الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
معاهدة عبد القادر - دو ميشال
(1834م)
تقع مدينة (المدية) إلى جوار مدينة (مليانة)، ونظرا لأهمية موقعها، فقد حاول الإفرنسيون الاستيلاء عليها، وفي الوقت ذاته كان (باي قسنطينة) يفكر باحتلالها نظرا لأنها تقع على مفترق الطرق، ولأنها همزة الوصل مع المغرب، ولذلك قرر الأمير عبد القادر احتلالها ليتخذها ذريعة للهجوم على (باي قسنطينة). غير أن أصدقاء الأمير القدامى (الحاج موسى) وهو من أسرة شريفة قد أصبح من أعدائه، وأخذ في استثارة جميع القبائل العربية، نظرا لمناهضته للباي حاكم قسنطينة الذي كان يخوض صراعا مريرا وجهادا مشرفا ضد الكفار. ونادى (الحاج موسى) جهارا، فطالب الناس بالجهاد، ورفع رايته، وجاءته جموع المجاهدين من (باي قسنطينة) و (باي تونس) فأمكن له بذلك حشد قوة من (1200) فارس. وقادهم إلى باب (المدية) وطلب من حراسها أن يفتحوا له باب الحصن، فامتنعوا، ودارت بين الطرفين مجموعة من المعارك استمرت أسبوعين انتهت بنجاح (الحاج موسى) في فرض إرادته على (المدية) التي فتحت له أبوابها، واتفقت معه على دعمه بالمؤن لمهاجمة الإفرنسيين. غير أن الحاج موسى طلب إلى الأمير عبد القادر قبل قيامه بالهجوم أن ينضم إليه ليجاهدوا معا في سبيل الله.
وكان الأمير عبد القادر في هذه الفترة قد بدأ اتصالاته مع الإفرنسيين لتوقيع (هدنة) فأجاب (الحاج موسى) بأنه اتفق مع الإفرنسيين. وأن دينه يأمره بتنفيذ الاتفاق، وأنه يمنع (الحاج موسى) منعا باتا من أن يمر على أراضيه عند تقدمه لمهاجمة الإفرنسيين. ومضت ثلاثة أيام ظهر للحاج موسى بعدها أن يهاجم الأمير، فخاض ضده معركة قصيرة وحاسمة، انتهت بمصرع (60) مقاتلا من رجال الحاج موسى ووقوع (95) أسيرا في قبضة الأمير عبد القادر. الذي أسرت قواته أيضا (260) امرأة وولدا، واضطر (الحاج موسى) للانسحاب تاركا وراءه الغنائم والمواشي لخصمه الأمير عبد القادر الذي استثمر الموقف فأسرع بالاستيلاء على (المدية) ودمر جميع الذين أيدوا الحاج موسى ووقفوا إلى جانبه، وبصورة خاصة منهم الكراغلة.
كان الجنرال (تريزيل)(1) قائد وهران يتابع الموقف، وفي اعتقاد أن القبائل ستنتصر على الأمير عبد القادر وعندئذ يمكنه قيادة قواته ضدها لتدميرها، وبذلك يكون قد شارك في هزيمة الأمير، وفي كسب مناطق شاسعة يضمها للحكم الإفرنسي. ومن أجل ذلك نظم شبكة من الجاسوسية لزيادة تدهور الموقف، ودفع لجواسيسه مبالغ طائلة، كما وجه رسائل إلى زعماء القبائل تحمل وعودا وأمنيات مغرية. غير أن الأخبار وصلته بسرعة وهي تشير إلى انتصار الأمير على منافسيه، ليس ذلك فحسب، بل إن بعض القبائل انضوى تحت راية الأمير. وعندئذ أسرع (تريزيل) فوقع معاهدة مع (ود بن إسماعيل) زعيم (الدوائر والزمالة)
(1) تريزيل: (CAMILLE TREZEL) جنرال فرنسي من مواليد باريس (1780 - 1860) اكتسب شهرة في الجزائر، وبصورة خاصة في معركة المقطع (1835) وأصبح وزيرا للحرب في فرنسا سنة 1847 م.
في إقليم وهران نصت على ما يلي:
أولا: أن تكون تلك القبائل تحت حماية فرنسا وأن تقف إلى جانبها.
ثانيا: تخضع هذه القبائل لمن يولى منهم، بالموافقة مع القائد لولاية - إيالة - وهران.
ثالثا: تدفع هذه القبائل ما كانت تدفعه قبل اليوم للحكومة الجزائرية أيام الحكم العثماني أو ما كانت تدفعه للأمير عبد القادر.
رابعا: لا يسوغ لهذه القبائل أن تأتي أمرا إلا بعد الحصول على الإذن من حاكم وهران.
وعلم الأمير عبد القادر بهذا الانحراف الثقيل، فجمع الناس وقام فيهم خطيبا فقال:
(الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فاعلموا أن الله تعالى قلدني هذا الأمر للمدافعة والدفاع عن الدين والوطن، وقد بلغكم خبر هذا الرجل - ابن إسماعيل المتنصر - فإن تركته وشأنه فإني أخاف على الوطن أن تغتاله غوائل الإفرنسيين على حين غفلة. وينشأ عن ذلك من المفاسد ما يعسر علينا إصلاحها) وبعد ذلك قرر الحاضرون على ضرورة محاربته، وكرروا له أنهم يؤيدونه.
زعمت (الدوائر والزمالة) أنها خضعت لفرناس بسبب قربها من مواقعها، غير أن هذه الذريعة لم تقنع الأمير، إذ لا يمكن له القبول بذريعة (القسوة والمعاناة) أن تكون سببا للخيانة، لا سيما وأنه إذا قبل
الأخذ بهذه الذريعة، فإن كل مخططاته لحصار الأعداء وتحرير البلاد ستنهار من أسسها. وفي هذا الوقت، رفع حاكم وهران (تريزيل) المعاهدة التي وقعها مع (ود بن إسماعيل) إلى الحاكم العام (دو ميشال) الذي رد على ذلك بأن (هذا الود بن إسماعيل) أضعف من أن يقف في مواجهة الأمير، وأنه من الأفضل التعامل مع (الأمير مباشرة). ولكنه - أي دو ميشال - كان في حاجة للمناسبة التي تفتح له مجال الحوار مع الأمير، وجاءت هذه المناسبة مع نهاية تشرين الأول - أكتوبر - 1833 م. عندما توجه عربي (اسمه قدور) من قبيلة (البرجية) إلى مدينة أرزيو، وباع مواشيه إلى الإفرنسيين. وعند رحيله، طلب من القائد الإفرنسي أن يعين له قوة لمرافقته لأنه بات يخشى بطش جند الأمير عبد القادر. واستجاب القائد الإفرنسي لهذا الطلب، فكلف أربعة فرسان بموافقته، غير أن هؤلاء لم يبتعدوا عن المدينة أكثر من كيلومترات قليلة حتى انقضت عليهم قوة من المجاهدين فقتلت أحد الفرسان، واقتادت البقية أسرى إلى مدينة (معسكر). واستقبل (دو ميشيل) خبر هذا الحادث بالغبطة، إذ وجد الفرصة لكتابة رسالة للأمير عبد القادر جاء فيها ما يلي: (إنني لا أتردد مطلقا في أن أكون البادىء في اتخاذ هذه الخطوة، على الرغم من أن وضعي لا يسمح لي بذلك، ولكن شعوري الإنساني يحملني على الكتابة إليك، لذلك فإنني أطلب حرية أولئك الإفرنسيين الذين سقطوا في كمين بينما كانوا يحمون عربيا. وإنني لا أتوقع أن تجعل إطلاق سراحهم مرهونا بشروط معينة، ما دمت أنا قد أطلقت في الحال سراح بعض أفراد قبائل الزمالة وقبائل الغرابة، عندما سقطوا في يدي نتيجة الحرب وأطلقتهم من غير شروط، بل لقد عاملتهم أحسن معاملة، وبناء عليه آمل من سمو الأمير إذا كان يرغب في أن يأخذ من
التقدير قدرا عظيما، ألا يطيل المراجعات، وأن ينعم بإطلاق الأسرى).
ولم يرغب الأمير من عدوه أن ينال ما وصفه (بالقدر العظيم من التقدير) فتجاهل الرد فكتب إليه (دي ميشيل) رسالة ثانية جاء فيها: (من الجنرال دي ميشيل إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين. لي أمل بأن تطلق الحرية للأسرى الأربعة التعيسي الحظ والمحبوسين في قلعة معسكر. وما كنت أتردد عن السعي لديكم فيما تمنعني وظيفتي الرسمية عنه، حيث تدفعني الإنسانية إليه.
ولعلمي أن البشر الراقين إلى الدرجات العليا عليهم أن يمتازوا بأعمال كريمة دالة على التفاوت الذي وضعه الله بينهم، فأرجو الإفراج عن الإفرنسيين الذين وقعوا في شر مكيدة وهم في الدفاع عن بعض العرب لتخليصهم من انتقام أبناء جنسهم. ولا أظن أنكم تضعون في طريق ذلك العقبات، لأنكم إذا رغبتم أن تعدوا من كبار أهل الأرض لا تتأخروا عن إظهار أخلاقكم، وإذا أوقعت الحرب بين يدي بعض أتباعكم فأنا أعدكم بإرجاعهم دون تعريض - أو مبادلة).
ومرة ثانية تجاهل الأمير عبد القادر رسالة (دي ميشيل) فجاءته الرسالة الثالثة وفيها:
(إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين.
بما أنني لم أتلق جوابا على رسالتي التي بعثتها إليكم منذ شهر، فأحب إلي القول بأنه لم تصلكم من أنكم لم تلتفتوا إلى قبول طلبي وعليه، جئت للمرة الثالثة أكرر طلب إطلاق سراح الأسرى الإفرنسيين المحتجزين لديكم، لأنهم لم يؤخذوا في ساحة الحرب، بل سقطوا في أقبح خدعة وأسوأ مكيدة، وعلي أن أذكركم أن فرنسا هي أقوى دولة في الدنيا، فليس من الحكمة أن تستمروا في مقاومتكم لها، وإذا كان
باستطاعتي اليوم أن أنتصر عليكم قبل وصول النجدات التي انتظرها فما تكون حالتكم إذا فرغ صبر فرنسا نحو العرب، وأرسلت ما تهيؤه لي، فعندها تهاجمكم قواتنا فتبعثركم كما يبعثر الهوى الرمال. فإذا رغبتم البقاء في مركزكم السامي، فما عليكم إلا الإجابة على دعوتي لعقد معاهدة بيننا، وتعود القبائل لزراعة حقولها الخصبة حتى تقدم ما يحتاجه الشعب العظيم).
عند ذلك، لم يجد الأمير عبد القادر حرجا في الرد على هذه الرسالة المثيرة، فكتب رسالة جاء فيها ما يلي:
(من الأمير عبد القادر بن محيي الدين - إلى الجنرال دو ميشيل،
أما بعد:
فقد وصلنا كتابكم المتضمن أفضل النصائح، فقدرناها قدرها، وعلمنا أنكم تحثونا في كتبكم الثلاثة على الإفراج عن الأسرى، وتندبون حظكم، مع أننا نعتني بشأنهم غاية الاعتناء، وليست عملية الإفراج عنهم ذات أهمية عندنا، غير أن الحالة التي نحن بها لا تسمح لنا أن نردهم دون فدية، فإذا رغبتم في الاتفاق قبل تسليم الأسرى إليكم عند المعاهدة بيننا، لأن ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء، ويسمح لنا بقبوله إذا عرض علينا. وأن الثقة التي منحتمونا إياها في تحاريركم حملتنا على أن نبادلكم المخابرة، وأن المفاوضة التي تطلبونها تقتضي أن تكون مبنية على شروط محترمة منا ومنكم، ولا يحصل الاتفاق إلا إذا عرفتوني شروطكم وما تطلبونه مني، وأنا أعرفكم بمثلها والله المعين. وكيف تفاخروني بقوة فرنسا، ولا تقدرون القوة الإسلامية، مع أن القرون الماضية أعدل شاهد على قوة الإسلام وانتصاراتهم على أعدائهم، ونحن وإن كنا ضعفاء على حد زعمكم،
فقوتنا بالله الذي لا إله إلا هو ولا شريك له. ولا ندعي بأن الظفر مكتوب لنا دائما. بل نعلم أن الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا، غير أن الموت مسر لنا، وليس لنا ثقة إلا بالله وحده لا شريك له
…
وأن دوي الرصاص وصهيل الخيل في الحرب لألذ لنا من الصوت الرخيم، فإذا صممتم على عقد صلات ودية بيننا وبينكم، فأفيدونا حتى نرسل إليكم رجلين من كبار قومنا، مأذونين بالمفاوضة معكم، وحينئذ تتم أمانيكم بمعونة الله. ولا تظنوا بأننا نأسف إذا اضطررنا إلى ترك البلاد، لأننا نعلم يقينا أن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده. وإن سلمنا وراثتها، فحيث ما كنا نجد أمتنا. وقد ظهر لنا من مضمون كتبكم أنكم تحتقرون قوة العرب مع دوام استعدادهم للقتال، وسابقتهم للنزال في كل زمان ومكان، وإذا عدتم إلى كتب التاريخ، قرأتم ما أجروه في آسيا وجهات الشام من الجرأة والثبات والإقدام والفتوحات التي أظهرها الله على أيديهم).
وجاء رد (دو ميشيل) في رسالة أكد فيها رغبة فرنسا بالتفاهم مع الأمير عبد القادر، ورأى الأمير الرد على مضمون الرسالة بما حملته رسالته التالية:
(بعد التحية، وصلني كتابك الذي أظهرت فيه رغبتك في الحصول على إطلاق سراح الأسرى الذين أوقعتهم الأقدار الربانية بين أيديكم. وقد فهمت جميع ما تضمنته رسائلك وما اشتملت عليه من تكرار الطلب. ومن المعلوم عندكم أن جميع الأسرى الذين وقعوا في أيدي عساكركم في ميادين الحرب، لم أتعرض لكم ولا لمن قبلكم في إطلاقهم، ولا أتعب أفكاركم بمراسلة قط، لأن حكمهم عندي حكم الأموات، وموتهم أعتبره حياة لهم، غير أني كنت أتألم عليهم شفقة
ورحمة. وقولكم أن هؤلاء الأسرى الذين تطلبون إطلاق سراحهم ما كان خروجهم لأمر يتعلق بكم، بل كانوا يحمون عربيا من انتقام أبناء وطنه، فهذا لا أعتبره وسيلة لإطلاقهم، فإن المحافظ والحافظ عليه كلاهما أعداء لنا، وانتهاز الفرصة في الانتقام منهم غاية مقصودة، وسائر العرب الذين عندكم أوغاد وأرذال، يجهلون واجباتهم الدينية، هذا وإني رأيتك تفتخر بأنك أطلقت الأسرى من الغراية والزمالة، من غير شروط، مع أنك لو راجعت أفكارك لوجدت أن رحمتك إنما كانت لأناس استظلوا بظلكم، واحتموا بحماكم، وكانوا عيونا لكم على المسلمين، ويخدمونكم بكامل الصدق. ومع ذلك فإن عساكركم قد
سلبوهم كل ما يملكونه. فلو كان هذا المعروف الذي تذرعتم به مع غير هؤلاء كالحشم وبني عامر مثلا، لكان يحق لكم الفخر، وكنتم تستحقون الشكر. وعلى كل حال، فمتى خرجتم من وهران على مسافة يوم أو يومين، يظهر للعيان من يستحق الفخر منا).
عند هذه المرحلة توقفت المراسلات التمهيدية، واستمر الصراع. ووجدت القوات الإفرنسية أنها تجابه أكثر من جبهة، وأنها تتلقى الهزيمة تلو الهزيمة على كافة الجبهات، فقررت مهادنة بعض الجبهات للتفرغ للجبهات الأخرى، وكان يهمها إسكات الجبهة الأقوى - جبهة الأمير عبد القادر. والذي كان بدوره يحتاج لنوع من الهدنة حتى يتفرغ جزئيا لبناء دولته وتطوير قدراته. وعاد (دو ميشيل) للإمساك بالمبادأة، فأرسل رسالة جاء فيها:
(إلى سمو الأمير عبد القادر:
حيث لا تجدني أيها الأمير غافلا أبدا عن كل فعل حسن، فإذا
كان سموكم يريد ان نتباحث في أمر المعاهدة، فأنا مستعد لذلك، مع الأمل بأنه يمكن الحصول على معاهدة موفقة يتوقف بها سفك دماء أمتين اقتضت الإرادة الإلهية ألا تكون تحت سلطة واحدة).
وفضل الأمير عبد القادر في هذه المرحلة، إظهار موقف اللامبالاة من العرض الإفرنسي، فلم يرد على الرسالة واستخدم في الوقت ذاته مندوبه في وهران (اليهودي مردخاي عمار) لتهدئة ثائرة (دي ميشيل) من عدم الرد، واختلاق المعاذير المناسبة. فاضطر (دو ميشيل) لكتابة رسالة جديدة يرد عليها الأمير بما يلي:(وصلتني رسالتك، وفهمت مضمونها، ويسري أن أجد عواطفك تتفق مع عواطفي. إنني أشعر بثقة نحو نواياك المخلصة، ويمكنك أن تثق بأن أي التزام يمكن أن نتوصل إليه سيكون محل احترام من جانبي، إنني أرسل إليك ضابطين من جيشي، وهما (موليود - مليود - بن عراش، وولد محمود) وسيجتمعان خارج وهران (بمردخاي عمار) وسيعلمانه بكل المقترحات فإذا قبلتها تستطيع أن ترسل إلي، وعندئذ سنكتب معاهدة تقضي على الغضاء والعداوة اللتين تفصلاننا الآن
عن بعضنا، وتحل محلها صداقة لا انفصام لها. ويمكنك الاعتماد علي لأنني لم أتخل أبدا عن كلمتي).
تمت المقابلة المقترحة يوم 4 شباط - فبراير - 1834 م حمل ابن عراش شروط دو ميشيل يوم 25 شباط - فبراير - 1834.وجاء فيها:
1 -
تتوقف الحرب منذ اليوم بين العرب والإفرنسيين.
2 -
ستكون عادات المسلمين وشرائعهم الدينية موضع الاحترام.
3 -
يتم إطلاق سراح الأسرى الإفرنسيين.
4 -
تبقى الأسواق التجارية حرة.
5 -
يعيد العربة كل هارب إفرنسي.
6 -
يتنقل كل مسيحي داخل البلاد، على أن يحمل جواز سفر ممهور بخاتم قنصل عبد القادر وختم الجنرال دو ميشال.
ووضع الأمير شروطه، ثم دمجت هذه الشروط في معاهدة واحدة حملت اسم (معاهدة الأمير عبد القادر - الجنرال دو ميشال)(1).
الأمر الواضح هو أن الأمير عبد القادر قد أراد لهذه المعاهدة أن تكون أكثر من هدنة، أما الإدارة الإفرنسية فأرادتها أقل من ذلك. وظهر ذلك في المهمة التي حددتها الإدارة الإفرنسية لقنصلها لدى الأمير عبد القادر وهو (عبد الله ميسون) الذي كان من مماليك الأمراء المصريين ثم تطوع في الجيش الإفرنسي، وأخلص في خدمة فرنسا، فأرسلته إلى عاصمة الأمير وكلفته بالتالي:
أولا: أن يكثر اتصالاته برجال ديوان الأمير والوزراء والمسؤولين في ولاية - إيالة - وهران وإغداق الأموال عليهم حتى يميل هؤلاء إلى القيادة الإفرنسية، وحتى يمكن له الحصول على أسرارهم، والاستعانة بهم إذا ما فكر الأمير بنقض المعاهدة.
ثانيا: الاندماج بالشعب، مستفيدا من أصله العربي، لإبراز قوة فرنسا وإدخال الرعب في نفومس الجماهير حتى لا تتجاوب مع الأمير، وحتى تخذله في الوقت المناسب.
ثالثا: تجنيد المتعلمين والمثقفين، لمراقبة الأمير من جهة، وجمع
(1) أنظر - قراءات (1) في نهاية هذا الكتاب.
المعلومات عن حالة البلاد بصورة دقيقة.
وانطلق (عبد الله ميسون) لتنفيذ مهمته، واتبع كل أساليب الغدر والنفاق في محاولاته لاستثارة عواطف الجزائريين، فكان يجتمع بالمثقفين بالأندية، ويحاضرهم، ومن بين ما كان يردده على أسماعهم: أن الجزائر لا يمكن أن تستغني عن فرنسا. وأن الأمير بما عرف عنه من يقظة الضمير، والتعمق في الدين لا بد له وأن يتفق معها حتى يعيش الشعبان في رفاهية ورغد. وأن الأمير سيدرك أن الحضارة الإفرنسية قد أثرت الإنسانية وأغنتها. وكم كانت دهشة (عبد الله ميسون) عندما تصدى له أحد حضور ندواته من المواطنين، ليقول له:(لقد أعلن الإفرنسيون بألسنتهم وأقلامهم تحرير الإنسان، وإلغاء الرق، والمساواة أمام القانون، ثم راحوا يفرضون علينا رقا آخر، من نوع أقسى وأمر، رقا بغير قانون، وعبودية بقيود متطورة. إن ما تقوله الآن وتتشدق به هو ظلم وبهتان. وإن ما يريد الجيش الإفرنسي أن يفرضه من الرق اليوم على شعب الجزائر، إنما هو أسوأ مما حاول أن يفرضه الدخلاء الذين جاءوا إلى الجزائر بقصد التحكم في مصائرها. لئن سبق للدخلاء في الماضي السحيق استغلال حاجة الفقير إلى لقمة العيش، ويستغلوا ضعفه واضطراب الخائنين من بطش الطغيان وجبروت الحديد والنار، وقسوة الحكم الغاشم، واتخذوا الفقر والجهل والخوف مرافق استغلال في نفوس الضعفاء، فإن الوضع اليوم أصبح يختلف كل الاختلاف عما كانت عليه في الماضي. فبفضل سياسة (فرق تسد) التي جاء بها الدخيل، قد أصاب الشعب الجزائري عبء ثقيل من الرزايا أثر في بلده الأمين ووضع من قدره. ولكن لم يتمكن هؤلاء الأجانب من أن يقذفوا ببلائهم، ويرموا بسهامهم المسمومة، إلا بعد افتراقنا وتدابرنا أما الآن، فقد ظهر الحق من الباطل، ولا يأتي
لدو ميشيل أو من يعمل في ركابه من أن يلمح بسيف العدوان في وجوهنا). فسكت (عبد الله ميسون) واعتذر للحاضرين، وعرف أن مهمته ليست بالمهمة السهلة، لا سيما وقد أخذ الأمير الذي كان يقابله ببشاشة في تتبع خطواته، وكلف عددا من أبناء الجزائر بمراقبة كل تحركاته حتى لا يثير الشك في أذهان
المواطنين. وبدأت العزلة تحيط به حتى وجد نفسه مرغما في النهاية على الكتابة للحكومة الإفرنسية معتذرا عن الاستمرار في تنفيذ مهمته، وشارحا لها الموقف القوي للأمير عبد القادر بقوله:(إن الأمير على صلة متينة بتونس والمغرب وليبيا ومصر ومكة. وأن أمير مكة الذي يعتبر خليفة للمسلمين قد أعانه كثيرا، وهو يتلقى منه كل تأييد وتشجيع. ولهذا لن تتمكن فرنسا من السيطرة على الأمير إلا إذا أوقفت هذه الإعانات المستمرة).