الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
نقض المعاهدة واستئناف الحرب
(1838 - 1839 م)
تم تعيين الماريشال (فالي)(1) حاكما عاما على الجزائر في 30 تشرين الثاني - نوفمبر - 1837. وقد طلب عند تعيينه تعليمات الوزارة الإرنسية، فجاءه الجواب بسيطا (التمسك بمبدأ امتلاك الجزائر - ويجب أن يكون المفهوم من عبارة - وادي القدرة وما وراءه - كل البلاد الواقعة في إقليم الجزائر والواقعة وراء وادي قدرة حتى إقليم قسنطينة، وأن وضوح الدليل مستقلا عن الاعتبارات السياسية، لا يسمح بأي تنازل عن هذه النقطة. وما دمنا أسياد إقليم قسنطينة فإننا لا نستطيع أن نبقى بدون طرق أرضية تصلنا به).
وأرسل (فالي) هذه التعليمات إلى الأمير عبد القادر، وأخذ في مفاوضته على شروط تنفيذها، ولكن الأمر اتخذ الإجراء المناسب والعملي بشأن المنطقة المتنازع عليها، أو بالأحرى تلك التي تريد فرنسا السيطرة عليها، ما بين الجزائر وقسنطينة - فركز جهده للسيطرة على كل المناطق جنوب (تيطري). وأمسك بقبضته القوية كل القبائل
(1) فالي: (SYLVAIN CHARLES VALLEE) ماريشال فرنسي (1773 - 1840) اشترك في سنة 1837 باقتحام قسنطينة وأصبح حاكما على الجزائر.
الواقعة على حدود إقليم قسنطينة. وأرسل قواته فاحتلت كل الأراضي المتنازع عليها وراء (وادي القدرة). وبالإضافة إلى ذلك جعل هذه الأراضي مسرحا لنموذج من أعماله الصارمة التي لا تعرف المساومة نحو الذين خانوا الدين. فهناك مجموعة من الكراغلة كانت قد استوطنت هناك حديثا تحت حماية الإفرنسيين. وقد دعاهم عبد القادر إلى قطع علاقتهم الخائنة مع الإفرنسيين، ولكنهم رفضوا. وكان الإفرنسيون يمدونهم بالسلاح والذخيرة حتى يقاوموا عبد القادر، ولكن الأمير نزل عليهم وسحقهم وقطع رأس القائد العميل. وفي الحال، أعلنت كل قبائل مقاطعة (سباو) الواسعة خضوعها. وقد عين عبد القادر أحمد بن سالم ليكون خليفته عليهم. وأصبح عبد القادر الآن صاحب السيادة المطلقة على ثلثي الجزائر. وأن المناطق التي احتلها أخيرا والتي تقع في جنوبي - شرقي إقليم الجزائر كانت ذات فائدة كبيرة للإفرنسيين، لأن معسكرهم في (قسنطينة) كان يعتمد في مواده الغذائية عليها. فأخذوا يشعرون بعد ذلك الحادث أن عبد القادر يمكنه في أية لحظة أن يوقف التموين والإمداد عن الإفرنسيين، وقد عرف الأمير عبد القادر أن حركته الأخيرة ستستثير فرنسا، ووجد أنه من الضروري إجراء تحرك ديبلوماسي لتغطية تحركه العسكري، فكتب رسالة إلى ملك فرسا (لويس فيليب) يشكره على هديته التي كان قد أرسلها عشية التوقيع على معاهدة (تافنة) وحمل رسالته هذه إلى (ميلود أو - مولود بن عراش، واليهودي دوران) وأخذا معهما ستة أحصنة عربية مسومة. وكانت مهمة الوفد تتجاوز حدود المجاملة، فقد كان على الموفدين تهدئة المخاوف الإفرنسية من جهة. والتفاهم في موضوع بقاء المنطقة المتنازع عليها تحت سلطة الأمير. غير أن هذا الوفد عاد من مهمته فاشلا. وعلم الأمير وهو في (تاقدامت) يوم 10
كانون الثاني - يناير - 1839م. عن طريق وفده بتصميم فرنسا على التوسع والاستيلاء، فكان رده:(أبدا - أبدأ - لن أصادق على معاهدة تمنح الإفرنسيين جسرا أرضيا بين قسنطينة ومدينة الجزائر، لأخسر بذلك كل الثمار التي جنيتها نتيجة قصر نظرهم بجعل الجزائر محاطة بحلقة مكونة من البحر والشفة وجبال الأطلس الصغرى الواقعة مباشرة فوق وادي القدرة). ولكن على الرغم من هذا الرد الحاسم. فقد استمر الأمير عبد القادر في بذل جهد المستطاع لتجنب اندلاع الحرب. وتابع اتصالاته بالمارشال (فالي) الذي رغب في بذل الجهود أيضا لتحقيق أهداف فرنسا بطريقة سلمية، فأرسل الضابط (دوسال) في شهر شباط - فبراير - 1839 إلى (مليانة) حيث كان الأمير قد عقد مؤتمرا لكل القادة والشويخ لاستشارتهم. وتحدث (دوسال) إلى المؤتمرين، فكان جوابهم جميعا:(الحرب أولى من التنازل عن المناطق المتنازع عليها) وعزز الأمير جهوده السلمية بكتابة عدد من الرسائل إلى ملك فرنسا (لويس فيليب) وإلى وزير الحربية الإفرنسي، غير أن كل (1) هذه الجهود أحبطت بإرسال (دوق - دي أورليانز) ابن ملك فرنسا (لويس فيليب) والذي ما إن وصل إلى الجزائر حتى بدأ عمله بالإشراف على حملة تتحرك من ميلة في أقليم (قسنطينة) مارة بمضيق - باب الحديد - عابرة المنطقة المتنازع عليها، متقدمة منها إلى مدينة الجزائر. وأحيطت خطة العملية بنطاق محكم من الكتمان والسرية. وبدأت القوات الإفرنسية تحركها نحو (بجاية). فأسرعت القبائل
(1) دوق دي أورليانز (DUC D'ORLEANS) من أسرة أورليانز الشهيرة وقد عرف باسم دوق دومال (HENRI DUC D'AUMALE) وهو الإبن الرابع للملك لويس فيليب الأول. جنرال ومؤرخ إفرنسي (1822 - 1897) وهو من مواليد باريس اكتسب شهرة من خلال حرب الجزائر. وكان في الحملة التي استولت على (الزمالة) مقر الأمير عبد القادر سنة 1843.
للدفاع عن بلادها ضد العدوان، وغادر المارشال (فالي) و (الدوق) مدينة ميلة يوم 18 - تشرين الثاني - أكتوبر - 1839. ووصلا مدينة (سطيف) من اتجاهين متقابلين يوم 21 منه. وطلب شيوخ القبائل مقابلة المسؤولين الإفرنسيين، وعندما قابلهم كبار الضباط، أبرزوا لهم جوازات سفر تحمل خاتم الأمير عبد القادر تسمح للقوات الإفرنسية بالمرور، فرضي الشيوح بذلك، وكانت هذه الجوازات مزورة. كما كان ختم الأمير قد زور أيضا. وبدلا من دخول جبال القبائل، عادت القوة التي تحركت نحو بجاية القهقرى. ثم تقدمت نحو (باب الحديد) بعد أن انضمت إلى قوات (فالي). وقام شيوخ القبائل بوظيفة الإدلاء المرشدين عند التقدم عبر المنطقة الجبلية الصعبة، وكانوا مغتبطين بتسهيل تقدم أصدقاء الأمير وحلفائه. وبفضل هذه الخدعة، مرت القوة الإفرنسية المكونة من (5) آلاف مقاتل تقريبا عبر المضيق الهائل لباب الحديد دون طلقة واحدة. ولو كان الأمير عبد القادر هناك بقوة لا تزيد على (500) رجل لما كان بوسع الإفرنسيين دخول (باب الحديد) أو لما كان في استطاعتهم الخروج منه.
مر الإفرنسيون في اليوم التالي وسط قبيلة بني منصور التي بلغتتهم كما لو نزلت عليهم من السماء. ووصلت القوة الإفرنسية يوم 31 تشرين الثاني - أكتوبر - إلى (بني يني) وهناك تبادل العرب والإفرنسيون النار أخيرا. ولم يكن (لابن سالم) خليفة الأمير عبد القادر في تلك المنطقة الوقت الكافي للاستعداد من أجل مواجهة تقدم الإفرنسيين، لذلك اندهش عندما سمع بتقدمهم. وأخذ في الاستعداد متأخرا، إذ لم يلبث (الدوق) أن دخل الجزائر ومعه (فالي) يوم 1 تشرين الثاني - نوفمبر - دخول المنتصرين، واستقبلوا فيها استقبال الفاتحين. وقد دامت الاحتفالات بهذا الحادث أربعة أيام
كاملة. وأقيم احتفال ضخم في ساحة (باب الواد) تكريما لأبطال (باب الحديد). عندما علم الأمير وهو في (تاقدامت) بهذا الانتهاك الصارخ، ركب فرسه وسار ليلا ونهارا حتى وصل إلى مدينة المدية بعد (48 ساعة). وأرسل إلى (فالي) برقية احتجاج شديدة اللهجة كما كتب لابن سالم، تعليمات جديدة لمجابهة الموقف الجديد جاء فيها: (إن خرق الاتفاق قد جاء من المسيحيين! إن العدو أمامكم. اجمعوا أمركم واستعدوا للمعركة. إن الدعوة إلى الجهاد قد وجهت إلى كل مكان. وأنت رجل هذه الجهات. وإنني أضعك هناك لتمنع دخول العدو
…
احذروا البلبلة. اربطوا أحزمتكم وكونوا مستعدين لكل شيء. كونوا على مستوى الحوادث. وتعلموا الصبر فوق كل شيء. لا تدعوا للضعف الإنساني مجالا بينكم. إنها محن أرادها الله. وأن هذه المحن قد خالطت مصير كل مسلم صالح تعهد أن يموت من أجل دينه. وسيكون النصر إن شاء الله حليف خطاكم. والسلام من عبد القادر بن محيي الدين) وفي الوقت ذاته وجه إلى خلفائه الآخرين رسائل ذات مضمون واحد جاء فيها:
(إن الكافر قد جبهنا بالخيانة، ودليل خيانته واضح كالنهار، لقد عبر بلادي دون إذني، فاجمعوا شملكم، واربطوا أحزمتكم استعدادا للمعركة. إنها على الأبواب. وأن الخزينة العامة غير غنية. وأنتم أنفسكم لا تملكون النقود الكافية تحت أيديكم لتواجهوا الحرب. فأجيبوا إذن حالما تتلقون الأوامر بضريبة إضافية. كونوا عجلين في عملكم. وسارعوا إلى الانضمام إلي في المدية حيث أنتظركم). واجتمع الخلفاء والشيوخ والزعماء في المدية، واستمر النقاش طويلا، وطرحت قضية الحرب (فنادت الأصوات - باستثناء
صوت واحد - بالجهاد). فقال عبد القادر: (ليكن ذلك ما دامت هذه هي رغبتكم. ولكني أقبل المسؤولية بشرط واحد. أنكم ستعرضون للتعب والمشقة والمحن والخيبات. وقد تقنطون أو تتعبون من الحرب. فأقسوا لي إذن على القرآن الكريم أنكم لن تتخلوا عني أبدا ما دت أحمل راية الجهاد) فأقسم له جميع الشيوخ والخلفاء.
وفي يوم 28 تشرين الثاني نوفمبر - 1839. أعلن عبد القادر رسميا الحرب على الإفرنسيين وذلك ضمن رسالة وجهها إلى المارشال جاء فيها:
(من الحاج عبد القادر أمير المؤمنين، إلى المارشال فالي. السلام على من اتبع الهدى. لقد اتصلت بأول رسائلك وآخرها. وقد قرأناها وفهمنا محتواها. لقد سبق لي أن أخبرتكم بأن جميع العرب من ولهاصة حتى الكاف (من حدود المغرب حتى حدود تونس) مجمعون على الجهاد، وقد بذلت كل مجهرداتي لتهدئتهم لكن بدون جدوى. ويجب علي طبقا لشريعتنا الخضوع للإجماع. وإنني أعمل بوفاء لكم حين أخبركم بما يجري. فأرسلوا إلي قنصلي الذي هو في وهران. ويمكنه أن يعود إلى أسرته. وكونوا مستعدين. فالمسلمون جميعا قد أعلنوا الجهاد. ومهما حدث فإنكم لن تستطيعوا اتهامي بنقض العهود. إن قلبي صاف ولن تجدوني أعمل خلافا للعدل) كتب مساء الإثنين بالمدية في الحادي عشر من شهر محرم سنة 1255 (18 تشرين الثاني - نوفمبر - 1839).
لقد لمع البرق وسط السحاب، وانفجرت العاصفة، ولم تمض ساعات على إعلان الحرب، حتى كان الأمير عبد القادر يقف فوق مرتفعات (بني صالح) ليتابع منظرا نادرا ما يحدث في التاريخ، لقد
تدفقت جموع العرب وقبائلهم فغطت سهول مدينة الجزائر، في حين كانت أفواج جديدة تنحدر من مختلف الجبال المجاورة لتنضم إلى ذلك الحشد الهائل. وغصت مضائق الأطلس وشعابه بالفرسان والمشاة، لقد انحدروا وكأنهم انهيارات ثلجية ضخمة حطت فوق سهول مدينة الجزائر.
كان خليفتا المدية ومليانة قد عبرا نهر الشلف يتقدمان جنودهما. وأحاط ابن سالم بجيشه من القبائل بالمراكز والمسعمرات الإفرنسية المنعزلة من الشرق. وجاء أهل (حاجوط) هائجين من الغرب. وفي الحال، هوجمت المستمرات وخربت المؤسسات الزراعية ودمرت المراكز الإفرنسية بهذا الطوفان، وغطى دخان القرى المحترقة الجو، فأظلم. وهرب الإفرنسيون إلى الجزائر (المدينة)، التي اجتاحتها موجة من الفزع وملأت الشائعات المرعبة المدينة. فجلى الناس عن منازلهم وقاد الأمير قواته لمهاجمة (قلعة بودور) وهنا ظهرت أول صدمة عنيفة حيث استطاعت نيران المدفعية الإفرنسية إيقاف موجة المقاتلين العرب بفضل كثافة نيرانها ودقتها. وتحركت قيادة (فالي) بسرعة. فدعمت حامياتها وبصورة خاصة في (البليدة وبوفاريك) على أقدام جبال الأطلس. وأعلنت الحكومة الإفرنسية في الوقت ذاته (أنها لن تقبل بعد اليوم مساومة أو تراجعا - وأن الجزائر قد أصبحت منذ الأن وإلى الأبد مقاطعة فرنسية). ووصلت التعزيزات العسكرية بسرعة إلى مدينة الجزائر. وارتفعت القوة الفعلية التي أصبحت تحت تصرف المارشال - فالي - إلى (30) ألف محارب. ووضع (فالي) خطة جديدة للهجوم تختلف عن مخططات القادة السابقين الذين كانوا ينفذون عملياتهم بهجمات مباغتة تتبعها عمليات انسحاب مباغتة. وكانت خطة (فالي) تتلخص فيما يلي:
1 -
الاستيلاء على المراكز التي أقامها عبد القادر وتخريها، بما في ذلك مخازن أسلحته ومستودعات تموينه ..
2 -
مهاجمة وتدمير قواته النظامية التي تعتبر العمود الفقري لجهاز الحرب الجزائري.
3 -
الاحتلال الدائم للمقاطعات الآهلة بالقبائل العربية الكبرى، حتى تقنعها بقدرة فرسنا على حمايتها والدفاع عنها، وبالتالي تدمير سلطة عبد القادر والقضاء على نفوذه وفي هذا الوقت ذاته، حاولت الإدارة الإفرنسية في الجزائر استثارة القبائل العربية ضد الأمير (قبائل بني شجران وبني غدو والحشم والشراقة والغرابة وبني شقران وسواهم). غير أن هؤلاء جميعا أجابوا - على لسان شيوخهم - برسالة واحدة أكدت رفضهم (لاقتراحات النصراني) والتزامهم بدعم (الأمير) حامل راية الجهاد في سبيل الله.