الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 -
على حدود المغرب
(1845 م)
اتخذ الأمير عبد القادر من حدود المغرب قاعدة لغزواته في الجزائر لفترة من الوقت، ثم ينسحب إلى الأرض المغربية مما دفع القوات الإفرنسية لزج فرقة عسكرية ضخمة بقيادة (لامورسيير) لاحتلال الجزء الذي ينطلق منه الأمير عبد القادر، ولم يكن خط الحدود الجزائرية - المغربية محددا بدقة. واختار (لامورسيير - وبيدو) مقرا لهما في زاوية حملت اسم (لاللامغنية) وهي امرأة مرابطة اشتهرت بورعها وتقواها. (ولا يزال هناك ضريح أقيم لها رسميا في المكان ذاته) وفي (لاللامغنية) حفر الإفرنسيون خنادقهم، وعلقوا معداتهم وغنوا أغانيهم، وأهرقوا خمورهم، وعربدوا عربدتهم، فكان في ذلك تدنيس لحرمة المكان المحترم، وانتهاك مثير ووحشي لمشاعر المسلمين. وانطلقت صرخة الغضب فترددت لها أصداء قوية في كل المغرب الإسلامي. مما دفع سلطان المغرب (سيدي عبد الرحمن) لتوجيه جيش بقيادة القائد (القناوي) الذي كان شريفيا متعصبا مرتبطا بالدم مع عائلة السلطان. وطلب القناوي من الإفرنسيين الجلاء عن (لاللامغنية) يوم 22 أيار - مايو - 1844. غير أن الإفرنسيين سخروا من هذا الطلب وفي يوم 30 أيار (مايو) تقدم الجيش المغربي، واشتبك
مع الإفرنسيين في معركة قصيرة وحاسمة وأرغمهم على الانسحاب. وعاد (بيجو يوم 11 حزيران - يونيو - في محاولة للتفاهم مع (القناوي) غير أن هذه المحاولة فشلت، وبعدئذ وجه (بيجو) إنذارا خطيا إلى (القناوي) جاء فيه:(نرغب أن تكون لنا نفس الحدود التي كانت للأتراك ثم لعبد القادر، إننا لا نريد أن نأخذ منكم شيئا. ولكن يجب أن نصر على عدم إيواء عبد القادر بعد اليوم، وأن لا تمنحوه المساعدة أو التأييد، وأن لا تدعموه بعد أن أوشك على الهلاك ثم تطلقوه ضدنا من جديد. إن عملا كهذا ليس من الصداقة في شيء، إننا نخوض حربا، وإنكم كنتم تقومون بالحرب ضدنا على هذا المنوال منذ سنتين. إننا نطلب منكم أن تحصروا دائرة عبد القادر وكبار مساعديه في غرب الدولة، وأن تقرقوا جيشه النظامي، المشاة منه والفرسان، ونطلب منكم أيضا أن ترفضوا منذ الآن السماح بهجرة قبائلنا إلى مناطقكم، وأن تعيدوا إلينا حالا أولئك الذين لجؤوا إليكم. وإننا نلزم أنفسنا بالمعاملة بالمثل تجاهكم فيما إذا حدث مثل ذلك بالنسبة إلينا. وهذا ما يمكن تسميته حقا التطبيق العملي لمبدأ الصداقة الحقيقية بين أمتين. وبهذه الشروط سنكون أصدقاءكم، وسنشجع تجارتكم، وسنكون إلى جانب حكومة مولاي عبد الرحمن بقدر ما نستطيع أما إذا تصرفتم غير ذلك فسنكون أعداء لكم. فأجب في الحال وبدون تملص لأنني لا أفمه).
لم يأت هذا الإنذار بنتيجة تذكر، وتراجع الجيش المغربي إلى داخل البلاد، واحتل (بيجو) مدينة (وجدة) بصورة مؤقتة، وتطور الصراع على الحدود. فأرسلت الحكومة الإفرنسية قطعة من أسطولها
إلى الساحل الغربي بقيادة (دوجوانفيل)(1) في شهر حزيران (يونيو) 1844 لتدعيم مطالبها الرسمية. وتلقى المارشال (بيجو) في الوقت ذاته تعليمات للبدء بعملياته الهجومية البرية واضطر السلطان (عبد الرحمن) للرضوخ لمطالب الإفرنسيين بعد قصف طنجة وموقادور بقنابل الأسطول، وبعد معركة (ايلسلي)(2) وفرضت معاهدة الصلح على السلطان فرضا، وتضمن البند الرابع منها. (يعتبر عبد القادر خارجا على القانون في جميع أنحاء الدولة المغربية وفي الجزائر. ونتيجة لذلك، ستطارده القوات الإفرنسية من الجزائر والقوات المغربية من المغرب، إلى أن يطرد من هناك، أو يقع في قبضة قوات إحدى الدولتين. ففي حالة وقوع عبد القادر في أيدي القوات الإفرنسية، تتعهد حكومة جلالة ملك فرنسا أن تعامله باحترام وكرم. وفي حال وقوعه في أيدي القوات المغربية يتعهد جلالة سلطان المغرب بإجباره على الإقامة، مستقبلا، في إحدى مدن الساحل الغربي لدولته، إلى أن تتوصل الحكومتان إلى اتخاذ إجراء يمنعه من استئناف القتال، وتعكير الهدوء في الجزائر والمغرب).
انسحب الأمير عبد القادر بعيدا في جوف الصحراء، غير أن المعاهدة المفروضة استثارت غضب المسلمين في المغرب كله، ووصلت إلى الأمير رسائل من كل المستويات تطالبه بقيادتها للإطاحة بالسلطان، غير أن الأمير رفض استثمار هذا الموقف الذي يضعف
(1) دوجوانفيل: (PRINCE DE JOINVILLE FRANCOIS DE BOURBON ORLEANS) أميرال إفرنسي - من مواليد نويي (NEUILLY)(1818 - 1900) الابن الثالث للملك لويس فيليب. (شقيق دومال الذي سبق ذكره).
(2)
إيسلي: ISLY نهر مشترك بين الجزائر والمغرب، يرفده نهر تافنة من يساره.
المغرب بدلا من تقويته، ومضى يستثير حماسة القبائل في الجزائر، متنقلا باستمرار، من (تيارات) في أقاليم التل حتى الحدود المغربية. وكانت مطاردة الإفرسسين له لم تتوقف. وفي لحظة اليأس وصلته رسالة من خليفته (ابن سالم) يعلمه بقدومه إليه عندما تتوافر له ظروف مناسبة. وأثناء ذلك عقد خلفاء الأمير الثلاثة في الشرق الجزائري. وقرروا المضي في جهادهم، ومما قاله (ابن علال) لإخوته في الجهاد وهو يعانقهم ويقبلهم مودعا:(ليجمعنا الله في الآخرة، لأنني ضعيف الأمل باجتماعنا من جديد في هذه الدنيا) فأجابه ابن علال: (قد يكون ذلك صحيحا إذا استسلمنا للمسيحيين، وهو أمر حرمه الله علينا).
يصور ذلك الوضع الذي كانت عليه الجزائر، في الوقت الذي مضت فيه السلطة الاستعمارية بالمطاردة الأمر الذي زاد على قدرة احتمال القبائل، فانفجر الموقف في آذار (مارس) 1845 بقيادة محمد ابن عبد الله - الملقب بومعزة - من مشايخ (الدرقاوه). ورفع (بومعزة) لواء الجهاد في منطقة الظهرة وسهل الشلف. وعلى الرغم من أن قوة - بومعزة - لم تتجاوز المئات فقد كانت شرارته هى التي أحرقت السهل، إذ اندلعت المقاومة في كل مكان (باسم بو معزة). وأفاد الأمير من هذا الموقف، فقاد قواته التي بقيت مخلصة له إلى سهل (تافنة) فدمر الحامية الإفرنسية في (سيدي مخلصة). واستسلمت له كتيبة كاملة (من ستمائة جندي) في (تموشنت). وشعرت فرنسا بالخطر المتعاظم. فأعادت (بيجو) إلى الجزائر، ودعمته بقوات جديدة حتى بلغ عدد القوات الإفرنسية في الجزائر (120) ألفا ووصل بيجو إلى مسرح العمليات يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1845 وتولى قيادة (14) فرقة. وطبق أسلوب (الطابور الجهنمي) الذي يعتمد على الإبادة
للسكان وإحراق الأرض والزرع والقرى. وخاض الأمير عبد القادر صراعا مريرا ضد أرتال القوات الإفرنسية، ونجح في إحراز عدد من الانتصارات كاد في بعضها أن يسحق رتلا كاملا من أرتال القوات الإفرنسية في كانون الأول - ديسبر - 1845 م.
وأصبح لزاما على الأمير عبد القادر أن يخوض صراعا مريرا على ثلاث جبهات: الجبهة الداخلية المتداعية تحت ضربات الإفرنسيين المدمرة، وعلى جبهة الصراع ضد الإفرنسيين، وعلى جبهة المغرب، وكان هذا الصراع يتطلب إمكانات صخمة، في حين انقطعت عنه كل الموارد بعد أن نجحت فرنسا في عزل الجزائر عن جناحيها (تونس والمغرب). وباتت الحلقات تضيق حول الأمير حتى كاد يسقط في قبضة أعدائه عدة مرات (منها ما حدث له يوم 7 شباط - فبراير - 1846 عندما بوغت في منتصف الليل بقوات الإفرنسين وهي تحيط به، ولم تنقذه إلا شجاعته من هذا المأزق).
استمر عبد القادر بقيادة هذا الصراع المرير على امتداد عامين، وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) 1847 وقف مع القوات المتبقية لديه (5) آلاف مقاتل في (اقدين) دائرة معسكره على الضفة اليسرى لنهر (ملوية) وأعاد تقدير موقفه، كان شاردا عن كل ما حوله يسير على رأس قوته تتبعه (الزمالة) التي أوهنها الحل والترحال، وزاد من إرهاقها غضب الطبيعة التي أرسلت أمطارها كالسيول، ووقف الأمير فجأة، وطلب إلى رجاله الاقتراب منه. لقد اتخذ قراره، وها هو يترجمه على رجاله الذين أخذتهم مهابته: (هل تذكرون القسم الذي أقسمتموه قبل ثمانية أعوام في المدية عند استئناف الحرب
…
إنني دائما كنت أعتبر ذلك القسم ملزم لي نحوكم، كما هو ملزم لكم تجاهي. إن هذا
الشعور وحده هو الذي جعلني أتابع حمل راية الجهاد في سبيل الله حتى اليوم .. فإذا كنتم تعتقدون أنه ما زال بوسعي أن أقوم الآن بأي شيء فأخبروني. وإن كنتم لا تعتقدون ذلك فإني أسألكم أن تعفوني من القسم الذي التزمت به تجاهكم) وأجابه الجميع بصوت واحد، (إننا جميعا نشهد أمام الله أنكم فعلتم كل ما في وسعكم لإعلاء كلمته، وسيجزيكم الله بعدله يوم القيامة) وقاد الأمير الحديث من جديد: (وإذا كان هذا هو رأيكم، فأمامنا ثلاثة احتمالات: إما العودة إلى الدائرة حيث نكون مستعدين لمواجهة أية عقبة، وإما محاولة إيجاد طريق إلى الصحراء. وفي هذه الحالة لا يستطيع النساء والأطفال والجرحى أن يتبعونا، وسيسقطون لا محالة في أيدي العدو، وإما الاستسلام) فأجابوه: (ليهلك النساء والأطفال، أهلنا وأهلك، ما دمت أنت سالما وقادرا على متابعة الجهاد في سبيل الله. إنك قائدنا وأميرنا، فحارب واستسلم كما تشاء، إننا سائرون وراءك إلى حيث تقودنا) ودار نقاش في معالجة هذا الوضع اليائس، وانتهى عندما أخرج الأمير قطعة من الورق، ووضع عليها خاتمه، لقد كان المطر الغزير يعيقه عن الكتابة، فترك للفارسين المكلفين بنقل الرسالة إلى القائد الإفرنسي كتابة الشروط.
استقبل الجنرال (لامورسيير) في ليل 21 كانون الأول - ديسمبر - فارسين أبلغاه رغبة الأمير في الاستسلام. فوافق على الفور غير أنه لم يكن قادرا بدوره على الكتابة للسبب ذاته، فالأمطار الغزيرة أعاقته عن الإجابة خطيا فأعطى سيفه، وخاتم الضابط (بازين)(1) إلى المبعوثين
(1) بازين: (ACHILLE BAZAINE) مارشال فرنسي - من مواليد فرساي (1811 - 888 1م) خدم في الجزائر، واشتهر في حرب (القرم). وأصبح قائدا أعلى للقوات الإفرنسية في =
لتقديمها إلى عبد القادر علامة على قبول شروطه.
أفاد الأمير من توقف المطر قليلا، فكتب رسالة إلى (لامورسيير) ضمنها شروطه، وعاد فأرسلها مع مبعوثيه. وأثناء ذلك كان (لامورسيير) قد نقل الخبر إلى (الدوق دومال) الذي أصبح حاكما عاما للجزائر. وكتب لامورسيير إلى الدوق ما يلى:(كنت مضطرا أن ألتزم بتعهدات، إنني فعلت ذلك وأنا على يقين أن سموك والحكومة ستوافقون على تعهداتي، إذا قبل الأمير كلمتي. إنني الآن ممتط جوادي في طريقي إلى الدائرة، وليس لدي الوقت لإرسل لكم نسخة عن الرسالة التي وصلتني من الأمير أو نسخة من جوابي عليها. ويكفيني أن أذكر بأنني وعدت ووافقت على أن يؤخذ الأمير وعائلته إلى عكا أو الإسكندرية، ولم أذكر سوى هذين المكانين، وهما اللذان ذكرهما في مطلبه واللذان قبلتهما).
غادر الأمير قرية (تريرات) صباح يوم 23 كانون الأول - ديسمبر - تتبعه مجموعة من قادته وأتباعه الذين ارتضوا لأنفسهم مشاركته رحلة العمر الشاقة، حتى إذا ما وصل إلى زاوية المرابط (سيدي إبراهيم) استقبله العقيد (مونتوبان) على رأس قوة من (500) فارس، وأدى له المراسم كرئيس دولة. وبعد استعراض حرس الشرف، طلب الأمير السماح له بأداء الصلاة في الزاوية واستجاب القائد الإفرنسي لطلبه، فترجل عن فرسه - وبوسوله إلى الزاوية نزع
= المكسيك. وكلف سنة 1870 بقيادة جيش اللورين ضد بروسيا، غير أنه أضاع المبادأه مما سمح للقوات البروسية بتطويقه في ميتز. وحكم عليه بالموت سنة 1873 لتقاعسه، غير أنه استطاع الهرب إلى إسبانيا وقضى بقية حياته في (مدريد).
سيفه، وسلمه إلى أحد المرافقين له. وبعد ساعة قضاها الأمير في الصلاة، خرج فتابع رحلته. ووصل في السادسة مساء إلى (جامع الغزوات) حيث اتخذه الدوق دومال مقرا له. وعندما تمت المقابلة بحضور القادة الإفرنسيين، قال الأمير للدوق (أن الجنرال - لامورسيير) قد أعطاني وعدا، وإني أثق به كل الثقة، ولست أخشى أن يخلفه ابن ملك عظيم مثل ملك الإفرنسيين) أقام (الدوق دومال) عرضا للقوات الإفرنسية في الجزائر، في اليوم التالي، ووقف الأمير إلى جانب الدوق، وعند انتهاء العرض، قدم الأمير للدوق جواده، وقال له:(إنني أقدم إليك هذا الجواد الذي هو آخر جواد امتطيته، لقد كان جوادي المفضل، ولكن يحب أن نفترق الآن) وأجابه الدوق: (إنني أقبله باعتباره إكراما لفرنسا، البلد الذي ستمتد حمايته إليك منذ الآن وعلامة على أن الماضي قد نسي).
وركب الأمير وعائلته ومرافقيه وأتباعه (ومجموعهم ثمانية وثمانين شخصا) السفينة (إسمودس) يوم 20 كانون الأول - ديسمبر - 1847 م. واتجهت السفينة إلى طولون. وباعت فرنسا كل ممتلكات الأمير وحقائبه وخيامه وجياده وبغاله وإبله، بمبلغ (6) آلاف فرنك، ولكن حتى هذا المبلغ التافه لم يقدم له إلا على شكل صدقة وبالتقسيط.
وعمت فرسا أنباء استسلام الأمير، فاستقبل الإفرنسيون (شعبا وحكومة) ذلك بفرح طاغ وبهجة عارمة، لقد أصبحت الجزائر الآن (مستعمرة فرنسية). وأصبح باستطاعة فرنسا الآن سحب (مائة ألف جندي) لاستخدامهم حيث تتطلب الحاجة.
خرج السيف من غمده، وغادر الأمير أرض الأباء والأجداد، وودع السلاح، مستسلما لقدره بإيمان ثابت، وعزيمة صلبة ليجابه الصعاب على امتداد سنوات العمر.
ـ[الحمد لله وحده .....]ـ
رسالة بخط الأمير إلى العالم دي سيفري في 1852