المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٤

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الوجيز في حياة الأمير عبد القادر

- ‌الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياةالأمير عبد القادر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الأصالة وبناء القاعدة الصلبة

- ‌ بناء دولة الحرب

- ‌آ - تنظيم الجيش:

- ‌ب - التسلح والصناعة الحربية:

- ‌ج - الحصون والتنظيم الدفاعي:

- ‌د - التنظيم الإداري والتموين:

- ‌ بناء الدولة الإسلامية

- ‌ في أفق العمليات والتكتيك

- ‌الفصل الثاني

- ‌ أعداء الداخل والخارج(1833)

- ‌ معاهدة عبد القادر - دو ميشال(1834م)

- ‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

- ‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

- ‌ الصراع المرير على تلمسان(1836)

- ‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م)

- ‌ نقض المعاهدة واستئناف الحرب(1838 - 1839 م)

- ‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م)

- ‌ على حدود المغرب(1845 م)

- ‌ وداعا يا جزائر الأحرار(1848 - 1852)

- ‌قراءات

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال(26 شباط فبراير - 1834 م)

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو(معاهدة تافنة)23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م

- ‌من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا(لويس فيليب)

- ‌رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادرإلى الماريشال بيجو

- ‌لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر(الأرتال الجهنمية)

- ‌المراجع الرئيسية للبحث

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م)

6 -

‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)

31 -

أيار - مايو (1837 م)

صدمت الحكومة الإفرنسية لدى وصول أخبار هزائم قواتها في الجزائر. فأسرعت بعزل (كلوزول) وعينت (الجنرال بيجو مكانه. وحددت له مهمته بالتالي (إما أن يعقد الصلح مع عبد القادر وإما أن ينتصر عليه). ووصل بيجو إلى الجزائر، وبدأ على الفور اتصالاته بالأمير. وجرت مرحلة طويلة من المفاوصات، وتبادل الرسائل. غير أنه كان من المحال على الأمير الانفراد بأمر خطير بدون استشارة قادته وزعماء قومه. فدعا إلى مؤتمر عام يجتمع على ضفة نهر (هبرة) يوم 25 أيار - مايو - 1837. وفي الموعد المحدد، حضر شيوخ القبائل الكبار وزعماء الفرسان العسكريين، وشيوخ المرابطين وأعيان المجاهدين في إقليم وهران. وافتتح الأمير المؤتمر بقوله: (لا أريد أن أسمع أحدا منكم يتهمني بالرغبة في عقد السلام مع المسيحيين. إن قضية السلام والحرب هي قضية أنتم الذين تقررونها) ثم تابع حديثه فشرح طبيعة المراسلات التي تمت بينه وبين بيجو، والاقتراحات والعروض التي تقدم بها كل منهما للآخر - وتبع ذلك حوار طويل وعاصف. إذ وقف عدد من المخلصين لقضية الجهاد فعارضوا الاتفاق مع أعداء الدين وانضم إليهم الراغبون في مقاومة

ص: 122

الأمير. وكذلك الذين شعروا بأن الحرب توفر لهم المناخ الملائم للكسب والمساومة غير أن شيوخ المرابطين تصدوا للموقف وعالجوه بطريقة حكيمة تعتمد على التمييز بين السلام والاستسلام، بين سلام مقبول وسلام مطلوب وقالوا لهم بأن القرآن الكريم لم يقر أبدا إهدار الدم بدون جدوى، بعد أن استسلم الكفار، ونادوا بوضع السيف في غمده، إن الإفرنسيين قد استسلموا وطلبوا الصلح. وأن السلطان قد أملى شروطه عليهم. وتغلب هذا المنطق على المعارضة. وتم التوقيع على المعاهدة (التي عرفت بمعاهدة تافنة حيث تم تبادل الوثائق)(1). وما أن عاد (بيجو إلى الجزائر، حتى أصبح حر اليدين لتطوير العمل العسكري فزج قواته كلها ضد (أحمد باي قسنطينة) وأمكن له تحقيق انتصار حاسم ضده، ودخلت القوات الإفرنسية مدينة (قسنطينة).

أصبح باستطاعة الأمير عبد القادر التفرغ لبناء الدولة، وإعادة تنظيمها، وزيادة قدرتها، وهو يدرك تماما أنه لا بد وأن يتجدد الصراع ضد قوى الاستعمار الإفرنسي. واصطدمت عملية إعادة التنظيم الشامل بمجموعة من العقبات، لم يكن أقلها امتناع قبائل كثيرة عن دفع الضرائب، بحجة عدم الحاجة لمثل هذه الضرائب طالما أن الحرب قد توقفت. فاضطر في البداية لإخضاع تمرد المتحالفين من بني مختار وبني نائل وبني موسى وبني عبيد والزناخرة الذين كان يترأسهم محمد ابن عودة زعيم أولاد المختار (قرب فصر البخاري). وجهز من أجل ذلك جيشا يضم (12) ألف فارس (وألفي) راجل مع بعض المدافع. وأمكن له الانتصار على قوات التمرد. ثم قرر الانتقال بقواته إلى منطقة الأغواط (جنوبي الصحراء العظمى والواقعة على بعد مائتي ميل

(1) أنظر قراءات (2) في نهاية هذا الكتاب حيث نصوص هذه المعاهدة.

ص: 123

جنوب وهران) وذلك لإخضاع بنو عراش (في عين ماضي) والذين كان يتزعمهم (التيجيني) ودارت معارك طويلة، استنزفت فيها قوات الطرفين المتصارعين، وانتهت بانتصار الأمير عبد القادر. أصبحت الجزائر الآن دولة مكتملة الأركان، ثابتة البنيان، وشعر الأمير عبد القادر أنه قد أنجز الواجب الذي حملته الأمة الجزائرية أعباءه. فقد هزم الإفرنسيين، ووقع معاهدة سلام مشرف، وكانت مملكته نموذجا للتنظيم الرائع، لقد لبى نداء واجبه الديني في ساعة العسرة، وأنقذ قومه في ساعة البلوى. غير أنه أضاع نفسه في أمته، لقد هجر أهل بيته، وفقد عزلته التي كان يجد فيها متعته العقلية، فمنذ اليوم الأول لمبايعته، وقف أمام زوجته ليقول لها:

(لقد وضع القوم أمانة في عنقي، ومن الواحب علي القيام بها، وأن ذلك لا يدع مجالا لي حتى أقوم بواجباتي الزوجية على أكمل وجه، ولك إن أردت البقاء معي من دون التفات إلى طلب حقوقك المقدسة، فإني أوافق الموافقة أزمة على ذلك. وأما إن كان قصدك ألا تفرطي فيها فأمرك بيدك، وذلك لأني قد تحملت ما يشغلني عنك) وأجابته الزوجة الصالحة - ابنة عمه - (لقد رضيت لنفسي ما ارتضيته لنفسك) وأخلص الزوجان لقضية الإسلام.

وبعد التوقيع على معاهدة تافنه، وبينما كان هو في سبيله لمحاربة الخارجين عن الطاعة والجماعة، مر الأمير عبد القادر بالقرب من (معسكر) وعلمت زوجته بذلك، وكانت قد مضت شهور عديدة لم تره خلالها، فبعثت إليه الرسل ترجوه أن يعرج نحوها، ولو يوما واحدا، غير أنه أجاب (بأنه مزفوف إلى بلاده). ولقد حدث مرة أن

ص: 124

مضت عليه فترة تزيد على السنتين لم يسمح لنفسه بوقت يذهب فيه لرؤية عائلته.

وها هو الآن يحاول استئناف حياته الخاصة، وإلقاء أعباء المسؤولية على عاتق سلطان المغرب، وتسليمه الأمانة، فيكتب له - بعد الديباجة - ما يلي:

(إن شعب الجزائر متحد الآن، وأن علم الجهاد قد طوي، فالطرق آمنة وعامرة، والعادات السيئة قد قضي عليها، وتستطيع المرأة أن تعبر البلاد وحدها، ليلا ونهارا، من الشرق إلى الغرب، دون خوف على نفسها. وقد يلتقي الرجل بقاتل أخيه، فلا يجرؤ على الانتقام منه، بل يحتكم إلى القضاء. وأن كتاب الله وسنة رسوله هما فقط أساس الأحكام. والمواد الضرورية لجيشنا كثيرة، إلى جانب الرجال الذين يملؤون صفوفه. كل ذلك بفضل الله وتأييده، وبفضل دعواتكم ورضاكم عنا. ولولا ذلك لكنت أضعف الناس عن إنجاز كل هذا

إنني لم أتقدم لتولي مسؤولية الحكومة بدافع الطموح، أو الرغبة في السلطة والجاه، أو حبا في ثروات الحياة الدنيا. ولكن - والله وحده يعلم أسرار القلوب - لأحارب في سبيل الله، ولأحقن الدماء بين المسلمين، ولأحمي أملاكهم، ولأمهد البلاد، كما تقتضي ذلك الغيرة على الدين والوطن. ومنذ تحملنا المسؤولية ونحن بالمرصاد ليلا ونهارا، متنقلين في طول البلاد وعرضها، في السهل والجبل، مرة نقود المعارك، وأخرى ننظم شؤون الدولة ونحن الآن نرجو من سموكم أن ترسلوا أحد أبنائكم أو أحفادكم أو خدامكم لتولي سلطان الحكم، لأن البلاد الآن موطدة وليس هناك معارضة من أية جهة.

ص: 125

وسأكون أول من يعمل تحت - قيادة - من ترسلونه، وأن أصخر كل إمكانياتي الضعيفة إلى أقصى حد لذلك، وأن أساعده بالرأي والنصيحة.

إنني أثق في ذلك الاعتبار والسماحة، التي تميزكم، من أنكم ستقبلون رجائي في إعفائي من الحمل الذي يثقل كاهلي. وإنني أرسل إلى مقامكم بعض الهدايا التي كان ملك الإفرنسيين قد أرسلها إلي، والتي لم أبق منها عندي سوى بندقيتين صغيرتين. كما أرسل إليكم بعضا من أفضل البغال في الجزائر. إن عددها، بالإضافة إلى عدد الأشياء الأخرى، يوجد مفصلا في مرفق داخل هذه الرسالة. وإننا نرجوكم أن تقبلوا عذرنا، ونأمل في رضاكم وسروركم - وسيحمل إليكم الهدايا المذكورة، أخي الذي وكلته عني ليتشرف بمقابلة سموكم، وليحمل إليكم تقدير وتأكيد إخلاص ابنكم وخادمكم).

عبد القادر بن محييى الدين

محرم 1254 - تشرين الأول - أكتوبر - 1838

ورد السلطان (عبد الرحمن) برسالة حملت تقديره العالي للأمير، ورفضه حتى أن يسمع لحظة واحدة هذا التخلي عن الحكم من شخص أظهر كفاءة عظيمة في القيادة والتنظيم والتجديد وإنقاذ بلاده، ودعى الأمير عبد القادر، باسم الإسلام، أن يظل كما كان، بطلا للجهاد، وأن يكمل عمله الشريف، وأن يوسع وينجز واجبه، وأخيرا طلب إلى الأمير أن يرسل إليه قميصه كأثر يحتفظ به في مسجده الخاص.

لم يكن الأمير عبد القادر، وهو يتنازل عن قيادته العامة، يهرب من الواجب، ويتخلى عن المسؤولية وإنما أراد توسيع دائرة الجهاد،

ص: 126

فقد وعد سلطان المغرب (عبد الرحمن) بوضع سيفه وعقله تحت تصرف من يوليه السلطان أمر الجهاد ضد أعداء الدين. وكان يدرك يقينا أن ما هو مقبل من الأحداث سيكون أكثر خطرا مما مضى، وهذا ما يتطلب حشد كل القوى. ومن أجل ذلك كان لا بد له من الاعتماد على جناحين قويين في المغرب وتونس، وعلى دعم من كل العالم الإسلامي فكتب إلى السلطان العثماني رسائل عديدة، غير أن إبراهيم باشا - شغل الخلافة العثمانية بأمورها - وجاء تدخل روسيا في الشمال ليصرف دار الخلافة عن كل أمر يتجاوز حدود الخطر المباشر الذي بات يدق أبواب عاصمتها. ولم يبق على الأمير إلا زيادة الاعتماد على قدراته الذاتية، فالتفت إلى البلاد ينظمها وإلى القوى يحشدها. ولم تمض فترة حتى تأكدت مشاعر الأمير، وأصبح الظن يقينا. فقد أخذ الإفرنسيون في البحث عن الثغرات لنقض معاهدة (تافنة) من أجل تطوير استعمارهم للجزائر، لا سيما بعد أن زالت معظم المقاومات، ولم يبق فوق أرض الجزائر سوى قوة وحيدة متماسكة هي قوة الأمير عبد القادر. وقد تذرعت فرنسا بتفسيرها الخاص لنصوص البند الثاني من معاهدة (تافنة). فاعتبرت أن فقرة (تملك فرنسا في إقليم الجزائر، مدينة الجزائر والساحل متيجة ممتدا نحو الشرق إلى وادي القدرة وما وراءه) في حين كان النص العربي يتضمن كلمة (فوقه) مما يخضع للأمير عبد القادر. وكان هذا الهامش الجغرافي هو البداية لتجدد الصراع.

ص: 127