المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٤

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الوجيز في حياة الأمير عبد القادر

- ‌الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياةالأمير عبد القادر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الأصالة وبناء القاعدة الصلبة

- ‌ بناء دولة الحرب

- ‌آ - تنظيم الجيش:

- ‌ب - التسلح والصناعة الحربية:

- ‌ج - الحصون والتنظيم الدفاعي:

- ‌د - التنظيم الإداري والتموين:

- ‌ بناء الدولة الإسلامية

- ‌ في أفق العمليات والتكتيك

- ‌الفصل الثاني

- ‌ أعداء الداخل والخارج(1833)

- ‌ معاهدة عبد القادر - دو ميشال(1834م)

- ‌ معركة المقطع(26 حزيران - يونيو - 1835 م)

- ‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

- ‌ الصراع المرير على تلمسان(1836)

- ‌ معاهدة (عبد القادر - بيجو)31 -أيار - مايو (1837 م)

- ‌ نقض المعاهدة واستئناف الحرب(1838 - 1839 م)

- ‌ سنوات الصراع المرير(1840 - 1844 م)

- ‌ على حدود المغرب(1845 م)

- ‌ وداعا يا جزائر الأحرار(1848 - 1852)

- ‌قراءات

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال(26 شباط فبراير - 1834 م)

- ‌معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو(معاهدة تافنة)23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م

- ‌من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا(لويس فيليب)

- ‌رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادرإلى الماريشال بيجو

- ‌لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر(الأرتال الجهنمية)

- ‌المراجع الرئيسية للبحث

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

4 -

‌ الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر)

(6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

مضى (كلوزيل) في الإعداد لغزوته الكبرى، ووضع خارطة تظهر المستعمرة (الجزائر) وقد قسمت إلى عدد من المناطق (البايليكات) مع وضع أسماء البايات المحليين المعينين لحكمها. ولم يكن الأمير عبد القادر غافلا عما يعمل له (كلوزول - أو كلوزيل). فقد كانت عيونه (جواسيسه) تعمل بنشاط لتنقل له الأخبار فورا وبصورة دقيقة، وعندما علم بما يعتزم خصمه (قائد وهران كلرزول) تنفيذه، صمم

على أخذ المبادأة، واستنفر القبائل، ودفعها نحو العاصمة (الجزائر) تحت قيادة خليفته (في مليانة). وقد أفاد هذا الخليفة من الدعم الذي وصله (وهو خمسة آلاف مقاتل) فانطلق من قاعدته (مليانة) واجتاح سهل (متوجة أو متيجه) فهزم القبائل المتنصرة، وقتل منهم أعدادا كبيرة وأسر منهم أعدادا أكبر. ومضى في تقدمه حتى وصل أبواب (الجزائر). وعندما كثرت المغانم، وتزايدت أعداد الأسرى، أوعز خليفة الأمير في مليانة إلى نائبه باصطحاب فئة من الجند لحراسة المؤن والأسرى وتسليمها لإرادة الأمير. وفي الوقت الذي كان خليفة (مليانة) يحقق انتصاراته الرائعة على القبائل المتنصرة وعلى الحاميات الإفرنسية، كان خليفة الأمير (بتلمسان) يقاوم

ص: 103

الإفرنسيين وينتصر عليهم في ولاية - إيالة - (وهران) وأخيرا. تمكن هذا الخليفة من محاصرة وهران، وعزلها، والسيطرة على طرق مواصلاتها، وفصل القيادة الإفرنسية بوهران عن القبائل المتنصرة، وقد كانت المعارك التي خاضها أمير تلمسان (خليفة الأمير عبد القادر) ضد قائد وهران (كلوزول) قوية إلى درجة وصفها أحد المؤرخين بقوله:(لقد نفذ البوحميدي جميع ما طلب الأمير تنفيذه، وصار الإفرنسيون داخل وهران في أشد الضيق، إلا أنهم أحسن حالا من أسرى الحرب. وكاد الأمير يحقق وعيده بأن لا يسمح للطير أن يحلق من غير إذنه فوق المدن التي استولى عليها الإفرنسيون الذين أصبحوا مشلولين تماما، يطلبون الخلاص من قيودهم، ويحدون صعوبة في تنفس الهواء، وتتفتت أكبادهم غيظا. وأقاموا يترقبون وصول الدعم مع أوامر الهجوم يندفعوا على ذلك الأمير الذي رماهم بسهام ذكائه المدهش).

ذهب (كلوزول) إلى وهران يوم 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1835 لإنهاء استعداداته، وحدد واجب العمليات بقوله:(إن أول ما نبدأ به هو الزحف بجيوشنا على عاصمة الأمير، فإذا ما ساعدنا الوقت في الاستيلاء عليها، فسنثأر لأنفسنا من العرب، ثم نعقد مع الأمير صلحا لكل نزاع). وحشد (كلوزول) لمعركته جيشا من (12) ألف مقاتل؛ في حين كانت قوات الأمير تضم (8) آلاف فارس، و (ألفي) جندي من المشاة (الراجلين)، بالإضافة إلى (4) مدافع. وغادر (كلوزول) وهران يوم 27 تشرين الثاني (نوفمبر) للاستيلاء على (معسكر). ونظرا لأن هذه المدينة لم تكن مجهزة للدفاع. كما أن قوات الأمير

منظمة على أساس حرب الحركة وليس على أساس واجبات الحصار، بالإضافة إلى أن اسراتيجية الأمير كانت قائمة على أساس

ص: 104

تجنب الصدام مع قوات متفوقة في معارك جبهية فقد أصدر الأمير عبد القادر أوامره إلى سكان معسكر بالخروج منها.

اجتاز (كلوزول) بقواته غابة (مولاي إسماعيل) وخاض نهر (سيق) دونما مقاومة تذكر. ولكن عندما اقترب الجيش الإفرنسي من نهر (هبرة) ظهر له العرب وهم يتحركون في اتجاه متواز مع خط تحركه، وعلى امتداد المرتفعات المجاورة. كان الأمير عبد القادر يراقب تحرك أعدائه وينتظر الفرصة المناسبة التي يقع فيها خلل في الصفوف الأمامية الإفرنسية ليعطيه نقطة ضعف صالحة للهجوم. غير أن (كلوزول) شعر بنوايا الأمير، فتوقف لفترة ريثما أعاد تنظيم صفوفه فسد الثغرات وتحصن بالأرض، ثم أطلق قواته في وحدات صغرى للإغاره على العرب. ولكن عبد القادر رفض الدخول في المعركة. فقد ترك خصمه يتمتع بالثمار الضحلة لتغيير خط هجومه، واندفع هو بسرعة لوضع نفسه على محور التقدم الرئيسي الذي يقود إلى مدينة (معسكر)، ونشر جناحه الأيسر على مرتفع اختار فيه المرابض المناسبة لمدافعه، أما يمينه فكان محميا بصورة طبيعية، وكان اختياره لهذا الموقع مناسبا جدا من وجهة النظر (الجيو استراتيجية). ودفع بعد ذلك طلائع قواته للاستيلاء على أربعة أماكن للعبادة موقوفة على (سيدي مبارك). ولكن الإفرنسيين أمكن لهم معاودة الاستيلاء عليها بعد قتال مرير. وأطلق الفرسان العرب نيرانهم في جهات مختلفة، غير أن قنابل الإفرنسيين وقذائفهم استطاعت تدمير المقاومات العربية. وتولى الأمير عبد القادر توجيه نيران مدافعه بنفسه، واستطاعت بعض القذائف الموجهة بدقة إحداث الفوضى في إحدى الكتائب الإفرنسية فقاد الأمير على الفور مشاته ضدها. واندفعت القوات العربية بحماسة للاشتباك

ص: 105

مع العدو. غير أن كثافة نيران المشاة الإفرنسيين تمكنت من إيقافهم وتكبيدهم خسائر فادحة. واستمر الصراع بقسوة، ولكن ظهر بسرعة أن الهجوم بات عقيما بعد أن تمزقت القوات العربية، فاضطرت للانسحاب. ومضت ساعات على هذا الصراع المرير، الذي انتهى باستيلاء الإفرسيين على غابة (بغيلة) الواقعة على يمين المواقع العربية. بينما تقدمت مدفعيتهم إلى الأمام على محور الطريق الرئيسي. وتخلى العرب عن جميع النقاط في ميدان المعركة. وحاول الأمير عبد القادر المحافظة على بعض النظام أثناء تنفيذ الانسحاب. غير أن جهوده لم تفلح في إصلاح الخلل. وخلال نفس الليلة، انحلت فرق مشاته النظامية، أما فرسان القبائل، فإن بعضهم عاد إلى منازله، في حين توجه بعضهم الآخر إلى مدينة معسكر، ليمارس فيها أعمال النهب قبل أن ينهبها الإفرنسيون. وأما الأمير عبد القادر نفسه، فقد انسحب إلى (كاشرو - أو قرية كاشن) التي كانت ملكا لأسرته، وهي تبعد حوالي فرسخين عن معسكر.

لقد ذاب جيش الأمير عبد القادر كما تذوب قطعة الثلج تحت وهج حرارة حارقة. وظهر بوضوح أن الطريق إلى (معسكر) قد بات مفتوحا. وقد سقط (تلمسان) في أيديهم بعد فترة قصيرة. ومن الممكن بنتيجة ذلك أن تستسلم القبائل بأجمعها طلبا للأمن، بل إن بعض الرؤساء الذين كان عبد القادر يعتمد عليهم أكثر من غيرهم قد تخلوا عنه. وهكذا كانت حالته تبدو يائسة. لقد كان يشعر بالألم والضيق. وكان الغضب يتملكه بنتيجة الإهانة التي لحقت بسمعته ونتيجة ضعف بعض أنصاره وخيانة بعضهم الآخر. غير أنه بالرغم من ذلك استطاع كبح جماح عواطفه فالتزم الصمت، ولم ينبس ببنت

ص: 106

شفة. ولقد حاول بعض الذين بقوا مع عبد القادر معرفة نواياه وسبر أغوار نفسه. فأظهر لهم التجلد، وحاول التخفيف عن المنزعجين، ورفع الروح المعنوية للمنهارين. وعندما تقدمت منه أمه بحنان الأمومة وعطفها لتبث في أذنه همسات الصبر والعزاء، أجابها بهدوء وهو يمسك يدها بكلتي يديه:(إن النساء يا أماه هن الحريات بالشفقة، وليس الرجال).

دخل (كلوزول) مدينة معسكر يوم 6 كانون الأول - ديسمبر - 1835، ولم يبق بها سوى نفر من اليهود. لقد خرجوا من كهوفهم ليركعوا عند أقدام المنتصرين الإفرنسيين واشمأز المسلمون من السماح لهم بمصاحبتهم عند رحيلهم من المدينة. وفي اليوم التالي، اشتعلت النيران في أجزاء مختلفة من المدينة، ولكنها سرعان ما أخمدت. وبدأت القوات الإفرنسية بالاستراحة من الجهد المبذول، والاستعداد للإقامة في المدينة. فكان ذهولهم كبيرا عندما صدرت الأوامر إليهم بالاستعداد للرحيل، وهكذا جلوا عن مدينة معسكر في الثامن من الشهر. ورجع كلوزول إلى وهران تاركا بها القبائل المتنصرة التي أرادت أن تنتقم من الأمير.

قرر الأمير عبد القادر العودة إلى دار الإمارة في (معسكر) ولما يمض على احتلالها أكثر من ثلاثة أيام. وانتشرت أخبار حضوره بسرعة. فجاءت القبائل تعتذر عن تفريطها. وعملت القبائل التي استولت على الذخائر بردها إلى الأمير طالبة منه العفو، فلم ير بدا من العفو عنها وتجاوز أخطائها. وكان (الهواري - آغا بني هاشم) بين هؤلاء، وهو الذي كان قد نهب مظلة السلطان أثناء الحرب فجاء بها الآن فقال له عبد القادر في ابتسامة ساخرة؛ (احتفظ بها لنفسك،

ص: 107

فلعلك تصبح سلطانا في يوم من الأيام). وعندما تقدم النهار، جاء بعض الرؤساء الذين كانوا قد فروا. فنظر إليهم عبد القادر باحتقار - وأخيرا تشجع أحدهم، وسأله، ما إذا كان عنده أوامر جديدة لهم فتعجب قائلا:(أوامري! نعم، إن أوامري هي أن تعفونى في الحال من ذلك العبء الذي ألقيتم به على عاتقي، والذي ساعدني ديني وإيماني على حمله حتى هذه الساعة. دعوا القبائل تختار خلفا لي وتعلم الحاج الجيلالي بالنتيجة، أما أنا فإنني ذاهب مع عائلي إلى المغرب الأقصى). وفي حركة واحدة جثموا، رؤساء واتباع، أمامه والتمسوا منه برجاء حار العفو عن الماشي. ووعدوه بإخلاص على متابعة الجهاد معه، وتقديم الدعم له. وأشرق وجه الأمير بنور أضاء أعماق نفسه وقال لهم:(فليفعل الله ما يشاء! ولكن تذكروا أنني أقسم أن لا أدخل مدينة معسكر باستثناء الجامع - حتى تثأروا لهزيمتكم النكراء. لقد كان الأحرى بكم أن تواظبوا على الجهاد حتى تنقذوا بلادكم من براثن العدو وتعيشوا أحرارا، أو تموتوا عن آخركم فتحرزوا الشهادة) واستعاد الأمير سلطته، فأرسل في الليلة ذاتها مجموعة من الرسل إلى كافة القبائل تدعوهم إلى الجهاد مجددا. وفي الغد، انبرى عبد القادر على رأس قوة من (6) آلاف فارس. وهدفه الوصول إلى (تلمسان) لحمايتها ومنع الإفرنسيين من الوصول إليها، غير أنه كان لا بد له في الوقت ذاته من خوض مجمرعة من المعارك ضد تلك القوى التي ارتضت لنفسها الاستظلال بحماية الإفرنسيين والخضوع لحمايتهم.

ص: 108