المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد - مفهوم القراءات القرآنية. - أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي. - - أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية تاج العروس نموذجا

[عبد الرازق بن حمودة القادوسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: القراءات والأصوات

- ‌الفصل الأول: القراءات والحركات

- ‌المبحث الأول:التماثل الصوتي في الفتح

- ‌المبحث الثانيالتماثل الصوتي في الكسر

- ‌المبحث الثالثالتماثل الصوتي في الضم

- ‌المبحث الرابعالتماثل في السكون

- ‌الفصل الثانيالقراءات والصوامت

- ‌المبحث الأولالتماثل الصوتي التام (الإدغام)

- ‌المبحث الثانيالتماثل الصوتي الناقص (الإبدال)

- ‌المبحث الثالثالهمز بين التحقيق والتخفيف

- ‌المبحث الرابعهَاءُ السَّكْتِ

- ‌الباب الثاني: القراءات والبنية الصرفية

- ‌الفصل الأولتغيير بنية الأفعال

- ‌المبحث الأولالتغيير في الحركات(البناء للفاعل والمفعول)

- ‌المبحث الثانيالتغيير فى الصوامت (بالزيادة)

- ‌الفصل الثانيتغيير بنية الأسماء

- ‌المبحث الأولتغيير المشتق

- ‌المبحث الثانيالتغيير في صيغة الجمع

- ‌الباب الثالث: القراءات والدلالة

- ‌الفصل الأولالمُعَرَّب

- ‌الفصل الثانيالتغير الدلالى

- ‌المبحث الأولتغير الدلالة لتغير الصوت

- ‌المبحث الثانيتغير الدلالة لتغير البنية

- ‌الخاتمة

- ‌فهرسالقراءات القرآنية الواردة فى الدراسة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌تمهيد - مفهوم القراءات القرآنية. - أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي. -

‌تمهيد

- مفهوم القراءات القرآنية.

- أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي.

- منهج الزبيدي في تناول القراءات.

- مفهوم الصناعة المعجمية.

ص: 8

التمهيد

أولا: مفهوم القراءات القرآنية

اختلف العلماء في مفهوم القراءات؛ لأن منهم من عرفها بجزء منها كما فعل الزركشي في البرهان حيث قال:" القراءات هي: اختلاف ألفاظ الوحي في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرها "(1) ويفهم من تعريفه أن علم القراءات يهتم بكلمات القرآن التي وردت في قراءتها صور مختلفة دون الكلمات المتفق على قراءتها، فاقتصر على عنصر الاختلاف. وكما فعل أحد المعاصرين فقال:"القراءات: وجوه مختلفة في الأداء من النواحي الصوتية، أو التصريفية، أو النحوية "(2).

وقد أضاف الزرقاني عنصر الإسناد إلى عنصر الاختلاف، فقال:"القراءات هي: مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها "(3).

ومنهم من نظر إليها نظرة عامة تشمل الفروع أو العلوم التي تنضوي تحتها فأضافوا عنصرا ثالثا إلى التعريف وهو الكلمات المتفق على قراءتها، كما فعل ابن الجزري حيث قال معرفا للقراءات:"هو علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله"(4).

ويعرفها البناء الدمياطي بكلام قريب من ذلك إلا أنه أكثر تفصيلا فيقول: "هو عِلْمٌ يُعْلَمُ منه اتفاق الناقلين لكتاب الله تعالى، واختلافهم في الحذف والإثبات والتحريك والتسكين، والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره، من حيث السماع"(5). فشمل هذان التعريفان المتفق على قراءته من كلمات القرآن، والذي وردت قراءته على صور وكيفيات مختلفة الإسناد.

(1) البرهان للزركشي: 1/ 395.

(2)

في علوم القرآن للسيد رزق الطويل: 27.

(3)

انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 412.

(4)

النشر: 1/ 67.

(5)

الإتحاف: 1/ 67.

ص: 9

فالقراءات إذن علم يبحث في كيفية أداء كلمات القرآن والنطق بها كما أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، مع معرفة مختلفها إعرابا وبناء، تذكيرا وتأنيثا، تخفيفا وتشديدا، مدا وقصرا

عن طريق التلقي والمشافهة من المشايخ المجودين؛ لأن هناك أمورا في القراءة لم يدركها خط المصحف المكتوب، ولا تعرف إلا عن طريق المشافهة والسماع كالإمالة، والتفخيم، والترقيق، والقلقلة، ونطق الهمزة بين بين ونحو ذلك (1).

وهذه القراءات لم يكن مصدرها اجتهادا من العلماء، ولا طبيعة الخط العربي، ولا رسم مصحف سيدنا عثمان، وإنما كان مصدرها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي أقدم وجودا من كتابة المصحف، وقد أقرأ النبي الصحابة بهذه الكيفيات، وليس أدل على ذلك من حديث يرويه البخاري بسنده عن سيدنا عمر بن الخطاب يقول فيه:"سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"(2).

وعلى الرغم من تواتر هذا الحديث فإنه" من المشكل الذي لا يُدْرَى ما معناه؛ لأن الحرف يَصْدُقُ لغةً على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة " وهذا الإشكال أدى إلى اختلاف آراء العلماء في فهم معناه، حتى إن السيوطي في " الإتقان " يروي في معناه أربعين وجها (3).

(1) انظر: القراءات القرآنية وأثرها في علوم العربية لمحمد محيسن: 1/ 9.

(2)

رواه البخاري في صحيحه: 4/ 392، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، رقم:4608.

(3)

الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/ 45.

ص: 10

ومن أشهر هذه الآراء ما ذكره أبو عبد الله الزنجاني من أن " المراد بالأحرف السبعة: سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو: أقبل وهلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وأخر، ومهل، وامض، وسر"(1). أما أبو حاتم السجستاني فيرى أن الأحرف السبعة هي سبع لغات نزل بها القرآن وهي " لغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر"(2). وأما الرأي الذي أطمئنُ إليه فهو ما قاله الإمام أبو الفضل الرازي، حيث يرى أن الأحرف السبعة تنحصر في الوجوه الآتية:

الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث.

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من: ماض، ومضارع، وأمر.

الثالث: اختلاف وجوه الإعراب.

الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير.

السادس: الاختلاف بالإبدال.

السابع: اختلاف اللغات (3).

وسبب اختياري لهذا الرأي أني وجدته يستوعب كل القراءات التي وقفت عليها في نطاق الدراسة متواترها وشاذها. أما الوجوه الأخرى فقد راعت جانبا من القراءات وأهملت جوانب أخرى فكأنها تفسر الأحرف بعيدا عن القراءات.

ويوضح ابن قتيبة سبب تعدد القراءات حاملا له على مبدأ التيسير فيقول: "فكان من تيسيره عز وجل أن أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم، فالهذلي يقرأ {عَتَّى حِين} (4) يريد:{حَتَّى حِين} ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسدي يقرأ {تِعْلَمُونَ} و {تِعْلَم} و {تِسْوَدُّ وُجُوهٌ} (5)، و {ألم إِعْهَدْ إليكم} (6)، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ {وَإذِا قِيلَ

(1) تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني: 15، 16.

(2)

لطائف الإشارات لشهاب الدين القسطلاني: 1/ 33.

(3)

مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: 148.

(4)

يوسف: 35.

(5)

آل عمران: 106.

(6)

يس: 60.

ص: 11

لَهُمْ} (1)، و {غِيضَ المَاءُ} (2) بإشمام الضم مع الكسر و {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} (3) بإشمام الكسر مع الضم، و {مَالَكَ لَا تَأْمَنَّا} (4) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا مالا يَطُوعُ به كلُّ لسان. ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمِرَ أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات، ومتصرفا في الحركات" (5).

وإذا كانت العلة من القراءات هي التيسير فإن الأمر في القراءة ليس كلأً مستباحا، فلكل أحد أن يقرأ بلغته أو ما شاء له أن يقرأ، ليس الأمر كذلك، إنما القراءة سنة متواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال ابن القاصح:"مذهب الأصوليين وفقهاء المذاهب الأربعة، والمحدثين، والقراء أن التواتر شرط في صحة القراءة، ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر، ولو وافقت رسم المصاحف العثمانية، والعربية"(6).

(1) البقرة: 11.

(2)

هود: 44.

(3)

يوسف: 65.

(4)

يوسف: 11.

(5)

تأويل مشكل القرآن: 30.

(6)

سراج القارئ المبتدئ وتذكرة المقرئ المنتهي لابن القاصح: 6.

ص: 12

ثانيا: أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي

كان لنزول القرآن باللغة العربية أعظم الأثر في توطيدها وتثبيت دعائمها وتقوية سلطانها على الألسن قبل النفوس، ومنذ نزول القرآن ارتبطت قدسية القرآن باللغة العربية فصار تعلم العربية فرضا على جماعة من الأمة وهم الذين يتصدون لتفسير القرآن، ودراسة التراث الإسلامي. والحقيقة التي لا مراء فيها أن العلاقة بين العربية والقرآن كالعلاقة بين وجهي العملة الواحدة، فلا فهم للقرآن إلا بالعربية، ولا سلطان للعربية إلا بالقرآن. والمتتبع للدرس اللغوي منذ عصر الجمع والرواية والتدوين، يرى إلى أي مدى أثر القرآن في اللغة العربية.

فعلى صعيد لهجات القبائل العربية، تجد الفضل الأكبر في الحفاظ عليها حتى آخر الزمان يعود إلى القرآن الكريم وقراءاته، ولولاه لما سمعت هذه اللهجات، ولضاعت كما ضاع الكثير غيرها من التراث العربي الذي لم يتعلق بالقرآن. وكان للقرآن الفضل دون منازع وراء جمع اللغة وروايتها وتدوينها وبعد عصر الجمع والتدوين، تفرغت جماعة من العلماء وتوفرت على دراسة العربية، وكانت هذه الدراسات معظمها وإن لم تكن كلها من منطلق ديني، وهو خدمة القرآن الكريم عن طريق تسهيل وتعليم لغته للخاصة والعامة قربة إلى الله تعالى، حتى أنه يصعب على المطالع في تراجم علماء اللغة القدامى أن يجد أحدا منهم بعيدا عن القرآن. وقد ذكر صراحة جُلُّ مَنْ أَلَّفَ في عِلْمِ العربية في مقدمة كتبهم أن دافعهم هو خدمة القرآن. بل إن معظم رجال الدين في مختلف العصور يعدون من اللغويين، ذلك أن التصدي لحمل القرآن لابد معه من أدوات تعين على فهمه، ومن أول هذه الأدوات اللغة العربية، ومن هنا تجد نجوما لمعت في سماء العربية ودراستها هم في الأصل دعاة وحملة قرآن مثل: ابن عباس، والطبري، والقرطبي، وأبي حيان وابن مالك، والإمام مالك بن أنس، والشافعي وغيرهم كثير؛ ذلك لأن" حياة لغتنا العربية في هذا الكتاب الكريم، ولا يعرف التاريخ لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن. ولا سبيل إلى فهم حياة هذه الأمة إلا بدرس كتابها ودرس لغتها التي عاشت فيه.

ص: 13

ولسنا نعرف درسا لغويا آصل ولا أعمق من درس يصل بين العربية والقرآن" (1)

ومجرد نظرة على الفهرس التفصيلي لكتاب البرهان للزركشي أو الإتقان للسيوطي، ترى عشرات المباحث اللغوية في سائر مستويات دراسة اللغة: صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية، كان منطلقها هو القرآن الكريم وقراءاته. فعلى المستوى الصوتي تجد أن القرآن الكريم هو النص العربي الوحيد الذي نُقِلَ من جيل إلى جيل عن طريق التلقي القائم على السماع والعرض نقلا متواترا أجمعت الأمة على صحته، وقد بذل علماء القراءة في سبيل نقل القرآن كما سُمِعَ من النبي صلى الله عليه وسلم جهودا جبارة أثمرت علما واسعا، هو علم القراءات القرآنية، والتجويد يعد من أشهر أبوابه، ومباحثه تتعلق بكيفية الأداء الصوتي لبعض المواضع في القرآن الكريم، أداء منضبطا بقوانين صارمة، صاغها القراء ضمانا للأداء المتقن للقرآن، وهو يعبر الزمن والمحن لا يتأثر بعربية فَسَدَتْ، ولا بأَعْجَمِيَّةٍ حَكَمَتْ. فَأَيُّ نَصٍّ عربي له ما للقرآن الكريم من وسائل حفظ مُوكَلَةٍ لِرَبِّ الأَرْبَاب:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2). ولما كان الأمر كما وَصَفْتُ رأى العلماء - على امتداد التاريخ - القرآن الأنموذج اللغوي الفَذَّ، الذي يستحق أن يكون مُنْطَلَقَاً لأي دراسة لُغَوِيَّةٍ، يُرَادُ لها القبولُ والخلودُ، فَتَزَيَّنَتْ كُتُبُ اللُّغَةِ بِآيِهِ وشَوَاهِدِهِ حتى أنه يَعِزُّ على مُطَالِعِ كُتُبِ العَرَبِيَّةِ أن يجدَ كتاباً تَخْلُو صفحاته من شواهده وفوائده؛ لما امتلكه من ثقة جعلته قَيُّومَاً على اللغةِ وشاهداً ودليلاً. ومما يوضح مدى التأثير المتبادل بين العربية والقراءات، ما ذكر في تراجم اللغويين والقراء والفقهاء. لقد كان علماء العربية الأوائل يجمعون إلى علم العربية، علما أو أكثر من علوم القرآن من قراءة، أو تفسير، أو غير ذلك، فقد " أخذ عبد الله بن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر القراءة وأخذها عن نصر بن عاصم" (3). وكان أبو عمرو بن العلاء إماما في العربية والقراءة حتى " قال شعبة لعلي بن نصر الجهضمي: خذ قراءة

(1) اللهجات العربية في القراءات القرآنية لعبده الراجحي: ص1.

(2)

الحجر: 9.

(3)

مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: 32.

ص: 14

أبي عمرو، فيوشك أن تكون إسنادا. قال أبو حاتم: وكان أبو عمرو يكتب إلى عكرمة بن خالد في مكة، فيسأله عن الحروف" (1).

وممن أجاد النحو من القراء يحيى بن يعمر، كان أعلم الناس وأفصحهم ومع ذلك لا يذكرونه؛ لأنه استبد بالنحو غيره (2).

وكان الأوائل من أهل العلم يعدون العلم بالعربية منقبة للقارئ، ومدعاة لتفضيله على غيره، حتى "قال أبو حاتم: الكسائي أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم " (3).

و"قال المازني: قرأت على يعقوب الحضرمي القرآن، فلما ختمت رمى إليَّ بخاتمه، وقال: خذ ليس لك مثل ". وختم أبو حاتم على يعقوب سبع ختمات، ويقال: خمسا وعشرين ختمة، فأعطاه خاتمه، وقال: أقرئ الناس (4). و"كان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان، والنهوض باللغة والقرآن مع علم واسع بالإعراب أيضا"(5).

وقد قيل نحو من هذه العبارات في أمثال ابن مالك وغيره من الأئمة، وفيما أوردته كفاية، وهو يصور مدى الترابط والتلازم بين العربية وعلومها والقرآن وعلومه من قراءات، وتفسير، ورسم، وغير ذلك.

ولو نظر ناظر في تراجم القراء، وتأمل أحوالهم لوجد أن المقدم منهم في القراءة متقدم في علم العربية. ولو نظر في ترجمة الكسائي لوجد فيها " أحد القراء السبعة، كان إماماً في النحو، واللغة، والقراءات"(6)، ومثل هذا في ترجمة سبط الخياط " وهو أحد الذين انتهت إليهم رئاسة القراءة علما وعملا

وكان إماما في اللغة والنحو جميعا " (7).

(1) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: 35

(2)

السابق: 50.

(3)

السابق: 121.

(4)

وفيات الأعيان لابن خلكان: 6/ 173.

(5)

مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي:130 – 132.

(6)

وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 295.

(7)

غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 192.

ص: 15

وكان إحكام العربية مدعاة لحذق الفن وعلم القراءة، كما جاء في ترجمة أبي سعيد الذي قيل عنه "كان رأسا في نحو البصريين، تصدر لإقراء القراءات واللغة، والفقه، والفرائض، والعربية، والعروض. قرأ القرآن على ابن مجاهد، واللغة عن ابن دريد، والنحو عن أبي بكر بن السراج "(1). وقد وُصِفَ يوسف بن إبراهيم بإحكام العربية (2).

وكان القراء سابقا يبذلون ما يملكونه في سبيل إتقان العربية، قال خلف بن هشام (150 - 229هـ (:"أشكل علي باب من النحو، فأنفقت ثمانية آلاف درهم حتى حذقته "(3). وكانوا يُعْنَوْنَ بمعرفة من أَخَذَ عنهم القَارِئُ عِلْمَ العربيةِ: النحوَ، واللغةَ، والأدبَ، والمعاني.

والتميز في علوم العربية مدعاة الاستقلال، والانفراد بالقراءة، ومدعاة للاجتهاد في الاختيار "قيل: إن وَرْشَاً لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مَقْرَأَ وَرْشٍ، فلما جِئْتُ (القائل أبو يعقوب الأزرق) لأقرأ عليه قلت له يا أبا سعيد: إني أحب أن تُقْرِئَنِي مَقْرَأَ نافعٍ خالصاً، وتَدَعُنِي مما استحسنتَ لنفسك، فَقَلَّدْتُهُ مَقْرَأَ نَافِعٍ" (4).

ويظهر من النصوص السابقة أنهم ما كانوا يقنعون بإتقان علوم العربية صناعة، بل كانوا يطلبون الفصاحة، وكانت الفصاحة قبل أن تدون علوم العربية وقالوا عن عاصم بن أبي النجود:"جمع بين الفصاحة، والإتقان والتحرير، والتجويد، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن. قال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أحداً أقرأ للقرآن من عاصم بن أبي النجود. وقال حسن بن صالح: ما رأيت أحداً قط كان أفصح من عاصم، إذا تكلم كاد يدخله خيلاء"(5). و" كان أحمد بن عبد العزيز من أطيب الناس صوتا، وأفصحهم أداء"(6). وقد وصف عبد الوارث التنوري بالفصاحة والبلاغة، قال أبو عمر الجرمي: "ما رأيت فقيها أفصح

(1) سير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 16.

(2)

مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: 54.

(3)

السابق: 172.

(4)

السابق: 150.

(5)

غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 153.

(6)

معرفة القراء الكبار للذهبي: 254.

ص: 16

منه" (1). وفي ترجمة عبد الله بن كثير " كان فصيحاً بليغاً مفوها

قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو: قرأت على ابن كثير. قال: نعم، ختمت على ابن كثير، بعدما ختمت على مجاهد. وكان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد" (2).

وكان مما ينتقص به المقرئ أو القارئ قصوره في العربية، كما قال أبو حيان في حسن بن عبد الله التلمساني (ت 685 هـ)" كان بربريا، في لسانه شيء من رطانتهم، وكان مشهورا بالقراءات، عنده نزر يسير جدا من العربية كألفية ابن معط، ومقدمة ابن بابشاذ، يحل ذلك لمن يقرأ عليه"(3). وقد رد الذهبي على أبي حيان قوله فيه، وقال: "إنه كان عارفا بالعربية، بل قوي المعرفة، ويكفيه أن يشرح ألفية ابن معط للناس

" (4). وكان القصور في علم العربية، مدعاة إلى القصور في علم القراءات، كما قيل في محمد بن منصور (ت700هـ (: "إنه لم يبرع في العربية

وكان متوسط المعرفة في القراءات" (5). وقال عاصم: "من لم يحسن من العربية إلا وجها لم يحسن شيئا" (6).

وبعد، لعل في هذه النظرة العجلى لجانب من كتب التراجم ما يوضح للقارئ الصلة الوثيقة بين علوم القرآن، وعلوم العربية، وكأنهما توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. والنوعان من العلوم مختلفان. فأولهما غاية، والعلوم الأخرى خدم له، والثاني آلة يتوصل بها إلى فهم النوع الأول، وخدمته وإتقانه. ولا أغالي إذا قلت: إن علوم العربية على اختلاف أنواعها، إنما وجدت لخدمة القرآن وعلومه، ولعل المسلمين لم يُعنوا بالعربية وآدابها ولم يخدموها إلا لأنها الأصل الخادم للقرآن وعلومه، من قراءة، ورسم، وإعراب وبلاغة، وإعجاز، ومعنى وتفسير (7).

(1) معرفة القراء الكبار للذهبي: 135.

(2)

غاية النهاية: 198.

(3)

مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: 561.

(4)

السابق: 560 – 561.

(5)

مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: 569.

(6)

السابق: 75.

(7)

عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم لسليمان بن إبراهيم

العايد: 40 - 51.

ص: 17

ولأن الدارس قد اتضح لديه أن معظم القراءات المستخدمة في دراسة اللغة من الشاذ، فقد رأى أن يوضح الموقف منها على صعيد الدراسات الدينية واللغوية. وجملة القول في هذه المسألة أنه قد تباين رأي المحققين من الفقهاء والقراء من ناحية، ورأي اللغويين من ناحية أخرى في موقفهم من القراءات الشاذة، فالمحققون من الفقهاء والقراء والأصوليين ينظرون إلى القراءة على أنها وسيلة تعبُّد، وطريق تقرُّب، وشرط لصحة الصلاة، ومصدر للتشريع والتحريم والتحليل. وهناك إلى جانبهم فريق اللغويين الذين نظروا إلى القراءة نظرة مغايرة؛ لأن هدفهم مختلف، وغايتهم من قبول القراءة ليست العبادة أو الصلاة بها، إنما هي مجرد إثبات حكم لغوي أو بلاغي؛ ولذا فقد وضعوا شرطًا واحدًا لصحة الاستدلال اللغوي بالقراءة، وهو صحة نقلها عن القارئ الثقة حتى ولو كان فردا، سواء رويت القراءة بطريق التواتر، أو الآحاد، وسواء كانت سبعية، أو عشرية، أو أكثر من ذلك. بل إن ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك بقوله: " وغرضنا منه – أي من كتاب المحتسب - أَنْ نُرِيَ وَجْهَ قُوَّةِ ما يُسَمَّى الآنَ شَاذاً، وأَنَّهُ ضَارِبٌ في صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِجِرَانِهِ، آخذٌ مِنْ سَمْتِ العربيةِ مُهْلَةَ مَيْدَانِهِ، لئلا يُرَى مُرَىً أَنَّ العُدُولَ عنه إنما هو غَضٌّ منه، أو تُهْمَةٌ له. ومعاذَ اللهِ! وكيف يكون هذا والرواية تَنْمِيهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1)؟. وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ، وأخذه: هو الأخذ به، فكيف يَسُوغُ مع ذلك أن ترفضه وتجتنبه. فإن قَصُرَ شيء منه عن بلوغه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يَقْصُرَ عن وَجْهٍ من الإعراب داع إلى الفسحة والإسهاب، إلا إننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع من يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه. نعم وأكثر ما فيه أن يكون غيره من المجتمع عندهم عليه أقوى منه إعرابا، وأنهض قياسا، إذ هما جميعا مرويان مسندان إلى السلف رضي الله عنهم فإن كان هذا قادحا فيه، ومانعا من الأخذ به، فليكونن ما ضَعُفَ إعرابه مما قرأ السبعة به

(1) الحشر: 7.

ص: 18

هذه حاله، ونحن نعلم مع ذلك قراءة ابن كثير:" ضئاء"(1) بهمزتين مكتنفتي الألف، وقراءة ابن عامر:{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ} (2)

وهو أيضا مع ذلك مأخوذ به" (3).

والقراءة - من زاوية الاستشهاد اللغوي البحت - نص عربيّ، رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته، ولهذا فهي - حتى على فرض اختلاف العلماء في صحة التعبد والصلاة بها - تحقق شرط اللغوي، وهو النقل عن العربي الثقة، حتى ولو كان فردًا، بل إن السيوطي يصرح بما هو أكثر من ذلك حين ينفي اشتراط العدالة في العربي الذي يستشهد بكلامه.

ولما كانت غاية دراسة القراءات هنا غاية لغوية معجمية، لا تتجاوز إثبات وجود اللفظ في اللغة، أو ضبط نطقه، أو ذكر معناه، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا، ولا تبني قاعدة، فلا يفسد هذه الغاية أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا؛ إذ لم يشترط أحد من اللغويين لحجية النص في مثل هذه الحالة كثرة أو قلة.

وإذا كان جَمْعُ عثمانَ المسلمين على المصحف الإمام قد أزال الفرقة بينهم ووحد كلمتهم، وألزمهم بالصلاة والتعبد بنصوصه - فإنّ ذلك لم يلغ ما سجله المسلمون من قراءات على اعتبار أنها - في أضعف حالاتها - تعد نصوصًا لغوية موثقة، وكلامًا عربيًا فصيحًا. وما خالف رسم المصحف من هذه القراءات لا يخرج - حتى في أدنى درجاته - عن أن يكون من باب التفسير، أو الشرح اللغوي الذي كان يسجله بعض الصحابة القراء أو بعض المتلقين عنهم وإذا كان جمهور العلماء يحظر التعبد بالقراءات التي لم تتوفر فيها الشروط الثلاثة سابقة الذكر، فهناك غايات أخرى كثيرة تُرْوَى من أجلها كُلُّ القراءات وتدرس، وتشرح ويستخرج منها الفوائد اللغوية (4).

يقول الأستاذ الدكتور السيد رزق الطويل: "وكتب النحو حافلة بعشرات القراءات الشاذة يستشهدون بها على قضايا نحوية. وهم على حق فيما فعلوا؛

(1) يونس: 5.

(2)

الأنعام: 137.

(3)

المحتسب: 1/ 32، 33.

(4)

انظر: القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب لعبد الفتاح القاضي: 1/ 8.

ص: 19

لأنها أوثق من أبيات الشعر مجهولة القائل، بل أوثق ممن عرف قائلها؛ لأنها من ناحية الرواية وإن كانت أحادا إلا أن رواتها أكثر ثقة " (1). ويقول الأستاذ الدكتور عبده الراجحي:" وليس من شك في أن القراءات القرآنية تمثل منهجا في النقل لا يصل إلى وثاقته علم آخر مهما يكن حتى علم الحديث"(2).

ما سبق كان بيانا للتأثير المتبادل بين القراء والعربية بصفة عامة، أما مدى تأثير القراءة في المعجم العربي فيشكل ظاهرة لا يمكن انكارها، في المعاجم العربية من لدن العين للخليل، وحتى التاج للزبيدي. فمن أمثلة ما جاء في "العين":

(1)

في (ع. ك. ف) يستشهد بالقراءة على مجيء أكثر من لغة في مضارع عكف حيث جاء بكسر الكاف وضمها، فقال: "عكف يعكف عَكفا وعُكُوفا: وهو إقبالك على الشيء لا تصرف عنه وجهك

وقرئ: {يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (3) بكسر الكاف، و" يَعْكُُفُونَ "بضمها " (4).

(2)

وفي (ط ل ع) تأتي القراءة كشاهد سماع يخالف القياس فيقول: "المَطْلَعُ: المَوْضِعُ الذي تَطْلُعُ عليه الشمس. والمَطْلَعُ: المصدرُ من طَلَعَ. ويقرأ: {مَطْلِعِ الْفَجْرِ} (5) وليس بقياس"(6).

(3)

في (ع ب د) تأتي القراءة شاهدا على المعنى، يقول:"والعَبَدُ، بفتح العين والباء؛ الأَنَفَةُ والحمِيَّةُ من قول يُسْتَحْيَى منه ويُسْتَنْكَفُ. ومنه: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (7) أي: الآنفين من هذا القول. ويقرأ: "العَبِدِينَ "، مقصورة على: عَبَدَ، يَعْبُدُ. ويقال: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: كما أنه ليس للرحمن ولد فلست بأول من عبد الله من أهل مكة"(8).

(4)

وفي (ب. د. ع) وفي مجال الاستدلال على أثر المعنى في الإعراب يقول: "ويقرأ: {بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (9)، بالنصب على جهة التعجب لما قال المشركون، بِدْعَاً ما قلتم، وبديعا ما اخترقتم. أي: عجيبا، فنصبه على التعجب والله أعلم بالصواب. ويقال: هو اسم من أسماء الله وهو البديع لا أحد قبله. وقراءة العامة الرفع، وهو أولى بالصواب"(10).

(5)

وفي (ف ع ل) يذكر الفرق بين فتح الفاء وكسرها، وأن الفتح مصدر والكسر اسم، فيقول:"فَعَلَ يَفْعَلُ فَعْلاً وفِعْلاً، فالفَعْلُ: المصدر، والفِعْل: الاسم، والفَعالُ اسمٌ للفِعل الحسَن، مثل الجود والكرم ونحوه. ويقرأ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فَعْلَ الْخَيْرَاتِ} (11) بالنصب"(12).

وقد أثر (العين) بصفته المعجم الموسوعي الأول والرائد عند العرب، في جميع المعاجم التي ظهرت بعده، وإن اختلف هذا الأثر في كل منها. فتأثرت في الموضوعات اللغوية من تفسيرات، ولغات قبلية، ومعرب، ومولد، حتى إننا نجد كثيرا من عباراته بنصها في أكثر المعاجم المتأخرة. وتبنت جميعها أو معظمها الغرض الذي أراد أن يحققه، وهو جمع اللغة كلها: بواضحها، وغريبها، ولم يشذ عن ذلك إلا الجمهرة، وربما الصحاح، والأساس (13).

وعندما ألف الأزهري، أبو منصور: محمد بن أحمد (282 - 370هـ) معجمه "تهذيب اللغة " اعتنى فيه بالقراءات القرآنية عناية فاق فيها غيره من اللغويين. والسبب في ذلك هو ربط القرآن والدين باللغة، وسبب آخر أراه أهم وأكبر يتمثل في أن للمؤلف نفسه كتابا موضوعه:"معاني القراءات" وجه فيه للقراءات السبع، ومن الطبيعي أن هذا المخزون العلمي، يجد طريقه للظهور في "تهذيبه".

(1) في علوم القرآن: 66.

(2)

اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص: 1.

(3)

الأعراف: 138.

(4)

العين: 1/ 46.

(5)

الفجر: 5.

(6)

معجم العين: 1/ 87.

(7)

سورة الزخرف: 81.

(8)

معجم العين: 1/ 96.

(9)

سورة البقرة: 117.

(10)

معجم العين: 1/ 97.

(11)

سورة الأنبياء: 73.

(12)

معجم العين: 1/ 115.

(13)

انظر: المعجم العربي لحسين نصار: 1/ 232.

ص: 20

والمطالع لمادة (ك ذ ب) يستطيع أن يتبين إلى أي مدى اعتمد الأزهري على القراءة في شرح مادته المعجمية، فهو في هذه المادة قد اعتمد على القراءة القرآنية في تناول المداخل وشرحها، وقد استمر في ذكر القراءة مستدعيا بها أقوال العلماء من أهل اللغة، أو المفسرين، أو أصحاب المعاني من أول المادة إلى آخرها، ولو أنك جردت المادة من القراءات فلن يبقى فيها شيء. وكنت ألحقت هذه المادة في هذا الموضع من الدراسة لأدلل على صدق المقال، ثم حذفتها خشية الإطالة، واكتفيت بالإحالة عليها (1).

وقد أدرك الشِّدْيَاق عناية الأزهري بالقرآن والقراءات فقال: " كَلَفَ الأزهريُّ في التهذيب بتفسير الآيات القرآنية. وليس بغريب أن يُعْنَى الأزهري بهذه الناحية، وهو الذي أَلَّفَ في غريب ألفاظ الفقهاء، وما أشد الصلة بين كتب الفقه والحديث والتفسير"(2).

(1) انظر تهذيب اللغة مادة: كذب: 3/ 356 – 359.

(2)

الجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق: 48.

ص: 22

ثالثا: منهج الزبيدي في تناول القراءات

المعجميون في الغالب الأعم تتشابه طريقتهم في تناول الآية القرآنية بصفة عامة والقراءة بصفة خاصة، فحينما يضع المعجمي مداخله التي تتخلل المادة ينظر هل استخدم القرآن الكريم هذه المفردة؟ فإن وجدها غالبا ما يبني عليها مدخله، كما فعل الأزهري في مادة (ك ذ ب)، وكما فعل الزبيدي في (ق ن ط) حيث بدأ المادة بذكر الفعل الثلاثي المجرد ثم استشهد عليه بالآية والقراءة، واسترسل في ذلك فقال:" قَنَط: كنَصَرَ وضَرَبَ وحَسِبَ وكَرُمَ - وسَقَطَ في بَعْضِ النُّسَخِ وحَسِبَ - قُنُوطاً بالضَّمِّ مَصْدَرُ الأَوَّل والثّانِي قال ذلِكَ أَبو عَمْرِو ابنُ العَلاءِ، وبِهِمَا قُرِئَ قولُه تعالى: {ومَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّه إِلَاّ الضّالُّونَ} (1). قلتُ: أَمَّا يقنُط كيَنْصُر فَقَرَأَ به الأَعْمَشُ، وأَبو عَمْرٍو والأَشْهَبُ العُقَيْلِيُّ، وعِيسَى بنُ عُمَرَ وعُبَيْدُ بن عُمَيْر، وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ، وطاوُوس فهو قانِطٌ. وفيه لغةٌ أُخْرَى: قَنِطَ كَفَرِحَ وقَرَأَ أَبُو رجَاءٍ العُطَارِدِيُّ، والأَعْمَشُ، والدُّورِيُّ عن أَبِي عَمْرٍو {مِنْ بَعْدِ مَا قَنِطُوا} (2). بكسرِ النُّونِ وَقَرَأَ الخَلِيلُ {من بَعْدِ ما قَنُطُوا} بضمِّ النُّونِ قَنَطاً مُحَرَّكةً وقَنَاطَةً كسَحَابَةٍ. وقَنَطَ كمَنَعَ وحَسِبُ وهاتَانِ على الجَمْعِ بين اللُّغَتَيْنِ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن الأَخْفَشِ أَي: يَئِسَ فهو قَنِطٌ كفَرِحٍ، {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} (3) وقُرِئَ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَنِطِينَ} قلتُ: هو قِرَاءَةُ ابنِ وَثّابٍ، والأَعْمَش، وبِشْر بنِ عُبَيْد، وطَلْحَةَ، والحُسَيْنِ عن أَبِي عَمْرٍو"(4).

ولكي تؤتي القراءة ثمارها، وتُفُعَّلُ تَفْعِيلاً يسهم في الصناعة المعجمية لا بد لها من شروط أهمها:

الأول: أن توضع في المادة التي إليها تنتمي.

والثاني: أن توضع في المدخل المناسب داخل هذه المادة، كما فعل الزبيدي في (ق ن ط) السابق.

الثالث: أن يُكْتَفَى من القراءات الواردة في اللفظة بالقراءة المناسبة لمقام الشاهد دون الاستطراد بذكر كل القراءات الواردة فيه.

(1) الحجر: 56.

(2)

الشورى: 28.

(3)

الحجر: 55.

(4)

التاج: (قنط).

ص: 23

وهذا هو الأصل المعول عليه عند الزبيدي وغيره. ولكنه كثيرا ما يخرق هذا الأصل، فيذكر القراءة في غير مادتها كما فعل في (ك ذ ب) حيث ذكر قوله تعالى:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (1) ثم قال: "وقرىء {بِدَمٍ كَدِبٍ} بالمهملة، وقد تقدمت الإشارة إليه"(2). وهو عادة ما يكرر القراءة في مظانها، فقوله تعالى:{وإِنّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (3) وقرئ أيضا بالدال: {حَادِرُونَ} ؛ لذلك فقد ذكر القراءتين مرتين: الأولى في (ح در) وأخرى في (ح ذ ر).

إن ذكر القراءة التي لا تناسب المقام بهذه الكيفية لا قيمة لها في أصل الصنعة المعجمية؛ بحيث إنها لو حذفت لا يتبين أحد خللا في موضعها، وكل ما فيها من فائدة هو لفت الانتباه إلى أن في اللفظ قراءة بالدال المهملة، وهذه أيضا لا معنى لها؛ لأنه قد ذكر قراءة الدال في موضعها بالتفصيل، فَذِكْرُهَا هنا على كل الوجوه فضل من القول. وقد كرر الصنيع نفسه في (أخ ذ) حيث تناول قراءة مُجَاهِدٍ {لَوْ شِئْتَ لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (4) بالتفصيل، رغم أنه تناولها في موضع آخر حيث جعل لها مادة مستقلة مدخلها:(تخذ) وبنى هذه المادة من أولها إلى آخرها على هذه القراءة وأقوال العلماء فيها.

كما أن الزبيدي كثيرا ما يسترسل فيذكر كل القراءات الواردة في الموضع الواحد، وهذا ما يجعله كثيرا يخالف أصول الصناعة المعجمية، فقد تَكُونُ القراءات - التي ذَكَرَهَا استرسالا - لا تَمُتُّ بصلة للموضع الذي ذكرها فيه كما فعل في (ص ور) حيث ذكر قوله تعالى {فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ} (5) بضم الصاد وكسرها قراءتان سبعيتان: أي وَجِّهْهُنّ، من صار يصور ويصير، ولكنه يستدعي معهما قراءتين تنتميان إلى أصلين آخرين هما:{صُرَّهُنَّ} من الصَّرِّ أي الشَّدِّ، والثانية:{فَصِرَّهُنَّ} من الصَّرِيرِ أي الصوت أي صِحْ بِهِنَّ. وبهذا

(1) يوسف: 18.

(2)

التاج: (كذب).

(3)

الشعراء: 56.

(4)

الكهف: 77.

(5)

البقرة: 260.

ص: 24

يكون قد وضع القراءة في غير موضعها، وهذا الصنيع لا يخدم المادة، ولا يُفَعِّلُ القراءة. وأحيانا ينطق الحال برغبته الشديدة في مجرد جمع واستقصاء القراءات الواردة في الموضع الذي يتناوله، حتى لو لم تكن مناسبة للمقام، كما فعل في (ع ب د) حيث ذكر كل القراءات الواردة في قوله تعالى {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (1) ومن بينها ما جاء بصيغة المبني للمعلوم، والمبني للمجهول، والمخفف، والمشدد، والمسند إلى ضمير الغائب المفرد، وضمير الغائب الجمع، وصيغ شتى من جموع التكسير، وفي هذا الخضم لا يستطيع القارئ أن يتبين موضع الشاهد، بل يصعب على الزبيدي نفسه إبرازه.

وفي أحيان أخرى يشعر الزبيدي بلون من ألوان الصراع بين رغبته في استقصاء القراءات، وأصول الصناعة المعجمية، فيشعر أن استقصاءه سوف يخل بتلك الأصول إخلالا واضحا، فابتكر طريقة يجمع فيها بين الحُسْنَيَيْنِ، فبعد أن تنتهي المادة يقول:"فائدة"(2) أو "مهمة" أو يجمع بينهما فيقول: "فائدة مهمة"(3) ثم يذكر القراءات التي اجتهد في جمعها من كتب القراءات. وقد فعل ذلك في (م ل ك) فبعد أن انتهى من عرض المادة قال: "مهمة" ثم استرسل في ذكر القراءات الواردة في "ملك"، والقراء الذين قرؤوا بها، والمعاني الواردة عليها، ومفاضلة العلماء بين هذه القراءات من حيث المعنى. وأعود فأقول: إن هذه الطريقة تخالف أصول الصناعة، حيث لم تقع القراءة في موضعها المناسب لها، فتفقد قيمتها الاستدلالية.

أما عن مسألة ذكر القراءة والإسناد فللزبيدي فيهما مشارب متعددة، فهو أحيانا يذكر القراءة مستقصيا كل من قرأ بها، كما فعل في (ق ن ط) سابق الذكر. وأحيانا يذكر القراءة دون ذكر القارئ، بل يكتفي بقوله:" وقرئ " ثم يذكر القراءة، كما فعل في {جُهْدَهُمْ} (4) بضم الجيم وفتحها.

(1) المائدة: 60.

(2)

انظر التاج: (أخذ).

(3)

انظر التاج: (رمق).

(4)

التاج: (جهد).

ص: 25

وكما فعل في {قَرْحٌ} (1) بفتح القاف وضمها، وفي {تَهْوِي} (2) بكسر الواو وفتحها، وسوف يتبن ذلك من خلال مطالعة الجداول التي تخللت الدراسة. وفي بعض المواضع يكتفي بقوله:"قرئ بها " منوها عن القراءة دون ذكرها صراحة.

(1) التاج: (قرح).

(2)

التاج: (ألى).

ص: 26

رابعا: مفهوم الصناعة المعجمية

عند الحديث عن الصناعة المعجمية لابد من التفريق بين مصطلحين كثيرا ما يحدث التداخل بينهما، أما المصطلح الأول فهو Lexicology ويعني: علم المعاجم، وهو فرع من فروع علم اللغة يعنى بتصنيف ودراسة مفردات أي لغة بالإضافة إلى شرح معناها، أو دلالتها المعجمية، استعدادا لعمل المعجم. أي أنه العلم النظري الذي ينظر لعمل المعجم. أما المصطلح الثاني فهو Lexicography ويعني: علم صناعة المعاجم، وهو الفرع التطبيقي للمصطلح الأول، ويختص هذا العلم بفن الصناعة المعجمية، والأصول التي تقوم عليها أنواع المعاجم، ونظم ترتيب المفردات وشرحها داخل المعجم (1).

وللصناعة المعجمية مبادئ وأصول تمثل محاور هذا الفن تتمثل في:

1 -

مادة المعجم.

2 -

ترتيب المداخل.

3 -

ترتيب الألفاظ داخل كل مادة.

4 -

شرح المعنى المعجمي (2).

أولا: مادة المعجم:

والمقصود بمادة المعجم الألفاظ التي يقوم المعجمي بجمعها وترتيبها وشرح دلالاتها، وتختلف هذه المادة تبعا للهدف الذي وضع له المعجم. وقد "اتبع العرب القدماء ثلاثة طرق لجمع مادة معاجمهم وهي:

1 -

طريق الإحصاء العقلي الذي اتبعه الخليل بن أحمد في معجمه " العين" واستطاع من خلاله جمع مادة اللغة من خلال الإحصاء الرياضي، والقيام بعمليات التوافيق والتباديل.

2 -

طريق المشافهة الذي اتبعه الأزهري في معجمه "تهذيب اللغة" واستطاع من خلاله القيام بجمع ميداني لمادة كثيرة سجلها في معجمه.

(1) علم المعاجم (بحث ضمن: في المعجمية العربية المعاصرة، إصدار جمعية المعجمية العربية بتونس) لحلمي خليل: 74 - 89.

(2)

السابق: 240.

ص: 27

3 -

طريق جمع مادة المعجم من معاجم السابقين، وهو الطريق الذي ظل سائدا حتى العصر الحديث دون محاولة أخذ مادة المعجم من مادة حية تم جمعها من خلال النصوص" (1).

ثانيا: ترتيب المداخل:

أما المدخل فهو عبارة عن الوحدة اللغوية التي ستوضع تحتها بقية الوحدات اللغوية الأخرى أو المشتقات. وهو في اللغة العربية واللغات الاشتقاقية يتكون غالبا من الحروف التي تُكَوِّنُ البنية الأساسية الثابتة للكلمات والمشتقات، أي الجذر Root وهو غالبا ما يتكون في اللغة العربية واللغات السامية من حروف صامتة Consonants أما في غير العربية فقد يتكون من صوامت وصوائت Vowels. وغالبا ما تلتزم المعاجم بالترتيب الألفبائي Alphabetical Sequence سواء على مستوى المدخل الواحد أو على مستوى مداخل المعجم كلها (2).

وقد عرفت العربية أنواعا أخرى من ترتيب المداخل غير هذا الترتيب. فأقدم معجم عربي هو "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175هـ) قد رتب مداخله على أساس الترتيب المخرجي لأصوات حروف العربية، مبتدئا بأقصاها مخرجا من الحلق وهو حرف العين – كما تصور – ومنتهيا بما يخرج من الشفتين وهو الميم. وقد رتب مادته داخل المدخل على أساس من التقليب الصوتي؛ واقتفى أثره بعض المعجميين نحو: إسماعيل بن القاسم القالي (ت:356هـ) في معجمه "البارع في اللغة"، وأبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ) في "تهذيب اللغة"، وأبو القاسم الصاحب بن عباد (ت: 385هـ) في "المحيط الأعظم"، وأبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي (ت: 458هـ) في "المحكم". وقد عُرِفَتْ هذه المعاجم بمدرسة التقليب الصوتي (3).

(1) صناعة المعجم الحديث لأحمد مختار عمر: 75، 76.

(2)

علم المعاجم لحلمي خليل: 212.

(3)

انظر: المعجم العربي نشأته وتطوره لحسين نصار: 173 - 287، والمعجم العربي، بحوث في المادة والمنهج والتطبيق لرياض زكي قاسم: 111، والمعاجم اللغوية لإبراهيم محمد نجا:10.

ص: 28

وتزامنت هذه المدرسة مع مدرسة أخرى عرفت بمدرسة التقليبات الهجائية والتي ترتب المادة داخل المدخل على أساس تقليب المادة للحصول على المفردات المشتركة في الأصل من حيث المعنى والاشتقاق. ويمثل هذه المدرسة: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت:321هـ) في "الجمهرة" وأحمد بن فارس (ت: 395هـ) في معجميه: "مقاييس اللغة"، و"المجمل". واتسمت معاجم هاتين المدرستين بصعوبة البحث فيها لصعوبة تحديد تقاليب المادة وتوخي مواضعها من المعجم (1).

وكانت صعوبة البحث في المعاجم السابقة مدعاة لظهور المدرسة الثالثة والتي عرفت بمدرسة القافية؛ لأنها رتبت المداخل حسب الحرف الأخير (= القافية) من الكلمة، ترتيبا ألفبائيا؛ تيسيرا على الباحثين في معاجمهم. ويمثل هذه المدرسة: أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 400هـ) في "الصحاح"، والصاغاني (ت:650هـ) في "العباب"، وأبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (ت:711هـ) في "لسان العرب"، ومحمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت: 817هـ) في "القاموس المحيط"، ومحمد بن مرتضى الزبيدي (ت: 1205هـ) في "تاج العروس"(2).

أما المدرسة الرابعة فهي المدرسة الهجائية العادية، والفرق الوحيد بينها وبين المدرسة السابقة هو أنها رتبت مداخلها على أساس الحرف الأول من الكلمة. ويمثل هذا الاتجاه جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 هـ) في "أساس البلاغة"، والفيومي (ت:770هـ) في "المصباح المنير". ويعد هذا

(1) انظر: المعجم العربي لحسين نصار: 315 - 365، والمعجم العربي بحوث في المادة والمنهج والتطبيق لرياض زكي: 113، والمعاجم اللغوية إبراهيم محمد نجا:75.

(2)

انظر: المعجم العربي لحسين نصار: 379 - 508، والمعجم العربي بحوث في المادة والمنهج والتطبيق لرياض زكي:115، والمعاجم اللغوية لإبراهيم محمد نجا: 95، والمعاجم العربية عبد الله درويش:90.

ص: 29

الترتيب هو أسهلها جميعا؛ لذلك فهو الترتيب السائد في الكثير من اللغات، وعلى هديه سارت المعاجم الحديثة (1).

ثالثا: ترتيب المشتقات داخل كل مادة:

أما عن ترتيب المشتقات فهو يتمثل في وضع الكلمات والمشتقات تحت المدخل أيها يأتي أولا وأيها يأتي ثانيا. وإذا كانت المعاجم العربية القديمة قد اضطربت في ترتيب مداخلها "فإن الاختلاف بل الاضطراب أو تشتيت المشتقات تحت المدخل الواحد كان أشد وأعظم، بحيث يصعب على الباحث أن يجد منهجا واضحا اتبعه علماء المعاجم القدماء في سرد الكلمات والمشتقات داخل المادة الواحدة فقد يبدأ المعجمي بعد المدخل بذكر الفعل أو الاسم أو الصفة، وقد يبدأ بالأفعال الرباعية قبل الثلاثية وقد يقدم المجاز على الحقيقة، وقد يتكرر ذكر المشتق في أكثر من موضع، وقد يختلط المتعدي باللازم، وقد يأتي الجمع قبل المفرد، وقد تذكر الكلمات المعربة والدخيلة في مداخل مستقلة، وأحيانا تذكر مع المداخل العربية الأصل"(2).

وقد شعر كل من عانى المطالعة في المعاجم العربية – خاصة القديم منها – صعوبة في الحصول على ما يريد لغياب المنهجية في الترتيب الداخلي للمادة، ويرجع غياب هذه المنهجية إلى المنهج الذي اتبع في جمع مادة المعاجم في الأصل؛ لذلك لم يسلم منه معجم. وقد لاحظ ذلك كل من تصدى لدراسة المعاجم العربية (3). مما دفع العديد من اللغويين المعاصرين أن يقترحوا نموذجا لهذا الترتيب، وأول من نادى بذلك أحمد فارس الشدياق، حيث نعى على المعاجم العربية بصفة عامة، وعلى القاموس بصفة خاصة، خلوها من الترتيب في عرض المدخل، وكتاباه:"الجاسوس على القاموس"، و"سر الليالي" يعدان رؤية معاصرة ورائدة في أصول فن الصناعة المعجمية، وأصول الصناعة المشار

(1) انظر: المعجم العربي حسين نصار: 549 - 586، والمعجم العربي بحوث في المادة والمنهج والتطبيق لرياض زكي: 116، والمعاجم اللغوية لإبراهيم محمد نجا: 175، والمعاجم العربية لعبد الله درويش:119.

(2)

حلمي خليل: بحث ضمن " في المعجمية العربية المعاصرة ": 214.

(3)

انظر: المعجم العربي نشأته وتطوره لحسين نصار: 2/ 747.

ص: 30

إليها سابقا مبثوثة في ثنايا كتابيه. ويرى الشدياق أن ترتيب مادة المدخل يجب أن يراعى فيه الآتي:

1 -

وضع الفعل الثلاثي ومشتقاته في أول المادة بعد المدخل.

2 -

وضع الفعل الرباعي في وسطها.

3 -

وضع الفعل الخماسي في آخرها.

مع مراعاة تقديم المعنى المحسوس على المعنى المجرد (1).

وقد أفاد اللغوي أحمد مختار عمر من ملاحظات الشدياق وغيره في تصور نموذج لعرض وتنظيم المادة المعجمية، وقد فصل ذلك في كتابه الرائد "صناعة المعجم الحديث". وقد رأى أن يكون الترتيب الأمثل لمادة المعجم يتمثل في العناصر الآتية:

1) ترتب مادة المعجم ترتيبا خارجيا حسب الترتيب الهجائي باعتبار جذر الكلمات.

2) ترتب كل مادة ترتيبا داخليا حسب النظام التالي:

أتبدأ كل مادة بالأفعال تتلوها الأسماء.

ب ترتب الأفعال على النحو التالي:

- •الأفعال الثلاثية المجردة حسب حركة العين في كل من الماضي والمضارع.

- •الأفعال الثلاثية المزيدة حسب عدد أحرف الزيادة من ناحية، ثم حسب الترتيب الهجائي لحروف الكلمة داخل كل نوع.

- •الأفعال الرباعية المجردة (وتضم مضعف الرباعي والملحق بالرباعي).

- •الأفعال الرباعية المزيدة (من مضعف الرباعي والملحق به).

3) فصل مضعف الرباعي عن مضعف الثلاثي.

4) ترتب الأسماء ترتيبا هجائيا دون اعتبار لحرف أصلي أو حرف مزيد.

5) يستخدم نظام الإحالة بالنسبة إلى الكلمات التي قد يشتبه أصلها.

6) توضع الألف بعد الهمزة في الترتيب الهجائي.

(1) انظر: الجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق: ص10.

ص: 31

7) تعامل الهمزة بطريقة واحدة بصرف النظر عن هيئتها.

8) يعتبر الحرف المضعف بحرفين، ويراعى ذلك عند الترتيب.

9) توضع الكلمات الأعجمية تحت حروفها دون تجريد.

10) تكتب الكلمات الأعجمية التي لم تعرب بعد باللاتينية بعد العربية.

11) المعرب الذي اشتق منه يعامل معاملة الأسرة الواحدة (1).

رابعا: شرح المعنى المعجمي:

يذكر أحد المعاصرين أن " شرح المعنى موضوعه علم الدلالة، وهو كما يعرفه علم اللغة: العلم الذي يدرس المعنى، سواء على مستوى الكلمة المفردة أو التركيب، وتنتهي هذه الدراسة غالبا بوضع نظريات علمية في دراسة المعنى، تختلف من مدرسة لغوية إلى أخرى"(2).

ولكن بعض علماء اللغة المعاصرين يرى أنه فرع من علم اللغة يختص بدراسة المفردات ودلالاتها دون النظريات المختلفة التي قد يتطرق إليها علماء اللغة عند دراستهم للدلالة (3).

ويقع المعنى المعجمي في بؤرة اهتمام المعجمي؛ لأنه يعد أهم مطلب لمستعمل المعجم

وكثير من مناقشات المعجميين تدور حول طريقة عرض المعاني المعجمية في معاجمهم. ويشكل المعنى صعوبة لصانع المعجم لأسباب منها (4):

1 -

صعوبة تحديد المعنى، لتعدد أسس التفسير: نفسية، ولغوية، وسياقية.

2 -

سرعة التطور والتغير في جانب المعنى قياسا إلى ما يحدث في جانب اللفظ.

3 -

اعتماد تفسير المعنى على جملة من القضايا الدلالية التي تتعلق بمناهج دراسة المعنى، وشروط التعريف، والتغير الدلالي، وتخصيص المعنى أو تعميمه، وضرورة التمييز بين المعاني المركزية، والإضافية، والهامشية

(1) انظر: صناعة المعجم الحديث لأحمد مختار عمر: 99 – 102.

(2)

حلمي خليل: بحث ضمن " في المعجمية العربية المعاصرة ": 183.

(3)

انظر: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي لمحمود السعران: 283 – 341، ودراسات في علم اللغة لكمال بشر: 121 - 184.

(4)

انظر: صناعة المعجم الحديث لأحمد مختار عمر: 117 – 120.

ص: 32

والإيحائية، والأسلوبية، وحتمية أخذ كل هذه المعاني في الاعتبار عند معالجة الكلمة دلاليا.

4 -

أن جزءا من المعنى يتوقف على تحديد درجة اللفظ في الاستعمال.

5 -

أن جزءا من الكلمة قد تم اكتسابه عن طريق مصاحبتها لكلمات أخرى معينة.

ويجب على المعجمي إذا أراد أن يصوغ المعنى بدقة، أن يراعي أمورا:

1 -

أخذ المعنى الصرفي (الصيغة) في الاعتبار. فاستغفر تزيد على غفر معنى الطلب.

2 -

ذكر الوظيفة النحوية كمكون دلالي.

3 -

ربط المعاني الجزئية للجذر الناتجة عن تطبيقات الاستخدام، أو تنوع السياق – ربطها بمعنى عام يجمعها.

4 -

وضع منهج دقيق لكيفية لذكر المعاني المتعددة للفظ واحد.

5 -

وضع أولويات لتقديم بعض المعاني على بعض في المدخل الواحد سواء عن طريق الترتيب التاريخي، والترتيب حسب الأعم فالأخص، أو الحقيقي فالمجازي، أو الحسي فالتجريدي.

6 -

تنويع طرق شرح المعنى، بحيث يخدم مهارتي التلقي: سماعا وقراءة، ومهارتي الأداء: تحدثا وكتابة (1).

ويقتضي تنوع شرح المعنى الأخذ بطرق الشرح الآتية بما يلائم المدخل:

أولا: طرق الشرح الأساسية:

1 -

الشرح بالتعريف.

2 -

الشرح بتحديد المكونات الدلالية.

3 -

الشرح بذكر سياقات الكلمة.

4 -

الشرح بذكر المرادف والمضاد.

ثانيا: طرق الشرح المساعدة:

1 -

استخدام الأمثلة التوضيحية.

2 -

استخدام التعريف الاشتمالي.

(1) صناعة المعجم الحديث لأحمد مختار عمر: 117 – 120.

ص: 33

3 -

اللجوء إلى الشرح التمثيلي أو التعريف الظاهري.

4 -

استخدام الصور والرسوم (1).

إذن فالمحاور الأربعة السابقة ـ والمتمثلة في: مادة المعجم، وترتيب المداخل، وترتيب الألفاظ داخل كل مادة، وشرح المعنى المعجمي ـ تمثل الصناعة المعجمية التي تمثل الشق الثاني من عنوان هذه الدراسة.

(1) صناعة المعجم الحديث لأحمد مختار عمر: 117 – 120.

ص: 34