الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
الصراع المرير على تلمسان
(1836)
كبرت الهزيمة على (كلوزول) إذ رأى أن هجومه على (معسكر) ما زاد الأمير إلا قوة وعنادا. ففكر في وسيلة تخرجه من المأزق الذي يجابهه، فكلف (بوشناق) الذي أصبح قائدا لفرنسا على (مستغانم) بالتوجه إلى دار الإمارة (بمعسكر) ليشاغل الأمير. وخرج هذا العميل إلى المكان الذي يعرف باسم (البطحة) ووقعت بينه وبين جيوش المسلمين وقائع عديدة. ولو لم يتنبه (بوشناق) في الوقت المناسب إلى فتح أفواه نهر (هبرة) لفصل قواته عن جيوش المسلمين، لكانت هذه الجيوش قد دمرت قواته تدميرا كاملا. وعادت هذه القوات بفلول ممزقة لتضيف إلى هزيمة (كلوزول) هزيمة جديدة. وتابع الأمير عبد القادر بعد ذلك تقدمه للالتقاء مع عدوه (كلوزول) وكان أول ما قام به الأمير هو الهجوم على (قوة الزمالة) التي باتت متحالفة مع الإفرنسيين، فقتل قائد هذه القوة، وتمزق أفرادها، ولم ينج من الإبادة إلا الذين فروا في الشعاب تاركين أموالهم وراءهم بحيث أن الأمير كلف فرقة كاملة من جنده لحمل الغنائم وتسليمها إلى دار الإمارة. وبينما هو سائر إلى تلمسان بلغه أن قبيلة (أنجاد، أو أنكاد) تحاول إرسال دعم إلى مصطفى بن إسماعيل قرب تلمسان، وفي الوقت ذاته، خرج هذا
المتمرد (ابن إسماعيل) من تلمسان ومعه أنصاره للقاء الأمير. غير أنهم لم يصمدوا لضربات للأمير، الذي أمكن له من أن ينتصر أولا على (مصطفى بن إسماعيل) الذي تمزقت قواته، ورجعت بفلولها إلى تلمسان تاركة فوق أرض المعركة مئات القتلى وآلاف الجرحى. أما قبيلة (أنجاد) فلم تتمكن من مجابهة الأمير، بل فرت منذ بداية النهار، تاركة وراءها كل ما تملك حتى أنها سلمت في حريمها وأولادها، وجرح قائد قبيلة أنجاد المعروف باسم (عبد الله غماري).
تبين للجنرال (كلوزول) أن كل آماله قد تدهورت، غير أنه حاول التكتم على هزائمه فأرسل تقريرا إلى حكومته (أشاد فيه ببطولة جيشه التي حققت له النصر على الأمير، والاستيلاء على دار الإمارة بعد معارك طويلة) إلا أن الحكومة تلقت تقارير مناقضة من عناصر استخباراتها تفيد: (بأن القوات الإفرنسية قد دخلت دار الإمارة، دون أن يكون الأمير فيها، أو يجدوا من يقاومهم، وفي اعتقادهم أن عدم مجابهة الأمير للإفرنسيين كانت خطة عسكرية والدليل على ذلك، أن الأمير اتخذ من استيلاء الإفرنسيين على معسكر حجة للفتك بالقوات الإفرنسية وتدمير القبائل المؤيدة لها - وعلى كل حال، فإن كلوزول ليس بالرجل الذي يمكن له أن يكون كفوءا للأمير، وأن ما يرسمه كلوزول من الخطط لم ولن يحدي نفعا).
وكتبت وزارة الدفاع الإفرنسية إلى كلوزول رسالة جاء فيها:
(بان هناك شائعات تقول بخلاف ما تدعيه أنت في تقاريرك، وعليك أن تكون صريحا مع وزارة الدفاع حتى تتمكن من معالجة المشكلات بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة في الجزائر). وأمام هذا الموقف، أعاد (كلوزول) تقدير موقفه، فوجد نفسه أمام مأزق لا يخرجه منه إلا استيلاؤه على تلمسان، فنظم قوة من (8) آلاف جندي، وتوجه بها
إلى هدفه وبلغ الأمير ذلك، فاتخذ نفس الخطة التي نفذها في (معسكر) وأمر السكان بمغادرة المدينة. وجاء الإفرنسيون، وعندما علم (مصطفى بن إسماعيل) باقترابهم خرج هو وأنصاره، وفتحوا لهم أبواب القلعة، ولم يدخل الإفرنسيون إلا بعد دفاع مستميت، حيث وقف جند الأمير سدا في وجوههم. ولما لم تسفر المعركة عن نتيجة، توقفت قوات (كلوزول) غير أن القبائل التي خرجت من تلمسان استجابة لأمر الأمير، عادت الآن فانضمت إلى الإفرنسيين. ولم يبق أمام الأمير إلا الانسحاب بقواته إلى مدينة وجدة (على الحدود المغربية) ودخل كلوزول تلمسان يوم 13 كانون الثاني (يناير) 1836 م. وقد تقدم ابن إسماعيل والكراغلة، متبوعين بجميع اليهود لاستقبال الحاكم العام، ومجلس قيادته، رافعين إليه أسمى آيات الولاء والإسلام، داعين إياه (بمنقذهم، وولي أمرهم). أما كلوزول، فقد طلب منهم (100) ألف فرنك كعربون على إخلاصهم. وحاول أولئك المنخدعون المندهشون أن يقنعوه بعجزهم عن جمع مثل هذا المبلغ، ولكن بدون جدوى، لأن كلوزول كان لا يرحم، واستخدم الضغط الشديد والتهديد بل وحتى الضرب، وأدى ذلك إلى أن يبيع الرجل لباسه وفراشه حتى يؤدي ما افترض عليه، وأن تبيع المرأة ثيابها ومصوغها حتى تجمع المبلغ، جزء منه نقدا والجزء الآخر من الماس والجواهر وقد أدى ذلك إلى ظهور نقمة عارمة، مما أدى إلى انتشار مقولات مختلفة على الألسنة منها المقولة الساخرة التالية:(ما أعظم قادتنا، إنهم يطالبون القبائل الجزائرية بالانضمام إليهم، حتى إذا ما استجابت هذه القبائل لهم، فرضوا عليها الغرامات القاسية لتمويل خزينتهم) أما الأمير عبد القادر فقال: (إذا كانت تلك هي معاملة الإفرنسيين لأصدقائهم، فماذا عسى أن يتوقع منهم أعداؤهم).
وشاع خارج المدينة، وذاع، أن يهوديا قد ترأس محكمة حاكمت (الكراغلة المسلمين) وعاقبتهم، فزادت نقمة العرب بذلك، أن هذا الانتهاك لحرمات المسلمين لم يسمع به أبدا من قبل. وكان من نتيجته أن عاد (الأنجاد) للاتصال بالأمير عبد القادر. كما أرسل إليه (الكراغلة) بصورة سرية من يعلمه بأنهم ينتظرون بفارغ الصبر رحيل الإفرنسيين لتسليمه القلعة. غير أن (كلوزول) لم يكن يرغب بالرحيل عن المدينة، وكان هدفه هو إقامة اتصال مباشر بين تلمسان، والساحل. وكان فم (تافنة) هو أقرب نقطة صالحة لهذا الغرض. غير أن المسافة الواقعة في الوسط هي منطقة جبلية. وقرر أن يحقق هدفه يوم 23 كانون الثاني - يناير - فوجد نفسه وجها لوجه أمام عبد القادر الذي كان يقود جيشه. وبدأت على الفور المعركة التي استمرت عشرة أيام أظهر فيها العرب شوقهم للموت انتقاما لهزيمتهم السابقة، وقاتلوا بعناد وتصميم لا يمكن وصغهما. وكان الأمير عبد القادر طوال هذه الاشتباكات يتجنب الدخول في معركة تصادمية - جبهية - مع قوات الإفرنسيين، مكتفيا بالسيطرة على النقاط ذات الأهمية الاستراتيجية. فنشر قواته على الهضاب وفي الوهاد وعند الأنهار. واصطدمت القوات الإفرنسية بعقبتين: أولاهما عدم قدرتها على مجابهة هذا النوع من أساليب (الحروب الثوروية) وثانيتهما: عدم معرفتها للأرض على مسرح العمليات. ونتج عن ذلك أن انهزم كلوزول، وتقهقر إلى تلمسان، مخلفا وراءه خسائر فادحة. ثم لم يلبث أن ترك حامية في قلعة تلمسان بقيادة نائبه (كافينياك) ومضى في رحلة مثيرة في اتجاه (وهران) حيث كانت قوات الأمير عبد القادر تطارده حتى أبوابها، وقد وصفت المصادر الإفرنسية هذه الرحلة المثيرة بما يلي: (خرج الماريشال كلوزول بجنوده من تلمسان، راجعا إلى وهران،
فصادف في طريقه أهوالا جمة، وتعرض لمصائب شديدة، منها هزائم جنده، وتشتيت شملهم بوادي عشبة) (وقد عدل كلوزول عن طريقه الذي جاء منه، وسلك طريق الساحل إلى مرسى (رشقون) فوصله على أسوأ حال، ذلك أن
الأمير أخذ بمخنقه وحاصره مدة شهرين كاملين، لا يخلو يوم منها دون قتال، ثم لما أعياه الأمر، وضاقت به الحيلة، بعث صريخه إلى نائبه في وهران، الذي أرسل إليه المراكب، فركبها بجيوشه، وحمل ما أمكنه من ذخائر ولحق بوهران). وفي وهران، توقف كلوزول فترة قصيرة، عين فيها الجنرال (دارلنح) قائدا على وهران، والجنرال (بهاراجوا) على الجند ومضى هو إلى الجزائر. وعندما وصلها، حاول التستر من جديد على (مغامراته الفاشلة)، فأصدر بيانا أعلن فيه (أن الحرب ستنتهي، وأن عبد القادر قد ضرب ضربات قاصية، وأنه دحر، وأنه فر إلى الصحراء). ثم سافر الماريشال كلوزول إلى فرنسا في شهر (نيسان - أبريل) تاركا وراءه تعليمات إلى (دارلنج) في وهران، بإقامة معسكر حصين على نهر (تافنة) استعدادا لفتح خط الاتصال مع تلمسان من هناك.
خلال هذه الفترة تسرب (كافينياك)(1) إلى (بريغو)(2) حيث القبائل النازلة في وادي الشلف. والمعروف أن هذه القبائل قد
(1) كافينياك: (LOUIS EUGENE CAVAIGNAC) الابن الثاني (لجان بابتيست كافينياك) وهو - أي لويس - من مواليد باريس (1802 - 1857)، خدم في الجزائر، ثم أصبح حاكما لها، وعين رئيسا للهيئة التنفيذية - سنة 1848، فقضى على ثورة حزيران. غير أنه فشل في فرض مرشحيه لرئاسة الجمهورية ضد لويس نابليون.
(2)
بريغو: (PERREGAUX) هي مقاطعة في إقليم وهران. في وادي نهر (هبرة) وتقع عند تقاطع الخطوط الحديدية (الجزائر - وهران) مع تلك الواصلة بين (وهران وكولومب بيشار).
استمرت بتأثير من رؤسائها أبناء (سيدي العريبي) في التأرجح بين الولاء للأمير عبد القادر، وبين العمل ضده، وذلك على الرغم من العقوبات التي نزلت بها، وها هي الآن تمتنع عن دفع الضرائب، بعد أن رفضت تقديم فرسانها لدعم جيش الأمير، ثم هي تجاوزت ذلك في حلف جديد مع الإفرنسيين بحجة تعرضها لضغط القوات الإفرنسية المستمر. وكان الأمير عبد القادر مشغولا جدا في الوقت الحاضر بحصار تلمسان، وبإجراءات (دار لانح) على (تافنة) وليس بإمكانه التوجه إلى (بريغو. غير أن العرب الذين نكثوا بعهدهم، ورحبوا بالجنرال الإفرنسي، سرعان ما شعروا بغضب السلطان، إذ لم يكد الإفرنسيون ينسحبون حتى نزل عليهم عبد القادر كالصاعقة. ففرض الضرائب الثقيلة على ثمانية عشر قبيلة منهم، واقتيدت مواشيهم، وقد أخذت قبيلة (البرجية) كمثال مريع، فهلك منها عدد كبير، وشرد الباقي ليجد المآوى حيث يستطيع. ووصل (دار لانح) بصعوبة كبيرة إلى (تافنة) يوم 16 نيسان - أبريل - 1836م ومعه (3) آلاف جندي من المشاة وثماني قطع مدفعية. وبعد أن أكمل إقامة المعسكر الحصين على ضفة النهر، تقدم في 21 من الشهر لفتح الطريق إلى تلمسان تنفيذا لتعليمات (كلوزول). وعلم الأمير بالأمر فسار إلى (ندرومة) حيث يمكنه متابعة تحركات العدو من كل جهة في المكان الذي تتشعب منه الطريق من (تافنة) إلى تلمسان. فقطع جبال القبائل الممتدة حول تافنة، ومضى محرضا القبائل على الجهاد، ثم توجه بجيشه، واعترض العدو في وادي (تافنة) والتحم القتال بينهما نهارا كاملا. ثم ضرب الجنرال معسكره في الوادي ورتب صفوفه على هيئة قلعة، ونزل الأمير بجنوده وضرب حصارا محكنا حوله. وفي يوم 24 نيسان (أبريل) تهيأ
الجنرال للانتقال من مكانه، فجاءه المجاهدون من كل مكان وزحفوا إليه دفعة واحدة، غير مبالين بنيران المشاة أو قذائف المدفعية حتى وصلوا إلى مرابض المدافع واستولوا عليها. وأخذ الجنرال بالانسحاب، واستمرت قوات المجاهدين في مطاردته حتى أعجزته عن التحرك فقرر التوقف من جديد، وأعاد تنظيم معسكره الدفاعي. وعندما قرر استئناف المسير، انقض عليه جند الأمير، واستولوا على عتاده، وقتلوا من جنده أعدادا كبيرة. ثم توجه الجنرال إلى (تافنة) يجر معه فلوله الممزقة، فأعاد تنظيمهم، غير أن قوات المجاهدين لم تترك له فرصة للراحة، وعادت فأحكمت الحصار حوله، ومنعته من التحرك، ولم يبق أمامه إلا أن يشق طريقه بين صفوف المسلمين، حيث تعرضت بقية قواته للمزيد من التدمير، وعندما وصل إلى (وهران) أرسل إلى حكومته يعلمها بما نزل بقواته من الخسائر، ويطلب إليها الدعم لإيقاف الموقف المتدهور.
تابعت الحكومة الإفرنسية إرسال الإمدادات لقواتها في الجزائر، بعد ان أجمعت كافة التقارير على تصعيد المقاومة بصورة لم تكن متوقعة. ووصل الجنرال (بيجو)(1) على رأس ثلاثة فرق عسكرية إلى (تافنة) يوم 6 حزيران - يونيو - 1836، وفي الحال شرع الإفرنسيون في تجديد محاولتهم لفتح الطريق إلى (تلمسان) بالقوة،
(1) بيجو: (THOMAS ROBERT BUGEAUD DE LA PICONNERIE) دوق ايسلي DUC D'ISLY ، ماريشال إفرنسي، من مواليد ليموج (1784 - 1849) أسهم بقدر كبير في دعم الاستعمار الإفرنسي للجزائر وتقويته. وقد تم تعيينه سنة (1840) حاكما على الجزائر فطور الإدارة الإفرنسية، ودعم الزراعة لمصلحة المستوطنين. وخاض في سنة (1844) معركة (ايسلي) ضد المغرب وانتصر فيها فمنح لقب كونت - أو دوق - ايسلي. ووقع مع الأمير عبد القادر معاهدة لم يلبث أن عمل هو ذاته على نقضها.
وأخيرا نجحوا في هدفهم، فقد حارب عبد القادر معركة طويلة يائسة ضد القوات المغيرة على ضفاف (الزقاق - أو سكاك) ولكنه تعرض في هذه المرة لهزيمة كاملة. أدرك الأمير أن سبب هزيمته إنما يعود إلى تخلي جنوده عنه وهو في أوج انتصاره، وكانت هذه هي المرة الثالثة التي تتكرر فيها مثل هذه الظاهرة:
كانت المرة الأولى، عند استيلاء الإفرنسيين على عاصمته (معسكر).
وكانت المرة الثانية، بعد غزوة تلمسان.
وها هي المرة الثالثة في معركة الزقاق.
وكل حادثة من هذه الحوادث كافية لأن تكون سببا قويا لسقوط قوة أعظم سلطان راسخ القدم. ومع ذلك، فإنها لم توثر في الأمير، ولم تحصل دولة فرنسا منه على طائل مما دفع أحد الكتاب للقول:
(إن تلك الوقائع تسحق عقل القوي وتضعف عزمه، ولو كان كالصخر، إلا أن الأمير، كان لا يبالي بذلك لأنه كان يعرف أنه إذا ما ابتسم له الحظ، فإن باستطاعته التغلب على العصاة المتمردين بحد سيفه البتار). وهذا بدقة ما فعله وهو في ذروة المأزق، إذ ما كاد يبلغه أن (سيدي إبراهيم) قد اختار هذه الساعة الحرجة ليعلن ثورته ضده، ولينتحل لقب سلطان، حتى جرد سيفه من غمده، وعلقه في سرجه، وأقسم أن لا يغمده، وأن لا ينزل عن فرسه حتى يقطع رأس ذلك الخائن. وأسرع بمفرده تقريبا إلى قبيلة (بني عامر) حيث كان يعلم أن الخائن بينهم وطلب تسليمه في الحال. وبعد أن أفاقت هذه القبيلة من دهشتها وتأثرها من هذا القرار الصارم، سلمت الثائر (سيدي إبراهم) إلى عبد القادر، خائفة من أن يؤدي الرفض إلى الاتهام
بالتآمر معه. وقطع رأس الخائن فورا.
وكالعادة، رجع جند الأمير من ديارهم نادمين على ما فعلوه، طالبين من الأمير العفو، فقال لهم: (لقد عفوت عنكم كثيرا، وأن هفواتكم كثيرة، وأن العدو لنا بالمرصاد، وأخاف أن يجد ثغرة في صفوفنا فيجرنا حتما إلى النهاية - ويؤسفني أشد الأسف أن ينتصر جنودنا على بيجو، وأن تهزمه هزيمة ساحقة، ثم تتقاعس في نفس اليوم الذي انتصرت عليه، وتخرج من المعركة لتسمح له بأن يتعقبها، وأن يقتل منها ذلك العدد الكبير
…
لقد جاءت التقارير بأن بيجو كاد ينتحر في منتصف النهار عندما رأى جندنا يتقدمون ويفتكون بقواته دونما هوادة ويستولون على الغنائم، ويبيدون ضباطه بالعشرات، حتى أن الكثيرين من جنوده سلموا أنفسهم وعتادهم. وبدلا من أن تتابع جيوشنا الجهاد حتى نهايته، اكتفت بما حققته، ورجعت إلى ديارها تاركة وراءها عددا قليلا من المجاهدين، ففتك بهم بيجو واعتبر هذا الانتصار التافه، انتصارا لا نظير له. أيها الإخوة! إن الجزال بيجو إذ يعتبر انتصاره في هذه المعركة انتصارا، فإنه على حق، لأن المعارك التي خاضها قادة فرنسا قبله كان نصيبهم منها الخذلان. وعليه فأقول لكم إني تأثرت بواقعة الزقاق التي هي في الحقيقة لا تقدم ولا تؤخر، وإنما غرور بيجو قد خلق منها معركة كبرى حتى يشق لنفسه الطريق إلى السلطة، حيث أن الحكومة بعثته على سبيل الاختيار، فإن هو نجح، فسترسله للجزائر، وإن فشل فستبقيه في فرنسا. ولقد علم هو بهذا السر فأجهد نفسه حتى انتصر بسبب نقصان عدد جنودنا).
رجع (بيجو) بعد معركة (الزقاق) إلى وهران، وطير الخبر إلى
دولته يبشرها بانتصاره، ويتبجح بما أحرزه من النصر في أول معركة له في بلاد الجزائر. ثم توجه إلى فرنسا لاستثمار هذا النصر، وإعداد نفسه لممارسة دور أكبر، مستفيدا من أخطاء خصمه (كلوزول)، ومعززا مكانته بقوله:(افسحوا المجال لعبقرية فرنسا). وبتأثير من (بيجو أرسلت وزارة الحرب الإفرنسية إلى (كلوزول) رسالة جاء فيها: (إنك لم تقم بواجبك، حيث أنك لم تتخذ الضمانات الكافية في وهران، وعلى أية حال، فإن الوضع بعد الانتصار الضئيل الذي أحرزه بيجو يهدد الوجود الإفرنسي في الجزائر بالخطر) وطلب (كلوزول) دعم حكومته لمجابهة الموقف المتدهور، وعندما استشير (بيجو في موضوع إرسال الإمدادات أجاب:(إن الوقت غير ملائم لذلك، ويجب أن يترك الأمر إلى الجنرال كلوزول حتى يجد الحل المناسب، فإذا ما عجز عن ذلك، فيجب إخراجه من الجزائر. ولم يجد كلوزول أمامه سوى التوجه إلى باريس في محاولة للحصول على الدعم. غير أنه لم يجد هناك من يستمع إليه، وعندما طلب إلى وزير الدفاع الخطة التي يقترحها، أجابه: (إننا هنا نجهل كل شيء عن الجزائر. ولك بصفتك قائدا عاما اختيار الخطة المناسبة وتنفيذها بما يتوافر لديك من القوات، فإن نجحت فذاك، وإن فشلت فللوزارة أن تفكر في الأمر) ورجع كلوزول خائبا، فقرر غزو (قسنطينة) في محاولة لإخضاع (الباي أحمد) على أمل إحراز نصر يدعم موقفه. وحشد كل القوات، وشرع في التحرك - في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - سنة 1836 م. فوصل إلى (عنابة - بونة) ثم انتقل إلى (قالما) حيث استراح وجنده لمدة ثلاثة أيام، سار بعدها إلى (قسنطينة) ولما وصلها اشتبك في معركة قاسية، أبلى فيها القائد (ابن عيسى) أفضل البلاء، وأمكن له في يوم واحد القضاء على كلوزول وقادة جيشه الذين جاؤوا معه.
وتركوا وراءهم القتل والعتاد، ولم ينج أي واحد منهم؛ وتمكن كلوزول من إنقاذ نفسه والنجاة من الموت بأعجوبة؛ ولكن بعد أن ترك ابنه قتيلا في هذه المعركة. وعزلت فرنسا (كلرزول) الذي غادر الجزائر حاملا معه قلب ابنه القتيل وتوجه إلى إسبانيا حيث قضى فيها بقية أيام حياته.
كان الأمير عبد القادر يتابع الموقف، ويحشد قواته، ويحكم الحصار على القوات الإفرنسية التي نجحت في إقامة بعض المراكز الداخلية، غير أنها لم تكن قادرة على الاتصال بها أو الوصول إليها، وكانت رسائلها تحجز، وتقطع رؤوس حامليها بدون تمييز، ولم تتمكن القبائل المتحالفة مع الإفرنسيين إمدادها بالمؤونة وسواء كان الإفرنسيون في وهران أو في تافنه، فإنهم كانوا لا يستطيعون التحرك إلا في فرق كبيرة. وكانوا في هذه الحالة يحتاجون إلى تموين ضخم، وحيوانات تحمل الأثقال ووسائل للنقل. وكان أهل الدوائر والزمالة، طلبا للأمن تحت حصون وهران، يعيشون على مؤونة مقترة يتصدق بها عليهم حماتهم من حين لآخر. أما في تلمسان فإن (كافينياك) كان يشتري القطط لمائدته بمبلغ أربعين فرنكا للقط الواحد. وعندما علم (الأمير عبد القادر) بنوايا (كلوزول) وبتحركه نحو (قسنطينة) امتنع عن اتخاذ أي إجراء قد يفسد التطور الكامل لتلك الخطة. ومنى نفسه بأنه سيكون هو المستفيد في النهاية سواء نجح الإفرنسيون في خطتهم أو فشلوا. ذلك أنه إذا ما انهزم أحمد باي قسنطينة فإنه سيتخلص من منافس خطير، دون جهد من جانبه، وستكون القبائل العربية في قسنطينة عندها حرة للانضمام إليه والعمل تحت لوائه. أما إذا انتصر الحاج أحمد باي قسنطينة، فإن الإفرنسيين قد يغادرون الجزائر بعد أن تكون قواتهم قد استنزفت، غير أن ذلك قد يفتح مجال الصراع الطويل
مع أحمد باي قسنطينة. ولكن توقف الأمير لم يستمر طويلا، وانتصر الحاج أحمد. وعندها عرف عبد القادر أن ساعة الحسم قد أقبلت. فأصدر أمره من مقر قيادته في المدية، للقيام بهجوم شامل ضد كل المراكز الإفرنسية بين الأطلس والساحل. وتدفقت آلاف العرب والقبائل من الجبال كالسيل الجارف، وانضمت إليها قوات تيطري، فعملت على تدمير المؤسسات الإفرنسية الاستعمارية وإحراقها، وأسرات المستوطنين الإفرنسيين، وبلمحة واحدة لم يبق للإفرنسيين وجود حقيقي في إقليم وهران. وأصبح سهل (متوجة - متيجة) تحت رحمة قوات الأمير الذي أصدر أمره إلى خليفيه (مصطفى بن التهامي وابن حميدي) بالتوجه إلى وهران والاستيلاء عليها، وعزلها عن كل اتصال بالسيطرة على محاور الطرق المؤدية إليها. وتم تنفيذ ذلك بنجاح. وفي الوقت ذاته كلف الأمير عبد القادر خليفته (محمد بن علال) بالتوجه إلى الجزائر، فأشعل نارا حامية على قيادة الجيش هناك، وضيق على القبائل المتنصرة، بل على الإفرنسيين أنفسهم، وسار حتى دخل مدينة الجزائر ذاتتها. وأصبحت القيادة الإفرنسية في الجزائر غير موجودة عمليا ، توجه الأمير بعد ذلك إلى (تلمسان) ودخلها، وذهب لزيارة قبر الولي الصالح (سيدي
بومدين). وهناك كانت تنتظره مباغتة غير متوقعة. فقد كان القائد (ابن نونه) متعلقا بأستار الضريح، لائذا به، فأمنه الأمير بعدما اعترف على ملأ من الناس بأنه أتى نكرا واقترف ذنبا ولم يكتف الأمير بتأنيبه، بل إنه تجاوز عن أعماله، فأقره على طائفته، بعد أن أماط كل لثام، وجلا كل شك وشبهة عن عصيان هذا القائد.
أصبحت حالة الحاميات الإفرنسية مثيرة للشفقة، فقد أصبح
الرعب من المجاعة مسيطرا على جند هذه الحاميات. وهنا ظهر (اليهودي دوران) ليمارس دور الوساطة. فقد أقنع الأمير: (بأن الفوائد التي سيحصل عليها من إطعام الإفرنسيين ستفوق كثيرا - حتى من الوجهة العسكرية - قيمة أي نصر يمكن أن يحققه عن طريق تجويعهم). وفي الوقت ذاته، وبعد موافقة الأمير على هذا المبدأ، توجه (دوران) لمفاوضة (بروسارد) الذي أصبح قائدا على وهران ليفاوضه بقوله: (إن الإفرنسيين في حاجة إلى القمح واللحم، والسلطان من جهته في حاجة إلى الحديد والرصاص والكبريت. فليبتع كل طرف ما يحتاجه من الطرف الآخر، وسيكون الجميع راضين. ويجب أن لا يخشى أبدا بأن هذا الإجراء سيكون على حسابك ولصالح السلطان. فهو لن يظهر أبدا في القضية، إذ إنني أنا الذي سأبيعكم القمح واللحم. وأنتم ستبيعونني الحديد والكبريت، ولن يعرف السلطان سوى عن طريق غير مباشر بأن المواد الأولى لكم، والمواد الأخيرة له.
بل إن السلطان مستعد للسماح لكم باستئناف تموين تلمسان. ولكن ما دام هذا الامتياز بدون شك سيغضب ويثير سخط العرب الذين يحقدون على الوجود الإفرنسي في تلك المدينة، فإن السلطان لن يأخذ على عاتقه سوى كراهية ومسؤولية الترخيص به، على شرط أن يطلق الإفرسيون سراح جميع الأسرى الذين سجنوهم إثر معركة الزقاق وأن يعيدوهم إليها). وفي الحال، قبل (بروسارد) هذا الاقتراح وتم الأخذ به وتنفيذه. وكان ذلك بداية الطريق إلى معاهدة (تافنه) أو معاهدة (عبد القادر - بيجو).