الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البنادق في (تاقدامت) ينتج ثماني بندقيات يوميا. وهو عمل من إنتاج صناع إفرنسيين جاء بهم من باريس بأجور حرة. وهناك وثيقة عن صناعة الذخائر - في المصانع الحربية الجزائرية - خلال تلك الفترة، جاء فيها ما يلي:
(يعمل العرب قبل كل شيء على لف المقوى - الورق - حول قضيب معدني مجوف، ثم يدخلون الرصاصة في الأنبوب، حتى إذا ما صنعوا عددا منها جاؤوا بالبارود المحمول على جلد الخراف حيث يقوم عدد من الجنود بدهن الأنابيب
(التي تحولت إلى خراطيش، أو ظروف) مع إملائها بالبارود مستخدمين في ذلك مقياسا صغيرا من القصب، في حين يعمل الآخرون على إحكام إغلاق الخرطوشة ووضعها في علب تتسع الواحدة منها إلى خمسة عشر خرطوشة - طلقة - ثم تغلف هذه بورق يكون عرضه مساويا تقريبا لطول الطلقات ويحزم الجميع) (1).
ج - الحصون والتنظيم الدفاعي:
اقتنع الأمير عبد القادر بنتيجة نجاح الإفرنسيين في احتلال (معسكر وتلمسان) دونما عناء كبير، بأنه من الضروري إقامة مراكز للاستيطان تكون بعيدة عن قبضة الإفرنسيين، وكان لا بد له في الوقت ذاته من اختيار مواقع هذه المراكز الاستيطانية - أو المدن - بحيث يمكن لها الإشراف على مناطق استيطان العرب لإبقائها تحت هيمنته، وإشعار القبائل الصحراوية المضطربة بالسلطة، وحمايتها من هجمات الإفرنسيين. وقد اختار خط التل في الجنوب لإقامة هذه
(1) LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE . P. 160
المدن، فأقام مدينة إلى جنوب كل مدينة كبرى سيطر عليها الإفرنسيين. وعلى الرغم مما كان يعانيه (الأمير عبد القادر) من ضعف الموارد، فقد انصرف بكليته لإقامة هذه التحصينات والمدن في المواقع الجيو - استراتيجية الحصينة، فكان منها (سيبدو) في الغرب، و (سعيدة) في الجنوب من تلمسان و (تاقدامت) إلى الجنوب من معسكر، و (بوغار) إلى الجنوب من مليانة، و (بلخورط) الواقعة جنوب - شرق مدينة الجزائر مقابلة المدية، وأخيرا (بسكرة) إلى الجنوب من قسنطينة. وكان الأمير عبد القادر وهو يقيم هذه المدن مقتنعا بأنه عند استئناف الحرب سيكون مضطرا لإخلاء كل المدن الواقعة على الخط الأوسط للأطلس، وبذلك سيكون من المحال على الإفرنسيين الوصول إلى الصحراء قبل مضي مدة طويلة على الأقل، لا سيما وأن الذيل الإداري الثقيل للقوات الإفرنسية سيعيق من تحركها السريع. وقد رغب في تدمير المدية ومليانة ومعسكر وتلمسان، حتى يحرم الإفرنسيين من التوغل بسرعة نحو الصحراء غير أن هذا المخطط الذي يعتمد على ما هو معروف باسم (الأرض المحروقة) قد لقي مقاومة بحجة أن الإفرنسيين يستطيعون بناء ما تهدم، كما أن عملية إعادة بناء هذه المدن عند الانتصار على الإفرنسيين سيكلف مبالغ طائلة (فظيعة). وكان من رأي الأمير أن هذه المدن التي يرغب في تدميرها هي (حجر المرتقى) التي سيصعده الإفرنسيون للوصول تدرمجيا إلى جوف الجزائر. ويعتبر بناء (تاقدامت) في طليعة منجزاته في هذا المجال، وقد كانت (تاقدامت) مدينة رومانية قديمة لم يبق منها إلا الأنقاض التي أراد (الأمير) الإفادة منها لإقامة عاصمة لإمارته. وكانت تقع على مسافة ستين ميلا إلى الجنوب الشرقي من وهران، ويبلغ محيطها العشرة أميال، وفيها معبدين كبيرين. وبقيت هذه المدينة خلال
عهد الازدهار الإسلامي مركزا للحكومة وفيها مدرسة ثانوية تخرج منها عدد من العلماء والشعراء. غير أن الصراع بين حكام القيروان و (فاس) في نهاية القرن العاشر الميلادي تسبب في تدميرها نهائيا، فجاء الأمير عبد القادر، وصمم على إعادة مجدها لها، مستفيدا من موقعها الجيو - استراتيجي الحصين، فوضع حجر الأساس لأول حجرة (غرفة) فيها - في شهر أيار (مايو) سنة 1836، ووضع بنفسه خطة التحصينات التي يجب أن تحيط بها، ودفع جوائز إلى كل القبائل القريبة منها حتى ترسل له العمال للاسهام في بناء الحصون. وأحضر سكان (معسكر) ومعهم معاولهم ومجارفهم وسلالهم للعمل فيها. كما أرسلت (المدية ومليانة) الأجبان والفواكه المتنوعة، وقد كانت هذه المواد التموينية بالإضافة إلى الخبز الأبيض الجيد، وإلى وجبات اللحم والأجور، من العوامل التي أسهمت بإنجاز العمل، فسرعان ما شيدت المنازل وظهرت الشوارع، وتقاطر عليها المواطنون من مختلف الأجناس للاستقرار فيها واستيطانها، فكان هناك العرب والأندلسيون والكراغلة (أب تركي وأم عربية جزائرية) الذين قدموا مع عائلاتهم لكناها بالإضافة إلى بقية المواطنين القادمين من (معسكر ومازغران - مازغنان - ومستغانم). وقد تحدث الأمير عن هذا الإنجاز بقوله: (كانت - تاقدامت - ستصبح مدينة كبيرة، وهمزة وصل للتجارة بين التل والصحراء. وقد مر العرب بموقعها، وجاؤوا إليها في غبطة لأنها تمنحهم فرصا كبيرة للربح، وبالإضافة إلى ذلك، كانت تاقدامت شركة في عين القبائل الصحراوية المستقلة، فهم لا يستطيعون الهروب مني. وقد سيطرت عليهم بمجرد التحكم في حاجاتهم المادية. فما دامت الصحراء لا تنتج الحبوب فهم مضطرون أن يأتوا إلي للتموين، لقد بنيت - تاقدامت -
فوق رؤوسهم. وعندما شعروا بذلك سارعوا إلى عرض طاعتهم. والواقع أنه منذ هذا الوقت كان باستطاعتي دائما أن أفاجئهم بفرساني غير النظاميين (القوميين - أو القوم). وإذا لم أتمكن من حمل خيامهم معي فقد كنت على الأقل أسوق مواشيهم. وكانت العقوبات القاسية التي طبقتها على بعض القبائل النائية قد جعلت البقية تدرك بسرعة أنه لا أمل في الهروب مني. وهكذا انتهى الأمر بالجميع إلى الخضوع لسلطتي، ودفع العشور والزكاة بانتظام. بل لقد كان من عادتي أن أرسل من يحصي مواشيهم دون أن ينسبوا بكلمة واحدة). وكان الأمير عبد القادر يشرف على كل الأعمال برقابة شخصية مستمرة. وقد وصف السيد (دي فرانس) الذي كان أحد المساجين عندما كانت تلك الأعمال في أوج نشاطها، ما رآه فقال: (بعد زيارة الأنقاض جئنا إلى استحكام كان عبد القادر يقيمه على بعد حوالي مائتي خطوة من قلعة - تاقدامت - وقد اقتربنا من السلطان الذي كان متكئا، بصحبة كاتبه - ابن عبود ومولود بن عراش - على مرتفع من تراب ألقى به العمال حديثا من خندق كانوا يحفرونه باجتهاد. كان لباسه من البساطة بحيث لا يميزه المرء عن العمال إلا بصعوبة. وكان يضع على رأسه مظلة كبيرة مصنوعة من سعف النخيل، وكان محيط حافة المظلة التي كانت مخيطة بخيوط من الصرف ومزينة بالعذبات، يبلغ ثلاثة أقدام. أما المظلة نفسها فقد كان علوها قدما ونصفا على الأقل. وكانت تبدو كأنها نفق منته بهامة. وعندما مررت بالسلطان حيانى بجلال فريد، وبابتسامة عذبة، وأشار على بيده للجلوس. وقد بادءته بالحديث قائلا: إذا حكمنا من الأنقاض، فإن المدينة لا شك كانت فيما مضى واسعة ومزدهرة. فأجابني: نعم لقد كانت جميلة جدا وعظيمة جدا فسألت: هل تعتقد أنني سأكتشف أي حجر عليه كتابات قديمة؟
فأجابني: (إنك سوف لا تجد شيئا، لأن هذه المدينة لم تكن ذات يوم مسيحية. ولقد كانت إحدى أوائل المدن التي بناها العرب. وكان أجدادي السلاطين الذين كان مركزهم - تاقدامت - يحكمون من تونس حتى المغرب الأقصى) ثم سألني السلطان رأيي في بناء التحصينات. فأجبته بأنها تظهر لي جيدة في موقعها وفي هندستها. وكان من الواضح أنه استفاد في بناء تحصيناته من نظرة نقدية إلى تحصيناتنا الخشبية. ويبدو أنه قد سر كثيرا من جوابي. ثم استأنف حديثه معي قائلا بحيوية:. - (إنني ما زلت آمل أن أعيد إلى تاقدامت ماضيها المجيد. وإنني سوف أجمع القبائل فيها حيث سنكون في مأمن من هجمات الإفرنسيين. وعندما تكون كل قواتي قد اجتمعت فإنني سوف أنزل من هذه الصخرة الشماء، كما ينزل النسر من عشه، لكي أطهر مدن الجزائر وعنابة ووهران من المسيحيين. ولو أنكم راضون حقيقة بهذه المدن لتركتكم تعانون فيها، لأن البحر ليس من شأني، وليس لي سفن. ولكنكم تريدون أيضا الاستيلاء على سهولنا ومدننا الداخلية وجبالنا. بل إنكم طمعتم حتى في خيلنا وإبلنا وخيامنا ونسائنا. لقد تركتم بلادكم وأتيتم لتأخذوا الأرض التي وضع فيها محمد (ص) شعبه. ولكن سلطانكم ليس فارسا ولا مرابطا، وستتعثر خيولكم وتسقط عن جبالنا لأنها ليست ثابتة الأقدام كخيولنا، وسيموت جندكم مرضا، وحتى أولئك الذين سينجون من المرض سيسقطون برصاصنا).
أراد الأمير عبد القادر جعل (تاقدامت) قاعدة صلبة للدولة المحاربة، لا مجرد قلعة حربية فقط، فوضع في اعتباره ضرورة إقامة مراكز علمية فيها، وإنشاء مدرسة ثانوية، وإقامه مكتبة عامة شرع في