الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 -
وداعا يا جزائر الأحرار
(1848 - 1852)
الأمير في سجون فرنسا
وداعا يا جزائر الأحرار! وداعا يا جزائر المسلمين المجاهدين الصابرين!
ومضى الأمير، وما كاد يصل (طولون) حتى وجد نفسه وعائلته وحاشيته في القيود، لقد فرضت فرنسا عليهم الإقامة في قلعة (لامالق). واحتج الأمير، فعرضت عليه فرنسا اختيار البقاء في فرنسا ومنحه قصرا لإقامته وحاشيته، غير أن الأمير رفض كل العروض والإغراءات. لقد كان يفضل البقاء في ديار الإسلام عن كل كنوز أعدائه وثرواتهم. ولم تمض عليه فترة طويلة في سجنه حتى بلغته أخبار انهيار (ملكية لويس فيليب) في 28 شباط - فبراير - 1848 م. وعرف أن الضمانات التي قدمت له قد زالت بزوال الحكم الذي تعهده له بها، على الرغم من غدر هذا الحكم بما تعهد به. فكتب (الأمير من سجنه) إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية. منددا بما لحق به من غدر. فكان كل ما فعلته حكومة الجمهورية أن نقلته إلى قصر (هنري الرابع) في مدينة (بو)(1) والتي وصلها الأمير يوم 20 نيسان - أبريل - 1848م. وكان
(1) بو: (PAU) عاصمة إقليم بيارن (bearn) في البيرينه السفلى (BASSE PYRENEES) تقع على نهر الكاف، وهي إلى الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد (760) كيلومترا منها.
يتردد على الأمير في هذه المرحلة بعض القادة الإفرنسيين والأساقفة، وقد أذهل الأمير جميع زواره بثباته، رغم ما نزل به من البلاء بفقد أعز الناس لديه (ابنه وابنته وابن أخيه) الذين قضوا حياتهم بين يديه، وكان الأمير يمضي وقته بالعبادة صابرا محتسبا متجلدا. صلبا كجبال الأوراس، غير أن هذه القوة كانت تنهار لدى تذكر أولئك - أخوان الجهاد الذين سقطوا فوق ثرى الجزائر الطهور، وهم يرفعون راية الجهاد في سبيل الله، فتترقرق عيون الأمير بالدمع لتذكرهم. وحاول الإفرنسيون فصل الأمير عن حاشيته واتباعه، غير أن هؤلاء هددوا بالموت إن هم أبعدوهم عن أميرهم. أصبح (لامورسيير) وزيرا للحربية الإفرنسية في (حزيران - يونيو - 1848) وكتب له الأمير مذكرا بوعده الشخصي، علاوة على ما يجب أن يلتزم به من الشرف باعتباره ممثلا لفرنسا. وفي حالة من حالات اليأس، فكر أتباع الأمير بعملية انتحارية للموات من أجل إثارة قضية الأمير، وذلك بالتصدي للحرس المسلح، وخوض الصراع معه، وعلم وزير الحربية بذلك، فقرر نقل الأمير وحاشيته إلى (قصر امبواز)(1) وتم ذلك يوم 22 تشرين الثانى - نوفمبر - 1848 م. وصعد (لويس نابوليون) إلى عرش فرنسا، وبعد 24 يوم من انتخابه، تم عقد مؤتمر لمناقشة قضية الأمير عبد القادر (يوم 14 كانون الثاني - يناير - 1849) ووقف نابوليون الثالث إلى جانب طلب الأمير في الإفراج عنه، والسماح له بالتوجه إلى البلد الذي يريد، غير أن (الجنرالات) عارضوا ذلك. وأرسل (بيجو)
(1) أمبواز: (AMBOISE) مدينة في دائرة (تور) مقاطعة (إيندر واللوار) تقع على نهر اللوار بها ولد ومات شارل الثامن. وقد استخدم قصره لإقامة الأمير عبد القادر (1848 - 1952).
رسالة إلى الأمير يقترح فيها على الأمير البقاء في فرنسا واعتبارها وطنا له. غير أن الأمير عاد فرفض هذا العرض مفضلا السجن على (الاستمتاع بمباهح فرنسا وطبيعتها الجميلة - وفقا لما اقترحه بيجو)، وظهر أن إقامة الأمير في سجن (أمبواز) ستكون طويلة، وأسلم الأمير أمره لربه، ومضى في عبادته وفق نظام دقيق اختطه لنفسه، وأثناء هذه الفترة أنجز مؤلفيه (وحدانية الله) و (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل). ومضت الأيام متثاقلة. حتى إذا ما أقبل يوم 16 تشرين الأول - أكتوبر - 1802م وصلت إلى الأمير رسالة من نابوليون شعر منها الأمير بقرب الإفراج عنه. وتوجه الأمير إلى (باريس) في 28 تشرين الثاني - أكتوبر
حيث أجريت له اسقبالات شعبية ورسمية. وقام بزيارة عدد من الأماكن التاريخية والأثرية (الأوبرا، وكنيسة سانت كلود) وهناك قدمت إلى الأمير ورقة مكتوبة - يلتزم فيها الأمير بوعد خطي ألا يعود لحمل السلاح. وجاء فيها (الحمد لله وحده، أدام الله حفظه ورعيته على مولانا لويس نابليون، وهداه وأرشده في أحكامه وحكمه. إن الذي يقدم إليك نفسه هو عبد القادر بن محيي الدين، لقد جئت لسموك لأشكرك على أفضالك ولأمتع نفسي بالنظر في طلعتك. إنك في الحقيقة أعز علي من أي صديق آخر، لأنك غمرتني بفضل يتجاوز قوة الشكر لك عندي. ولكنه جدير بنبل شخصك وعظمة مكانتك. فرفع الله قدرك. إنك لست من أولئك الذين يقيمون اعتراضات بلا طائل، أو يخيبهم الرياء والنفاق. لقد وضعت ثقتك في، ولم تصغ إلى الذين لا يثقون بي. لقد منحتني الحرية، وأنجزت تعهدات كان الآخرون قد التزموا بها دون أن ينجزوها. بل إنك فعلت ذلك دون أن تأخذ مني أي وعد. إنني إذن جئت لأقسم لك بالله العظيم، وبكل الأنبياء والرسل، أن لا أفعل شيئا يتنافى مع الثقة التي وضعتها في،
وعلي أن ألتزم بهذا القسم التزاما دينيا بأن لا أعود أبدا إلى الجزائر. فعندما أمرني الله بالنهوض، نهضت، وقد استعملت البارود إلى أقصى حد مكنتني منه وسائلي وطاقتي. ولكن عندما أمرني بالتوقف توقفت، وعند ذلك فقط تخليت عن السلطة واستسلمت.
إن ديني وشرفي يأمرانني بالاحتفاظ بقسمي، ويستنكران الحنث. إنني شريف، وليس هناك من سيتهمني بالخيانة. وكيف يمكن أن يقع ذلك مني بعد أن نلت أفضالا عظيمة على يديك. إن الإحسان سلسلة ذهبية تطوق عنق الإنسان النبيل. إنني أغامر بأن آمل أن ستتفضل بالتفكير في حتى عندما أكون بعيدا عنك، وإنك ستضعني في قائمة أصدقائك المقربين، لأنني وإن كنت قد لا أساويهم خدمة لك، فإنني على الأقل أساويهم في حبهم لك، ضاعف الله من حب أولئك الذين يحبونك، وصعق قلوب أعدائك).
ورد لويس نابليون على ذلك بقوله:
(يا عبد القادر، إنني لم أفقد فيك ثقتي أبدا، وليس لي حاجة إلى هذه الورقة المكتوبة التي تفضلت بتقديمها إلي بكل نبل، إنني لم أطلب منك أبدا، كما تعلم، وعدا أو قسما. ومع ذلك فقد اخترت أن تكب، وأن تقدم بين يدي هذه الوثيقة. إنني أقبلها. إن هذا الإقرار العاطفي منك وشعورك نحوي قد برهن لي على أنني كنت على حق عندما وضعت فيك ثقتي غير المحدودة).
أمضى الأمير عبد القادر بعد ذلك أياما في زيارة معالم باريس (فرساي، كنيسة المادلين، الانفاليد) كما زار المستشفيات، وزاره الوزراء ورجال الدين المسيحي، وكبار القادة، والضباط الذين كانوا
أسرى لديه ثم أطلق سراحهم، (بصورة خاصة أولئك الذين تم إطلاق سراحهم في 21 أيار - مايو - سنة 1841 في (سيدي خليفة) وهو التبادل الشهير الذي تم بناء على وساطة أسقف الجزائر (دوبوش) وعندما جرى انتخاب لويس نابليون امبراطورا لفرنسا يوم 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1852 طلب الأمير إعطاءه حق الانتخاب، فأدلى بصوته، واشترك في احتفالات التنصيب (في التويلري) ثم جاء يوم 21 كانون الأول - ديسمبر - 1852، وفيه صعد الأمير وحاشيته السفينة (لابرادور) التي أقلتهم إلى (صقليا) ومنها إلى اسطنبول، حيث وصلها يوم 7 كانون الثاني - يناير - 1853. وأقيمت احتفالات لاستقبال الأمير، وزاره وزراء الدولة ثم انتقل بعد ذلك إلى جزيرة (بروسة) فأقام فيها ثلاث سنوات، وحينما تعرضت للزلزال الشهير (سنة 1855) أظهر الأمير رغبته في الانتقال إلى دمشق، حيث وصلها في نهاية تشرين الثاني - نوفمبر - 1856.
فتحت (دمشق) عاصمة المسلمين وقاعدة مجد الأمويين ذراعيها للأمير، واحتضنته كسيف من أشهر سيوف الإسلام. وكانت قد استقبلت أفواج المجاهدين المسلمين الدين رفضوا البقاء تحت حكم (الكفار) فوجدوا في دمشق غايتهم، وأقاموا في حي مستقل بهم عرف بحي المغاربة. وجمعت دمشق شمل السيوف، وضمت الأهل إلى الأهل.
مضى الأمير لممارسة حياته العادية، واختار من مسجد بني أمية قاعدة له، فكان يمضي فيه معظم وقته في تدارس العلم مع العلماء وطلبة العلم، وأحب الأمير دمشق بقدر ما احبته وفتح لها قلبه بقدر ما فتحت له قلبها.
أثناء ذلك كانت بلاد الشام تتمخض عن أحداث مثيرة (فقد كان الإنكليز يبسطون حمايتهم على الدروز بعد أن شملت فرنسا النصارى بحمايتها بينما أخذت روسيا على عاتقها حماية الكنيسة الأرثوذكسية) وأخذت هذه الدول في تسليح الطوائف التابعة لها وتحريضها على التمرد والثورة. الأمر الذي انتهى بما هو معروف شعبيا باسم (طوشة النصارى) التي انفجرت في أيار - مايو - 1860. وإذ ذاك، دفع الأمير فرسانه المسلحين لحماية النصارى من الدروز، وأمكنه خلال أيام الفتنة العشرة حماية الآلاف منهم (بما في ذلك قناصل الدول الأجنبية).
لقد أمنت فرنسا للأمير دخلا يكفيه له ولعائلته وأتباعه (أربعة آلاف جنيه استرليني سنويا). واستخدم الأمير فائض هذا المبلغ على المعوزين وفي سبيل العلم، حيث حرص على جمع أكبر قدر من المخطوطات القديمة التي حرصت دمشق دائما على اقتنائها وحفظها. وها هو الآن يحظى بتكريم كل الدول المسيحية التي اعترفت بجميله فأرسلت إليه أرفع الأوسمة لقاء ما قدمه من خدمات في حماية المسيحيين الذين كان يحاربهم بالأمس كمستعمرين وهو ينقذهم اليوم (كذميين) في حماية الإسلام (وبلغ عدد من أنقذهم الأمير - 15 - ألفا).
غادر الأمير عبد القادر دمشق - بعد الحصول على تصريح من نابليون الثالث - في سنة 1863 للقيام بالحج. واستقبله شريف مكة بما هو أهل له من التكريم وأقام حجتين مجاورا، ثم غادر الديار المقدسة عائدا إلى بلاد الشام. وتوقف بالإسكندرية في حزيران - يونيو - 1864 م.
كانت الماسونية في تلك الفترة في أوج نشاطها، غير أنها لم تكن معروفة الأهداف، وكانت تسعى لضم كبار القوم حتى تكتسب زخما معنويا. وفي مساء يوم 18 حزيران - يونيو - أقامت الجمعية الماسونية في الإسكندرية حفلا كبيرا للترحيب بالعضو الجديد الشهير. ودعى المحفل الماسوني (المعروف بمحفل الأهرام) كبار أعضائه للاحتفال بهذه المناسبة، وأضيفت صفة ، (مجاور النبي) إلى جوار عبارة (ماسوني حر ومقبول). وعاد إلى دمشق فوصلها في نهاية شهر تموز - يوليو - 1864 بعد أن أنهى تسجيل أرض منحه إياها والي مصر.
وصل الأمير عبد القادر إلى مبتغاه، جمع خير الدنيا والآخرة، فمضى يتابع رحلة العمر وقد أثقلت السنون كاهله، فتفرغ للعبادة والعلم، وأشرف على أهله وعشيرته، وقضى بقية حياته في مثافنة العلماء، وإسداء الخيرات، وكان كل يوم يقوم الفجر، ويصل الصبح في مسجد قريب من داره في حي (العمارة) لا يتخلف عن ذلك إلا لمرض، وكان يتهجد الليل. ويمارس في رمصان الرياضة على طريقة الصوفية. وما زال مثالا للبر والتقوى حتى توفي رحمه الله في سنة 1883، فدفن بمقام الشيخ محيي الدين بن العربي. وترك من الأمراء محمد باشا، ومحيي الدين باشا والهاشمي وإبراهيم وأحمد وعبد الله وعلي وعبد الرزاق وعبد المالك، فالأمير محمد ومحيي الدين انتقلا إلى الأستانة وجعلتهما الدولة في مجلس الأعيان إلى أن توفيا، وكان الثاني منهما (محيي الدين) شاعرا أديبا، عالي الهمة، وذهب سنة 1870 بدون علم أبيه إلى الجزائر للاشتراك في ثورة المقراني والحداد (ثورة القبائل) فلما بلغ الخبر أباه أعلن سخطه عليه لأن الأمير بعدما أعطى عهده لفرنسا حافظ على قوله إلى الممات. وأما الهاشمي فمن ولده الأمير خالد الذي تزعم الحركة الوطنية في الجزائر سنة 1820. وكذلك
الأمر بالنسبة لبقية الإخوة والأبناء الذين تابعوا طريق الجهاد على سيرة الأمير وخطاه.
وأفاقت الجزائر على ثورة الفاتح من نوفمبر (1954) وخاضت الصراع المرير حتى تم لها الاسقلال ووقفت تبحث عن كل تراث الأجداد الذين بذلوا وضحوا في سبيل الله وفي سبيل الوطن الجزائري. ولم تنس رائدها الأول، ومؤسس دولتها. فطلبت إلى دمشق إعادة (السيف إلى غمده). وحملت رفاة الأمير لتستقر إلى جوار المجاهدين الأبرار الذين مزقتهم سيوف الأعداء - فوحدتهم سيوف المجاهدين الأحفاد وأعادتهم إلى ميادين جهادهم.