الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
بناء دولة الحرب
تلقى (عبد القادر) البيعة تحت شجرة الدردار (الدردرة) الضخمة، وهي الشجرة التي طالما اعتاد الأعيان على الالتقاء تحت ظلها، للشورى، كلما دهمهم خطب، أو بغتتهم نائبة، فيجمعهم (وادي مروحة - من قبيل غرس) ليخرجوا وقد استمدوا من ضعفهم قوة، وتجمعوا من بعد تفرق. غير أن تجمعهم في هذه المرة تمخض عن أمر جلل، لقد أسندوا قيادتهم إلى عبد القادر وحددوا له مهمته:(إننا في حاجة لمن يقود سفينتنا ويقف في وجه العدو في الداخل والخارج ليذيقه العذاب، ولهذا فقد اتفق العام والخاص على إسناد الإمارة لعبد القادر بن محيي الدين).
أراد المرابطون والمجاهدون أن يكون (عبد القادر بن محيي الدين) سلطانا عليهم، وبايعوه على ذلك، وتبعهم رجال القبائل على هذه البيعة، غير أن (عبد القادر) عزف عن (لقب السلطان) حتى يكسب صداقة سلطان مراكش (المغرب) واكتفى بلقب (أمير المؤمنين) وهو لقب ألصق بمفهومه للحكم، وأقرب إلى أصالته العربية - الإسلامية. ثم مضى إلى بناء (الدولة الحديثة) التي يمكن لها مشاركته
في حمل أعباء الحرب، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، خلال تلك المرحلة التاريخية.
بدأ (الأمير عبد القادر) مرحلة التنظيم بتشكيل جهاز الحكم (الوزارة) والتي تكونت كالتالي:
1 -
رئيس وزراء - ويقوم بهذه المهمة الأمير عبد القادر (ناصر الدين).
2 -
ناب رئيس.
3 -
وزير خارجية.
4 -
وزير خزانة المملكة.
5 -
وزير الخزينة الخاصة.
6 -
وزير الأوقاف.
7 -
وزير الأعشار والزكاة.
ثم يأتي بعد الوزراء الكتبة، وهم ثلاثة حسب الحاجة، ثم الحاجب، واتخذت هذه الوزارة من مدينة معسكر مقرا لها. واختار الأمير لشغل هذه المناصب أفضل الرجال ممن تتوافر لهم الكفاءة العلمية والخبرة الغنية والمهارة السياسية والقدرة القيادية إلى جانب الفضائل الخلقية والدينية قبل كل شيء، وبذلك استطاع الوزراء الاضطلاع بمسؤولياتهم على أفضل وجه ممكن، فلم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى اشتهرت عن جدارة بأنها (من أفضل الوزارات التي عرفها القرن التاسع عشر). واختار الأمر لحاشيته الخاصة رجالا عرفوا بأنهم من أخلص قادة البلاد العسكريين، ومن العلماء والقضاة، فكون منهم
(مجلسا للشورى) بلغ عدد أفراده أحد عشر عضوا يمثلون المناطق المختلفة، وجعل على رأسهم (قاضي قضاة الجزائر). وما كاد يفرغ الأمير من تنظيم أجهزة الدولة، حتى أرسل إلى عمال الحكومة السابقة (في العهد التركي) والذين لا زالوا في مناطق لم يغتصبها الاستعمار الإفرنسي، طالبا إليهم الامتثال إلى (الطاعة والجماعة). حاثا إياهم على إعلان الولاء للحكومة الجديدة، والرجوع إليها في كل أمورهم. فاستجابت له الأغلبية الساحقة، وأعربت عن غبطتها بالخضوع لطاعته. أما الذين أبوا الدخول في طاعة الأمير الجديد، مغتنمين الذعر والفوضى التي انتشرت في البلاد على إثر احتلال العدو لبعض مناطقها فقد اختاروا الاستقلال بإدراتهم تدفعهم إلى ذلك شهوة التحكم والطمع، غير مبالين بما بحدق بالبلاد من خطر مدمر، وما يترتب على عصيانهم من تشتيت لوحدة الشعب، وتبديد لقوته، في الوقت الذي كان فيه العدو يجند كافة موارده ويحشد جميع قواته لاجتياح الوطن الجزائري. هؤلاء المارقون، سرعان ما أفحمهم الأمير بالمنطق أو أخضعهم بالقوة، مستدركا الخطر الذي ينتج عن عنادهم. وعين في مناصبهم رجالا توافرت لهم الكفاءة والقدرة والعدل والإخلاص .. وبذلك استقرت الأمور الجديدة، وبدأت تعمل جاهدة على إرساء قواعد الحكم النزيه على أسس متينة قوامها الدين الإسلامي وقواعده وأسسه الفاضلة. وكان أول عمل قامت به الحكومة هو الإعلان عن إلغاء المظالم. وإبطال القوانين التي كانت تفرض على المواطنين الجزائريين بين ضرائب ثقيلة ومغارم مرهقة. وأزال ما كان يعرف (بقبائل المخزن) فحقق المساواة بين كل المواطنين أمام القانون. وضبط نظاما بسيطا للحكم، وأنقص ما يمكن من الوسطاء، بهدف الوصول إلى أكبر، وتأمين السرعة في التنفيذ، ومنح أعضاء الحكومة سلطات
واسعة، وحرص في الوقت ذاته على مراقبة ممارساتهم. وحدد للموظفين رواتب كافية حتى لا تمتد أيديهم إلى الحرام (الاختلاس والابتزاز).
وكانوا مسؤولين أمام الأمير، كما كانت الرقابة الشعبية - بلغة العهود الحديثة - مطبقة بصورة شاملة، حيث كان منها ديه يرفع صوته بين القبائل وفي الأسواق، داعيا الناس لممارسة هذا الحق بقوله:(من كانت له شكوى على الخليفة أو الآغا أو القائد أو الشيخ، فليرفعها إلى الديوان الأميري من غير واسطة، فإن الأمير ينصفه من ظالمه ومن ظلم فلم يرفع ظلامته إلى الأمير فلا يلومن إلا نفسه) وقد أكد مفهومه في مشاركة الشعب في الحكم من خلال رسالته التي كتبها إلى ملك فرنسا - لويس فيليب - والتي قال له فيها: (عليك أن تعلم أن أي إجراء لن يكون صالحا إذا لم يحظ بمصادقة الشعب).
يمتد الوطن الجزائري على مساحة جغرافية واسعة، على ما هو معروف، ولم تكن وسائط الاتصالات متوافرة بمثل بمثل ما أصبحت عليه اليوم، ولهذا عمل الأمير عبد القادر على إعادة تقسيم البلاد إلى مقاطعات وهذه إلى دوائر، ووضع في كل منها آغا، وهذه الدوائر تشمل على القبائل النازلة فيها، وتشمل القبيلة على (بطون وعشائر). فجعل على كل قبيلة قائدا وعلى كل بطن وعشيرة شيخا. فكانت الأوامر الأميرية تصدر إلى العمال المعروفين (بالخلفاء) ومنهم إلى الأغوات، ومنهم إلى القواد ومنهم إلى المشايخ. ويقوم المشايخ برفع القضايا التي تحدث والمشكلات التي تقع إلى القواد، وهم يرفعونها إلى الأغوات ومنهم ترفع إلى الخلفاء، ثم تعرض على الحضرة الأميرية، وفي وقت الحرب يصبح هؤلاء الرؤساء قادة عسكريون، فيجمع كل منهم جماعة من عشيرته ويقودها إلى الحرب. وكان (الأمير عبد القادر) يحرص عند تجميعه للقبائل على ما بينها من روابط، وعلى
ما يربطها ببيئتها المقيمة فوقها من روابط جغرافية وتاريخية. فلم يكن يتردد في تحويل بعض القبائل خوفا عليها من الضعف تجاه ترغيب العدو وإرهابه، وكان وهو يمارس ذلك كله يدرك تماما أهمية التنظيم. وقد عبر عن ذلك بقوله:
(كانت أوامري تصل إلى الخلفاء، ومنهم تنزل في تسلسل مضبوط إلى المشايخ، ثم ترفع تقارير المشايخ بنفس التسلسل، إلى أن تصل إلي. لقد كان هدفي هو طرد المسيحيين من أرض آبائنا. وكنت دوما أتحاشى استعمال الجواده (الأجواد) وأستعين بالعلماء وأهل الدين في تسيير الحكم. وقد أثبت طول المعركة بأنني كنت على صواب
…
كما أنني أبعدت بطريقة مطلقة ودون أي استثناء الممثلين السابقين
للحكومة التركية، لأنهم كانوا دنيئين، وكان بودي أن يقارن الناس بسرعة بين الذين يتملكهم العجب، وتغريهم زينة الحياة الدنيا. وبيني أنا الذي لم يكن لي إلا هدف واحد وهو انتصار المسلمين. وأدركت بأنني لن أوفق إلى منع القادة الذين عينتهم من أن يقرفوا اختلاسا أو أستطيع معاقبتهم - في حال ما إذا اقترفوا شيئا من ذلك - إلا إذا وفرت لهم مرتبا يكفيهم مؤونة العيش. ولذا خصصت للخليفة (110) دورو، شهريا، وصاعا من القمح يوميا حتى يتمكنوا من النفقة على ضيوفهم الكثيرين والذين يتقبلونهم بحكم مركزهم ومسؤوليتهم. وخصصت للآغا (عشر) جميع ما يتقاضاه من ضرائب وذلك نقدا أو وعينا. وكان القائد يعامل أقل من الآغا بحكم مستوى دائرته ومسؤوليته بالنسبة للآغا. وهكذا فإن كل واحد كان يتقاضى ما يناسب مهمته. ولحماية الرعية مما قد يلحقهم من مظالم من طرف رؤسائهم. فقد أقسم (حلف) الخلفاء والآغوات على صحيح البخاري بأن لا يعدلوا عن الحق، وأن يكونوا صادقين في خدمة
مواطنيهم. وكنت أسهر بنفسي على جميع أعمالهما) (1).
ولم تمض أكثر من سنوات قليلة (في سنة 1837) حتى أصبحت الجزائر عبارة عن دولة اتحادية (فيدرالية) تضم ثماني مقاطعات، على رأس كل مقاطعة خليفة مهمته الرئيسية العمل على احترام الأجهزة الاجتماعية التقليدية، وتحقيق الوحدة الضرورية لمواصلة الحرب. فكان على رأس (تلمسان) السيد (محمد البوحميدي الولهاصي) وبها (13) ألف مقاتل. وعلى رأس (معسكر) صهر الأمير السيد الحاج (مصطفى بن أحمد التهامي) وبها (10) ألف مقاتل. ولما امتدت طاعته إلى ما وراء (وادي شلف) جعل (مليانة) مقاطعة ثالثة، وولى عليها السيد (محيي الدين بن علال القليعي) ولما مات ولي عليها السيد (محمد بن علال) من أقاربه، وكان معه (10،440) مقاتل. ولكل من هذه المقاطعات الثلاث مرسى تخصها فلتلمسان مرفأ (رشقون - أو رشكون) ومرفأ معسكر هو (آرزيو).أما (شرشال) فقد بقي مرفأ لمقاطعة (مليانة) كما ولى أحد القادة العسكرين البارزين (وهو السيد محمد البركاني) على المدية، والسيد (ابن الطيب بن سالم) حاكما على (برج حمزة) ومعه (4350) جندي، وبإمكانه - بالإضافة إلى ذلك أن يعتمد على المتطوعين من بلاد القبائل. وولى السيد (طبال بن عبد السلام) خليفة على مجانة). أما الجنوب الصحراوي فكانت به مقاطعتان، إحداهما مقاطعة (الزيبان) وعلى رأسها السيد (بن عزوز) ومقاطعه الصحراء الغربية، وولى عليها السيد (قدور بن عبد الباقي) الذي كان تحت قيادته ما يزيد عن (8) آلاف مجاهد. وفي المجموع كانت هناك (8) مقاطعات تضم ما يزيد على (59) ألف مقاتل، منهم قرابة (6) آلاف جندي منظم. وهذا
(1) الأمير عبد القادر - سلسلة الفن والثقافة - الجزائر - 1974 ص 53 - 56.