المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٤

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الوجيز في حياة الأمير عبد القادر

- ‌الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياةالأمير عبد القادر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الأصالة وبناء القاعدة الصلبة

- ‌ بناء دولة الحرب

- ‌آ - تنظيم الجيش:

- ‌ب - التسلح والصناعة الحربية:

- ‌ج - الحصون والتنظيم الدفاعي:

- ‌د - التنظيم الإداري والتموين:

- ‌ بناء الدولة الإسلامية

- ‌ في أفق العمليات والتكتيك

- ‌الفصل الثاني

- ‌ أعداء الداخل والخارج(1833)

- ‌ معاهدة عبد القادر - دو ميشال(1834م)

- ‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

- ‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

- ‌ الصراع المرير على تلمسان(1836)

- ‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م)

- ‌ نقض المعاهدة واستئناف الحرب(1838 - 1839 م)

- ‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م)

- ‌ على حدود المغرب(1845 م)

- ‌ وداعا يا جزائر الأحرار(1848 - 1852)

- ‌قراءات

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال(26 شباط فبراير - 1834 م)

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو(معاهدة تافنة)23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م

- ‌من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا(لويس فيليب)

- ‌رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادرإلى الماريشال بيجو

- ‌لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر(الأرتال الجهنمية)

- ‌المراجع الرئيسية للبحث

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م)

8 -

‌ سنوات الصراع المرير

(1840 - 1844 م)

ركز المارشال (فالي) قواته في (البليدة) على أقدام جبال الأطلس الصغرى استعدادا للقيام بهجومه الأول بالتحرك نحو (المدية ومليانة). وعبرت قواته نهر الشفة يوم 27 نيسان (أبريل) سنة 1840م0 وهناك ظهرت فرسان الأمير عبد القادر بأعداد كبيرة. وسار الجناح الأيمن للقوات الإفرنسية نحو (بحيرة) لكنه لم يصل إليها، فقد أسرع الأمير عبد القادر بقواته وعبر المساحة الوسطى واختفى، وبذلك أصبح سهل مدينة الجزائر معرضا لضرباته، وظهر احتمال تقدم الأمير كالسيل الجارف، ولكن تلك الحركة لم تكن سوى خدعة منه. فقد كان هدف عبد القادر إرغام (فالي) على إيقاف تقدمه في سهل (وادي الشلف) وإرغامه على الدخول في الجبال عن طريق مضائق المزاية. وقد نجح في ذلك.

كان الأمير عبد القادر قد عمل في الليل والنهار، وطوال شهور عديدة، لتصبح تلك المضائق الهائلة أكثر قدرة وأكثر منعة وأقوى تحصينا حتى يتحقق الهدف التالي:(أن يلاقي الجيش الإفرنسي حتفه هنا) ومن أجل ذلك حفرت الخنادق على كل مرتفع وهضبة. ونشر الأمير قواته النظامية من المشاة في هذه المواقع المحيطة بمدن (المدية

ص: 136

ومليانة ومعسكر وسباو وتاقدامت) وأفاد من الضباط الإفرنسيين الذين هربوا إليه، فعينهم لقيادة القوات في هذه المواقع. وتدفق العرب ورجال القبائل من كل جهة، فاحتلوا تلك المواقع والملاجىء مستعدين لإطلاق النار من عال، ضد القوات الإفرنسية عندما تدخل متثاقلة الممر الضيق المعلق وسط المنحدرات الجبلية.

قسم (فالي) قواته إلى ثلاثة مجموعات. وغادر جنود هذه المجموعات بقيادة قادتهم (دوفيفييه ولامورسيير ودوتبول) الطريق، وراحوا يقفزون في الوهاد، وتغلبوا على صعوبات الطبيعة الجغرافية للأرض (الأشجار والصخور والحفر العميقة). ووصلوا الخنادق ببطء لكن بثبات. وفجأة غطى المنظر ضباب كثيف. لقد انطلق البارود ولم يتوقف، ودارت رحى معارك طاحنة استخدمت فيها كل وسائط الصراع، وأظهر المجاهدون والجند النظاميون قدرا غير قليل من الشجاعة والبأس، غير أن الكثافة النارية والتفرق بالقوى على نقاط الهجوم مكن القوات الإفرنسية من انتزاع النصر، ونجحت هذه القوات في رفع علمها فوق ذرى الأطلس بين دقات الطبل وصيحات الحرب المنطلقة من كل مكان. وانسحب الأمير ببقايا قواته إلى مليانة، التي كانت في حالة من الهياج والاضطراب والتي أمكن للأمير تهدئتها بسرعة. غير أن المارشال (فالي) دخل مدينة (المدية) فوجدها مهجورة ونصف محروقة. واستخلص الأمير عبد القادر الدرس بسرعة، فأصدر أوامره إلى خلفائه (بتجنب الاشتباك مع القوات الإفرنسية بمعركة نظامية. وممارسة الأعمال القتالية في إطار (الإزعاج والإغارة على أجنحة القوات المعادية ومؤخراتها وقطع محاور تحركاتها والاستيلاء على معداتها ووسائط النقل لديها، ونصب الكمائن والهجمات المباغتة ثم الانسحاب دائما بسرعة) وكان النجاح رائعا في

ص: 137

تطبيق هذه الطرائق مما وضع القوات الإفرنسية في (المدية ومليانة) في حالة انهيار معنوي (وأوشك معسكر ومليانة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1840 على الاختفاء تحت تأثير مجموعة من العوامل، وأهمها الجوع والمرض والغربة فمات 750 جنديا من أصل مجموع الحامية البالغ 1500 جندي، ودخل المستشفى 500 جندي لإاصابتهم بالحمى، أما البقية وعددهم 250 جنديا فكانوا هياكل متحركة لا يكادون يمسكون ببنادقهم).

ونجح الأمير عبد القادر في إيقاف تقدم الإفرنسيين في جبال تيطري، ليس ذلك فحسب، بل إنه وضعهم دائما تحت رحمته، من حدود المغرب إلى حدود تونس، عائقا أو ملغيا عملياتهم بجهوده التي تكاد تكون فوق طاقة البشر. فهو دئما على صهوة جواده، يتحرك بصورة مباغتة وسرية، يحارب اليوم الإفرنسيين ليظهر في اليووم التالي وهو على بعد مسافة مائة ميل لجمع شمل قبيلة عربية ممزقة ولرفع روحها المعنوية، لذلك كان يبدو أنه - بنظامه الجديدي الصارم - قد تخلى عن الراحة والاستحمام. وكأنما قد أصبح جسمه شيئا روحانيا بالروح التي كانت تتقد فيه.

تولى الجنرال (بيجو) منصب الحاكم العام للجزائر يوم 22 شباط (فبراير)1841. وأخذ على عاتقه تنفيذ مخططات حكومته التي كانت قد درست قوة خصمها العنيد فوضعت تحت تصرف (بيجو) قوة تزيد على (80) ألف محارب، مدعمين بأقوى وسائط القتال والأسلحة الحربية الحديثة.

ولكن الصعوبة الكبرى لم تكن في هزيمة عبد القادر بقدر ما كانت في اللحاق به. لقد كان الإفرنسيون أقوى منه ولكنه كان أسرع

ص: 138

منهم. فقد كانوا مرغمين على التحرك فوق الطرق الممهدة، بأرتال طويلة تثقلها المدافع ومركبات الإسعاف والأعتدة. أما هو فبعد أن يرى هدف هجوم عدوه، يتجنبه مؤقتا، ثم ينقض عليه عندما يكون في ورطة - مأزق - متخبطا في الشعاب، ضائعا في الوهاد. ونتيجة لذلك، أوقف (بيجو) العمل بأساليب أسلافه، ووزع قواته على أرتال متباعدة تعمل على محاور مختلفة، مما أرغم الأمير على توزيع قواته، وإبقاه في حالة من الريبة والشك في نوايا عدوه. وفي الوقت ذاته تخلت القوات الإفرنسية عن معداتها الثقيلة ومدافعها الضخمة، بل إنها تخلت حتى عن أرتال تموينها، وكان للعرب مزية أساسية تفوقت فيها على القوات الإفرنسية، ذلك أنهم كانوا يجدون المواد الغذائية أينما حلوا، داخل مخازن الحبوب المنتشرة تحت الأرض، في كل الجهات، بينما كانت القوات الإفرنسية ملزمة بحمل موادها التموينية. ولكن (لامورسيير) قد حل المشكلة حينما قال: (إن العرب لا يحملون تموينهم معهم. فلم نحن؟

) ولذلك فإنه منذئذ أصبح رجال (لامورسيير) يحملون معهم بعض المطاحن اليدوية الصغيرة، وعندما يصلون إلى مكان معين من البلاد ينتشرون هنا وهناك على مسافات تصل أحيانا بضعة كيلومترات. وأثناء تقدمهم كانوا ينقبون الأراضي أمامهم بسيوفهم وحربات بنادقهم فيضربون الصخور التي كانت تغطي مخازن الحبوب، والتي لم تكن مغطاة إلا بطبقة خفيفة من التراب. وهكذا اكتشفت مخازن الحبوب التي كان العرب يخفونها عن عدوهم، ومن جهة أخرى ضمنت الغارات الحصول على الغنم، وتحول القمح إلى دقيق بواسطة المطاحن اليدوية. وبهذه الطريقة أصبحت القوات الإفرنسية تمون نفسها في المكان الذي توجد فيه. ووضع (بيجو) مخططات عملياته العسكرية

ص: 139

على أساس تحقيق مبدأين (الصيانة والاعتداء). وحدد أهدافه الرئيسية بإعادة تموين حامياته التي لا تكاد تقوم بتأمين مواردها الحياتية إلا بجهد كبير وسط العرب المحيطين بهم من كل جانب. والاحتفاظ بالقبائل العربية التي نجح في إخضاعها تحت سلطته، وتنظيمها تنظيما محكما تحت إشراف الإفرنسيين، مع إرهاب القبائل الأخرى بواسطة إغارات مرعبة لإبادتبها وإحراق محاصيلها. وأخيرا، في ضرب قوة الأمير عبد القادر، دون هوادة ولا تردد، واحتلال مراكزه الحصينة، وتدمير مخازن أسلحته، أملا في إرغام الأمير على التراجع نحو الصحارى القاحلة.

افتتح (بيجو) حملة سنة 1841 م بمحاولة إعادة تموين مدينتي (المدية ومليانة). وكانت خسائر الإفرنسيين قبل تحقيق هذا الهدف، فادحة، ذلك أن عبد القادر قد نازعهم كل شبر أثناء تقدمهم. وكان (بيجو) قد ذهب إلى إقليم (وهران) ومن مستغانم قاد شخصيا حملة ضد (تاقدامت) وعند وصوله يوم 25 أيار - مايو، وجدها مهجورة، بينما كانت أجزاء منها تحترق. ثم تلى ذلك تخريب (بوغار وسعيدة وتازة). وقرر الأمير عبد القادر، طبقا لتنظيمه الجديد، عدم إضاعة قواته أو تشتيتها للدفاع عن قلاعه، ولذلك تخلى عنها جميعا. وكان جيشه النظامي أكثر فائدة ونجاحا في استخدامه لعرقلة الإفرنسيين أثناء تقدمهم، أو في الاحتفاظ بولاء القبائل التي ظهر عليها التردد. وقد أصبحت المدن المحصنة بالنسبة لطرائق الحرب الجديدة التي دعي عبد القادر لمواجهتها، حملا، بل عبئا ثقيلا، كان يشعر بالغبطة للتحرر منه. ونجح الأمير عبد القادر في إعادة تنظيم القبائل، حتى باتت تتحرك بدافع واحد، تنبسط أو تنقبض تبعا لأوامر القيادة. وكانت تهاجم عند أقل خطر، وتختفي عندما تشعر بتتبع العدو لها.

ص: 140

وهذا هو المبدأ الحاسم الذي أصبح منذ الآن الأساس في عمليات الأمير. ومقابل ذلك، أصبح الهدف الأول للمارشال (بيجو) هو كسر حلقات هذه السلسلة المترابطة، وتحطيم السلطة التي تجعلها مجتمعة ومتماسكة، وذلك بإقامة مراكز عمل دائمة في وسط القبائل والمجمعات العربية، وإرسال حملات سريعة متتالية انطلاقا من هذه المراكز حتى يتيح لجيشه أن يثبت وجوده دائما بين العرب. واعتبر (إقليم وهران) هو المسرح الأساسي للعمليات باعتباره القاعدة التي يستمد منها الأمير قوته. فاحتل (لامورسيير) مدينة (معسكر) واحتفظ (بيدو)(1) بمدينة تلمسان. وكان (وشانقارنيي)(2) يراقب الحدود الغربية لسهل مدينة الجزائر. وقد أرسلت ثلاثة أرتال للتحرك من وهران ومستغانم نحو القبائل الواقعة في المنطقة الواسعة الممتدة بين البحر والأطلس، بالإضافة إلى تلك التي تقع في اتجاه الصحراء. وكان الرتل الأول تحت قيادة (بيجو) شخصيا، وكان يتقدم محاذيا لسهل وادي الشلف، ثم التقى بالرتل الثاني الذي كان يتحرك تحت قيادة (شانقارنيي) منطلقا من البليدة. أما الرتل الثالث الذي كان يقوده (لامورسيير) فقد كان يهدف إلى رد عبد القادر ودفعه نحو الجنوب لعزله عن القبائل التي كان (بوجر وشانقارنيي) يهاجمانها. وهنا بدأت القصص المدهشة، والمثيرة في وقعها والسامية في عظمتها، تلك

(1) بيدو: (MARIE ALPHONSE BEDAU) جنرال فرنسي من مواليد فيرتو (VERTOU) في اللوار السفلي (1804 - 1863) برز اسمه في الجزائر.

(2)

شانقارنني: (NICOLAS CHANGARNIER) جنرال إفرنسي ورجل سياسي. من مواليد اوتن (AUTUN)(1793 - 1877) . أصبح حاكما في الجزائر ثم أبعد منفيا بعد انقلاب فرنسا 1851، وأعيد إلى فرنسا (1859).

ص: 141

القصص العجيبة التي تمتزج فيها الجرأة بالعبقرية والإيمان. والتي طبع بها عبد القادر صراعه المجيد الذي كان يقوده بشخصيته القوية.

كان (لامورسيير) ينفذ بحماسة التعليمات المعطاة إليه لمطاردة الأمير عبد القادر والقبض عليه، وسمع فجأة أن الأمير كان أمام (معسكر). وعندما أعد خطته للوصول بسرعة إلى ذلك المكان، عرف أن عبد القادر قد مر قريبا من مؤخرة قواته، وأنه كان يقوم بغزوة ضد قبائل البرجية. وعادت المطاردة، ولكن عبد القادر عبر من جديد (نهر الشلف) بمناورة جريئة وسريعة، تاركا خصمه وراءه في حيرة وذهول، ومر بين قوات (بيجو) والبحر وسرعان ما استرجع مكانته بين القبائل التي فرت منه في ذلك الاتجاه، وقام بغزوة أخرى سريعة في جنوب (مليانة). ثم أسرع نحو الصحراء، حيث ظهر بكامل قوته. في نفس الوقت الذي كان الفرنسيون قد رجعوا إلى قواعدهم يائسين من العثور عليه. أثناء ذلك، كان الجنرال (بيدو) قد نجح في فرض سيطرته على عدد من القبائل المنتشرة على الحدود (المغربية - الجزائرية) ومن أبرزها قبيلة (ندرومة) مما هدد مؤخرة الأمير وطرق تموينه الرئيسية. فقاد الأمير عبد القادر قواته وأسرع نحو الحدود المغربية، وبمجرد وصوله انضمت إليه (قبائل ندرومة وبنو سناسن) ودعموا قوته بثلاثة آلاف فارس وخمسة آلاف راجل. فمضى بهم إلى القتال. وأصبحت هضاب ووديان جبال ترارة وندرومة وضفاف تافنة والزقاق مسرح اشتباكات طاحنة بين الأمير و (بيدو) طوال شهري آذار ونيسان (1842) - مارس وأبريل - وأفاد (لامورسيير) من غياب الأمير ليبسط سيطرته على (مدينة معسكر) وليوسع عملياته في اتجاه الصحراء، بعد أن نجح في إخضاع الكثير من القبائل - بمن فيهم قبائل بنو هاشم - قبيلة الأمير نفسه - فانتقل الأمير بسرعة، وعالج الموقف بمزيج من القسوة المتناهية والتسامح غير

ص: 142

المحدود تبعا لمعرفته لمن خضع كرها أو خيانة للإفرنسيين، فأمكن له بذلك استعادة السيطرة على الموقف. وهكذا استمر الصراع المرير على كافة الجبهات والذي أخذ شكل اشتباكات دموية عنيفة في بعض الأحيان. ونظرا لما كانت تتعرض له القبائل العربية - وخاصة النساء والأطفال - فقد اضطر الأمير لتطوير (الزمالة) حتى أصبحت عاصمة ضخمة متنقلة تتبع حركة الأمير في تقدمه وتراجعه. ولم تلبث هذه الزمالة أن تحولت لإداة فعالة في قبضة الأمير لمنع القبائل من التأرجح بين الخضوع للإفرنسيين، وبين الولاء للأمير. فعندما كان الإفرنسيون يقدمون الإغراءات لرجال القبائل بقولهم:(هلموا إلينا فإننا سنحميكم) كان هناك صوت خفي يهمس في آذانهم قائلا: (إن لدي نساءكم وأطفالكم وقطعانكم فاحذروا). وأصبحت (الزمالة) نتيجة ذلك هي الهدف الأول للإفرنسيين. حيث تركزت هجمات الربيع لسنة 1843 من أجل مطاردة الزمالة. وقد استطاع الأمير إحباط هجومين قام بهما (لامورسيير) غير أن (دومال) نجح في الإغارة على (الزمالة) يوم 16 أيار - مايو - 1843 بمساعدة خائن (هو عمر العيادي ابن فراح). وكانت غنائم الإفرنسيين كبيرة. بقدر ما كان وقع الكارثة مفزعا للعرب. وعندما بلغ الأمير الخبر (وهو في غابة سرسو) أظهر تجلده للنكبة، رغم أنه فقد فيها كل ثروته المالية ومجوهراته ومكتبته التي جهد في جمعها، فقال لأولئك الذين كانوا ينتظرون كلمته:(الحمد لله - إن كل تلك الأشياء التي كنت أقدرها حق قدرها والتي كانت عزيزة على قلبي، والتي شغلت عقلي كثيرا، لم تزد على أن أعاقت حركتي وحولتني عن الطريق الصحيح. أما في المستقبل، فسأكون حرا في محاربة الكفار) وكتب إلى خلفائه: (قام الإفرنسيون بالإغارة على الزمالة. ولكن علينا أن لا نفقد الشجاعة وسنكون منذ

ص: 143

الآن أخف حملا وأفضل استعدادا للحرب.)

كانت صدمة (الزمالة) قوية الوقع على الأمير، وصفها بقوله:(كنت قرب (تاقدامت) أراقب الحامية الإفرنسية القريبة مني (بوهران)، عندما قام الإفرنسيون بهجومهم المباغت على (الزمالة). كان معي (1500) فارس، وكان (ابن خروب) مع فليته، وابن علال في الونشريس، ومصطفى بن التهامي بين بني ورغة، ولم أكن أبدا أتوقع نكبة كالتي حدثت من جهة (المدية) ولم يكن أحد من خلفائي يراقب تحركات ابن الملك (دوفال). ولكن رغم ذلك كله، لم نكن لنباغت بالحادث لو أن الله لم يطمس عيون شعبنا. فقد اعتقد أهل الزمالة، عندما رأوا جنود - الصبائحية - متقدمين ببرانسهم الحمراء، أن هؤلاء هم جنودي غير النظامين عائدين، بل إن النساء قد رفعن أصواتهن بالزغاريد ترحيبا واحتفاء بهم، ولم يشعرن بخيبة الأمل إلا بعد إطلاق النار، ثم تلا ذلك اضطراب لا يوصف شل جميع جهود الذين حاولوا الدفاع عن أنفسهم. ولو كنت حاضرا لكان علينا أن نحارب من أجل نسائنا وأطفالنا، ولعاش الإفرنسيون يوما لن ينسوه، ولكن الله أراد غير ذلك، ولم أسمع بالنكبة إلا بعد ثلاثة أيام من حدوثها، وكانت الفرصة عندئذ قد ضاعت).

كانت قوة الإفرنسيين التي قامت بالإغارة قليلة، لهذا لم تتمكن من اقتياد أكثر من (3) آلاف أسير، كان من بينهم عدد من عائلات كبار الضباط والقادة في جيش الأمير، ولم تكن (نكبة الزمالة) أكثر من بداية بصراع مرير وقاس على كل الجبهات، وأصبح إقليم وهران مسرحا للاشتباكات الدموية المستمرة، ولم تتوقف القوات الإفرنسية من مطاردة الأمير، وتمكنت في يوم 22 أيلول -

ص: 144

سبتمبر - 1843 من مباغتته عندما كان معسكرا بالقرب من زاوية المرابط (سيدي يوسف) وقد صحا الأمير على صرخات (الإفرنسيين - الإفرنسيين). وكان لا يجد الوقت حتى لامتطاء فرسه، غير أنه لم يفقد رباطة جأشه وهو في أشد ساعات الضيق. فأخذ في إطلاق النار وأسرع جنده إلى أسلحتهم، وأخذوا في التجمع حوله تقودهم صيحاته الحادة، وأمكن له تمزيق الإفرنسيين والخروج بجنده وأهله. ومضى (بزمالته) التي لم تعد تضم أكثر من ألف نسمة، ليجوب بها الأرض في شقاء ويأس. وتبع ذلك قتال مرير، وكانت النسوة تحمس المحاربين بالزغاريد والأهازيج. وكان عبد القادر ورجاله يحاربون على مرأى ومسمع من زوجاتهم وأطفالهم، فأبدوا شجاعة لا توصف. وأمكن للأمير بذلك قيادة الزمالة الصغير بأمان إلى (بوك شبكة) على حدود المغرب الأقصى. أما (بيجو) فقد كتب إلى حكومته:(بعد حملة الربيع 1843، كان باستطاعتي أن أعلن بأن احتلال الجزائر وإخضاعها قد انتهى. غير أنني فضلت أن أذكر ما هو أدنى من الحقيقة، ولكني الآن، وبعد معركة 11 - تشرين الأول - أكتوبر - والتي قضي فيها على بقية مشاة الأمير وقتل فيها أول وأشهر خليفة له (ابن علال) فإني أعلن على الملأ وبكل جرأة، أن كل قتال جدي قد انتهى، حقا إن عبد القادر قد يقوم بحفنة الفرسان الذين ما يزالون معه، ببعض الحركات المباغتة المعزولة على الحدود، ولكنه لن يحاول أبدا القيام بأية حركة هامة من جديد).

ص: 145