الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
تغير الدلالة لتغير الصوت
يتناول هذا المبحث القراءات القرآنية التي وردت فيها اللفظة القرآنية بصوتين مبدلين، وترتب على هذا تغير في المعنى، كما في قوله تعالى:"فجاسوا" بالجيم، و"فحاسوا" بالحاء. ومن خلال تتبع أقوال المفسرين واللغويين سوف يتبين لنا الفارق في الدلالة بينهما، وإن لم يكن هناك فرق سأرصده أيضا، وذلك على النحو التالي:
• (شَعَفَهَا)(1): قراءة في: {قَدْ شَغَفَهَا حُبَّاً} (2)[التاج: شعف وشغف].
قراءة الجمهور "شَغَفَهَا" بالغين المعجمة المفتوحة، ورجح الطبري هذه القراءة على غيرها (3). وذهب النحاس إلى أنه المعروف من كلام العرب (4). والشَّغَفُ شدةُ الحبِّ، سمي بذلك لأنه يخترق شَغَافَ القلبِ - أي غشاءه المحيط به - حتى يستقرَّ في سُوَيْدَائِهِ. كما قرئت "شَعَفَهَا" بالعين المهملة المفتوحة.
والمعنى على هذه القراءة أن حبه قد بلغ في قلبها أعلاه. قال الزجاج: ومعنى شَعَفَهَا: ذهب بها كل مذهب، مشتق من شَعَفَاتِ الجبال، أي رؤوس الجبال، فإذا قلت: فلان مشعوف بكذا، فمعناه أنه قد ذهب به الحب أقصى المذاهب" (5).
والفرق بين القراءتين يكمن في التبادل بين صوتي الغين والعين، ومع اختلاف المادة إلا أن المعنى متقارب؛ لأنه يؤول في النهاية إلى عظيم أثر حب يوسف في قلب امرأة العزيز.
(1)(شَعَفَ) بفَتْح العين قراءَةُ الحسنِ البَصْرِي وقَتَادَةَ وأَبي رَجَاءٍ والشَّعْبِي وسعيد بن جُبَيْرٍ وثابتٍ البُنَانِي ومُجَاهِدٍ والزُّهْرِيَّ والأَعْرَجِ وابنِ كَثِيرٍ وابنِ مُحَيْصِنٍ وعَوْفِ بن أَبِي جَمِيلَةَ ومحمدٍ اليَمَانِيِّ ويُزِيدَ بنِ قُطَيْبٍ، انظر: معاني القرآن للفراء: 2/ 42، والكشاف: 2/ 463، ومعالم التنزيل للبغوي: 4/ 236، والبصائر للفيروز آبادي: 2/ 250، والدر المصون للسمين: 5/ 459، والإتحاف: 469، ومعجم القراءات لمختار:2/ 440.
(2)
يوسف: 30.
(3)
انظر: جامع البيان: 16/ 68.
(4)
انظر: معاني القرآن: 3/ 419.
(5)
معاني القرآن وإعرابه: 3/ 105.
• (فَحَاسُوا)(1): قراءة في قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيارِ} (2).
[التاج: جوس وحوس].
قراءة الجمهور "فَجَاسُوا" بالجيم المعجمة، والجَوْسُ: التَّرَدُّدُ خِلالَ الدُّورِ والبُيوتِ في الغارَةِ. وقرئ "فَحَاسُوا" بالحاء المهملة، والقراءتان سواء في المعنى. قال الفرَّاءُ: قَتَلُوكُمْ بينَ بيوتِكُم، قال: وجَاسُوا وحَاسُوا بمعنىً واحِدٍ: يَذهبونَ ويَجيئون (3).
ولا فرق بين القراءتين إلا في التخالف بين صوتي: الجيم والحاء. مما دفع عالما كالزركشي أن يجعل القراءة من باب البدل فقال:" من كلامهم إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض يقولون مدحه ومدهه، وهو كثير ألف فيه المصنفون وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (4) فقال فالراء واللام متعاقبان كما تقول العرب: فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل ولم أسمعه سماعا، أنه قال في قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} إنما أراد "فَحَاسُوا" فقامت الجيم مقام الحاء. قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقه عنه. قلت ذكر ابن جني في المحتسب أنها قراءة أبي السَّمَّال، وقال: "قال أبو زيد أو غيره قلت له: إنما هو "فَجَاسُوا" فقال: حَاسُوا وجَاسُوا واحد. وهذا يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية ولذلك نظائر" (5).
وهذا الذي قاله ابن جني غير مستقيم، ولا يحل لأحد أن يقرأ إلا بالرواية وقوله إنهما بمعنى واحد، لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه أبو الفتح، وقائل ذلك والقارئ به هو أبو السوار الغنوي لا أبو السَّمَّال فاعلم ذلك، كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني فقال: حدثنا المازني قال سألت أبا السوار الغنوي فقرأ "فحاسوا" بالحاء غير الجيم، فقلت إنما هو "فجاسوا" قال: حاسوا وجاسوا
(1) هي قراءة أبي السمال وطلحة وابن عباس وأبي السرار الغنوي، انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 243، والجامع للقرطبي: 4/ 246، والدر المصون للسمين: 14/ 142، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 46، ومعجم القراءات للخطيب: 5/ 13.
(2)
الإسراء: 5.
(3)
معاني القرآن: 2/ 116.
(4)
الشعراء: 63.
(5)
المحتسب: 2/ 15.
واحد، يعنى أن اللفظين بمعنى واحد، وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة والغرض كما جازت بالأولى، فقد غلط في ذلك وأساء" (1).
والذي ذكره الزركشي من البدل في القراءة السابقة لم يقل به أحد، والمعاجم العربية كلها على أنهما من مادتين مختلفتين، وإن كان معناهما واحد فالعلاقة بينهما ترادف وليس بدل (2).
• (صَلَلْنَا)(3): قراءة في قوله تعال: {أَئِذَا ضَلَلْنَا في الأَرْضِ} (4).
[التاج: صلل، وضلل].
قراءة الجمهور: "ضَلَلْنَا" بالضاد المعجمة، ومعناها: مِتْنَا وصِرْنَا تُراباً وعِظاماً فَضَلَلْنَا في الأَرْضِ فلم يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِنا. وقالَ الرَّاغِبُ: هو كِنايةٌ عن المَوْتِ واسْتِحَالَةِ البَدَنِ. وضَلَّ الشَّيْءُ: إِذا خَفِيَ وغَابَ، ومنهُ ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ، وهو مَجازٌ ويُقالُ: ضَلَّ الكافِرُ، إِذا غَابَ عن الحُجَّةِ وضَلَّ النَّاسِي إذا غابَ عنهُ حِفْظُهُ (5).
وقرئ "صَلَلْنَا" بالصاد المهملة، وفي معناها وجهان:
أَحَدُهما: أَنْتَنَّا وتَغَيَّرْنا وتَغَيَّرَتْ صُوَرُنا، مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ إِذا أَنْتَنَ.
والآخر: صَلَلْنا: يَبِسْنَا مِنَ الصَّلَّةِ، وهي الأَرْضُ اليابِسَةُ (6).
والفرق بين القراءتين يتمثل في تخالف صوتي الضاد والصاد، هذا التخالف نجم عنه اختلاف في المعنى كما تقدم، ويمكن التقريب بين المعاني السابقة؛ لأن الإنسان إذا مات مر بمراحل:
أولها: أنه يَنْتَنُ.
وثانيها: أن تبقى عظامه يابسة قدرا من الزمان.
(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي: 3/ 388.
(2)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 243، والجامع للقرطبي: 4/ 246، والبحر: 6/ 2.
(3)
قراءة الحسن وعلي بن أبي طالب وابن عباس والأعمش وأبان بن سعيد بن العاص انظر: معاني القرآن للفراء: 2/ 331، والجامع للطبري: 20/ 174، والمحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 285، الإتحاف: 626، والجامع للقرطبي: 14/ 92، والبحر المحيط: 7/ 195، ومعجم القراءات لمختار: 4/ 65، ومعجم القراءات للخطيب: 7/ 225.
(4)
السجدة: 10.
(5)
انظر: الكشاف: 3/ 509، وإعراب القرآن للنحاس: 3/ 293، والدر المصون: 12/ 9، وروح المعاني للألوسي: 1/ 497.
(6)
المصادر السابقة نفسها.
وثالثها: أنه بعد فترة يغيب كل شيء منه في التراب فلا يَتَبَيَّنُ منه شيء. وقد راعت كل قراءة معنى من هذه المعاني، وطورا من هذه الأطوار، وكلها تَدُلُّ على المعنى المراد من الآية، وهو إنكار الكافر للبعث بعد الموت والبلى.
• (يَنْقاصَ (1)، ويَنْقَاضَ (2)) قراءتان في قوله تعالى:{جِدَارَاً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (3). [التاج: قيص، وقيض].
فأما قراءة: "يَنْقاصَ" بقاف بعدها الألف وصاد فوجهه: التقيص وهو التهدم، أو الانشقاق طولا، قال صاحب التاج: قاصَ الضِّرْسُ وانْقَاصَ وتَقَيَّصَ إِذا انْشَقَّ طُولاً فسَقَطَ. وتَقَيَّصَتِ البِئْر إِذا مَالَتْ وتَهَدَّمَتْ وكذا الحائطُ. قال الأَصْمَعِيّ: المُنْقاصُ: المُنْقَعِرُ من أَصْلِه". [التاج: قيص]
وأما قراءة: "يَنْقاضَ" فوجهها أنها من التقيض وهو التهدم قال صاحب التاج: "وتَقَيَّضَ الجِدارُ: تَهَدَّمَ وانْهالَ كانْقَاضَ. قالَ أَبو زيدٍ: انْقَاضَ الجدارُ انْقِياضاً: تصَدَّعَ من غيرِ أَن يسقُطَ فإنْ سَقَط قيلَ: تَقَيَّضَ. قُلْتُ: وانْقَاضَ ذو وجهَيْنِ يُذْكَرُ في الواوِ وفي الياءِ. وروى المُنْذِرِيُّ عن أَبي عَمْرٍو: انْقَاضَ وانْقَاصَ بمعنًى واحدٍ أَي انْشَقَّ طولاً. وقال الأَصْمَعِيّ: المُنْقاضُ: المُنْقَعِرُ من أَصلِهِ. والمُنْقاصُ: المُنْشَقُّ طُولاً
…
وقال اللَّيْثُ: انْقَاضَ الحائِط إِذا انْهَدَمَ من مكانِهِ من غيرِ هَدْمٍ فأَمَّا إِذا هَوَى وسَقَطَ فلا يُقَالُ إلَاّ انْقَضَّ". [التاج: قيض]
وقال السمين: " قرأ الزُّهْري "أنْ يَنْقَاضَ" بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: "هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ" أي: هَدَمْتُه فانهدم". قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه (يَنْفَعِل). والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال: "مثل: يَحْمارّ"، ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه (يَفْعالَّ). ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيف ِالضاد قال:"وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم"(4).
(1) هي قراءة علي وعكرمة وابن مسعود وخليد بن سعيد ويحيى بن يعمر والزهري وأبي العالية وأبي عثمان النهدي، انظر: معاني القرآن للفراء: 2/ 156، والجامع للطبري: 18/ 78، والبحر المحيط: 6/ 140، والدر المصون: 10/ 88، وروح المعاني: 4/ 314، ومعجم القراءات: 3/ 126، ومعجم القراءات للخطيب: 5/ 27.
(2)
بتشديد الضاد قراءة ابن مسعود وأبي شيخ البناني وخليد العصري، وبتخفيفها قراءة الزهري، انظر: الدر المصون: 10/ 88، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 126، ومعجم القراءات للخطيب: 5/ 276.
(3)
الكهف: 77.
(4)
الدر المصون: 10/ 88.
والفرق بين "انقاص" و"انقاض" ينحصر في تخالف صوتي الصاد والضاد، أما من حيث المعنى فواحد عند البعض، ومتقارب عند البعض الآخر كما سلف (1).
• (نُنْشِرُها)(2): قراءة في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمَاً} (3).
قال الزبيدي: "أَنْشَزَ عِظامَ المَيِّت إنْشازاً: رَفَعَها إلى مَواضِعها، ورَكَّبَ بَعْضَها على بعضٍ، وبه فُسِّرَ قَوْله تَعالى: {وانظُر إلى العِظامِ كيفَ نُنْشِزُها ثمّ نَكْسُوها لَحْمَاً}. قال الفَرّاء: قرأ زيدُ بنُ ثابت "نُنْشِزُها" بالزاي، والكُوفيُّون بالراء". [التاج: نشز].
وقال الطبري: وقرأ ذلك آخرون: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا} بضم النون. قالوا: من قول القائل، "أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا. واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (4)، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله:{وانظر إلى العظام كيف ننشرها} به. والقول في ذلك عندي أنّ معنى "الإنشاز" ومعنى "الإنشار" متقاربان؛ لأن معنى "الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى "الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام. وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما. ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى" (5).
(1) انظرهذا المعنى في: معاني القرآن للفراء: 2/ 156، والجامع للطبري: 18/ 78، والبحر المحيط: 6/ 140، والدر المصون: 10/ 88، وروح المعاني: 4/ 314.
(2)
قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب وأبي جعفر وابن عباس والحسن، انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 172، ومعاني القرآن للأخفش: 1/ 151، والسبعة: 189، والحجة لابن خالويه: 100، ومعالم التنزيل: 1/ 320، والمحرر الوجيز: 1/ 351، وجامع الأحكام: 3/ 295، والبحر المحيط: 2/ 285، والنشر:1/ 50.
(3)
البقرة: 259.
(4)
عبس: 22.
(5)
جامع البيان: 5/ 476 – 478.
وقال ابن خالويه: "فمن قرأ بالزاي فالحجة له أن العظام إذا كانت بحالها لم تبل فالزاي أولى بها؛ لأنها ترفع ثم تكسى اللحم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وإليه النشور} أي الرجوع بعد البلى. والحجة لمن قرأ بالراء أن الإعادة في البلى وغيره سواء عليه "فإنما يقول له كن فيكون" ودليله قوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} (1).
وقال السمين: " وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ "النَّشْز" وهو الارتفاعُ، ومنه: "نَشْزُ الأرضِ" وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء. قال ابنُ عطية: "وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً"، قال: "وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه:"نَشَزَ نابُ البعير" و"أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا"(2)" (3)، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً"(4).
ونخلص مما سبق إلى أن القراءتين سبعيتان، والفرق بينهما هو "فونيم" الزاي والراء، هذا من ناحية الصوت، أما من ناحية المعنى فالكلمة بالراء تدل على الإحياء، وبالزاي تدل على رفع العظام وتركيبها، وإن كان بينهما فرق في المعنى إلا أن الدلالة في النهاية تلتقي لتحقق الهدف من الآية، وهذا ما قرره الطبري في كلامه السابق.
• (حَطَبُ)(5): قراءة في قوله تعالى:"إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ حَصَبُ جَهَنَّمَ"(6).
قال الزبيدي: "الحَصَبُ: الحَطَبُ عَامَّةً، وقَال الفَرَّاءُ: هي لُغَةُ اليَمَنِ، وكُلُّ مَا يُرْمَى به في النَّارِ من حَطَبٍ وغَيْرِه فهو حَصَبٌ، وهو لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ (7)، أَوْ لَا يَكُونُ الحَطَبُ حَصَباً حَتَّى يُسْجَرَ به، وفي التنزيل:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ حَصَبُ
(1) الحجة: 101، وانظر: الحجة لابن زنجلة: 144.
(2)
المجادلة: 11.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 351.
(4)
الدر المصون: 3/ 103.
(5)
قراءة أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي وعكرمة وأبي العالية وعمر بن عبد العزيز، انظر: جامع البيان: 18/ 536، ومعالم التنزيل: 5/ 356، ومختصر ابن خالويه: 92، والمحتسب: 2/ 67، والمحرر الوجيز: 2/ 101، وجامع الأحكام:11/ 343، ومعجم القراءات للخطيب: 6/ 61.
(6)
الأنبياء: 98.
(7)
انظر: معاني القرآن: 2/ 207.
جَهَنَّمَ". ورُوِيَ عنْ عَليَ رضي الله عنه أَنه قرأَه: "حَطَبُ جَهَنَّمَ". وقال عِكْرِمَةُ: حَصَبُ جَهَنَّمَ هو حَطَبُ جَهَنَّمَ بالحَبَشِيَّةِ ". [التاج: حصب]
قال الطبري: قرأته قراء الأمصار "حَصَبُ جَهَنَّمَ" بالصاد، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الحجة عليه. ورُوي عن عليّ وعائشة أنهما كانا يقرآن ذلك {حَطَبُ جَهَنَّمَ} بالطاء. ورُوي عن ابن عباس أنه قرأه "حَضَبُ" بالضاد
…
أراد أنهم الذين تسجر بهم جهنم، ويوقد بهم فيها النار، وذلك أن كل ما هيجت به النار وأوقدت به، فهو عند العرب حضب لها. فإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا، وكان المعروف من معنى الحصب عند العرب: الرمي، من قولهم: حصبت الرجل: إذا رميته، كما قال جلّ ثناؤه:{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} (1) كان الأولى بتأويل ذلك قول من قال: معناه أنهم تقذف جهنم بهم ويرمى بهم فيها. وقد ذكر أن الحصب في لغة أهل اليمين: الحطب، فإن يكن ذلك كذلك فهو أيضا وجه صحيح، وأما ما قلنا من أن معناه الرمي فإنه في لغة أهل نجد" (2).
وقال ابن عطية: الحصب ما توقد به النار إما لأنها تحصب به أي ترمى وإما أن تكون لغة في الحطب إذا رمي، وأما قبل أن يرمى به فلا يسمى حصبا إلا بتجوز. وقرأ الجمهور:"حَصَبُ" بالصاد مفتوحة
…
وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعائشة وابن الزبير: "حَطَبُ" جهنم بالطاء" (3).
قال السمين:"قرأ العامَّةُ "حَصَبُ" بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ، وهو ما يُحْصَبُ أي: يُرْمَى في النارِ، ولا يقالُ له حَصَب إلَاّ وهو في النارِ. فأمَّا ما قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل: هي لغةٌ حبشية. وقيل: يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء في النار
…
وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار، ومنه المِحْضَبُ: عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ
…
وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير "حَطَبُ" بالطاء ولا أظنُّها إلَاّ تفسيراً لا تلاوةً" (4).
والفرق بين هذه القراءات: حصب وحطب وحضب هو "فونيم" الصاد والطاء والضاد، ويلاحظ أن كل هذه المفردات تستخدم في إشعال النار، وهذا
(1) القمر: 34.
(2)
جامع البيان: 18/ 536.
(3)
المحرر الوجيز: 2/ 101.
(4)
الدر المصون: 10/ 337.
هو القاسم المشترك بين معانيها، وإن استقل كل لفظ بما يميزه عن الآخر. فالحطب ما يوقد به النار، ألقي فيها أو لم يلق. أما الحصب فهو وقود النار شرط أن تسجر به النار، فإذا لم تسجر به فلا يسمى حصبا. وأما الحضب فهو أداة تشعل بها النار، أو هو وقود النار أيضا.
• (ثُومِهَا)(1): قراءة في قَوْلِه عز وجل: {وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا} (2).
قال الزبيدي: الفُومُ بالضَّمِّ: الثُّومُ لُغَةٌ فيه، قال ابنُ سِيدَه (3): أَرَاهُ عَلَى البَدَلِ، قَالَ ابنُ جِنِّي: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ في قَوْلِه عز وجل: "وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا" إلى أَنَّه أَرادَ الثُّومَ، فالفَاءُ على هذا عِنْدَه بَدَلٌ من الثّاء قال: والصَّوابُ عِنْدَنَا: أَنَّ الفُومَ "الحِنْطَةُ"، ولَيْسَتِ الفَاءُ علَى هَذَا بَدَلاً مِن الثَّاءِ (4)
…
وقَالَ بَعْضُهم: الفُوْمُ الحِمِّصُ، لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، قال الفَرَّاءُ في قَوْلِه تَعالَى:{وَفُومِهَا} مَا نَصُّه: الفُومُ مِمَّا يَذْكُرونَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ وهِيَ: الحِنْطَةُ والخُبْزُ جَمِيعًا. وقَالَ الزَّجَّاجُ: لا اخْتِلافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أن الفُومَ الحِنْطَةُ، وسائِرُ الحُبوبِ التِي تُخْبَزُ يَلْحَقُها اسْمُ الفُومِ (5). وكُلُّ عُقْدَةٍ من بَصَلَةٍ أَوْ ثُومَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ عَظِيمَةٍ: فُومَةٌ. [التاج: فوم].
قال الفراء: فإن الفوم فيما ذكر لغة قديمة وهى الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فَوِّمُوا لنا، بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا، وهي في قراءة عبد الله "وَثُومِهَا" بالثاء، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب؛ لأنّه مع ما يشاكله: من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون: جدث وجدف، ووقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ، والأثاثيّ والأثافيّ. وسمعت كثيرا من بني أسد يسمّي المغافير المغاثير" (6).
وقال القرطبي: اختلف في "الفوم" فقيل هو الثوم؛ لأنه المشاكل للبصل. والثاء تبدل من الفاء كما قالوا مغافير ومغاثير. وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود "ثومها" بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقيل: الفوم الحنطة
(1) قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي، انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 41، وجامع البيان: 2/ 130، والكشاف: 1/ 145، والمحتسب: 1/ 88، ومختصر ابن خالويه: 6، والبحر المحيط: 1/ 216، ومعجم القراءات للخطيب: 1/ 112.
(2)
معاني القرآن: 1/ 41.
(3)
انظر: المخصص: 3/ 286.
(4)
انظر المحتسب: 1/ 88. والراجح أنه قصد بقوله هذا مقالة الفراء سابقة الذكر.
(5)
انظر: معاني القرآن وإعرابه: 1/ 143.
(6)
معاني القرآن: 1/ 36.
روى عن ابن عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال: وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح، وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب" (1).
والفرق بين قراءة الجمهور "فوم" وقراءة ابن مسعود "ثوم" هو فونيم الفاء والثاء هذا من ناحية الجانب الصوتي، أما من ناحية المعنى فقد قيل باتحادهما حيث إن الفوم هو الثوم؛ لأن الثاء مبدلة من الفاء، ولكن ابن جني ينكر وقوع البدل هنا، ويرجح أن يكون الفوم هو الحنطة. أما الثوم فهو الثمرة المعروفة.
نخلص من هذا المبحث إلى إن أصغر وحدة صوتية تؤدي إلى تغاير الكلمات تسمى عند علماء اللغة "فونيم"، وقد يكون الفونيم صوتا أساسيا في الكلمة، نحو: جَاسَ وحَاسَ، وصَلَّ وضَلَّ، وشَغَفَ وشَعَفَ، فالفرق بين (جاس وحاس) فونيم الجيم، وفونيم الحاء. ومثل ذلك: الصاد والضاد في (صل وضل)، والغين والعين في (شغف وشعف)، وهذا التغاير تَعْمَدُ إليه اللغة لتمايز بين الألفاظ؛ لأن الأصل أن يكون لكل لفظ مختلف معنى مختلف، كما هو الحال في (صل وضل) و (شغف وشعف)، إلا أنه مع هذا الاختلاف قد يحدث الترادف بين الكلمتين أحيانا كما في (جاس وحاس)، وليس هناك من شك في أن المعجم قد استفاد من هذا التمايز حيث جعل أساس ترتيب مواده قائما على تمايز أصوات الكلمات.
(1) جامع الأحكام: 1/ 425.