيضا، وكان لا بد للأمير عبد القادر من خوض صراع مرير ضد المناوئين والخصوم الذين ظهروا بغتة ليشكلوا جبهة واحدة ضد الأمير. وكان من أكثر ما أزعج الأمير وآلمه هو وقوف (بنو عامر) ضده وامتناعهم عن دفع الضرائب نظرا لتوقف الحرب - من وجمهة نظرهم وقد كان هؤلاء هم أكثر أتباعه غيرة وحماسة، وبفضلهم أمكن له تحقيق معظم انتصاراته. وأمام هذا الموقف لجأ الأمير إلى عدوه القديم وحليفه الحالي (مصطفى ود بن إسماعيل) وكلفه بإعداد قبائل (الدوائر والزمالة) في تلمسان لتأديب بني عامر وإخضاعهم. واغتنم الزعيم (ابن إسماعيل) الذي كان على رأس (المخزن التركي) هذه الفرصة السانحة للانتقام من أعدائه القدامى وقاهريه، وفرح بما تضمنه له هذه الفرصة من غنائم وفيرة، بقدر فرحته في تدعيم هيبته على القبائل التابعة له نتيجة اعتماد الأمير عليه في تنفيذ مهمة من أخطر المهام. غير أن حدثا تدخل بصورة طارئة

ص: 93

ليحول من مسيرة الأحداث، فبينما كان الأمير عبد القادر يلقي خطبة صلاة الجمعة كعادته في مسجد معسكر، وقع بصره على بعض شيوخ بني عامر، فتوجه إليهم على الفور بحديثه:(وأنتم يابنو عامر، ألستم أول من دعاني إلى المركز الذي أتولاه الآن؟ ألستم أول من رجاني أن أقيم حكومة منتظمة توحي إلى الأخيار بالثقة وإلى الأشرار بالخوف؟ ألم تتعهدوا بشرفكم بأن تضعوا حياتكم وأموالكم وكل ما هو عزيز ومقدس لديكم لدعمي ومساعدتي في مهمتي الشاقة؟ فهل ستكونون أول من يتخل عن القضية المشتركة، وأول من يؤيد ويشجع، بإعطاء المثل، المؤتمرات ضد نفس الحكومة التي أقمتموها؟ كيف يمكن لأية حكومة الاضطلاع بواجبها بدون ضرائب، وكيف يمكن أن تبقى بدون اتحاد وتأييد الجميع؟ هل تظنون أن أصغر قطعة نقدية في الضريبة التي أطلبها ستستخدم في مصارفي الشخصبة أو العائلية؟ إنكم جميعا تعلمون أن أملاك والدي تكفي لحاجاتي الشخصية. إن ما أطلبه هو ما فرضه قانون الرسول (ص) كمسلمين حقيقيين. وإنني أقسم بالله العظيم أن ما يدخل يدي سأحتفظ به كأمانة مقدسة من أجل انتصار الإسلام).

تأثر شيوخ بني عامر لهذا النداء الصادر من القلب والذي يخاطب العقل، فتنادوا إلى الاجتماع وجددوا بيعتهم وولاءهم، وتعهدوا بدفع الضرائب التي يطلبها الأمير. وأرسل الأمير عبد القادر على الفور رسولا إلى (مصطفى بن إسماعيل) يطلب إليه وقف مسيرته ضد بني عامر. ولكن ما أن مضت أيام ثلاثة حتى أقبل فارس يسابق الريح ليعلم الأمير بأن (مصطفى بن إسماعيل) قد بدأ هجومه على الرغم من الأمر الصادر إليه. وسرعان ما جمع (عبد القادر) قوة

ص: 94

من الفرسان وسار بهم حتى إذا ما اقترب من قوات (ابن إسماعيل) أرسل إليه طلبا بالانسحاب. وحين رفض هذا تنفيذ الطلب، هاجمه بفرسانه، ولما كان عددهم قليلا، فقد تمكن (بن إسماعيل) من تمزيقهم حتى لم يبق مع الأمير إلا قلة من الرجال الذين أحاطوا به، وحاربوا معه حتى قتل معظمهم، ولم ينسحب الأمير إلا بعد أن خاض معركته اليائسة بما يشبه المعجزة. فقد اخترق برنسه عدد كبير من الرصاص، وأصيب حصانه بجراحات كثيرة. وأمكن له في النهاية اختراق قوات العدو المحيطة به، والمرور من بينها كالسهم ليعود وحده إلى (معسكر) في أعقاب الليل.

ما كادت أخبار هزيمة عبد القادر تنتشر، حتى استيقظت روح التمرد، فهذا (سيدي العريبي) يرفع لواء الثورة. وهذا الغماري وبنو نجاد يتبعونه ويستعدون للانضمام إلى حاكم تلمسان (سيدي حمادي) الذي كان على صلة (بمصطفى بن إسماعيل). ولم تزعج هذه الأخبار الأمير أو تضعف من إرادته وها هو يجمع (15) ألف فارس من بني هاشم القرابة وبني مجاهر وبني عباس وبني عامر، ويتولى قيادتهم للمعركة، وانسحب ابن إسماعيل بقبائل الدوائر والزمالة إلى مكان حملاتهم القديم قرب وهران، على أمل تلقي دعم الإفرنسيين. غير أن هؤلاء خذلوه. وتقابل الأمير مع ابن إسماعيل في سهول (محرز) يوم 13 تموز - يوليو - 1834 ودارت رحى معركة طاحنة لم تصل إلى الحسم بقدر ما استنزفت قوات الطرفين ووجد الطرفان أن مصلحتهما تفرض عليهما (المصالحة) فتم الاتفاق على ذلك. ومضى عبد القادر، حتى أخضع كل خصومه. وتخلص من أخطر خصمين له هما (سيدي العريبي) الذي مات في السجن و (الغماري - رئيس بني أنجاد) الذي

ص: 95

حوكم وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم. عاد الأمير إلى (معسكر) منتصرا. وأثناء ذلك استبدلت إدارة الجزائر الإفرنسية، فتم تعيين (ديرلون) حاكما عاما على الجزائر (1) خلفا للجنرال (دي ميشيل) وكتب الأمير إلى الحاكم الجديد مهنئا، ومعلما إياه بنصوص معاهدته، فأظهر (ديرلون) استغرابه من هذه المعاهدة التي يجهل عنها كل شيء. كما أعلم الأمير بأنه ليس من حق (دي ميشيل) توقيع معاهدة تتجاوز حدود الولاية التي يحكمها (وهي وهران) وتضمن رده أيضا ما يلي:(إن رأيي الخاص هو أن لا تجتاز الشلف الأسفل في اتجاه الشرق. فإذا حكمت الإقليم الذي هو الآن تحت يديك طبقا للقوانين الإسلامية، وبعدل صارم، فسنكون أصدقاء ولكننا لن نسمح لك بدخول إقليم تيطري. فما يجري في هذا الإقليم هو من شأني. وإني لست في حالة حرب مع سكانه. وليس لي حاضرا مشاريع لإقامة منشآت في البليدة أو بوفاريك. ولكن إذا رأيت ذلك في المستقبل من أجل مصلحة فرنسا، فإني لن أسمح لأحد باعتراض سبيلي).

كان ذلك يعني إلغاء المعاهدة، وكان لا بد للأمير من التعويض عن ذلك بعمل عسكري فانصرف للقضاء على أعمال التمرد التي قادها (أولاد سيدي العريبي) في (وادي شلف) وما أن فرغ منا، حتى

(1) ديرلون: (DROUET D'ERLON) ويعرف بجان بابتيست - JEAN BATISTE ماريشال فرنسا، ولد في ريمس (REIMS) عاش في الفترة (1765 - 1844) وظهرت عبقريته في معركة واترلو - وكان أول حاكم عام عين في الجزائر سنة 1834، وقد تم ذلك بعد تبني وجهات نظر (اللجنة الإفريقية) التي قررت ضم الجزائر نهائيا إلى فرنسا. وكان الحكام الإفرنسيون قبل ذلك يحملون لقب (قائد الحملة الإفرنسية) أو قائد قوات الغزو.

ص: 96

التفت لقمع حركة (الحاج موسى بن حسن الملقب بأبي حمار) وهو من أشراف الصحراء، دخل المدية، ونشر فيها الطريقة الثاذلية، وأمكن له جمع القوى حوله. وكان لا بد للأمير من تجاهل تحذير (ديرلون) فاجتاز نهر الشلف وخاض معركة حاسمة انتصر فيها على (الحاج موسى)، واستولى الأمير على إقليم تيطري، وأعاد تنظيمه. وعندئذ وجد (ديرلون) أنه من الأفضل الالتزام بالسياسة الإفرنسية التي كانت ترى في ملك الفترة ضرورة مهادنة الأمير الذي اعتقدت فيه وسيلتها للصعود إلى أعالي الأطلس. فأرسل مسودة معاهدة جديدة للأمير عبد القادر الذي أرسل بدوره مسودة ضمنها شروطه. وكان ذلك ضد رغبة (تريزيل) الذي كان يريد التصدي للأمير ومجابهته بالقوة ، وفي تلك الفترة عادت قبائل (الدوائر والزمالة) إلى سابق عهدها في التعاون مع فرنسا وإمداد قوتها بمتطلباتها وتجاوزت ذلك عندما وقعث مع فرنسا معاهدة وضعت فيها نفسها تحت الحماية الإفرنسية. الأمر الذي يعتبر تحديا صارخا للأمير الذي لم يقف صامتا، فأرسل احتجاجا جاء فيه:(إن الدوائر والزمالة هم رعيتي، وبناء على قانوننا فإن لي الحق في أن أفعل بهم ما أشاء. فإذا سحبت منهم حمايتك وتركتهم يطيعوني كما كانوا، فذلك ما أريد. وإذا كان موقفك عكس ذلك، فأصررت على التنكر لالتزاماتك، فاستدع في الحال قنصلك من مدينة - معسكر- لأنني لن أرفع يدي عن قبائل الدوائر والزمالة، حتى ولو دخلوا وراء حصون وهران، إلا بعد أن يندموا ويتوبوا وبالإضافة إلى ذلك، فإن ديني يمنعي من السماح لمسلم أن يكون تحت سلطة مسيحي، فاختر ما يحلو لك، أو أن إله الحرب سيحكم بيننا). ولم يبق أمام (تريزيل) حاكم وهران إلا الاستعداد للحرب. وكانت الاشتباكات قد بدأت بالفعل قبل ذلك بوقت قصير، إذ كان الأمير عبد القادر قد أرسل

ص: 97

بعض قواته لإزعاج قبائل (الدوائر والزمالة) وأمكن أسر بعض شيوخهم والاستيلاء على مواشيهم. فأرسل حاكم وهران (تريزيل) قوة عسكرية لحماية مخيماتهم قرب (مسرغين) وفي 16 حزيران - يونيو - 1835 م. وقعت الزمالة والدوائر معاهدة الحماية مع (تريزيل).ولم يلبث حاكم وهران هذا (تريزيل) أن أرسل قوة من الفرسان للإغارة على مزارع بني هاشم الغرابة بحجة الحصول ما تحتاجه القوات الإفرنسية من الشعير، وما أن علم الأمير عبد القادر بالعدوان على قبيلته الخاصة حتى أرسل (ألفي) فارس و (800) راجل إلى نهر (سيق). وقرر (تريزل) مهاجمة هذه القوة قبل أن يتم دعمها بقوات أكبر. لذلك قاد يوم 26 حزيران (يونيو) 1835، تضم (5) آلاف من جند المشاة، وفرقة من قناصي أفريقيا وأربع قطع مدفعية وعشرين عربة إمداد وتموين ومستشفى ميدان عادي. ووصلته هذه القوق (غابة مولاي إسماعيل) وأخذت في اقتحام الغابة، وشرعت في إطلاق النار على ما ظنته كتيبة عربية ضالة (شاردة) ولكن النار أعيدت بعنف وقوة. وسرعان ما ظهر الفرسان لقد كانوا طلائع عبد القادر قادمين من جهة نهر السيق ولم تمض أكثر من دقائق قليلة على هذا الاشتباك الأولي، حتى هوجمت القوات الإفرنسية بهجمات عنيفة على جبهتها ومجنباتها، وكان ذلك مباغتا إلى حد مذهل للقوات الإفرنسية، وزاد من تأثير المفاجأة كثافة الغابة، وطبيعة الأرض المتموجة التي كانت تخفي العدد الحقيقي للمجاهدين المسلمين. هذا بالإضافة إلى صيحات الحرب (الله أكبر) والتي كانت تثير فزع الجند الإفرنسي، وتحمله على الاعتقاد بتقدير قوة المسلمين أضعاف ما كانوا عليه في الحقيقة. وأدى ذلك إلى تمزيق التنظيم القتالي - نظام الصف - للقوات الإفرنسية. التي حاولت

ص: 98

إجراء بعض التغييرات لإصلاح التشكيل القتالي، غير أن هذه المحاولات فشلت. وأثناء ذلك صدر الأمر إلى الفرق الخلفية الإفرنسية بالتقارب لتشكيل سد، كما صدر أمر مماثل إلى الوسط للتلاحم، مع إبعاد قوة الفرسان. وفي وقت قصير، دبت الفوضى في كامل الجيش الإفرنسي. فدخل الفرسان في الميدان، ولم يكن المشاة والمدفعية قادرين سوى على إطلاق النار بدون هدف. وبعد فترة قصيرة بدأت حدة الهجوم العربي في التباطؤ، وأخذ الإفرنسيون في المرور عبر صفوفهم، وكانت عربات المؤونة قد احتجزت وأفرغت، كما حطمت براميل الخمر. وكان الجميع يأكلون ويشربون بشراهة. وبذل الضباط الإفرنسيون جهودا جبارة في محاولة للسيطرة على الموقف، وأمكن لهم في الواقع استئناف التحرك نحو الأمام، ووصل الجيش الإفرنسي عند الغروب إلى (نهر سيق) وهناك نصبوا معسكرهم في مربع ثابت. ولحسن حظ الإفرنسيين كان جيش عبد القادر الرئيسي، الذي انطلق في تقدمه السريع من (تلمسان) قد اضطر للتوقف خلال فترة قصيرة على بعد فرسخين من ذلك النهر، لذلك استطاع الإفرنسيون الحصول على بعض الراحة في الليل. وعند الفجر، بدأ (تريزيل) بالانسحاب ولكن الأمير عبد القادر كان يتحرك بسرعة أكبر، فقد عمل خلال الليل على قيادة بعض قواته، ووضعها على محاور الاتصال مع وهران. ولم يكن باستطاعة (تريزيل) تجديد الاشتباك مع قوات الأمير، لذلك قرر السير إلى مدينة (أرزيو) عن طريق الساحل. ولكنه كان يعرف مدى الصعوبات التي تجابهه إذا ما تحرك مباشرة في ذلك الاتجاه (حيث كانت هناك أجزاء من الأرض غير صالحة لسير العربات أو حاملات المدافع) فقرر أن يتحول إلى (جبال حميان) وأن يظهر على سهل أرزيو عن طريق مضيق نهر الهبرة، حيث

ص: 99

يغير نهر الهبرة اسمه ليحمل اسم (نهر المقطع). وحين رأى الأمير عبد القادر حركة القوات الإفرنسية، عرف هدفها على الفور، فإذا استطاع أن يستولي على مضيق نهر الهبرة، قبل أن يصلوا إليه فإنه يعلم أنهم سيكونون تحت رحمته. ولكن المسافة كانت بعيدة جدا على المشاة لتحقيق ذلك الهدف خلال الفترة الزمنية المتوافرة له. فاختار (عبد القادر) ألف فارس، وأمر كل راكب أن يردف معه جنديا من المشاة، وأن يسرعوا إلى المكان المعين. وأمكن تحقيق العملية بنجاح كامل. فالفرنسيون، بعد أن عانوا مشقة كبرى، استطاعوا عبور سهل سيراط، وبعد مطاردة الفرسان العرب لهم طوال الطريق، دخلوا مضيق (الهبرة) حوالي منتصف النهار. وقد ذهلوا عندما وجدوا منحدري المضيق مدججين بالسلاح. وحين تقدموا رميت عليهم قطع كبيرة من الصخور وبينما كان الجند الإفرنسيون مشغولين بالمناوشات خلال ساعتين، أمكن لهم فتح الطريق ببطء وبتضحيات كبيرة. وأثناء ذلك، كان عبد القادر وجيشه كله قد سد عليهم الطريق من الخلف. وقد خشيت مؤخرة الإفرنسيين من عزلها عن بقية الجيش. فاندفعت إلى الأمام وهي في حالة من الفوضى المريعة، فقد تحول جزء من مستشفى الميدان والمدفعية إلى اليمين وغرق في المستنقع. أما رجال المدفعية فقد فصلوا المدافع عن حاملاتها، وهربوا. واختلطت القوات بعضها ببعض، وأسرعت الكتائب أو أجزاء منها، هنا وهناك، باحثة عن مخبأ أو مفر. وأفسح لهم العرب مجال المرور من بينهم، لمعرفتهم إنهم لن يذهبوا بعيدا. وجرف التيار كل الجنود الذين حاولوا الفرار سباحة، وغرقوا في مياه النهر. ثم حل الليل، وسارت فلول القوات الممزقة نحو مدينة (أرزيو) وهي تحمل كل مرارة الفشل.

انطلقت قوات المجاهدين طوال الليل للبحث عن فلول

ص: 100

القوات، وكانت صيحات البهجة وأصوات التهليل والتكبير تمزق سكون الليل في حين كانت المشاعل تضيء ظلمته. وكانت كومة رؤوس جنود الأعداء تتحول تدريجيا لتأخذ شكل تل كبير، أما المهندسون فكانوا يعملون على ضوء المشاعل لإصلاح الممرات والطرق. وتوجه الأمير مع منتصف الليل إلى المضيق، فصدمه مشهد (تل جاجم الجند الإفرنسيين) وصيحات جنوده وهم يرددون (مزيدا من الرؤوس) ووقف لحظة في صمته المهيب، لقد أرهقته متاعب الأيام الماضية، غير أن صوتا داخليا كان يحفزه للمزيد من العمل، فلوى رأس حصانه الأسود. ومضى في ظلمة الليل.

اهتزت فرنسا كلها عندما وصلتها أخبار (معركة المقطع). وارتفعت صيحات (التحقيق والعقوبة والانتقام) في جوقة واحده. وهكذا استدعي (ديرلون) وحل الجنرال (دارلانج) محل تريزيل. كما عين (كلوزول) من جديد ليفتح عهدا جديدا فيما كان يسمى عندئذ (المستعمرة الإفريقية لفرنسا). وفي جلسة من جلسات البرلمان الإفرنسي، في سنة 1835، وقف النائب (تيير)(1) لينتقد بقوة النظام الإفرنسي الذي كان مطبقا في الجزائر، وليطالب بدعمه وتطويره حيث قال: (إنه ليس استعمارا، إنه ليس احتلالا على مدى واسع، وليس

(1) تير: (ADOLPHE THIERS) رجل دولة ومؤرخ فرنسي من مواليد مرسليا (1797 - 1877) بدأ حياته محاميا في إيكس (1819) ثم قدم إلى باريس ليعمل في الصحافة، وأسس جريدة (الاناسيونال) سنة 1830، واشترك في إقامة ملكية تموز - يوليو - 1830، وأصبح وزيرا سنة 1832، ثم رئيسا للوزراء سنة 1836 - 1840، ورئيسا لحزب النظام في مجلس سنة 1848، واعتقل سنة 1851، ثم أطلق سراحه سنة 1852، وانتخب نائبا مرتين (1863 و1869) وأصبح رئيسا للجمهورية بعد سنة (1871) على أثر سقوط نابليون الثالث. واشتهر أنه ملكي محافط.

ص: 101

احتلالا على مدى ضيق، إنه ليس سلاما، وليس حربا ولكنه حرب سيئة الإدارة). وتحركت الحكومة الإفرنسية للعمل بقوة، فزادرت من عدد الجيش في الجزائر. وأمرت بإدارة قوية للحرب مع عبد القادر، وأصدرت قرارا باحتلال مدينة (معسكر). وكان الاعتقاد السائد هو أن الاستيلاء على عاصمته سيجبر السلطان على الاستسلام. ووصل (كلوزول) إلى مدينة الجزائر يوم 10 آب - أغسطس - 1835م. وقام باستعراض الجيش، وحاول رفع روحه المعنوية المتدهورة، فخطب في جنوده قائلا:(لقد عزمنا على الانتقام من الأمير، لأنه انتصر على تريزيل في المقطع، وكبده من الخسائر ما لا يعلمه إلا الله، ولن نرتاح حتى نكيل له خسائر فادحة، ونقصيه عن دار ملكه - معسكر - وبذلك يدرك الجزائريون أن وضع الأمير مزعزع، وأن إمكاناته قد انهارت) وصفق الحاضرون وقد أخذتهم الحماسة، وباتوا ينتظرون ترمجة هذه الوعود إلى حقيقة.

ص: 102