الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الأصالة وبناء القاعدة الصلبة
ولد مع ولادة ربيع الحياة، في يوم من أيام شهر أيار - مايو - سنة 1807، وقد جاء إلى الدنيا ليكون رابع إخوته، ولم تكن قرية (قيطنة - أو غتنا) المغمورة تعرف وهي تستقبل المولود الجديد أنها ستكتسب شهرة ما بعدها شهرة، وستنال شرفا ما بعده شرف إذ هي ترحب بهذا القادم الوليد. لقد بقيت قرية (قيطنة) طويلا وهي نائمة بهدوء، على ضفة وادي الحمام في منطقة (اغريس) بالقرب من (معسكر) إلى الجنوب الشرقي من مدينة وهران. وقد آن لهذه القرية أن تهتز لتستيقط من غفوتها حتى تسير على صفحات التاريخ.
وإذا كانت (قيطنة) مغمورة، فإن قاطنيها لم يكونوا بالمغمورين، فقد سبقتهم شهرتهم فتجاوزت أفق الجزائر بفضل ما عرف عن كبيرها من التقى والورع والحكمة والكرم وأصالة المحتد، لقد كان شيخا كبيرا من شيوخ المرابطين المجاهدين، أولئك الذين اشتهرت بهم أيام الأندلس واشتهروا بها، حتى إذا زالت دولة الأندلس انتقلوا إلى ربوع الغرب العربي الإسلامي ليقيموا بين أهلهم وذويهم وليحملوا معهم راية الجهاد في سبيل الله، وزاد الشيخ شرفا على شرفه انتسابه إلى (الهاشميين) قرابة رسول الله (ص).
كان نبلاء المغرب العربي - الإسلامي خلال تلك الفترة ينتمون إلى فئتين متميزتين: فئة المرابطين وفئة الأجواد. وكانت الفئة الأولى تستمد هيبتها ونفوذها من زعامتها (الدينية) في حين كانت الفئة الثانية تعتمد في وجودها على (السيف). ولم تكن المنافسة معدومة بين الفئتين، فكان المرابطون يتهمون الأجواد بالعنف والتهور وحب النهب، في حين كان الأجواد يتهمون المرابطين بالطموح المقنع، وبالبحث عن النفوذ والسلطة والثروة من خلال العمل للدين وللدين فقط. ولم يكن في هذه الاتهامات ما يعيب الطرفين على كل حال إذ كانت هذه الفضائل بمجموعها قاسما مشتركا أكثر منها فارقا فاصلا، ولو أن الهدف النهائي كان مختلفا، فالمرابطون يعملون لآخرتهم بأكثر مما يعملون لدنياهم، والأجواد يعملون لدنياهم أكثر مما يعملون لأخرتهم.
فتح الوليد عينيه ليتعرف على الدنيا من حوله، فكان أول ما أدركه شدة حدب أبيه عليه وحنوه وهو يحتضنه إليه، وإيثاره على أخوته، ولم يكن في ذلك ما يثير الحياء اوالخوف، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهر وهو (يخاف حتى من ظله). ولعل نعومة تكوينه كانت مصدر مخاوفه فقد خلق جذابا وسيما، يكاد جماله يقترب به إلى الجمال الأنثوي من الجمال الرجولي، له أنف متوسط يبرز من وجهه بشكل رائع لا هو بالأنف الإغريقي ولا هو بالروماني، وإنما هو وسط بينهما، وتحته شفتان منحوتتان بدقة ومضغوطتان قليلا تنمان عن التحفظ المهيب والثقة بالهدف. بينما تشع عيناه الصافيتان العسليتان تحت جبهة عريضة في بياض الرخام مع نعومة مكتومة وحزينة، أو تتالقان بأشعة العبقرية والذكاء.
كان ذلك هو عبد القادر بن محيي الدين - المشهور بالجزائري.
ـ[خريطة]ـ
وأخدت مواهب عبد القادر في التفتح مبكرا، فها هو قد أتقن القراءة والكتابة ولما يتجاوز الخامسة من عمره، وتمكن من قراءة القرآن وأصول الشريعة والحديث وهو في الثانية عشرة من العمر، وأصبح من حفظة القرآن وهو في الرابعة عشرة حيث أرسله والده إلى وهران للدراسة في مدرسة يسيرها (سيدي أحمد خوجمة) غير أن عبد القادر نفر من أسلوب الدراسة بقدر نفوره من حياة وهران فلم يستقر أكثر من سنة ليعود بعدها إلى (قيطنة) حيث كلف (سيدي احمد بن الطاهر قاضي آرزو) بتدريسه واطلاعه على العلوم الحديثة: علم الفلك والحساب والجغرافيا بالإضافة إلى اطلاعه على الشؤون الأوروبية. ولم يجد بعد ذلك ما هو أفضل من الانضمام إلى جماعة رجال الدين وطلاب المعرفة ممن كانوا يلتفون حول والده - محيي الدين - لدراسة العلوم القرآنية. حيث كانت تعطى - مجانا - دروس في الآداب والحقوق والتوحيد. ورافق هذا النضح الفكري نضج جسدي مبكر أيضا، فما كاد يبلغ السابعة عشرة من عمره، حتى اكتملت بنيته المتناسقة (فبلغ طوله خمسة أقدام وخمسة بوصات) وأصبح له صدر عريض ومنكبين قويين، في جسد لا يعرف التعب أو النصب، قادرا على احتمال أشد الصعاب. وبرز في مجال الفروسية، فكان فارسا مهيبا لا يدانيه أحد أو ينافسه، ولم يعد (يجاف من ظله) بعد أن أكد تفوقه المدهش في كل متطلبات الفروسية التي تحتاج العين الثابتة واليد القوية والرجولة الحقة. وها هو يصبح حديث الناس: إنه يلمس كتف فرسه بصدره، ويضع إحدى يديه على ظهر الفرس، ثم يقفز إلى الجانب الآخر، أو أنه يدفع الفرس إلى أكبر سرعة ممكنة، ثم ينزع قدميه من الركاب، ويقف على السرج ويطلق النار على هدفه بدقة عجيبة، وبلمسته الخفيفة الماهرة يثني الفرس العربي المدرب ركبتيه،
أو يمشي مسافات على قائمتيه الخلفيتين بينما تضرب قائمتاه الأماميتان في الهواء. أو يلوح ويقفز بهما كالغزال. أما في ميدان السباق فكان يركب جوادا فاحم السواد يتضاد في لونه مع بياض برنسه، ثم يتقدم إلى الحلبة ببرود ظاهر وضبط كامل للنفس، لينطلق فيسبق منافسيه بمسافات كبيرة تجعله يصل إلى الهدف وحده، وسط هتافات الإعجاب وزغاريد مئات النساء. وكان كساؤه بسيطا غاية البساطة، وليس سوى سلاحه يظهر الزينة. فقد كانت بندقيته التونسية الطويلة مرصعة بالفضة. أما مسدسه فقد كان مرصعا بالجواهر. وكان سيفه الدمشقي مغمدا في غمد من الفضة. وكانت متعته في ممارسة هوايته المفضلة (الصيد). وأتقن صيد الباز والغزال والنعامة والخنزير البري والنمر. ولم يكن في رحلة الصيد يميل إلى تلك التظاهرات الفخمة التي كان يتعمدها (الأجواد) فكان يكتفى بمرافقة خادمين أو ثلاثة ويتوغل في أعماق الغابة بحثا عن صيده المفضل (الخنزير البري) حتى إذا ما حقق هدفه، عاد من رحلته الرياضية ليعزل نفسه للدراسة بحيوية متجددة، وللتفرغ للعبادة. واشتهر بقدرته (على النوم خلال أسابيع والتعرض للصدام، وندرة أغماد سيفه - فكان عرشه قائما على سرج جواده) ولم يكن ذلك إلا نتيجة لتلك المواهب الفطرية التي صقلتها المكتسبات الفكرية والجسدية.
وتزوج عبد القادر وهو لا يزال يافعا، التزاما بالحديث الشريف (من استطاع منكم الباءة فليتزح فإنه أحصن للفرج) وكانت زوجته (لالة خيرة) بنت عمه سيدي على بوطالب. وكان على هذه الزوجة الفاصلة أن تحتمل مع زوجها مشاق الرحلة الطويلة - رحلة العمر في الجهاد.
بلغ محيي الدين والد عبد القادر الخمسين من عمره، فأراد أداء
فريضة الحج، واتخذت استعدادات كبيرة للحدث الهام، ورغب الكثيرون في مرافقة الشيخ المرابط للحج، وفي طليعتهم أبناؤه وحاشيته. وقرر (محيي الدين) الخروج وحده تخلصا من الموقف الحرج، غير أنه عاد فعدل عن قراره، وأعلن أن (عبد القادر) هو الوحيد الذي سيرافقه، ورضخ الجميع لهذه الإرادة وقلوبهم يغمرها الحزن. وغادر الأب والإبن قريتهما (قيطنة) في تشرين الأول - أكتوبر - 1823. وما أن انتشرت أخبار عزم (محيي الدين) على الحج حتى ترددت في كل أنحاء وهران صيحة (إلى الحج .. إلى الحج) وأقبل الآلاف من كل الجهات وهم يحملون خيامهم ومتاعهم، وتجمع الركب الكبير على ضفة نهر جديوية في (سهل شلف) وأرعبت هذه التظاهرة حاكم (وهران). فأرسل إلى (محيي الدين) يستدعيه لمقابلته. وامتثل (محيي الدين) فتوجه مع (ابنه عبد القادر) إلى وهران،
وكانت المقابلة ودية، غير أن حاكم وهران ألزم ضيفيه (محيي الدين وابنه) بالبقاء في وهران بما يشبه الإقامة الإجبارية، حتى إذا ما مضت سنتان، وعرف حاكم وهران أن مخاوفه لا تستند إلى أي أساس مقبول، علاوة على ما كانت تثيره عملية (الاحتجاز) من ردود الفعل السيئة التي وصلت إلى (ديوان الباشا) وحتى إلى (منزله) حيث وقفت أم الداي وزوجته ضد هذا الإجراء التعسفي، فقرر الداي السماح (للمحتجزين) باستئناف رحلة الحج. وعندها قرر (محيي الدين) عدم العودة إلى (قيطنة) مرة أخرى لوداع أسرته حتى لا تتكرر قصة (الحشد المرعب) فغادر وهران بسرعة في تشرين الثاني - نوفمبر - 1825. ووصل ومعه عبد القادر إلى تونس مارين (بالمدية وقسنطينة) وهناك انضما إلى قافلة تضم ألفي حاج، ركبوا جميعا البحر إلى الإسكندرية. وكانت هذه الرحلة مثيرة جدا للشاب عبد القادر الذي أخذ في
التقسيم الإداري لإقليم الجزائر سنة 1830م
الاطلاع على (عالم جديد) لا سيما عندما توجه من الإسكندرية إلى القاهرة، حيث رأى عبد القادر للمرة الأولى والأخيرة محمد علي باشا حاكم مصر الذي طبقت شهرته الآفاق، وأخذ يتأمل طويلا في هذا الجندي الناجح الذي عرف بكفاءته الإدارية التي كانت تنافس كفاءته العسكرية. وأكمل محيي الدين مع ابنه رحلة الحج، فكانت متعة روحية لا توصف وبعد أداء مناسك الحج في مكة المكرمة والمدينة المنورة، انفصلا عن الحجيج ويمما شطر دمشق، ليقضيا معظم وقتهما في التردد على الجامع الأموي الكبير، وليفيدا من هذه المناسبة لقراءة الحديث وتدارسه مع الشيخ عبد الرحمن الكزبري. وكان لا بد لهما وهما في دمشق من إكمال الرحلة بزيارة قبر الصالح (عبد القادر الجيلاني - حارس الجزائر) فتوجها إلى بغداد عن طريق تدمر ووصلاها بعد ثلاثين يوما. ولما كانا من عائلة شهيرة بالهدايا الثمينة التي تقدم بها كثير من أعضائها إلى قبر الصالح الجيلاني، فإنهما لقيا استقبالا حارا كريما من قاضي المدينة (السيد محمد الزكريا) الذي كان ينحدر بدوره أيضا من الولي الصالح الجيلاني، وقدم (محيي الدين) كيسا من الذهب، على ما جرت به عادة المرابطين تجاه إحياء ذكرى هذا الرجل الصالح الذي لا يشك أحد من المرابطين بكراماته (1). وبعد إقامة في بغداد لمدة ثلاثة أشهر، ارتحل محيي الدين وابنه عبد القادر في طريق
(1) اشتهر الصالح (عبد القادر الجيلاني) بجهاده في القرن الثاني عشر، وكان له مقامات أثرية - تذكارية - في معظم بلاد المشرق، وقد نسجت حكايات كثيرة عن كراماته. ويذكر أن (مصطفى بن المختار) جد عبد القادر، قد زار أكثر من مرة ضريح (عبد القادر الجيلاني) وأجازه الشيخ مرتضى الزبيدي، وهو الذي أنشأ قرية (قيطنة - أو غتنا) ونشر الطريقة القادرية في الغرب الجزائري، ومات أثناء عودته من الحج، ودفن في (عين غزالة) قرب (برقة) بليبيا سنة 1212هـ وأثناء عودة محيي الدين وولده من الحج بالبر توقفا لزيارة قبره.
العودة، وقد نفذت مواردهما، فكان لا بد لهما من إكمال الرحلة على نفقة
إخوانهم المسلمين، الحجاج مثلهما والذين كانوا عائدين من أداء الفريضة، وانتهت الرحلة بالوصول إلى (قيطنة) بعد غياب استمر أكثر من سنتين وكان ذلك في بداية سنة 1828 م. وعرفت (قيطنة) احتفالات وولائم لم تشهدها من قبل فقد توافد كل عرب وهران ووفود ثمثل القبائل الصحروية بزيارة (سيد بني هاشم) وتهنئته بالحج والعودة بالسلامة. ولم يعد الهدوء إلى (قطنة وادي الحمام) إلا بعد فترة طويلة.
كان لهذه الرحلة الروحية أثرها العميق في أعماق نفس (الشاب عبد القادر) الذي أخذ في الاعتزال عن الناس، والانصراف إلى العبادة، وقضاء الوقت في الرياضات العقلية التي تضمها مؤلفات القدماء أمثال أفلاطون وفيثاغورس وأرسطو، علاوة على مؤلفات كبار المشاهير من أعلام المسلمين والتي شملت علوم التاريخ الإسلامي والفلسفة واللغة والفلك والجغرافيا والطب فتكونت لديه خلال هذه الفترة مكتبة ضخمة كانت هي ثروته الدنيوية، وقد استمرات هذه الهواية في مرافقته طوال حياته.
اقتحمت جحافل الغزو الإفرنسي الاسعماري مدينة (الجزائر المحروسة) يوم 5 تموز (يوليو) 1830 واستقبل المجاهدون هذا الحدث بثبات، دون أن يداخل نفوسهم أي شعور بالخوف أو القلق، فقد ارتفعت رايات الغزاة الإسبانيين من قبل فوق معظم المدن الساحلية، غير أنها لم تلبث أن سقطت ممرغة بالوحل، وتعرضت مدن الجزائر لإغارات بحرية كثيرة، دحرت كلها وتراجعت، وظن رجال القبائل، وأبناء المدن الداخلية للوهلة الأولى أن القضية لن تكون أكثر من قضية غزو عابرة، أو
أنها في أسوأ الأحوال، لن تتجاوز حدود الصراع مع جهاز الحكم (التركي العثماني). غير أن النوايا الإفرنسية تكشفت بسرعة، عندما أخذت الإدارة الاستعمارية في التطلع إلى ما وراء المدن الساحلية، وزاد الأمر سوءا بما أقدمت عليه جحافل الغزو من (أعمال إبادة وحشية). وبدأت الغشاوة في السقوط عن أبصار أولئك الذين تعاونوا في بداية الأمر مع السلطات الاستعمارية أو حتى هادنوها. ولم تلبث قوات المرابطين وقياداتها أن رفعت (راية الجهاد في سبيل الله) وكان ذلك بداية تطوير الصراع المسلح.
رافق الغزو الإفرنسي انتشار موجة من الفوضى والاضطراب وانقطاع حبل الأمن، وتشردت جموع المسلمين الذين كانوا يسكنون المدن الساحلية وهربوا بدينم وعائلاتهم نحو الداخل وقد سيطر عليهم الذعر واليأس. وزاد من بؤسهم تعرضهم لقطاع الطرق الذين أخذوا في نهب هؤلاء المشردين والتعرض لهم دونما شفقة أو رحمة. ولم يكن باستطاعة شيخ المرابطين (محيي الدين) البقاء في عزلته وتجاهل المأساة التي نزلت بالمسلمين. فأرسل أولاده مع حامية قوية للتجول في السهل وحماية المشردين المنكوبين، وتقديم الدعم لهم، وحملهم إلى أماكن مأمونة لا تصل إليها عصابات اللصوص وقطاع الطرق. غير أن عملية الإنقاذ هذه كانت دون المستوى المطلوب في تلك الفترة الحرجة لا سيما وقد ظهرت الثارات المدفونة بين رجال القبائل، في المدن والقرى، فبات من الضروري إخضاع البلاد لسلطة قوية تحركها يد واحدة. وعقد المرابطون مشاورات طويلة لدراسة الموقف، فاتفقت كلمتهم على اللجوء إلى (محيي الدين) واستشارته في أنجح وسيلة لعلاج الأزمة. وعندما اجتمع المرابطون، خاطبهم محيي الدين ناصحا بالعبارات التالية: (منذ عدة شهور وأنا أحاول كما تعلمون جيدا،
المحافظة على درجة من النظام وسط الفوضى العامة التي تسود الآن.
ولكن أقصى الجهود التي بذلتها لم تفلح في إنقاذ أكثر من عدد قليل من الضعفاء والمشردين وحمايتهم من أيدي أناس قساة غلاط. إن طغيان الأتراك قد كبح طاقاتنا وأوهنها، ولكن إذا استمرت الأمور على ما هي عليه الآن، فإنها ستحطم كل طاقاتنا تحطيما. فأواصر المجتمع تنحل، ورفع كل فرد يده في وجه جار5. وأرضى شعبنا العنان لغرائزه الرذيلة بعد أن أصبح يستهتر يوميا بقوانين الله والإنسان. وفي نفس الوقت، فإن النكبات التي تهددنا من الخارج لا تقل خطرا عن ذلك الذي ينهشنا من الداخل. فهل سنستنجد بالإفرنسيين؟ إن ذلك غير ممكن. وأن الاستسلام إليهم يعتبر خيانة لواجبنا نحو إلهنا ووطننا وعقيدتنا فما بالكم بالاستنجاد بهم؟. ولكن الإفرنسيين أمة محاربة، قوية العدد، واضحة الغنى، تشتعل حبا في الاحتلال، وماذا لدينا نحن من قوة نصدهم بها؟ إن القبائل على خلاف مع بعضها. وزعماء البلاد شرهون يتآمرون ضد بعضهم، ولا يصارعون إلا من أجل الثروة الشخصية. أما الدهماء التي رمت عنها كل قناع فبعضها قد أغنى نفسه بالنهب، وبعضها الآخر لا يكاد يجد قوت يومه. فالطرفان غير متعادلين. وأمام هذه الحالة، فحتى تصور نجاح المعركة مع الكفار يعتبر حماقة. أما محاولة المعركة نفسها فهو جنون.
لا، إن الملك الإفرنسي قويا، ولا يمكن أن يواجهه بفاعلية إلا ملك مثله، على رأس دولة محكمة النظام، يملك خزانة ضخمة، ويقود جيشا تام الانضباط. وليس هناك حاجة إلى أن نذهب بعيدا للبحث عن هذا الملك. إن سلطان المغرب قد عبر عن عاطفته نحونا، ويجب أن يعرف أن الخطر الخارجي الذي يهددنا نحن اليوم قد يهدده هو غدا. إن حضوره بيننا سيشجع ويدعم حالا الخير، ويصرف
الشر. وبفضل ذلك، سيقوى النظام. وإذا حاربنا تحت لوائه، فتقدم نحو انتصار مؤكد).
وتوجهت بعثة جزائرية نحو (فاس) وهي تضم عشرة أفراد من كبار شيوخ المرابطين وأكثرهم نفوذا وتأثيرا. ومضت ستة أشهر قبل أن يعلن سلطان فاس عن موافقته على ما طلبه إليه شيوخ المرابطين. ووجه جيشا بقيادة ابنه (علي) ومعه (5) آلاف فارس ومدفعي ميدان وعسكر هذا الجيش في تلمسان (الواقعة في إقليم وهران). وأسرعت القبائل فأعلنت ولاءها لسلطان المغرب. وأخذت المقاومة في التعاظم، وأدركت الحكومة الإفرنسية ما يتهدد مشاريعها من خطر، فوجهت تهديدها إلى سلطان المغرب الذي أظهر خضوعه للتهديد فأمر (ابنه علي) بالانسحاب إلى ما وراء الحدود المغربية. واجتمع شيوخ المرابطين، وقرروا إسناد منصب السلطان على (محيي الدين) وتوجهوا في جماعة منهم إلى (قيطنة). غير أن (محيي الدين) رفض العرض بتواضع، وأوصى بتوجيه نداء جديد إلى المغرب. وفشلت هذه المحاولة بإقناع (سلطان المغرب) بتحمل مسؤوليته التاريخية. واتجهت الأنظار مرة أخرى نحر (محيي الدين) الذي لم يتمكن من رفض طلبات شيوخ العرب فقال لهم:(إنني لا أصلح أن أقوم بواجبات سلطان العرب. ولكنني سأقوم بما يحتمه علي الدين. وسأذهب معكم إلى الجهاد). وكان العرب قد بذلوا محاولات متعددة لاستعادة وهران التي احتلتها قوات الإفرنسيين. فقام محيي الدين بدخول المعركة تحت قيادة ابنه عبد القادر.
كانت قد مضت فترة على العرب وهم يحاصرون (وهران) ويركزون جهدهم بصورة خاصة على (قلعة فيليب) الواقعة إلى جنوب المدينة، غير أن هذه الإغارات لم تؤد إلى نتيجة تذكر، فقرر (عبد
القادر) تنفيذ عملية ضد هذه القلعة ووضع الخطة وأشرف على تنفيذها، فقاد قواته من المشاة والفرسان حتى وصل بها إلى أسفل القلعة ذاتها، وزج بجنود المشاة في الخنادق وكلفهم بمناوشة الحامية الإفرنسية المدافعة عن القلعة. ثم قاد قوة الفرسان ووضعها في موقع مناسب يتحكم بالطريق المؤدي إلى القلعة، وذلك لعزلها، ومنع أي تسلل قد يقوم به العدو. وكانت الكثافة النارية لأسلحة الإفرنسيين وقذائفهم كبيرة إلى درجة كافية لتمزيق أفضل الجيوش انضباطا وتدريبا. غير أن عبد القادر استطاع إثارة حماسة المجاهدين وهو يتجول بينهم، ويوجههم، وأمكن له بذلك التغلب على الصدمة النارية. وأثناء ذلك، نفدت ذخيرة المجاهدين في الخنادق - المشاة - وأحجم كل فرد عن التحرك لجلب الذخيرة. وشاهد ذلك (عبد القادر) فصاح بهم:(أيها الجبناء! أعطوني الخرطوش) ووضع الظروف في جناحي برنسه، وركب فرسه وعبر السهل كالسهم حتى وصل القلعة، فرمى بالخرطوش في الخندق. وحث رجاله على الثبات والاستمرار في الرمي. وعاد بدون أن يمسه أي أذى. وأحاطت (بعبد القادر) مناسبات كثيرة مليئة بالخطورة والمبادرة. استعمل فيها سيفه البكر للدفاع عن نفسه. وأدت شجاعته وفروسيته لا إلى الثناء عليه فقط، بل إلى الإعجاب المنقطع النظير به. وأخذ العرب ينظرون إليه بإكبار، ويحيطونه بهالة من التكريم، بعد أن أخذت شخصيته الوسيمة تندمج بشخصيته الشجاعة عندما كان يتقدم الصفوف دونما خوف من أذى، ليقتحم مواطن الخطر، فهو مرة يمر كالسهم من صفوف الرماة الأعداء. ومرة يطلق النار ويكتسح حربات البنادق بسيفه، وأخرى يقف بثبات عجيب والقنابل تتفجر من حوله وتحت قدميه. وأفادت العرب من هذه التجربة القتالية قدر إفادتها من تجاربها السابقة،
فعرفت أن هذا الهجوم المفكك ليس حربا. وأن كل جهودهم وتضحياتهم لن تكون مثمرة إلا إذا وجهتها إرادة واحدة تحت قيادة قائد مسؤول. وعقد مؤتمر كبير في مدينة (معسكر). ودعي (محيي الدين) الذي كان قد توجه إلى (قيطنة) لقضاء فترة قصيرة من الراحة، لحضور هذا الاجتماع. فلبى الدعوة وما كاد يصل ويترجل حتى تجمهر من حوله شيوخ المجاهدين وارتفعت الأصوات من كل مكان:(إلى متى يا محيي الدين ونحن بلا قائد؟ إلى متى وأنت واقف متفرج على حيرتنا؟ أنت يا من يكفي اسمه فقط أن يجمع كل القلوب لتشجيع القانط وردع الخبيث، وتدعيم وتماسك القضية المشتركة؟ لقد سقط أفضل فرساننا غما وفرقا؟ واستل شيوخ المرابطين سيوفهم ونادوه (اختر بين أن تكون سلطاننا أو أن تموت الآن ..).
كان الموقف مثيرا، غير أن شيخ المرابطين جابهه بثبات، فوقف يخاطب زعماء المرابطين بقوله:(تعرفون جميعكم أني رجل عبادة وتقوى. ويتطلب الحكم استخدام القوة والعنف وحتى سفك الدماء. ولكن ما دمتم تصرون على أن أكون سلطانكم فإني أقبل، ولكن أتنازل عن ذلك لصالح ابني عبد القادر). واستقبل الحضور هذا الحل المباغت بالموافقة. فقد كان عبد القادر معروفا لديهم. وتوجه فارس إلى (قيطنة) لإحضاره. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، الموافق 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1832 م. دخل عبد القادر مدينة (معسكر). وقد غصت كل الشوارع والطرق المؤدية إلى المدينة بجموع المسلمين. وكان الرجال والنساء والأطفال يتبادلون التهاني في مظاهرة ترحيب بهجة بسلطانهم الجديد. وبعد إدخاله إلى (الرحبة) حيث كان المجلس منعقدا، أعلم عبد القادر بكل ما حدث. وفي هدوء، ودونما زهو، أجاب عبد القادر: (أن من واجبي
إطاعة أوامر والدي - أنا لها، أنا لها) وانفجرت حماسة الناس وصاحوا بصوت واحد:(الحياة والنصر لسلطاننا عبد القادر). وجلس السلطان الشاب للناس يتقبل بيعتهم، وكان أبوه أول من بايعه ولقبه (بناصر الدين). وعندما أزفت صلاة الظهر قام بالناس إماما، ثم خطب فيهم، وشرح لهم الأخطار المحيطة بهم، وما كاد ينهي حديثه حتى ارتفعت صيحات (الجهاد - الجهاد)(لبيك عبد القادر، فكلنا رهن إشارتك).
ذهب عبد القادر في اليوم التالي (22 تشرين الثاني - نوفمبر) إلى وادي خصيبية الذي يبعد مسافة عشر دقائق عن (معسكر). حيث كان في انتظاره عشرة آلاف فارس عربي لاستقباله والترحيب به. وكانوا قد اصطفوا على شكل هلال، بحسب قبائلهم، حول خيمة ضخمة أقيمت وسط السهل. وكان جميع أهالي معسكر قد تجمعوا أيضا في المنطقة. وفي اللحظة التي بدأت فيها أشعة الشمس المائلة تنبسط على جبل (مسمط)، ظهر مركب عبد القادر. تتقدمه كوكبة من الفرسان حاملي (راية الجهاد) ثم تبع ذلك رؤساء بني عامر وبني مجاهر وبني يعقوب وبني عباس على صهوات خيولهم المندفعة، وهم يحملون سيوفهم اللامعة. ثم ظهر عبد القادر وهو يغطي كتفيه ببرنسه الأحمر، وممتطيا جواده الأسود، وكان رؤساء بني هاشم (قبيلته) يسيرون في مؤخرة الموكب العظيم. وعندما وصل عبد القادر إلى (الخيمة) ترجل، واختفى عن الأنظار دقائق قليلة، ثم خرج وأبوه محيي الدين يمسك بيده ليقدمه إلى الشعب:(انظروا - هذا هو السلطان الذي أعلنته النبوءة! هذا هو ابن الزهراء! أطيعوه كما لو كنتم تطيعوني! فليحفظ الله السلطان) وردد الناس: حياتنا وأملاكنا وكل ما عندنا له، لن نطيع قانونا غير قانون سلطاننا عبد القادر وأجاب عبد القادر: وأنا
بدوري لن آخذ بقانون غير القرآن، لن يكون مرشدي غير تعاليم القرآن، والقرآن وحده. فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات. وانطلق (عبد القادر) ليستعرض القوات، وليقف بين فترة وأخرى ليردد على مسامع الجميع أهداف العهد الجديد:(الجهاد الجهاد! لا حرية ولا استقلال إلا بالجهاد! الجنة تحت ظلال السيوف! هلموا جميعا إلى راية الجهاد).
عاد (عبد القادر) إلى (معسكر) بعد نهار شاق كان أشبه (بعرس المجد) وما كاد يستريح قليلا حتى استدعى (كتابه) وأملى عليهم أول بيان له، هو التالي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. إلى القبائل، وخصوصا نبلائها وشيوخها وأعيانها وعلمائها. هداكم الله وأرشدكم ووجهكم إلى سواء السبيل، وجعل النجاح حليف أعمالكم ومسعاكم. وبعد: إن أهالي معسكر، وأهالي شرق غريس وغربها، وجيرانهم وحلفاءهم بني شقران والبرجيين وبني عباس واليعقوبيين وبني عامر وبني مجاهر وغيرهم قد وافقوا بالإجماع على تعييني، وبناء عليه انتخبوني لإدارة حكومة بلادنا. وقد تعهدوا أن يطيعوني في السراء والضراء، وفي الرخاء والشدة، وأن يقدموا حياتهم
وحياة أبنائهم وأملاكهم فداء للقضية المقدسة. ومن أجل ذلك، إذن، تولينا هذه المسؤولية الصعبة - على كره شديد - آملين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين، ومنع الفرقة بينهم، وتوفير الأمن العام إلى كل أهالي البلاد، ووقف كل الأعمال غير الشرعية التي يقوم بها الفوضويون ضد المسلمين. وصد العدو الذي اعتدى على بلادنا حتى يتم طرده، وحتى لا يتمكن من أن يغل
أعناقنا بقيوده. ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات المطلقة، أن عليهم دائما واجب الطاعة. في كل أعمالهم، إلتزاما بنصوص كتاب الله وتعاليمه، وإلى الحكم بالعدل في مختلف مناطقهم، والأخذ بسنة النبي (ص) في المساواة بين القوي والضعيف، الفقير والغني دونما محاباة، وقد قبلوا بهذا الشرط.
لذلك! ندعوكم إلى المشاركة في هذا العهد والعقد، بيننا وبينكم، سارعوا لإعلان الولاء والطاعة. وجزاؤكم على الله في الدنيا والآخرة. إن هدفي الأساسي هو الإصلاح. وعمل الخير ما دمت حيا. إن ثقتي في الله، ومنه وحده أرجو التوفيق والنجاح).
بأمر من المدافع عن الدين، صاحب السيادة علينا، أمير المؤمنين عبد القادر محيي الدين - نصره الله - آمين.
حرر في مدينة معسكر 22 تشرين الثاني - نوفمبر - 1852 م.
لقد تحققت النبوءة، وأصبح الحاج عبد القادر سلطانا بايعته الجزائر بسيوفها وقلوبها. وأغمض (عبد القادر) عينيه وتذكر زيارته لضريح (عبد القادر الجيلاني) في بغداد. ففي تلك الفترة، حلم (محيي الدين) بأن (ملاكا وضع مفتاحا في يده، وأخبره أن يسرع بالعودة إلى وهران. وعندما سأله عما يفعله بهذا المفتاح أجابه الملاك: أن الله سيوجهك) وفسر محيي الدين هذا الحلم بأنه كرامة من كرامات الصالح (عبد القادر الجيلاني) اختصه بها لتولي وهران وتكررت مثل هذه الشواهد الغامضة التي تشير إلى أن (عبد القادر بن محيي الدين) سيصبح ذا شأن في قومه. ولم تمض فترة حتى سرت نبوءة غربي البلاد بأن شابا عربيا سيصبح سلطانا ويقيم العدالة بين الناس.
وعرف عبد القادر أن ما وصل إليه اليوم إن هو إلا نتيجة ما توافر له من الأصالة التي لم ينكرها أو يتنكر لها، فحددها بقوله:
(إنني عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار ابن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن يوسف بن أحمد بن شعبان بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن فاطمة بنت محمد رسول الله وزوجة علي بن أبي طالب عم الرسول. كان أجدادنا يقطنون المدينة المنورة، وأول من هاجر إليها هو إدريس الأكبر الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب، وهو الذي بنى (فاس). وبعد أن كثر نسله، توزعت ذريته، ومنذ عهد جدي فقط، قدمت عائلتنا لتستقر في (اغريس) قريبا من (معسكر) وأجدادي مشهورون في الكتب والتاريخ بعلمهم واحترامهم وطاعتهم لله) (1).
ولكن، ومع معرفة (الأمير عبد القادر) لهذه الحقيقة التي يحق له أن يفتخر بها ويفاخر، فقد أدرك أن ما وصل إليه، يتطلب منه العمل والجهد، حتى يكون جديرا بشرف الأجداد، وها هو يقول:
(لا تسألوا ابدا ما هو أصل الإنسان وفصله، بل اسألوا حياته، وأعماله وشجاعته ومزاياه، وعندئذ تدركون من يكون).
فالعمل هو الذي يشهد على قيمة الرجل، وها هو رجل الموقف ينطلق للعمل.
(1) الأمير عبد القادر - سلسلة الفن والثقافة - وزارة الأعلام والثقافة - الجزائر 1974 ص (10).