المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيالتغيير فى الصوامت (بالزيادة) - أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية تاج العروس نموذجا

[عبد الرازق بن حمودة القادوسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: القراءات والأصوات

- ‌الفصل الأول: القراءات والحركات

- ‌المبحث الأول:التماثل الصوتي في الفتح

- ‌المبحث الثانيالتماثل الصوتي في الكسر

- ‌المبحث الثالثالتماثل الصوتي في الضم

- ‌المبحث الرابعالتماثل في السكون

- ‌الفصل الثانيالقراءات والصوامت

- ‌المبحث الأولالتماثل الصوتي التام (الإدغام)

- ‌المبحث الثانيالتماثل الصوتي الناقص (الإبدال)

- ‌المبحث الثالثالهمز بين التحقيق والتخفيف

- ‌المبحث الرابعهَاءُ السَّكْتِ

- ‌الباب الثاني: القراءات والبنية الصرفية

- ‌الفصل الأولتغيير بنية الأفعال

- ‌المبحث الأولالتغيير في الحركات(البناء للفاعل والمفعول)

- ‌المبحث الثانيالتغيير فى الصوامت (بالزيادة)

- ‌الفصل الثانيتغيير بنية الأسماء

- ‌المبحث الأولتغيير المشتق

- ‌المبحث الثانيالتغيير في صيغة الجمع

- ‌الباب الثالث: القراءات والدلالة

- ‌الفصل الأولالمُعَرَّب

- ‌الفصل الثانيالتغير الدلالى

- ‌المبحث الأولتغير الدلالة لتغير الصوت

- ‌المبحث الثانيتغير الدلالة لتغير البنية

- ‌الخاتمة

- ‌فهرسالقراءات القرآنية الواردة فى الدراسة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثانيالتغيير فى الصوامت (بالزيادة)

‌المبحث الثاني

التغيير فى الصوامت (بالزيادة)

يتناول هذا المبحث الأفعال التي تحولت من مجردة إلى مزيدة بحرف أو أكثر، ويبين ما ترتب على هذه الزيادة من تغير في المعنى أو عدمه، وذلك من خلال ما ورد في التاج، وما قرره المفسرون واللغويون.

وسوف يتخذ الدارس من حروف الزيادة أساسا لتصنيف مادة هذا المبحث كما يلي:

أولا: الثلاثي المزيد بحرف:

(أ) زيادة (فَعَلَ) بالتضعيف: (فَعَّلَ).

(ب) زيادة (فَعَلَ) بالهمزة: (أَفْعَلَ).

(ج) زيادة (فَعَلَ) بالألف: (فَاعَلَ).

ثانيا: الثلاثي المزيد بحرفين:

(أ) زيادة (فَعَلَ) بالتاء والتضعيف: (تَفَعَّلَ).

(ب) زيادة (فَعَلَ) بالهمزة والتاء: (افْتَعَلَ).

(ج) زيادة (فَعَلَ) بالتاء والألف: (تَفَاعَلَ).

ثالثا: التبادل بين: (فَعَّلَ) و (فَاعَلَ).

رابعا: التبادل بين: (أَفْعَلَ) و (فَعَّلَ).

ص: 159

أولا: الثلاثي المزيد بحرف:

(أ) زيادة (فَعَلَ) بالتضعيف: (فَعَّلَ).

(يَذْبَحُونَ): قراءة في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} (1). [التاج: ذبح].

يأتي الفعل على زنة (فَعَّلَ) ليفيد التكثير، وقد يأتي مخففا ويفيد أيضا معنى التكثير؛ لأن المعنى لا يؤخذ من لفظ الفعل وحده، وإنما من السياق الذي وضع فيه هذا الفعل، ومن دلالات أخرى يدل عليها، كدلالة الفعل على مصدره؛ لذلك يذكر الزبيدي أن: ذَبَّحَهُ: كَذَبَحَهُ، أي أن الفعل المخفف قد يستخدم في موضع الفعل المشدد ويؤدي معناه؛ لأنه وضع في الأصل ليدل على القليل والكثير.

وليدلل الزبيدي على صحة هذا المعنى يستشهد بقراءة الزُّهْرِيِّ وابن محيصن حيث قرآ بـ "يَذْبَحُونَ" مخففا (2) في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ، فالقراءة استخدمت الفعل المخفف في موضع الفعل المشدد والمعنى واحد. وليزيد هذا المعنى وضوحا ينقل عن أبي إسحاق الزجاج قوله:"القراءة المُجْمعُ عليها بالتَّشديد، والتخفيف شاذٌّ، والتَّشديد أَبلغُ؛ لأَنه للتّكثير و (يَذْبَحون) يَصلُح أَن يكون للقليل والكثيرِ، ومعنى التكثيرِ أَبلغُ ".

وقد أدرك أبو الفتح عثمان بن جني ذلك فقال في تعليقه على هذه القراءة: " (فَعَلْتَ) بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير؛ وذلك لدلالة الفعل على مصدره، والمصدر اسم الجنس، وحسبك بالجنس سعة وعموما"(3).

(يُمَيِّزَ): قراءة في قوله تعالى: {حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (4).

[التاج: ميز].

ذكر الزبيدي أن الأفعال: ماز، وأماز، ومَيَّزَ، تأتي بمعنى واحد، وقد استدل على ذلك بالقراءات الواردة في قوله تعالى:{حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} حيث قرئ "يَمِيزَ" مخففا من (ماز)، كما قرئ "يُمَيِّزَ" مشددا من (مَيَّزَ)، والمعنى واحد.

(1) البقرة: 49.

(2)

انظر: الجامع للطبري: 1/ 385، والكشاف للزمخشري: 1/ 89، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 246، وروح المعاني للألوسي: 1/ 307.

(3)

المحتسب: 1/ 81.

(4)

آل عمران: 179.

ص: 160

وقال السَّمِين في تخريج القراءتين السابقتين: "قرأ حمزة والكسائي: "يُمَيِّز" (1) بالتشديد، والباقون بالتخفيف. وعن ابن كثير أيضاً "يُمِيزَ" من أماز، فهذه ثلاث لغات يقال: مازَه ومَيَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ، وإنما (فَعَّل) بالتشديد و (أَفْعَل) بمعنى المجرد، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلون بالفرق اختلفوا فقال بعضهم: لا يقال: "مازا" إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت؛ ولذلك قال أبو معاذ: يقال: "مَيَّزْتُ بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء". وقال بعضُهم عكسَ هذا: مِزْتُ بين الشيئين ومَيِّزْتُ بني الأشياءِ، وهذا هو القياسُ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير وهو لائقٌ بالمتعددات. ورجَّح بعضُهم "مَيَّز" بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا: التمييز، ولم يقولوا: "المَيْز" يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً"(2).

(عَقَّدَتْ): قراءة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3). [التاج: عقد]

ذكر الزبيدي قراءة "عَقَّدَتْ"(4) بغرض الاستدلال على أن الفعلين: عَقَدَ، وعَقَّدَ، يأتيان بمعنى واحد وهو توكيد العهد وتغليظه. قال صاحب الكشاف:"وقرىء (عقدت) بالتشديد والتخفيف بمعنى: عقدت عهودَهم أيمانُكم"(5). وهذا المعنى مجازي وليس حقيقيا. مع الأخذ في الاعتبار أن التوحد في المعنى هنا ليس كاملا إذ توجد اختلافات بين هذين الفعلين في الدرجة (6)، على اعتبار أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

(خَرَّقُوا): قراءة في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} (7).

[التاج: خرق].

(1) انظر: معاني القراءات للأزهري:114، والتبيان للعكبري: 1/ 314، والإتحاف للدمياطي:232،233.

(2)

الدر المصون: 4/ 273.

(3)

النساء: 33.

(4)

هي قراءة حمزة والمطوعي، انظر: الدر المصون: 5/ 450، وروح المعاني: 5/ 22، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 505.

(5)

الزمخشري: 1/ 536.

(6)

انظر: وروح المعاني: 5/ 22، والدر المصون: 5/ 450.

(7)

الأنعام: 100.

ص: 161

ذكر الزبيدي أن من المَجاز: التَّخْرِيقُ: المُبالَغَةُ في الخرْقِ أَي: كَثرَة الكَذِبِ. والتخريق مصدر خَرَّقَ، وقد استشهد الزبيدي بقراءة أبي جعفر ونافع حيث قرآ:{وَخَرَّقُوا} (1) بالتَّشدِيدِ.

قال السمين: قرأ الجمهور "خَرَقُوا" بتخفيف الراء ونافع بتشديدها

والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: "يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه"(2)، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل " (3). وقال ابن عاشور:"وقراءة نافع تفيد المبالغة في الفعل؛ لِأَنَّ التَّفْعِيلَ يَدُلُّ على قوّة حصول الفعل"(4).

(أَمَّرْنَا): قراءة في قوله تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} (5). [التاج: أمر].

ذكر الزبيدي أن أَكثر القراءِ على "أَمَرْنَا" مخففة. ورُوِيَ عن أَبي عَمْرٍو وابنِ كَثِيرٍ وأَبي العالِيَةِ: "أَمَّرْنَا"(6) بالتَّشدِيد، قال الفَرْاءِ (7): مَنْ قرأَ: "أَمَرْنَا" خَفِيفَةً فَسَّرها بعضُهُم أَمَرنا مُترفِيها بالطّاعَة ففسقُوا فيها؛ لأَن المُتْرَفَ إِذا أُمِرَ بالطَّاعَة خالَفَ إِلى الفِسْق، قال: وهو موافِقٌ لتفسِيرِ ابنِ عَبّاس، وذلك أَنّه قال: سَلَّطْنَا رُؤَساءَهَا فَفَسَقُوا.

وقد قصر ابن جني قراءة التضعيف على معنى المبالغة والزيادة في العدد أو الإمارة فقال: "وأما "أمَّرْنَا" فقد يكون منقولا من: أَمِرَ القوم أي كَثُرُوا، كعَلِمَ وعَلَّمْتُهُ، وسَلِمَ وسَلَّمْتُهُ. وقد يكون منقولا من: أَمَرَ الرجلُ، إذا صار أميرا، وأَمَرَ علينا فلان إذا وَلِيَ. وإن شئت كان "أمَّرْنَا" كَثَّرْنَا، وإن شئت كان من الأَمْرِ والإِمَارَةِ"(8).

(1) انظر: السبعة لابن مجاهد: 264، والحجة لابن زنجلة: 264، والبحر المحيط: 5/ 221، والنشر: 2/ 261، والإتحاف: 381، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 119.

(2)

معاني القرآن: 1/ 348.

(3)

الدر المصون: 6/ 362.

(4)

التحرير والتنوير: 7/ 407.

(5)

الإسراء:16.

(6)

انظر: السبعة لابن مجاهد: 379، والنشر: 2/ 306، والإتحاف: 502، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 51.

(7)

انظر معاني القرآن: 2/ 119.

(8)

المحتسب: 2/ 17.

ص: 162

ويوافق السَّمِينُ ابن جني في معنى جعلناهم أُمَراءَ، ويخالفه في أنه رأى التشديد للتعدية فقال:"أمَّرْنَا" بالتشديد فيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك "أُمِّر". قال الفارسيُّ، "لا وجهَ لكون "أَمَّرْنَا" من الإمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلَاّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة". وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هو المَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلت، لأنَّ الأمير عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم" (1).

) ?فَرَّقْنَاهُ): قراءة في قوله تعالى: {وَقُرْآنَاً فَرَقْنَاهُ} (2).

(فَرَّقْنَا): قراءة في قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ} (3).

) ?فَرَقُوا): قراءة في قوله تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً} (4).

[التاج: فرق]

في أثناء تعديد معاني الفَرْقِ استشهد الزبيدي بقوله تعالى: {وَقُرْآنَاً فَرَقْنَاهُ} على أن الفَرْقَ: هو الفصل بين الأشياء بغرض الإحكام والتبيين، وبقراءة ابن عباس وأُبَيٍّ بن كعب لنفس الآية "فَرَّقْنَاهُ"(5) مشدداً، من (فَرَّقَ) وهو أيضا فَصْلٌ ولكن بزمن، بمعنى أنزلناه مفرقا ومنجما، ليسهل على الناس العمل به.

قال السمين: والعامَّةُ "فَرَقْناه" بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - وأُبَيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان:

أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أى: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ.

والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم.

(1) الدر المصون: 9/ 332.

(2)

الإسراء: 106.

(3)

البقرة: 50.

(4)

الأنعام: 159.

(5)

انظر: معاني القرآن للفراء: 2/ 133، ومعالم التنزيل للبغوي: 5/ 135، والجامع للقرطبي: 1/ 387، والإتحاف: 510، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 80،

ص: 163

قال الزمخشري: "وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ "فَرَقَ" بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ"(1) " (2).

وفي ذات المعنى استشهد الزبيدي بقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ} (3) مخففا، وقراءة الزُّهْرِيِّ والأخفش:"فَرَّقْنَا"(4) مشدًا، مبالغة في الفَرْقِ. وهذه المبالغة وضح الزمخشري مناسبتها للمقام فيقول "فَرَقْنَا" فصلنا بين بعضه وبعض، حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ:"فَرَّقْنَا"، بمعنى فصلنا. يقال: فَرَقَ بين الشيئين، وفَرَّقَ بين الأشياء؛ لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط" (5).

وقرر ابن عاشور المعنى السابق ولكنه يضيف أن فَرَّقَ بالتشديد فيه علاج ومحاولة فيقول: "و"فَرَقْنَا" و"فَرَّقْنَا" بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، إذ التشديد يفيده تعدية، ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء، غير أن (فَرَّقَ) يدل على شدة التفرقة، وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً، وقد قيل إن (فَرَّقَ) للأجسام، و (فَرَقَ) للمعاني، نقله القرافي عن بعض مشايخه، وهو غير تام

فالوجه أن فَرَّقَ بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة، وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام، وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز. وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة (فَرَقْنَا) بالتخفيف، والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى، فكان ذلك الفرق الشديد خفيفاً " (6).

ويذكر الزبيدي أيضا - أثناء تناوله لمعنى التفريق - قوله تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً} (7) من التفريق، أي جعلوه أَبْعَاضَاً وخَالَفُوا بين هذه الأَبْعَاضِ، وقرئ "فَرَقُوا" مخففا (8)، من الفَرْقِ، أي: مازوه عن سائر الأديان.

(1) الكشاف: 2/ 699.

(2)

الدر المصون: 10/ 5.

(3)

البقرة: 50.

(4)

انظر: المحتسب: 1/ 82، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 199.

(5)

الكشاف: 1/ 138.

(6)

التحرير والتنوير: 2/ 206.

(7)

الأنعام: 159.

(8)

هي قراءة الأعمش، وإبراهيم، وأبو صالح، والنخعي، انظر: الدر المصون: 7/ 59، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 154.

ص: 164

وفي هذا الموضع ينقل الزبيدي عن ابن جني كلاما طويلا مؤداه أن الفعل المخفف قد يؤدي معنى الفعل المشدد "ووجهُ هذا أنّ الفِعلَ عندنا موضوعٌ على اغْتِراقِ جِنْسِه ألا ترى أنّ معْنى: قامَ زيدٌ: كان منه القِيام وقعَدَ: كان منه القُعود. والقيامُ - كما نعلم - والقُعودُ جِنسان فالفعلُ إذنْ على اغتِراقِ جنسِه يدُلُّ على ذلك عملُه عندَنا في جميع أجزاءِ ذلِك الجِنْسِ من مُفردِه ومُثنّاه ومجموعِه ونَكِرته ومَعرِفته وما كان في معْناه"(1).

(نَقَبُوا): قراءة في قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} (2).

[التاج: نقب].

ذكر الزبيدي أن الأفعال: نَقَبَ، وأَنْقَبَ، ونَقَّبَ كلها بمعنى واحد: ذهب في الأرض، إلا أن ابن الأعرابي جعل (نَقَّبَ) لمن ذهب في الأرض هربا. وقد استدل الزبيدي بالقراءات الواردة في قوله تعالى:{فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} على معناه، حيث قرئت الآية "نَقَّبُوا"(3)(فَعَّلُوا) بصيغة الماضي المشدد، وهي قراءة الجمهور، وقرئت "نَقَبُوا"(فَعَلُوا) بصيغة الماضي المخفف.

وإن كانت الأفعال مشتركة في المعنى إلا أنها مختلفة في قدر ذلك المعنى، وقد نبه الزبيدي إلى ذلك بجعله (نَقَّبَ) المضعف خاص بالهارب؛ لأنه يجد في الذهاب. قال ابن خالويه:"فنقبوا في البلاد" يقرأ بالتشديد والتخفيف فالحجة لمن شدد أنه دل بذلك على مداومة الفعل وتكراره، والحجة لمن خفف أنه أراد المرة الواحدة، وأصله التطواف في البلاد" (4).

(وَدَعَكَ): قراءة في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} (5). [التاج: ودع].

ساق الزبيدي الآية السابقة ليدلل على أن (وَدَّعَكَ) المشدد استخدم في معنى {وَدَعَكَ} (6) المخفف. وهذه المسألة – أعني استخدام الفعل (وَدَعَ) مخففًا –

(1) المحتسب: 1/ 238.

(2)

سورة ق: 36.

(3)

قراءة التخفيف رواية عن أبي عمرو، وقراءة التشديد قراءة الجمهور، انظر: السبعة لابن مجاهد: 607، والدر المصون:13/ 169، والإتحاف: 710، ومعجم القراءات لمختار: 4/ 476، 477.

(4)

الحجة: 332.

(5)

الضحى: 3.

(6)

وهي قِرَاءَةُ عُرْوَةَ ومُقَاتِلٍ وأبي حَيْوَةَ وأبي البَرَهْسَمِ وابنُ أبي عَبْلَةَ ويَزِيدُ النَّحْوِيُّ، انظر: المحتسب لابن جني: 2/ 364.

ص: 165

ترددت كثيرا في كتب النحاة (1)، وكان إمامهم في ذلك سيبويه عندما قال:" وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء فإنّهم يقولون يَدَعُ ولا يقولون وَدَع استغنوا عنها بتَرَكَ"(2) والواضح أن مقولة سيبويه هذه قد تبناها النحويون كَالْمُسَلَّمَةِ، حتى قيل بموت ماضي هذا الفعل إلا أن قلة من اللغويين، رفضوا مبدأ الإماتة، وأقروا مبدأ قلة الاستخدام، وحملوا مبدأ الإماتة عليه، منهم الليث وابن الأثير. واستطاع الزبيدي أن يلخص هذه المسألة عن طريق بعض النقول فقال: " قال شَيْخُنَا عِنْدَ قَوْلهِ: {وقدْ أُمِيتَ ماضِيهِ} قلتُ: هي عِبَارَةُ أئِمَّةِ الصَّرْفِ قاطِبَةً، وأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ، ويُنَافِيه ما يَأْتِي بأثَرِهِ، منْ وُقُوعِه في الشِّعْرِ، ووُقُوعِ القَراءَةِ، فإذا ثَبَتَ وُرُودُه ولو قَلِيلاً، فكَيْفَ يُدَّعَى فيهِ الإماتَة؟. قلت: وهذا بعَيْنِه نَصُّ اللَّيثِ فإنّه قالَ: وزَعَمَتِ النَّحْوِيَّةُ أنَّ العَرَبَ أماتُوا مَصْدَرَ يَدَعُ، ويَذَرُ واسْتَغْنَوا عنْهُ بتَرْكٍ، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أفْصَحُ العَرَبِ، وقد رُوِيَتْ عَنْهُ هذهِ الكَلِمَةُ. قالَ ابنُ الأثِيرِ: وإنّمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُم على قِلَّةِ استِعْمَالِهِ، فهُوَ شاذٌّ في الاسْتِعْمَالِ، صَحِيحٌ في القِيَاسِ، وقد جاءَ في غَيْرِ حديثٍ، حتى قُرِئَ بهِ قولُه تعالى:{مَا وَدَّعَكَ} .

(ب) زيادة (فَعَلَ) بالهمزة: (أَفْعَلَ).

(نُنْسِخْ): قراءة في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (3). [التاج: نسخ].

قال الزبيدي:"قرأَ ابن عامرٍ {مَا نُنْسِخْ مِنْ آيَةٍ} بضمّ النّون من (أَنْسَخَ) رُباعيّاً. قال أَبو عليّ الفارسيّ: الهَمْزَة للوجُود كأَحْمَدْتُه: وجَدْتُه: مَحموداً (4). وقال الزمخشَريّ: الهَمْزَة للتعدية". وذكر البغوي أن الهمزة يجوز أن تكون للجعل، والمعنى: نجعله نسخة له (5).

(1) انظر: الخصائص لابن جني: 1/ 99،266،296، والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري: 2/ 485، وهمع الهوامع للسيوطي: 1/ 425،435 والأصول في النحو لابن السراج: 1/ 57.

(2)

الكتاب: 1/ 25.

(3)

البقرة: 106.

(4)

وانظر هذا المعنى في: الحجة لأبي زرعة: 109، والجامع للقرطبي: 2/ 67، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 294.

(5)

انظر معالم التنزيل: 1/ 134.

ص: 166

وقال السمين:"قرأ ابنُ عامر: "نُنْسِخْ" بضمِّ النونِ وكسر السينِ من (أَنْسَخَ) قال أبو حاتم: "هو غلطٌ" وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه، وقال أبو عليّ (1): ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال: نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً، ولا هي للتعديةِ؛ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى: ما نَجِدْه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه، فتتفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ"، فالهمزةُ عنده ليست للتعديةِ. وجَعَلَ الزمخشري (2) وابنُ عطية (3) الهمزةَ للتعديةِ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها أي: الإِعلامُ به، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليه السلام، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً " (4).

(تَنْسَهَا)(5): قراءة في قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (6).

قال الزبيدي:"عامَّة القُرَّاء يَجْعلُونَه مِن النِّسْيان، والنِّسْيانُ هنا على وَجْهَيْن: أَحَدُهما على التَّرْك المَعْنى نَتْرُكُها فلا نَنْسَخها ومنه قولهُ تعالى: "ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بَيْنكم"؛ والوَجْه الآخَرْ: مِن النِّسْيان الذي يُنْسَى.

وقال الزجَّاج (7): وقولُ أَهْل اللغَةِ في قولهِ "أَو نُنْسِها" على وَجْهَيْنِ: يكونُ مِن النِّسْيان واحْتَجُوا بقولهِ تعالى: {سَنُقْرِئك فلا تَنْسَى إلا ما شاءَ الله} (8)، فقد أَعْلَم الله أَنَّه يَشاءُ أَن يَنْسَى، قالَ: وهذا القولُ عنْدِي غيْرُ جائِزٍ؛ لأنَّ الله تعالى قد أَخْبَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: {ولئِنْ شِئْنا لنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنا} (9)، أنَّه لا يَشاءُ أَن يَذْهَبَ بما أَوْحَى به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ وقولهُ:"فلا تَنْسى"، أَي فلسْتَ تَتْرُك إلَاّ ما شاءَ الله أَن يَتْرُك قالَ: ويجوزُ أَن يكونَ إلَاّ ما شاءَ الله ممَّا يَلْحَق بالبَشَرِيَّة ثم

(1) انظر الحجة للقراء السبعة: 2/ 186.

(2)

انظر الكشاف: 1/ 178.

(3)

انظر المحرر الوجيز: 1/ 179.

(4)

الدر المصون: 2/ 41.

(5)

هي قراءة أبي بن كعب، انظر: السبعة لابن مجاهد: 168، والتيسير لأبي عمرو: 62، والحجة لأبي زرعة: 110، والدر المصون: 2/ 40، ومعجم القراءات للخطيب: 1/ 171، ومعجم القراءات لمختار:1/ 243.

(6)

البقرة: 106.

(7)

انظر معاني القرآن: 1/ 189.

(8)

الأعلى: 6، 7.

(9)

الإسراء: 86.

ص: 167

يَذْكُر بعْدُ ليسَ أنَّه على طرِيقِ السّلْب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً أُوتِيَه مِن الحِكْمةِ، قالَ: وقيل في قولهِ تعالى: {"أَو نُنْسِها} قولٌ آخَرُ، وهو خَطَأٌ أَيْضاً، ونَتْرُكُهَا، وهذا إنَّما يقالُ فيه نَسِيتُ إذا تَرَكْت، ولا يقالُ أُنْسِيتُ تَرَكْت، قالَ: وإنَّما مَعْنى أَو نُنْسِها أَي نَأْمُرْكُم بتَرْكِها". [التاج: نسي]

وقال أبو زرعة في الاحتجاج للقراءتين السابقتين: "أما قراءة أُبَيِّ بن كعب "أَوْ نُنْسِهَا" بضم النون، فمعناها: ننسك نحن يا محمد، وأما قراءة سعد بن أبي وقاص "أَوْ تَنْسَهَا" بتاء مفتوحة، فمعناها: أو تَنْسَهَا أَنْتَ يا محمد، وقراءتهما تدل على النسيان، وإن كان بعضهم أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أخبر أن الله فعل ذلك به، وليس بين القولين اختلاف لأنه ليس يفعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما وفقه الله له، إذا أنساه نسي. قال أبو عبيد: "أَوْ نُنْسِهَا" من النسيان، ومعناه أن الله إذا شاء أنسى من القرآن من يشاء أن ينسيه. وقال آخرون منهم ابن عباس: "أَوْ نُنْسِهَا" أو نتركها فلا نبدلها. قال علماؤنا يلزم قائله أن يقرأها "أَوْ نَنْسَهَا" بفتح النون ليصح معنى نتركها، فأما إذا ضمت النون فإنما معناه نُنْسِكَ يا محمد، وهذا لا يكون بمعنى الترك. الجواب عنه يقال نسيت الشيء أي تركته، وأُنْسِيتُهُ أي أُمِرْتُ بتركه فتأويل الآية {ما ننسخ من آية} أي نرفعها بآية أخرى ننزلها "أو ننسها" (1).

(تَزُغْ): قراءة في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (2). [التاج: زوغ]

ذكر الزبيدي أن الفعل (زاغ) الثلاثي يأتي لازما، نحو: زاغ عن الطريق: مال عنه كما يأتي متعديا، نحو: زاغَ قَلْبَهُ: أَمَالَهُ، وعلى تعدي الفعل، استشهد الزبيدي بِقِرَاءَةٍ قَالَ إِنَّهَا لِنَافِعٍ في الشواذ تقول:{ربَّنَا لا تَزُغْ قُلُوبَنَا} (3) بفَتْحِ التاءِ، وضَمِّ الزّايِ، ونصب القلوب على المفعولية. كما استشهد على أن (أزاغ) الرباعي بمعنى: أمال أيضا بقراءة الجمهور {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} .

وفي الآية قراءتان أخريان من الثلاثي ذكرهما السمين في سياق تفسير هذه الآية حيث قال: "العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة من: أزاغ يُزيغ. "قلوبَنا"

(1) الحجة: 109، 110.

(2)

آل عمران: 8.

(3)

هي قراءة لنافع، انظر: جامع الأحكام للقرطبي: 4/ 10، ومعجم القراءات للخطيب: 1/ 444.

ص: 168

مفعول به. وقرأ أبو بكر وابن فايد والجراح: {لا تَزِغْ قُلُوبُنَا} (1) بفتح التاء ورفع "قلوبنا"، وقرأه بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين فالقلوب فاعلٌ بالفعل المنهيِّ عنه، والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمعِ وتذكيرِه، والنهيُ في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاءُ الله تعالى، أي: لا تُزِغْ قلوبَنا فَتَزيغَ، فهو من باب "لا أُرَيَنَّك"(2).

(تَصْعَدُونَ)(3): قراءة في قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} (4). [التاج: صعد]

اختلف اللغويون في التصاحبات اللغوية التي تصحب: صَعِدَ، وأَصْعَدَ، وصَعَّدَ، وتمثلت أقوالهم في التصاحبات الآتية: صَعِدَ في السُّلَّم، وأَصْعَدَ في الجبل، وصَعَّدَ في الأرض، مع اختلاف بينهم في ذلك، إلا أن الزبيدي قد اتخذ من قراءة الحسن البصري:{إِذْ تَصْعَدُونَ} شاهدا على أن الصعود في الجبل كالصعود في السلم، تقول: صَعِدَ في السلم، وصَعِدَ في الجبل.

واستشهد ابن الأعرابي على نفس الاستخدام بقوله تعالى: {إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (5) كما استشهد على: أَصْعَدَ في الجبل، بقراءة الجمهور:{إذ تُصْعِدُونَ} من (أصعد) الرباعي.

قال الفراء: "الإصعاد في ابتداء الأسفار والمخارج. تقول: أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيه ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدّرجة ونحوهما قلت:

صعدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ:«إِذْ تَصْعَدُونَ وَلَا تَلْوُونَ» جعل الصعود في الجبل كالصعود في السلم " (6).

وقال السمين: والجمهور على "تُصْعدِونَ" بضم التاء وكسر العين، من أصْعَدَ في الأرض إذا ذهب فيها، والهمزة فيه للدخول نحو:"أصْبح زيدٌ" أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تَدْخُلون في الصُّعود، ويبيِّن ذلك قراءةُ أبُيّ:

(1) انظر القراءتين: الكشاف: 1/ 339، وجامع الأحكام للقرطبي: 4/ 20، ومختصر الشواذ لابن خالويه: 19

(2)

الدر المصون: 3/ 249.

(3)

قراءة الحسن انظر: الدر المصون: 4/ 204، وإتحاف الفضلاء:324.

(4)

آل عمران: 153.

(5)

فاطر:10.

(6)

معاني القرآن: 1/ 239.

ص: 169

"تُصْعِدون في الوادي". والحسن والسلمي: "تَصْعَدون" من صَعِد في الجبل أي رَقِي، والجمع بين القراءتين: أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا في الجبل، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين: أَصْعَدَ وصَعِد

وقال المفضل: صَعِدَ وصَعَّدَ وأَصْعَدَ بمعنى واحد، والصعيدُ وجهُ الأرض" (1).

وقال الراغب الأصفهاني: "وأما الإصعاد فقد قيل هو الإبعاد في الأرض، سواء كان ذلك في صعود أو حدور، وأصله من الصعود، وهو الذهاب إلى الأمكنة المرتفعة كالخروج من البصرة إلى نجد وإلى الحجاز، ثم استعمل في الإبعاد، وإن لم يكن فيه اعتبار الصعود، كقولهم: تعال، فإنه في الأصل دعاء إلى العلو، صار أمرا بالمجيء سواء كان إلى أعلى أو إلى أسفل، قال الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}، قيل: لم يقصد بقوله: "إذ تصعدون" إلى الإبعاد في الأرض، وإنما أشار به إلى علوهم فيما تحروه وأتوه، كقولك: أبعدت في كذا، وارتقيت فيه كل مرتقى، وكأنه قال: إذ بعدتم في استشعار الخوف والاستمرار على الهزيمة"(2).

(يُخْصِفَانِ)(3): قراءة في قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (4).

قال الزبيدي "ومِن المَجَازِ: خَصَفَ العُرْيَانُ الْوَرَقَ علَى بَدَنِهِ، يَخْصِفُهَا، خَصْفاً: أَلْزَقَهَا، أَي: أَلْزَقَ بَعْضَها إِلى بَعْضٍ، وأَطْبَقَهَا عَلَيْهِ وَرَقَةً وَرَقَةً، لِيَسْتُرَ به عَوْرَتَهُ، وبه فُسِّرَ قَوْلُه تعالَى:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}

كَأَخْصَفَ، ومنه قِرَاءَةُ ابنُ بُرَيْدَةَ، والزُّهْرِيِّ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ:"وَطَفِقَا يُخْصِفَانِ". [التاج: خصف].

فالزبيدي يقرر أن قراءة الجمهور "يَخْصِفَانِ" من (خَصَفَ) الثلاثي، وأن قراءة الزهري "يُخْصِفَانِ" من (أخصف) الرباعي، وأن القراءتين معناهما واحد أي أن خصف الثلاثي بمعنى أخصف الرباعي هنا. وقد ذكر السمين هذا الوجه وزاد عليه وجها آخر، وهو أن تكون الهمزة للتعدية فقال:" قرأ الزهري "يُخْصِفان" مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما: أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل.

(1) الدر المصون: 4/ 204.

(2)

مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني: 281

(3)

هي قراءة ابن بريدة، والزهري، انظر:، المختصر لابن خالويه: 42، والمحتسب: 1/ 245، ومعجم القراءات لأحمد مختار عمر: 2/ 164.

(4)

الأعراف: 22.

ص: 170

والثاني: أن تكون الهمزةُ للتعدية، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي: يَخْصِفان أنفسهما أي: يجعلان أنفسَهما خاصِفين" (1). وكون الهمزة للنقل هو الوجه الأشهر في التفسير (2).

(تُهْجِرُونَ)(3): قراءة في قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرَاً تَهْجُرُونَ} (4). [التاج: هجر]

استشهد الزبيدي أثناء تناوله لـ (أهجر) بقراءة ابن عباس: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرَاً تُهْجِرُونَ} بضم التاء، وكسر الجيم، من أَهْجَرَ. وفي تناوله لهَجَرَ الثلاثي قال: هَجَرَ في نَوْمِه ومَرضِه: هَذَى. واستشهد على هذا المعنى بقراءة الجمهور لنفس الآية: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرَاً تَهْجُرُونَ} .

قال أبو زرعة: " قرأ نافع "سامرا تُهْجِرُونَ" بضم التاء وكسر الجيم، من أهجر يُهْجِرُ إذا هذى، فمعنى تُهْجِرُونَ: أي تهذون، وقالوا: أهجر المريض إذا تكلم بما لا يفهم، فكان الكفار إذا سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلموا بالفحش وسَبُّوهُ، فقال جلَّ وَعَزَّ: "مستكبرين به" أي بالقرآن أي يحدث لكم بتلاوته عليكم استكبارا، "سامرا تهجرون" قال ابن عباس: تأتون بالهجر والهذيان وما لا خير فيه

وقرأ الباقون بفتح التاء المعنى: أنكم تَهْجُرُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وآياتي وما يتلى عليكم من كتابي، فشبه الله تعالى مَنْ تَرَكَ القرآنَ والعملَ به كالهاجر لرشده" (5).

وقال السمين: " قرأ العامَّةُ "تَهْجُرُونَ" بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما.

الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هَذَى، فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن "تُهْجِرُونَ" بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه" (6).

(1) الدر المصون: 7/ 102.

(2)

انظر الكشاف: 2/ 96، والمحرر لابن عطية: 1/ 37، والجامع للقرطبي: 1/ 181.

(3)

هي قراءة نافع وابن محيصن و، انظر: الحجة لأبي زرعة: 494، والدر المصون: 11/ 61.

(4)

المؤمنون: 67.

(5)

الحجة: 489.

(6)

الدر المصون: 11/ 61.

ص: 171

وقال البغوي: قرأ نافع "تُهْجِرُونَ" بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في القول، أي: تفحشون وتقولون الخنا، وذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون:"تَهْجُرُونَ" بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والقرآن، وترفضونها: وقيل: هو من الهَجَرِ وهو القول القبيح، يقال هَجَرَ يَهْجُرُ هَجَرَاً إذا قال غير الحق. وقيل: تهزؤون وتقولون ما لا تعلمون، من قولهم: هَجَرَ الرجلُ في مَنَامِهِ إذا هَذَى" (1).

(تَشْطُطْ)(2): قراءة في قوله تعالى: "ولا تُشْطِطْ"(3). [التاج: شطط]

ذكر الزبيدي القراءتين السابقتين في سياق شرحه لـ (شَطَّطَ) فقال: "وشَطَّطَ تَشْطيطاً: بالَغَ في الشَّطَطِ، أَي الجَوْرِ والتَّجاوُز عن الحَدّ، وقُرِئَ: "ولا تُشْطِطْ" بضَمِّ التّاء، وكَسْرِ الطاء الأُولى. وقَرَأ الحَسَن البَصْرِيُّ، وأبو رَجاءٍ، وأبو حَيْوَةَ، واليَمانِيُّ، وقَتادَةُ في إحْدَى رِوايَتَيْه، وأبو إبراهيمَ، وابنُ أَبي عَبْلَةَ: "ولا تَشْطُطْ" بفَتْحِ التّاءِ، وضمِّ الطّاء الأُولَى.

ولم ينبه الزبيدي على أن فعل وأفعل من هذا الفعل بمعنى واحد، ولكن السمين قد صرح بذلك حيث يقول: العامَّةُ على "تُشْطِطْ" ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إذا تجاوز الحقَّ. قال أبو عبيدة: "شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه، إذا جُرْتُ "فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل

وقرأ الحسن وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة "تَشْطُطْ" بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم" (4). أما ابن عطية فقد جعل الهمزة للتعدية حيث يقول: "شَطَّ إذا بَعُدَ وأَشَطَّ إذا أَبْعَدَ غَيْرَهُ" (5).

(فَأَزَرَهُ)(6): قراءة في قوله تعالى: {فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} (7). [التاج: أزر]

(1) معالم التنزيل للبغوي: 5/ 423.

(2)

هي قراءة أبي رجاء وأبي عبلة والحسن وأبي حيوة واليماني وقتادة وأبي إبراهيم ورواية لإبي جعفر، انظر: معاني الفراء: 2/ 403، ومعاني الزجاج: 4/ 326، والمختصر لابن خالويه:129، والبحر المحيط: 7/ 392، والمحتسب: 2/ 231.

(3)

سورة ص: 22.

(4)

الدر المصون للسمين الحلبي: 12/ 248.

(5)

معالم التنزيل: 2/ 5.

(6)

هي قراءة ابن عامر وابن ذكوان وهشام وحميد بن قيس وأبي حيوة، وبالمد قراءة الجمهور، انظر: السبعة لابن مجاهد: 605، والحجة لابن خالويه: 330، والبحر المحيط: 8/ 103، والنشر: 1/ 375، والإتحاف:397.

(7)

الفتح: 29.

ص: 172

ذكر الزبيدي أن الأَزْرَ: القوة، واستشهد بقراءة ابن ذكوان {فَأَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} من الفعل الثلاثي (أزر) على زنة (فَعَلَ)، وذكر أن سائر القراء قرؤو:"فَآزَرَهُ". وقد آزرَه: أعانَه وأسعدَه. والواضح من تمثيل الزبيدي بـ (أعان) و (أسعد) أن "آزره" على زنة (أفعل). وعند شرحه للمؤازرة قال: "المُؤازرةُ أن يُقَوِّيَ الزَّرْعُ بعْضُه بعضاً، فَيَلْتَفَّ ويتلاصَقَ، وهو مَجازٌ كما في الأساس. وقال الزَّجّاج في قوله تعالى:{فآزَرَه فاسْتَغْلَظَ} أي: فآزَر الصِّغارُ الكِبَارَ، حتى استَوَى بعضُه مع بعضِ. فاستشهاده بالآية هنا يدل على أنه جعل (آزر) على زنة (فاعل)، وهذا اللبس جاء من أن الفعل (أزر) على وزني:(فاعل) و (أفعل)، تجتمع أوله همزتان: أازر، وأأزر، والقاعدة تستبدل الهمزتين بألف مد (آ) فيصير شكل الفعل في الحالتين (آزر).

ولم يوضح الزبيدي هذا الإشكال، وقد ذكر الزمخشري ما يفيد جواز الوجهين فقال: "فَآزَرَهُ من المؤازرة وهي المعاونة. وعن الأخفش: أنه (أفعل).

وقرئ: "فَأَزَرَهُ" بالتخفيف والتشديد، أى: فشدّ أزره وقوّاه. ومن جعل آزر (أفعل)، فهو في معنى القراءتين" (1). ولكن السمين يذكر خطأ (فاعل) فيقول:"العامَّةُ على المدِّ "فآزَرَه" وهو على (أَفْعَل). وغَلَّطوا مَنْ قال: إنه (فاعَلَ) كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ. وقرأ ابن ذكوان "فَأَزَرَهُ" مقصوراً جعله ثلاثياً

والمعنى في الكلِّ: قَوَّاه" (2).

(ج) زيادة (فَعَلَ) بالألف: (فَاعَلَ).

(يَخْدَعُونَ اللهَ)(3): قراءة في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ والَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ} (4). [التاج: خدع]

تناول الزبيدي المخادعة من خلال القراءات الواردة في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ والَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ} ، حيث ورد الفعل (يخدعون) مرتين في الآية، وقد قرئ في الموضعين مرة على زنة (يفعلون) وثانية على زنة (يفاعلون) وذكر أن الفعل إذا جاء على زنة (فاعل) فإنه يقتضي المشاركة بين طرفين فأكثر وبَيَّنَ أن هذا المعنى ليس مطرداً على الدوام؛ لأن السياق يرفض أحيانا هذه المشاركة، وهو لا يكتفي بتقرير هذا المعنى، وإنما

(1) الكشاف: 4/ 348.

(2)

الدر المصون: 13/ 146.

(3)

قراءة عبد الله وأبي حيوة، انظر: حجة ابن خالويه: 68، والبحر: 1/ 63.

(4)

البقرة: 9.

ص: 173

يعلل له بما ورد عن العرب من استخدامات، فيقول:"قَرَأَ ابنُ كَثِيرِ ونافِعٌ وأَبُو عَمْروٍ: {ومَا يُخَادِعُونَ} (1) بالأَلِفِ. وقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ {يَخْدَعُونَ اللهَ والَّذِينَ آمَنُوا ومَا يَخْدَعُونَ} (2) جَمِيعاً بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى أَنَّ الفِعْلَ فِيهِمَا جَمِيعاً من الخَادِع. وفي اللِّسَان: جَازَ (يُفَاعِلُ) لِغَيْرِ الاثْنَيْنِ؛ لأَنَّ هذَا المِثَالَ يَقَعُ كَثِيراً في اللُّغَةِ للْوَاحِدِ نَحْو: عاقَبْتُ اللِّصَّ وطارَقْتُ النَّعْلَ. وقالَ الفَارِسِيّ: والعَرَبُ تُقُولُ: خَادَعْتُ فُلاناً، إِذا كُنْتَ تَرُومُ خَدْعَهُ. وعلَى هذا يُوَجَّهُ قَوْلُه تَعالَى: "يُخَادِعُونُ اللهَ وهُوَ خَادِعُهُم" (3) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ في أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُم يُخَادِعُونَ اللهَ، واللهَ هُوَ الخَادِعُ لَهُمْ أَي المُجَازِي لَهُمْ جَزَاءَ خِدَاعِهم. وقالَ الرَّاغِبُ في المُفْرَدَاتِ (4): وقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ هذا على حَذْفِ المُضَافِ، وإِقَامَةِ المُضَافِ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، فيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ المَقْصُودَ بمِثْلِهِ في الحَذْفِ، لا يَحْصُلُ لَوْ أُتِيَ بالمُضَافِ المَحْذُوفِ، ولِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّنْبِيه عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَحْدِهِمَا: فَظَاعَةُ فِعْلِهِمْ فِيمَا تَجَرَّؤُوهُ مِنَ الخَدِيعَةِ، وأَنَّهُمْ بمُخَادَعَتِهِمْ إِيّاه يُخَادِعُونَ اللهَ.

والثانِي: التَّنْبِيهُ علَى عِظَمِ المَقْصُودِ بالخِدَاعِ، وأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كمُعَامَلَةِ اللهِ.

وقد ذكر أبو زرعة حجة القراءتين فقال: " قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "وما يخادعون إلا أنفسهم" بالألف واحتج أبو عمرو بأن قال: إن الرجل يخادع نفسه ولا يخدعها. قال الأصمعي ليس أحد يخدع نفسه إنما يخادعها. وقرأ أهل الشام والكوفة "وما يخدعون" بغير ألف وحجتهم في ذلك أن الله أخبر عن هؤلاء المنافقين أنهم يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، فأثبت لهم مخادعتهم الله والمؤمنين، ثم يخبر عنهم عقيب ذلك أنهم لا يخادعونه، ولا يخادعون إلا أنفسهم، فيكون قد نفى عنهم في آخر الكلام ما أثبته لهم في أوله، ولكنه أخبر أن المخادعة من فعلهم، ثم إن الخدع إنما يحيق بهم خاصة دونه"(5).

ويرجح السمين معنيين لـ (فاعل) هما: المشاركة، أو أن يكون (فاعل) بمعنى (فعل) فيقول: ومعنى {يخادعون الله} أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ

و (فَاعَلَ)

(1) انظر: الحجة لأبي زرعة:87، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 168، 169.

(2)

المرجعان السابقان الصفحات نفسها.

(3)

النساء: 142.

(4)

مفردات غريب القرآن: 143، 144.

(5)

الحجة: 87.

ص: 174

له معانٍ خمسةٌ: المشاركةُ المعنويةُ نحو: "ضاربَ زيدٌ عمراً" وموافقةُ المجرد نحو: "جاوَزْتُ زيداً" أي جُزْتُه، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو:"باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته"، والإغناءُ عن أَفْعل نحو:"وارَيْتُ الشيءَ"، وعن المجردِ نحو: سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت، والآيةُ فيها (فاعَلَ) يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ. أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة:"يَخْدَعون" " (1).

(وَعَدْنَا)(2): قراءة في قوله تعالى: {وإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (3).

[التاج: وعد]

في هذه المادة يضع الزبيدي تذييلا يناقش فيه مسألة المشاركة ومدى مناسبتها في قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ويبين فيه الأساس اللغوي الذي من أجله اختار بعض القراء قراءتهم، حيث اختار أبو عمرو بن العلاء "وَعَدْنَا" بغيرِ أَلفٍ؛ لأَن المُوَاعَدَة إِنما تَكُونُ مِن الآدمِيّينَ، بدليل قولُه تعالى:{إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ} (4).

وذكر كلاما للزجاج سوغ فيه قراءة "وَاعَدْنا"(5) لأَن الطَّاعَةَ في القَبُولِ بمَنْزِلةِ المُوَاعَدَةِ، فهو من الله وعْدٌ، ومِن مُوسى قَبُولٌ واتِّبَاعٌ، فَجَرَى مَجْرَى المُواعَدَة.

وقد لخص السمين احتجاج العلماء للقراءتين السابقتين فقال: " قرأ أبو عمروٍ "وَعَدْنَا "، وقرأه الباقون: "وَاعَدنا" بألف. واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ

(1) الدر المصون: 1/ 87.

(2)

قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي عمرو واليزيدي وابن محيصن ويعقوب والحسن وأبي رجاء وعيسى بن عمرو وقتادة وأبي إسحاق. انظر: معاني الزجاج: 1/ 132، والحجة لابن خالويه: 76، والبحر: 1/ 199، والنشر: 2/ 112، والعنوان: 7، وإبراز المعاني لأبي شامة:1/ 434، ومعجم القراءات: 1/ 199.

(3)

البقرة: 51.

(4)

إبراهيم: 22.

(5)

انظر: العنوان: 8، والنشر: 2/ 212، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 199.

ص: 175

بالوَعْدِ والوعيد، على هذا وجَدْنَا القرآن، نحو:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ} (1) و {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} (2) و {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (3) و {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} (4). وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً: "وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من الله لموسى، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص"(5) ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها. وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً: "قراءةُ العامَّة عندَنا: وَعَدْنا - بغيرِ ألفٍ - لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين". وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن (المفاعلةَ) هنا صحيحةٌ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ بمنزلة الوَعْدِ منه، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه. وقال مكي:"المواعدة أصلُها من اثنين، وقد تأتي بمعنى (فَعَل) نحو: طارَقْتُ النَّعْلَ"، فجعل القراءتين بمعنىً واحد، والأولُ أحسنُ. ورجَّح قوم "واعدنا". وقال الكسائي: وليس قولُ الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} من هذا البابِ في شيء؛ لأن "واعَدْنا موسى" إنما هو من بابِ الموافاة، وليس من الوَعْد في شيء، وإنما هو من قولك: مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا، والفصيحُ في هذا "واعَدْنا". وقال الزجاج:"واعَدْنا" بالألفِ جَيِّدٌ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة، فمِنَ الله وَعْدٌ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ، فجَرى مَجْرَى المواعدة" (6). وقال مكي أيضاً:"والاختيارُ "واعَدْنا" بالألفِ، لأن بمعنى وَعَدْنَا، في أحدِ مَعْنَيَيْه، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة"(7).

(عَاقَدَتْ)(8): قراءة في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (9). [التاج: عقد]

(1) النور: 55.

(2)

الفتح: 20.

(3)

إبراهيم: 22.

(4)

الأنفال: 7.

(5)

الكشف عن وجوه القراءات: 1/ 239.

(6)

معاني القرآن وإعرابه: 1/ 133.

(7)

الدر المصون: 1/ 262.

(8)

هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وابن عباس وأبي جعفر ويعقوب. انظر: السبعة لابن مجاهد: 232، والحجة لابن خالويه: 123، والنشر:2/ 49.

(9)

النساء: 33.

ص: 176

وعلى غرار ما سبق أتى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} حيث قرئ {عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؛ لأن الفعل يقتضي المشاركة، حيث إن العقد لا يكون إلا بين طرفين.

قال ابن خالويه: "عقدت" يقرأ بإثبات الألف والتخفيف، وبترك الألف وتخفيف القاف، فالحجة لمن أثبت الألف، أنه جعله من المعاقدة، وهي المحالفة في الجاهلية أنه يواليه ويرثه ويقوم بثأره، فأمروا بالوفاء لهم، ثم نسخ ذلك بآية المواريث، فحسنت الألف ها هنا؛ لأنها تجيء في بناء فِعْلِ الاثنين. والحجة لمن حذف الألف أنه يقول ها هنا صفة محذوفة والمعنى: والذين عَقَدَتْ أيمانُكُمْ لَهُمُ الحَلِفَ " (1).

(لَمَسْتُمُ)(2): قراءة في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3). [التاج: لمس]

تناول الزبيدي الملامسة فقال: "والمُلامَسَةُ أَكْثَرُ ما جاءَت من اثْنَيْن"، واستدل بقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، وقُرِئَ "أَو لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ" وهي قراءَةُ عن حَمْزَةَ والكِسَائيِّ وخَلَفٍ".

قال أبو زرعة: "قرأ حمزة والكسائي "أو لمستم النساء" بغير ألف جاعلا الفعل للرجال دون النساء، وحجتهما أن اللمس ما دون الجماع، كالقبلة والغمزة، عن ابن عمر اللمس ما دون الجماع، أراد اللمس باليد، وهذا مذهب ابن مسعود وسعيد بن جبير وإبراهيم والزهري. وقرأ الباقون "أو لامستم" بالألف أي جامعتم، والملامسة لا تكون إلا من اثنين، الرجل يلامس المرأة، والمرأة تلامس الرجل، وحجتهم ما روي في التفسير، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قوله "لامستم النساء" أي جامعتم، ولكن الله يكني"(4).

ويلاحظ هنا أن اختلاف القراءة قد أثمر ختلافا معنويا وفقهيا، فمجرد لمس الرجال للنساء يوجب الوضوء، هذا على قراءة "لمستم". أما قراءة "لامستم" والتي حملوها على الجماع فإنها توجب الاغتسال.

(1) الحجة: 123.

(2)

قراءة حمزة والكسائي وخلف، انظر: الحجة لابن خالويه: 124، والدر المصون: 5/ 16، ومعجم القراءات لأحمد مختار: 1/ 513.

(3)

النساء: 43.

(4)

الحجة: 205.

ص: 177

(دَارَسْتَ): قراءة في قوله تعالى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (1). [التاج: درس]

ذكر الزبيدي عند تناوله للمدارسة ثلاث قراءات لقوله تعالى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} كلها على وزن (فاعل) وهي قِرَاءَة ابنِ كَثِيرٍ وأَبِي عَمْرٍو: {وَلَيقُولُوا دَارَسْتَ} (2) وفسَّرَه ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما بقوله: "قَرَأْتَ على اليَهُودِ وقَرَؤُوا عَلَيْكَ" يعني أن المفاعلة على بابها من المشاركة، والثانية قراءة الحَسَن البَصْريّ:"دَارَسَتْ"(3) بفتح السين وسكونِ التاءِ، وفيه وَجْهَانِ، أَحدُهما: دَارَسَتِ اليَهُودُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم. والثاني: دَارَسَتِ الآيَاتُ سَائِرَ الكُتُبِ، أَيْ ما فيها، وطَاوَلَتْهَا المُدَّةَ، حتَّى دَرَسَ كُلُّ وَاحِدٍ منها، أَي مُحِيَ وَذَهَبَ أَكْثَرُه. والثالثة قراءة الأَعْمَش:"دَارَسَ"(4) أَي دَارَسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليَهُودَ. وكلها ترجع إلى معنى المشاركة السابق (5).

ثانيا: الثلاثي المزيد بحرفين:

(أ) زيادة (فَعَلَ) بالتاء والتضعيف: (تَفَعَّلَ).

(يَسْمَعُونَ)(6): قراءة في قوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} (7).

[التاج: سمع]

يدلل الزبيدي على أن: تَسَمَّعَ مثل سَمِعَ في المعنى والتعدي، على الرغم من أن الأول خماسي (تَفَعَّلَ)، والثاني ثلاثي (فَعَلَ) فيقول: "وَتَسَمَّعَ الصوتَ: مثلُ سَمِعَ، قال لَبيدٌ رضي الله عنه يصفُ مَهاةً:

وَتَسَمَّعَتْ رِزَّ الأَنيسِ فَرَاعَهَا

عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالأَنِيسُ سَقَامُهَا

إذا أَدْغَمتَ قلت: اسَّمَّعَ، وقرأ الكوفيُّون، غيرِ أبي بكرٍ:"لا يَسَّمَّعُونَ"، بتشديد السينِ والميم، وفي الصحاح: يقال: تَسَمَّعْت إليه، وسَمِعْتُ إليه، وسَمِعْتُ له، كلُّه

(1) الأنعام: 105.

(2)

انظر: النشر: 2/ 294، ومعجم القراءات: 2/ 120، 121.

(3)

انظر: السبعة لابن مجاهد: 264، والعنوان لابن خلف:14.

(4)

انظر: السبعة لابن مجاهد: 264، والحجة لابن زنجلة:265.

(5)

انظر في قراءات هذه الآية: معاني القرآن للفراء:1/ 394، والتبيان للعكبري: 1/ 256، والحجة لابن زنجلة: 264، والدر المصون: 6/ 370، ومفردات غريب القرآن للأصفهاني:167.

(6)

قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والأعمش ومجاهد وابن عباس وشعبة وأبو جعفر ويعقوب، انظر: السبعة لابن مجاهد: 547، والحجة لابن زنجلة: 560، ومعجم القراءات: 4/ 195.

(7)

الصافات: 8.

ص: 178

بمعنى واحدٍ؛ لأنّه تعالى قال: {وَقَالُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرَآنِ} ، وقُرِئَ:"لا يَسْمَعُونَ" مُخَفّفاً".

وقول الزبيدي إن (تَسَمَّعَ) و (سَمِعَ) يستويان في المعنى لا يسلم له؛ لأن التسمع مبالغة في طلب السماع، ومجيء القراءة في الموضع الواحد بالفعلين ليس دليلا على تساويهما في المعنى، وهذا هو الواضح من كلام اللغويين والمفسرين (1).

فأبو زرعة يحتج للقراءتين فيقول:" قرأ حمزة والكسائي وحفص "لا يَسَّمَّعُونَ" بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وحجتهم ما روي عن ابن عباس أنه قرأ: "لا يَسْمَعُونَ" وقال: هم يَسَّمَّعُونَ ولكن لا يَسْمَعُونَ، والدليل على صحة قول ابن عباس قوله تعالى:{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (2) وقوله بعدها: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (3)، فعلم بذلك أنهم يقصدون للاستماع. ومن حجتهم أيضا إجماع الجميع على قوله:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (4)، وهو مصدر سمع، والقصة واحدة، وتأويل الكلام وحفظا من كل شيطان مارد لئلا يسمعوا بمعنى أنهم ممنوعون بالحفظ عن السمع، فَكَفَتْ (لا) مِنْ (أَنَّ)

فإن قال قائل: فلو كان هذا هو الوجه لم يكن في الكلام (إلى) ولكان الوجه أن يقال: لا يسمعون الملأ الأعلى، قلت: العرب تقول: سمعت زيدا، وسمعت إلى زيد، فكذلك قوله:{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، وقد قال جل وعز:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (5)، وقال:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (6) فيعدي الفعل مرة بـ "إلى" ومرة باللام.

ومن قرأ: "يَسَّمَّعُونَ" الأصل (يَتَسَمَّعُونَ) فأدغم التاء في السين لقرب المخرجين وحجتهم في أنهم مُنِعُوا من التَّسَمُّعِ، الأخبارُ التي وردت عن أهل التأويل بأنهم كانوا يَتَسَمَّعُونَ الوحي فلما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمُوا بالشُّهُبِ ومُنِعُوا، فإذا كانوا عن التَّسَمُّعِ ممنوعين كانوا عن السَّمْعِ أَشَدّ منعًا وأبعد منه؛

(1) انظر: تفسير أبي حاتم: 12/ 79، والكشاف: 4/ 35، ومعالم التنزيل للبغوي: 7/ 35، والجامع للقرطبي: 15/ 65، والدر المصون: 12/ 187.

(2)

الجن: 9.

(3)

الصافات: 10.

(4)

الشعراء: 212.

(5)

الأعراف: 204.

(6)

الأنعام: 25.

ص: 179

لأن المُتَسَمِّعَ يجوز أن يكون غيرَ سامعِ، والسَّامعُ قد حصل له الفعل. قالوا فكان هذا الوجه أبلغ في زجرهم لأن الإنسان قد يَتَسَمَّعُ ولا يَسْمَعُ فإذا نُفِيَ التَّسَمُّعُ عنه فقد نَفَى سَمْعَهُمْ من جهة التَّسَمُّعِ ومن جهة غيرِهِ فهو أَبْلَغُ " (1).

وقد رجح الطبري قراءة التخفيف اعتمادا على الأثر فقال: "وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف؛ لأن الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، أن الشياطين قد تَتَسَمَّعُ الوحي، ولكنها ترمى بالشهب لئلا تَسْمَع

فإن ظن ظان أنه لما كان في الكلام "إلى"، كان التَّسَمُّعُ أولى بالكلام من السَّمْعِ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن العرب تقول: سَمِعْتُ فلانا يقول كذا، وسَمِعْتُ إلى فلان يقول كذا، وسَمِعْتُ من فلان" (2).

أما أبو عبيد فيختار قراءة التشديد: "لَاّ يَسَّمَّعُونَ" ويقول: لو كان مخففاً لم يتعَدَّ بـ "إلى". وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي: "لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى بـ "إلى" تَعَدَّى سَمِع بـ "إلى" وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه"(3).

(يَطَّهَّرْنَ): قراءة في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ} (4). [التاج: طهر].

ساق الزبيدي القراءات الواردة في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ} ؛ ليدلل على أن (طَهُرَتْ) الثلاثي يعني انقطع عنها دم الحيض، وأَنَّ (تَطَهَّرَتْ) الخماسي يعني اغتسلت بالماء وأنه يجوز استخدام (طَهُرَتْ) في المعنيين، على خلاف واقع بين العلماء (5) في ذلك، إلا أن الزبيدي يستخدم القراءة كدليل ترجيح على تساوي المعنى فيقول: وقُرِئَ: "حَتَّى يَطَّهَّرْنَ"(6) قال أبو العباس: والقراءة "حتى يَطَّهَّرْنَ"؛ لأنّ من قَرَأ "يَطَْهُرْنَ"(7)

(1) الحجة: 605، 606.

(2)

جامع البيان: 21/ 12.

(3)

الدر المصون للسمين: 12/ 187.

(4)

البقرة: 222.

(5)

انظر مثلا: الزمخشري: الكشاف: 1/ 191، والطبري: الجامع: 4/ 385، وأبا حيان: البحر المحيط: 2/ 364.

(6)

قراءة حمزة والكسائي وعاصم الجحدري وخلف والفضل وشعبة، انظر معجم القراءات:1/ 315.

(7)

قراءة الباقين غير حمزة والكسائي وعاصم، انظر: معاني القراءات لأبي منصور الأزهري: 76.

ص: 180

أراد انقطاع الدم "فإذا تَطَهَّرْنَ" اغْتَسَلْنَ فصيَّر معناهما مختلفاً والوَجْهُ أنْ تكونَ الكَلِمَتَانِ بمعنىً واحدٍ يريدُ بهما جميعاً الغُسْلَ ولا يَحلّ المَسِيسُ إلاّ بالاغْتِسَالِ. ويُصَدِّق ذلك قراءَةُ عبد الله بنِ مَسْعُود: "حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ"(1).

قال السمين الحلبي:" قراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ. وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ. ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال: "هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجلِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط؟ " (2).

قال ابنُ عطية: " كُلُّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ"(3)، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم، وكذلك ادعاؤه الإِجماع، وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ. ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي" (4).

(ب) زيادة (فَعَلَ) بالهمزة والتاء: (افْتَعَلَ).

(يَخَدِّعُون): قراءة في قوله تعالى: {وما يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ} (5).

[التاج: خدع]

في معرض حديثه عن المخادعة ذكر الزبيدي جملة من القراءات منها: قِرَاءِةُ مُوَرِّقٍ العِجْلِيّ: {وما يَخَدِّعُون إِلَاّ أَنْفُسَهم} (6) بفَتْحِ الياءِ، والخاءِ وكَسْرِ الدَّالِ المُشَدَّدَةِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، عَلَى إِرادَةِ (يَخْتَدِعُونَ) أُدْغِمَت التَّاءُ في الدَّال، ونُقِلَتْ فَتْحَتُها إِلَى الخاءِ (7).

(يَخِصِّفَانِ): قراءة في قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (8). [التاج: خصف].

(1) عبارة التاج: طهر، وانظر: النشر:2/ 259، والعنوان:9، والسبعة:106.

(2)

انظر: جامع البيان: 4/ 384.

(3)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 249.

(4)

الدر المصون: 2/ 396.

(5)

البقرة: 9.

(6)

انظر: معجم القراءات: 1/ 168، 169.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 66، والكشاف: 1/ 58، والدر المصون: 1/ 89.

(8)

الأعراف: 22.

ص: 181

وعند شرحه للاختصاف قال: " اخْتَصَفَ بكذا (افتعل). وقَرَأَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ والزُّهْرِيُّ والأَعْرَجُ وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، وقرئ: {وَطَفِقَا يَخِصِّفَانِ} (1) بكَسْرِ الخاءِ والصَّادِ وتَشْدِيدِهَا علَى معنَى (يخْتَصِفان) ثم تُدْغَمُ التَّاءُ في الصَّادِ وتُحَرَّكُ الخاءُ بحَرَكةِ الصَّادِ، وبعضُهُمْ حَوَّلَ حَرَكَةَ التَّاءِ ففَتَحَهَا".

(ج) زيادة (فَعَلَ) بالتاء والألف: (تَفَاعَل).

(يَصَّاعَدُ): قراءة في قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (2).

[التاج: صعد]

دلل الزبيدي على أن الأفعال: صَعِدَ، واصَّعَّدَ، واصَّاعَدَ، بمعنًى واحد.

بالقراءات الواردة في قوله تعالى: "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء". وما ذكره الزبيدي هنا هو ما قرره أبو زرعة في حجته حيث قال:"قرأ ابن كثير:"كَأَنَّمَا يَصْعَدُ" خفيفا من صَعِدَ يَصْعَدُ، وحجته قوله: "إليه يَصْعَدُ الكلم الطيب". وقرأ أبو بكر:"يَصَّاعَدُ"، الأصل (يتصاعد) فأدغم التاء في الصاد لقربها من الصاد. وقرأ الباقون:"يَصَّعَّدُ" الأصل (يتصعد) فأدغموا التاء في الصاد. ومعنى يَصَّعَّدُ ويَصَّاعَدُ ويَصْعَدُ كله واحد"(3).

(يَحُضُّونَ): قراءة في قوله تعالى: {ولا تَحَاضُّونَ عَلى طَعَامِ المِسْكِينِ} (4). [التاج: حضض]

في هذه المادة ذكر الزبيدي قَرَاءة أَهْل المَدِينَةِ: "ولا يَحُضُّونَ"، وقَرَاءة الحَسَن:"ولا تَحُضُّونَ"، وكلاهما من الفعل الثلاثي (حضَّ)، والفرق بينهما في ضمير المخاطب والغائب. ثم ذكر قَرَاءة الأَعْمَش، وعاصِم، ويَزِيد بن القَعْقَاع "ولا تَحَاضُّون"(5) بفَتْح التاء، على زنة (تفاعلون) والأصل تتحاضون، حذفت إحدى التاءين (6). قال الفَرَّاءُ (7): وكُلٌّ صَوَابٌ، فمَنْ قرأَ:"تُحَاضُّون" فمعْنَاه

(1) هي قراءة الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب، انظر: الإتحاف: 394، ومعجم القراءات: 2/ 164، 165.

(2)

الأنعام: 125.

(3)

الحجة: 271، وانظر: الدر المصون: 6/ 414.

(4)

الفجر: 18.

(5)

انظر قراءات الآية: الحجة لابن زنجلة: 762، والعنوان لابن خلف: 36، والنشر: 2/ 400، والإتحاف:774.

(6)

الدر المصون: 14/ 334.

(7)

انظر معاني القرآن: 3/ 261.

ص: 182

تُحَافِظُون، ومَنْ قرأَ:"تَحَاضُّونَ" فمَعْناه يَحُضُّ بَعْضُكُم بَعْضاً، ومَنْ قَرَأَ "تَحُضُّون" فمَعْنَاهُ تَأْمُرُونَ بإِطْعامِه". فالمفاعلة على بابها من المشاركة (1).

ثالثا: التبادل بين: (فَعَّلَ) و (فَاعَلَ):

صيغة (فَعَّلَ) تفيد التكثير ما لم يصرفها صارف عنه، بينما صيغة (فَاعَلَ) تفيد المشاركة، أي أن الفاعل فيها لا يكون واحدا. ولكن أحيانا تفقد هاتان الصيغتان هذا المعنى، بل قد تأتيان بمعنى واحد هو معنى (فَعَّلَ) أو معنى (فَعَلَ). وقد استدل الزبيدي على ذلك بمجيء القراءة مترددة بين (فَعَّلَ) و (فَاعَلَ) في العديد من المواضع من ذلك:

(فَزَايَلْنَا)(2) قراءة في قوله تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُم} (3). [التاج: زيل].

وقد جعل الزبيدي هذه القرءاة من قبيل قولك: لا تُصَعِّرْ ولا تُصَاعِرْ. والقراءتان، معناهما واحد: فَرَّقَ ومَيَّزَ.

(وُرِّيَ)(4) قراءة في قوله تعالى: "مَا وُورِيَ عَنْهُمَا"(5)[التاج: وري]

والقراءتان عند الزبيدي بمعنى واحد: ستر وخفي.

(يُضَعَّفْ)(6) قراءة في قوله تعالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفِيْنِ} (7). [التاج: ضعف]

وهي قراءة أَبي عَمرٍو، والمعنى واحد: وهو التكثير.

(تُشَطِّطْ)(8) قراءة في قوله تعالى: {ولا تُشْطِطْ} (9). [التاج: شطط].

(1) انظر: الحجة لأبي زرعة: 762، والدر المصون: 14/ 334.

(2)

انظر معاني القرآن للفراء: 1/ 462، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 347.

(3)

يونس: 28.

(4)

انظر: لسان العرب: (وري)، والدر المصون: 7/ 96، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 163.

(5)

الأعراف: 20.

(6)

قراءة أبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب واليزيدي والحسن وعيسى، انظر: الدر المصون للسمين الحلبي: 12/ 36، ومعجم القراءات لمختار: 4/ 88.

(7)

الأحزاب: 30.

(8)

انظر معاني القرآن للفراء: 2/ 403، والدر: 12/ 248، ومعجم القراءات لمختار:225.

(9)

سورة ص: 22.

ص: 183

قرأ قتادة: {ولا تُشَطِّطْ} ، وقرأ زر بن حبيش {ولا تُشاطِطْ} (1)، ومَعْنَى الكُلِّ واحد: أَي لا تُبْعِدْ عن الحَقِّ.

وجاءت القراءة مترددة بين (فَعَّلَ) و (فَاعَلَ) وبينهما فارق في المعنى، نحو:

(عَاقَدَت)(2): قراءة في قوله تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3).

[التاج: عقد]

حيث قرئ {عَاقَدَت أَيمانُكُم} بالنظر إلى وقوع الفعل من طرفين، وقرئ أيضا:"عَقَّدَتْ" بالتشديد، معناه التَّوكِيدُ والتَّغلِيظُ.

قال القرطبي: "روى علي بن كبشة عن حمزة "عَقَّدَتْ" بتشديد القاف على التكثير. والمشهور عن حمزة "عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" مخففة القاف، وهي قراءة عاصم والكسائي، وهي قراءة بعيدة؛ لأن المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا، فبابها (فاعل). قال أبو جعفر النحاس (4): وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية، يكون التقدير فيها والذين عَقَّدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمُ الحَلِفَ، وتعدى إلى مفعولين، وتقديره: عقدت لهم أيمانكم الحلف، ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى: {وإذا كالوهم} (5) أي كالوا لهم. وحذف المفعول الثاني، كما يقال: كلتك أي كلت لك برا. وحذف المفعول الأول؛ لأنه متصل في الصلة "(6).

رابعا: التبادل بين:) أفعل) و (فَعَّلَ):

(سَيُصَلَّوْنَ، سَيُصْلَوْنَ)(7): قراءتان في قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (8). [التاج: صلي]

يتعدى الثلاثي إلى مفعوله الأول، أو الثاني، أو الثالث، بدخول الهمزة على أوله:(أَفْعَلَ)، أو تضعيف عينه (فَعَّلَ). وإذا تعاقب (أَفْعَلَ) و (فَعَّلَ) على الموضع الواحد يكون معناهما واحد إذا كانا بغرض التعدية، وقد استدل الزبيدي على هذا

(1) المصادر السابقة.

(2)

ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، انظر: الحجة لابن خالويه: 207، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 505.

(3)

النساء: 33.

(4)

انظر: إعراب القرآن: 1/ 412.

(5)

المطففين: 1.

(6)

الجامع لأحكام القرآن: 5/ 167.

(7)

انظر: جامع البيان للطبري: 7/ 29، والكشاف: 1/ 479، ومعالم التنزيل للبغوي: 2/ 71، وجامع الأحكام للقرطبي: 5/ 52، وروح المعاني للألوسي: 1/ 284.

(8)

النساء:10.

ص: 184

المعنى بالقراءات التي تعاقب فيها (أَفْعَلَ) و (فَعَّلَ) وذلك نحو قوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} (1)، حيث قرئ "نُصَلِّيهِ" (2). قال الفراء:"وتقرأ: "نُصَلِّيهِ"، وهما لغتان، وقد قرئتا، من صَلَّيْتُ وأَصْلَيْتُ. وكأنّ صَلَّيْتُ: تصليه على النار، وكأنّ أَصْلَيْتُ: جعلته يصلاها"(3).

ومنه قوله تعالى {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (4) حيث قرئ {وَسَيُصَلَّوْنَ} (5)، وقرئ أيضا {وسَيُصْلَوْنَ} (6)، والمعنى واحد: يبتلى بحرها (7).

قال السمين: قرأ الجمهور "سَيَصْلَوْنَ"بفتحِ الياء واللام، وابن عامر وأبو بكر "سَيُصْلَوْنَ" بضمِّ الياء مبنياً للمفعول من الثلاثي. ويَحْتمل أن يكونَ من أَصْلى، فلمَّا بُني للمعفولِ قام الأولُ مقامَ الفاعلِ. وابن أبي عبلة بضمِّها مبنياً للفاعلِ من الرباعي، والأصلُ على هذه القراءة: سيُصْلِيُون من أصْلى مثل يُكْرِمون من أكرم، فاستثقِلَت الضمةُ على الياءِ فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو لتصِحَّ. و"أَصْلَى": يُحتمل أَن ْ تكونَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء، فيتعدَّى لواحد وهو "سعيراً" وأن تكونَ للتعديةِ فالمفعولُ محذوفٌ، أي: يُصْلُون أنفسَهم سعيراً.

وأبو حيوة "سَيُصَلَّوْنَ" بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد، واللام مشددة، مبنياً للمفعول من "صَلَّى" مضعفاً. قال أبو البقاء:"التضعيف للتكثيرِ"

وقال الخليل: "صَلِي الكافرُ النارَ" قاسَى حَرَّها. وصلاة النارَ وأَصْلاه غيرُه، هكذا قال الراغب، وظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً، يتعدَّيان إلى اثنين ثاينهما بحرفِ الجر، وقد يُحْذَف. وقال غيرُه:"صَلِيَ بالنارِ أي: تَسَخَّن بقربها، فـ "سعيراً" على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض"(8).

(1) النساء:30.

(2)

هى قراءة الأعمش والنخعىّ وحميد بن قيس، انظر: البحر المحيط: 3/ 233، وجامع الأحكام للقرطبي: 5/ 253، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 503.

(3)

معاني القرآن: 1/ 263.

(4)

النساء: 10.

(5)

هي قراءة ابن أبي عبلة وأبو حيوة، انظر: الدر المصون: 4/ 350، ومعجم القراءات:1/ 489.

(6)

قراءة ابن عامر وعاصم وأبو بكر والحسن، انظر: السبعة: 138، والحجة لابن خالويه: 120، والحجة لأبي زرعة: 191، ومعجم القراءات: 1/ 489.

(7)

انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 263.

(8)

الدر المصون: 4/ 350.

ص: 185

نتائج هذا الفصل:

1 -

أدى التغيير في حركة البناء الصرفي إلى تغيير في المعاني، في نحو اسمي الفاعل والمفعول من غير الثلاثي، حيث إن الفرق بينهما فتح أو كسر ما قبل الآخر. وقد جاءت قراءات عدة قرئ في الموضع الواحد بالشكلين معا مما يسمح للدارس أن يقول إن هذه الظاهرة قد أسهمت في إثراء المعجم العربي بتعدد المباني والمعاني. فمثلا "يُطَوَّقُونَهُ" يجوز أن يكون من الطوق، أو من الطاقة.

2 -

ومن أمثلة تعدد المعنى مع توحد البناء "يُغَلَّ"، حيث يجوز أن يكون من (أَغْلَلْتُهُ) أي نسبته إلى الغلول. ويجوز أن يكون من (أَغْلَلْتُهُ) أي وجدته غالا. ويجوز أن يكون من (غَلَّ) مبنيا للمفعول، بمعنى: ما كان لنبي أن يَغُلُّهُ غيرُهُ.

3 -

وكان لهذا التعدد في المعنى أثره في اختلاف الأحكام الفقيهة في نحو: "يُورَثُ كَلَالَةً" و"يُوَرِّثُ"، فإن مفهوم الكلالة يختلف باختلاف بناء الفعل كما مر. وكذلك "فَإِذَا أُحْصِنَّ" و"أَحْصَنَّ"، فقد اختلف في حد الأمة بناء على قراءة الفعل.

4 -

في الغالب الأعم تميل اللغة للحصول على معان جديدة من ذات اللفظ عن طريق إضافة بعض حروف الزيادة إليه، وإن لم تكن اللغة في ذلك مطردة الاطراد الكامل، إلا أن ذلك هو الظاهر من القراءات وتحليل اللغويين والمفسرين لها، فزيادة الفعل بتضعيف عينه (فَعَّلَ) تفيد المبالغة في معنى الفعل في نحو:"يُذَبِّحُونَ"، و" خَرَّقُوا"، و"نَقَّبُوا"، و"وَدَّعَكَ". وفي "أَمَّرْنَا" تفيد الكثرة في العدد أو جعلهم أمراء. وفي "فَرَّقْنَاهُ" تفيد تكثير أغراض القرآن أو كثرة تنجيمه. أما في "يُمّيِّزَ"، و"عَقَّدَتْ" فإنها لا تفيد معنى زائدا على معنى (فَعَلَ). وقد عمدت اللغة لذلك؛ لأن الألفاظ محدودة، والمعاني غير محدودة، ومعنى ذلك أن في حروف الزيادة بابا واسعا لثراء اللغة في المفردات.

5 -

زيادة الهمزة في (أَفْعَلَ) تدل على التعدي في نحو: "نُنْسِهَا"، و"تُزِغْ"، و"يُخْصِفَانِ" كما أفادت الوجود في "نُنْسِخْ". وأفادت مجرد الدخول في الشيء في "تُصْعِدُونَ". ولم تفد معنى زائدا عن (فَعَلَ) في نحو:"تَشْطُطْ" و"تُشْطِطْ"، وفي نحو:"أَزَرَهُ" و"آزَرَهُ". كما غيرت المعنى في نحو: "تُهْجِرُونَ" من الفحش، و"تَهْجُرُونَ" من الصد.

ص: 186

6 -

كما أن زيادة الألف في (فَاعَلَ) دلت غالبا على معنى المشاركة في نحو: {عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، و {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، و"دَارَسْتَ". وقد افتقدت هذا المعنى بدلالة السياق في نحو:{يُخَادِعُونَ اللهَ} ، و {وَاعَدْنَا مُوسَى} .

7 -

وجاءت زيادة الثلاثي بالتاء والتضعيف (تفعل) لتفيد المبالغة والتكثير في "يَطَّهَّرْنَ"، بينما لم تفد معنى زائدا عن (فعل) في "يَسَّمَّعُونَ".

8 -

كما أفادت (افتعل) معنى المبالغة في:"يَخَدِّعُونَ"، و"يَخِصِّفَانِ".

8 -

أما (تفاعل) فقد أفادت المشاركة في "تَحَاضُّونَ"، ولم تفد معنى زائدا على (فعل) في "يَصَّاعَدُ".

9 -

جاءت (فَعَّلَ) مساوية لـ (فَاعَلَ) في:"زَيَّلْنَا" و"زَايَلْنَا"، و"وُورِيَ" و"وُرِّيَ"، و"يُضَاعَفْ" و"يُضَعَّفْ"، فالمعنى في كل ذلك للمبالغة والتكثير. بينما اختلفت الدلالة في تعاقب "عَاقَدَتْ" و"عَقَّدَتْ"؛ لأن الأولى أفادت المشاركة، والثانية أفادت المبالغة.

10 -

وجاء التعاقب بين (أَفْعَلَ) و (فَعَّلَ) مفيدا للتعدي في نحو: "نُصْلِيهِ" و"نُصَلِّيهِ"، وفي نحو:"سَيُصْلَوْنَ" و"سَيُصَلَّوْنَ".

ص: 187