الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
التماثل في السكون
يقف وراء حدوث هذه الظاهرة الأصل المقرر عند أهل العربية وهو أن الكلمة عندهم لا تبدأ بساكن، ولا يُجْمَعُ بين ساكنين وسطها، وقد انتبه لهذا القانون الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأَصَّلَهُ سيبويه في الكتاب، فصار أصلا للمدرسة البصرية أن التقاء الساكنين في دَرَجِ الكلام ما كان يكون في النطق العربي (1).
قال سيبويه: " وإذا كان قبل الحرف المتحرك الذي بعده حرف مثله سواء "حرف" ساكن لم يجز أن يسكن، ولكن إن شئت أخفيت، وكان بزنته متحركا"(2). ومعنى ذلك أنه إذا سُبِقَ الصوتُ المُدْغَمُ بساكن صحيح لم يَجُزْ أن يُسَكَّنَ المدغم - يعني أنه لا يصلح أن يكون محل إدغام - وإنما يجوز أن يَخْفِيَ المتكلمُ الحركةَ على الاخْتِلاس. وهذا الأصل الذي قرره سيبويه هو الذي صار عليه نَحْوِيُّو البَصْرَةِ، والكثير من غيرهم، في مناقشتهم للقراءات التي يجتمع فيها ساكنان، منطوقان على مذهب القراء (3).
ولم يُجِزْ سيبويه (4) أن يجتمع ساكنان ويُنْطَق بهما كما هما إلا في حالتين:
1 -
حالة الوقف، نحو: بَكْرْ، وعَمْرْو. وهي في أواخر الكلمات لا محالة.
2 -
وحين يكون الساكن الثاني مدغماً مسبوقاً بحرف مَدٍّ، نحو: دَابَّةٍ وشَابَّةٍ. وظَاهِرُهُ أن هذه الحالة تقع في حَشْوِ الكلام.
وحجتهم في اسْتِسَاغَةِ الجمع بين الساكنين آخر الكلمة يتمثل في أن "الوقف سَدَّ مَسَدَّ الحركة؛ لأن الوقف على الحرف يُمَكِّنُ جَرْسَ ذلك الحرف ويُوَفِّرُ الصوتَ عليه فيصير توفير الصوت بمنزلة الحركة له"(5).
(1) انظر: الكتاب لسيبويه: 2/ 58، 75، 77، 83، والمقتضب: 1/ 41، والخصائص: 1/ 241، وشرح الشافية: 2/ 307، وشرح المفصل لابن يعيش: 1/ 493 - 495.
(2)
الكتاب: 2/ 407.
(3)
انظر: أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي لعبد الصبور شاهين: 394.
(4)
انظر: الكتاب لسيبويه: 4/ 173. وشرح المفصل لابن يعيش: 1/ 493 - 495.
(5)
شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 494.
فإذا التقى ساكنان في غير هاتين الحالتين لم يمكن ذلك " مِنْ قِبَلِ أن الحرف الساكن كالموقوف عليه، وما بعده كالمبدوء به، ومحال الابتداء بساكن فلذلك امتنع التقاؤهما في الدَّرَجِ "(1).
فإذا التقيا ففي الأول منهما الحذف إن كان حرف مد نحو: لم يَقُلْ، ولم يَبِعْ. أو تحريكه بالكسر إن كان حرفاً صحيحاً نحو: واذْهَبِ اذهب، ومَنِ ابْنَك. وقد يُحَرَّكُ بغيرها عند وجود مُسَوِّغٍ له (2).
وقد وردت قراءات سَبْعِيَّةٌ وغير سَبْعِيَّةٍ جَمَعَ فيها قُرَّاؤُهَا بين السَّاكِنَيْنِ الصَّرِيحَيْنِ فَوَقَفَ منها البصريون ومَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مَوْقِفَ الإنكار، فَخَطَّؤُهَا ونَسَبُوهَا إلى اللََّحْنِ. وأما الكوفيون فإنهم يُجِيزُونَ اجتماع السَّاكِنَيْنِ في مِثْلِ المواضع التي جَمَعَ فيها القُرَّاءُ، متمسكين في ذلك برواية القُرَّاءِ وبالسَّمَاعِ مِنَ العَرَبِ (3).
وقد توقف الزبيدي عند الكثير من المواضع التي قرئ فيها بالجمع بين الساكنين منها:
• (يَخْصِّفَانِ)(4): من قوله تعالى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (5).
[التاج: خصف].
• (مُرْدِّفِينَ)(6): من قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (7). [التاج: ردف]
• (يَهْدِّي)(8): من قوله تعالى: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} (9). [التاج: هدي]
(1) شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 494.
(2)
انظر: الكتاب لسيبويه:4/ 152.
(3)
انظر: اللهجات العربية في القراءات القرآنية لعبده الراجحي: 176.
(4)
هي قراءة الحسن والأعرج ومجاهد، وأبي عمرو، انظر: التاج والعباب (خصف)، ومعجم القراءات للخطيب: 3/ 23.
(5)
الأعراف: 22، وطه:121.
(6)
هي قراءة الجحدري، انظر: البصائر (ردف)، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 267.
(7)
الأنفال: 9.
(8)
هي رواية عن أبي عمرو، انظر: الإتحاف: 440.
(9)
يونس: 35.
• (يَخْصِّمُونَ)(1): من قوله تعالى: {وهم يَخِصِّمُونَ} (2). ومنها أيضا:
[التاج: خصم]
• (فَنِعْمَّا)(3): من قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (4).
[التاج: نعم].
• (اسْطَّاعُوا)(5): من قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} (6).
[التاج: طوع].
وقد تبين من الشواهد السابقة أن الجمع بين الساكنين في الغالب يحدث عند إدغام حرفين قبلهما ساكن، مثلما يحدث في صيغة (افتعل) بأن تدغم تاء الافتعال في عين الفعل فيلتقي سكون فاء الكلمة مع السكون الناتج من الإدغام. والذين لا يجيزون الجمع بين الساكنين حجتهم أن السكون وقف، ولا يمكن الانتقال من وقف إلى وقف؛ لذلك حركوا الحرف السابق على الإدغام، وإن اختلفوا في هذه الحركة إلا أنهم أوجبوها.
ومما قرئ بالجمع بين الساكنين قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} (7) قرأ حمزة الزيات " فَمَا اسْطَّاعُوا" بالجمع بين الساكنين، وعلى الرغم من أن هذه القراءة سَبْعِيَّةٌ (8) فإنها قد أثارتْ جَدَلاً علمياً كبيراً خاصة عند النحويين الذين
(1) هي قراءة قالون وأبي جعفر، انظر: الدر المصون:12/ 172، والإتحاف:651.
(2)
يس: 49.
(3)
هي قراءة نافع، وأبي عمرو، وعاصم، والمفضل، انظر: السبعة لابن مجاهد: 541، والدر المصون:12/ 172، والنشر لابن الجزري: 2/ 394، والإتحاف:651.
(4)
البقرة: 271.
(5)
هي قراءة حمزة، وطلحة، والمطوعي، انظر: السبعة لابن مجاهد: 401، والدر المصون: 4/ 483، والنشر لابن الجزري: 2/ 316، والإتحاف:295.
(6)
الكهف: 97.
(7)
الكهف: 97.
(8)
تشير هذه الكلمة إلى قراءات سبعة اختارها ابن مجاهد وصنف فيها مؤلفا تقبلته الأمة بالقبول، وذاع صيته في الآفاق، وكان من شأن هذا المؤلف أن أدخل على غير المتخصصين اللبس، فتوهموا أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة، بينما الأمر غير ذلك. وفوق ذلك كله هناك قراءات غير السبعة لا تقل صحة عنها، بل ربما تكون فوقها في الصحة، ومع ذلك لم تشتهر اشتهار القراءات السبع؛ وذلك لأن مدار الأمر على= =توفر وسائل حفظ هذه القراءات، انظر: نظرات في علم القراءات لسمير بن يحيى المعبر: 107، وفي علوم القراءات مدخل ودراسة وتحقيق، لسيد رزق الطويل:150.
حَكَّمُوا فيها قَوَاعِدَهُم ومَقَايِيسَهُم فما كان منهم إلا أن رفضوها وجعلوها لَحْنًا وخَطَأً وعلى صعيد القُرَّاءِ أخذوا يُدَافِعُونَ عنها مُلْتَمِسِينَ لها أَسْبَابَ القُوَّةِ مِنَ السَّنَدِ، وكلام العرب.
فهذا ابن خالويه يحتج لقراءة حمزة فيقول:" وقد عيب بذلك؛ لجمعه بين الساكنين ليس فيهما حرف مد ولين، وليس في سورة الكهف ذلك عليه عيب؛ لأن القراء قد قرأوا بالتشديد قوله: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}، و {أَمَّنْ لا يَهِدِّي}، و {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}، فإن قيل: فإن الأصل في الحرف الأول الذي ذكرته الحركة، وإنما السكون عارض، فقل: إن العرب تشبه الساكن بالساكن لاتفاقهما في اللفظ والدليل على ذلك، أن الأمر للمواجهة مبني على الوقف، والنهي مجزوم بلا، واللفظ بهما سِيَّان، فالسين في "اسْتَطَاعُوا" ساكنة كلام التعريف، ومن العرب الفصحاء من يحركها فيقول: اللبكة والاحمر، فجاوز تشبيه السين بهذه اللام، وأيضا فإنهم يتوهمون الحركة في الساكن والسكون في المتحرك، كقول عبد القيس: اسل، فيدخلون ألف الوصل على متحرك توهما لسكونه"(1).
أما الزَّجّاجُ فيرد هذه القراءة قائلا: "مَن قرأَ هذه القراءَةَ فهو لاحِنٌ مُخطِئٌ زعَمَ ذلكَ الخليلُ، ويونُسُ، وسيبويهِ وجَميعُ مَن يَقولُ بقولِهِم، وحُجَّتُهُم في ذلكَ أَنَّ السِّينَ ساكِنَةٌ وإذا أُدغِمَتِ التَاءُ في الطّاءِ صارَت طاءً ساكِنَةً، ولا يُجمَعُ بينَ ساكِنَينِ (2).
ويؤيد الفارسي الزجاج قائلا:"إنما هو على إدغام التاء في الطاء، ولم يلق حركتها على السين فيحرك ما لا يتحرك، ولكن أدغم، مع أن الساكن الذي قبل المدغم ليس حرف مد "(3).
ولكن ابن الجزري يقول: "والجَمعُ بينَهما في مثلِ ذلكَ جائزٌ مَسموعٌ. قال الحافظُ أَبو عَمروٍ: ومِمّا يُقَوِّي ذلكَ ويَسَوِّغُه أَنَّ السَّاكِنَ الثاني لمّا كان اللسان
(1) الحجة: 233.
(2)
معاني القرآن: 2/ 161.
(3)
الحجة: 5/ 182.
عندَهُ يَرتفِعُ عنه وعن المُدْغَمِ ارتِفاعَةً واحِدَةً، صار بمنزلَةِ حَرْفٍ مُتَحرِّكٍ، فكأنَّ السّاكِنَ الأَوَّلَ قد وَلِيَ مُتَحَرِّكاً فلا يَجوزُ إنكارُه) (1).
ويؤيده الدمياطي فيقول: "وطَعْنُ الزَّجَّاجِ، وأَبي عليٍّ في هذه القراءة من حيثُ الجمعُ بين السَّاكِنينِ مَردودٌ بأَنَّها مُتواتِرَةٌ والجَمْعُ بينَهُما في مثلِ ذلكَ سائغٌ جائزٌ مَسموعٌ في مثلِه"(2).
وأما الذين لا يرون الجمع بين الساكنين فيتأولونها بـ" الرَّومِ "، وقد بسط الزبيدي هذه الرؤية متمثلة في قوله الذي أنكر فيه على القراء الذين جمعوا بين الساكنين، ورأى أن شواهدهم التي جاءت في الشعر محمولة على "الرَّوْمُ" أو "الاخْتِلاس"، بحيث يظن السامع أن المتحدث قد جمع بين الساكنين؛ لعدم ظهور الحركة؛ لذهاب الناطق بها مذهب "الرَّوْم" أو "الإِشْمَام" فقال:"قال الجوهري (3): و" الرَّوْمُ" الذي ذكره سيبويه: حَرَكَةٌ مُخْتَلَسَةٌ مُخَْفاةٌ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ، وهي أكثر من "الإشمام"؛ لأنها تُسْمَعُ وهي بِزِنَةِ الحركة وإن كانت مُخْتَلَسَةً مثل همزة بَيْنَ بَيْنَ كما قال (4):
أَأَنْ زُمَّ أَجْمَالٌ وَفَارَقَ جِيرَةٌ وَصَاحَ غُرَابُ الْبَيْنِ أَنْتَ حَزِينُ
قوله: " أأن زم" تقطيعه: فَعُولُن، ولا يجوز تسكين العين، وكذلك قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ} (5) فيمن أخفى، إنما هو بحركة مختلسة، ولا يجوز أن تكون الراء الأولى ساكنة؛ لأن الهاء قبلها ساكن، فيؤدي إلى الجمع بين الساكنين في الوصل من غير أن يكون قبلها حرف لين، قال: وهذا غير موجود في شيء
(1) النشر: 2/ 237، وانظر: معجم القراءات للخطيب: 5/ 309 – 311.
(2)
الإتحاف: 373.
(3)
انظر الصحاح: (روم). وينتهي كلام الجوهري في هذا الموضع في الصحاح ببيت الشعر، أما بقية العبارة والتي يتضح من سياقها أن الزبيدي ساقها على لسان الجوهري ليست موجودة عنده، ويبدو أنها لشخص آخر.
(4)
هو في العقد الفريد لكثير عزة، وقبله: (أبائنة سُعدى نعم ستَبِين
…
كما انبت من حَبل القَرين قرينُ) وبعده: (كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها
…
تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين): 2/ 262، وانظر أيضا: الأغاني: 2/ 262، والجليس الصالح: 1/ 340، وسمط اللآلي: 1/ 111، ومنتهى الطلب: 1/ 1/145.
(5)
البقرة: 158. إدغام راء رمضان قراءة أبي عمر، ويعقوب (الإتحاف: 282).
من لغات العرب، قال: وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (1) و {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} (2) و {يَخِصِّمُونَ} (3) وأشباه ذلك قال: ولا يُعْتَبَرُ بقول القراء: إِنَّ هذا ونحوه مُدْغَمٌ؛ لأنهم لا يحصلون هذا الباب، ومن جمع بين ساكنين في موضع لا يصح فيه "اختلاس" الحركة فهو مخطئ كقراءة حمزة في قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا} (4)؛ لأن سين الاستفعال لا يجوز تحريكها بوجه من الوجوه ". [التاج: روم].
وفي حديث الزبيدي السابق تعرض لثلاثة مصطلحات صوتية هي:
(1)
الاختلاس. (2) الروم. (3) الإشمام.
• أما "الاخْتِلاسُ" فهو الإسراع بالحركة حال النطق بها فيختطفها اختطافا، فلا يحقق النطق بها كاملا، وعكسه "الإِشْبَاعُ"، وقد تناول سيبويه هاذين المصطلحين في أحد أبواب كتابه وعنون له بـ "هذا باب الإشباع في الجر والرفع وغير الإشباع والحركة كما هي "ثم قال ما نصه:"فأما الذين يشبعون فيمططون، وعلامتها واو وياء، وهذا تحكمه لك المشافهة وذلك كقولك: يضربها، ومن مأمنك. وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاسا"(5).
وعنه أن أبا عمرو كان يختلس الحركة في {بَارِئكُم} (6) و {يَأْمُركُم} (7) وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من سمعه أنه قد أسكن ولم يسكن (8).
• وأما "الرَّوْمُ" فهو "أن" تأتي بالحركة مع إضعاف صوتها، أي إخفائها؛ لأنك تروم الحركة مختلسا لها، ولا تتمها " (9)، وقال السيوطي: "هو ضعف
(1) الحجر: 9. انظر: معجم القراءات لمختار: 2/ 527.
(2)
يونس: 35.
(3)
يس: 49.
(4)
الكهف: 97.
(5)
الكتاب: 2/ 297.
(6)
البقرة: 54.
(7)
البقرة: 67، 93، 169، وآل عمران: 80، والنساء:58.
(8)
انظر: الحجة لأبي علي الفارسي: 2/ 12، 24.
(9)
حاشية الصبان على شرح الأشموني: 4/ 137.
الصوت بالحركة من غير سكون فتكون حالة متوسطة بين الحركة والسكون وتكون في الحركات كلها" (1). يقول الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين: "ومعنى ذلك أن "الرَّوْمُ" يأتي بمعنى الاختلاس عند النحاة، ولكنهم وصفوه بضعف الصوت أو خفائه ومعنى ذلك أن الحركة في "الرَّوْمُ" و"الاخْتِلاسِ" تكون أقصر زمنا، كما تفقد عنصر الجهر بسبب إضعاف الصوت بها، مثلما يحدث في حالة "الإسرار" أو "الوشوشة"، ويبقى لها وضع اللسان وشكل الشفتين، واندفاع الهواء في مجرى الصوت مع قصر نسبي في المُدَّةِ التي يستغرقها النطق بها" (2).
• وأما "الإشمام": فهو تصوير الضمة باستدارة الشفتين، قال سيبويه:"وإشمامك في الرفع للرؤية، وليس بصوت الأذن، ألا ترى أنك لو قلت: هذا مَعْنْ، فأشممت كانت عند الأعمى بمنزلتها إذا لم تشمم"(3). ويقول السيوطي: "وهو الإشارة إلى الحركة دون صوت فهو لا يدرك إلا بالرؤية وليس للسمع فيه حظ ولذلك لا يدركه الأعمى ويدركه بالتعلم بأن يضم شفتيه إذا وقف على الحرف"(4). ومعنى هذا أن "الإشمام" خاص بالضمة دون الفتحة والكسرة؛ لأن الشفتين لا تستطيعان تصويرهما. وأما "الاختلاس" و"الروم" فيكونان في الحركات الثلاث.
وإذا كان النحاة قد شرحوا هذه المصطلحات فإن القراء لم يغفلوها؛ لأنها من مظاهر ضبط النطق في قراءة القرآن الكريم. فابن الجزري يقول:" اعلم أنه ورد النص عن أبي عمرو من رواية أصحاب اليزيدي عنه وعن شجاع: أنه كان إذا أدغم الحرف الأول في مثله أو مقاربه، وسواء أَسَكَنَ ما قبل الأول أو تَحَرَّكَ، إذا كان مرفوعا أو مجرورا أشار إلى حركته "(5). ثم حكى خلاف الأئمة في تفسير هذه الإشارة، ففريق يذهب إلى أنها "الرَّوْمُ"، وآخر إلى أنها "الإشْمَامُ"، ثم قال: "وهذا هو الأصل المقروء به والمأخوذ عن عامة أهل الأداء من كل ما
(1) همع الهوامع: 3/ 432.
(2)
أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي: 370.
(3)
الكتاب: 2/ 281.
(4)
همع الهوامع: 3/ 432.
(5)
النشر في القراءات العشر: 1/ 296.
نعلمه من الأمصار وأهل التحقيق من أئمة الأداء" (1) ويستطرد ابن الجزري في ذكر جمهور الأئمة والطرق التي جاءت برواية الإسكان الخالص إلى أن قال:" فهو الذي وصل إلينا أداء، لا نعلم بين أحد ممن أخذنا عنه من أهل الأداء خلافا في جواز ذلك" (2).
وقد أضاف القراء المتأخرون تفصيلا في المسألة حيث فرقوا بين "الروم" و"الاختلاس" وهما أمر واحد عند النحاة كما مر، فقالوا:"إن "الروم" لا يكون في فتح ولا نصب، ويكون في الوقف فقط، والثابت فيه من الحركة أقل من الذاهب، وأما "الاختلاس" فيكون في كل الحركات، كما في " أَرِنَا" (3) و" أَمَّنْ لَا يَهِدِّي" (4) و"يَأْمُركُم" (5)، ولا يختص بالوقف، والثابت فيه من الحركة أكثر من الذاهب، وقدره الأهوازي بثلثي الحركة، ولا يضبطه إلا المشافهة "(6).
وعلى هذا لا يصح تفسير "الروم" بـ"الاختلاس" إذ هما مختلفان من كل وجه، ويصبح ترتيب المصطلحات الثلاثة في هذا الباب على أساس أن "الإشمام" في المرفوع فقط، وأن "الروم" في المرفوع والمجرور، وأن "الاختلاس" في المرفوع والمجرور والمنصوب.
ونخلص مما سبق إلى أنه:
1 -
كان للصائت القصير أثره في تعدد اللغات التي شكلت ظاهرة لا يمكن إنكارها في المعجم العربي، وقد جاءت القراءة شاهدا على ذلك في نحو:(بَهَُِتَ) مثلثة الهاء. وفي نحو: هِيتَ، وهِيتُ، وهِيتِ، وهَيْتَ، وهِئْتُ.
وهذا كله من قبيل تعدد طرائق النطق، وتوحد المعنى. ومن حسنات ذلك التوسعة على ناطق العربية، وتضييق مساحة الخطأ.
2 -
ولكن هذا التعدد في النطق قد يصحبه أحيانا تغير في المعنى، كما في (بَهُتَ) مضمومة الهاء، فإنها تؤدي معنى المبالغة. وكما في (ضَحَِكَتْ) بفتح
(1) السابق نفسه.
(2)
النشر: 1/ 297.
(3)
النساء: 153، وفصلت:29.
(4)
يونس: 35.
(5)
البقرة: 67، 93، 169، وآل عمران: 80، والنساء:58.
(6)
الإتحاف للدمياطي: 101.
وكسر الحاء، قيل المعنى واحد، وهو الضحك المعروف، وقيل بالفتح الحيض وقيل هو مشترك لفظي للمعنيين بكلا الضبطين.
3 -
إن مجيء (حرص) من بابي: سَمِعَ، وضَرَبَ.
ومكث من بابي: نَصَرَ، وكَرُمَ.
وحبط من بابي: سَمِعَ، وضَرَبَ.
وهلك من أبواب: ضَرَبَ، ومَنَعَ، وعَلِمَ.
وقنط من أبواب: نَصَرَ، وضَرَبَ، وحَسِبَ، وكَرُمَ.
إن مجيء هذه الأفعال وغيرها من أكثر من باب لفيه إثراء للغة، وتيسير على متعلميها ومستخدميها، خاصة وأن ضبط هذا الباب يصعب على المتخصصين فضلا عن غيرهم.
4 -
كما انتبه واضعو المعاجم إلى ملحظ مهم وهو مجيء لغة مركبة من لغتين، كما حدث في (قَنَطَ يَقْنَطُ) بالفتح في ماضيه ومضارعه، حيث قيل بأنها مركبة من: قَنَطَ (بالفتح) يَقْنِطُ (بالكسر)، وقَنِطَ (بالكسر) يَقْنَطُ (بالفتح).
5 -
إن مجيء الفعل المضارع مكسور العين في بعض القراءات، نحو:(تِرْكَنُوا، وتِمَسَّكُمُ، إِضَلُّ، وتِئْمَنَّا، ويِيأَسُ) وغيرها، فسر لنا كسر المضارع في العامية المصرية، فإنه يقال: يِضْرَب يِشْرَب، يِسَايِر، يِعَامِل يِحَارِب، يِسْمَع، يِكْتِب
…
فهذا يدل على أن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ وإنما استمدته من لهجة عربية أصيلة. وفي ذلك تضييق للهوة التي بين اللغتين.
6 -
هناك بعض اللغات لم ترد إلا عن طريق القراءات فقط، ولولا القراءة لم تحفظ هذه اللغات، ومن أمثلة ذلك (حَبِطَ) بكسر الباء، و (ضَحَكَ) بفتح الحاء.
7 -
اللغة دائما تميل إلى السهولة في النطق وتوفير الجهد، وقد بدا ذلك واضحا في جنوحها إلى المماثلة في الصوائت القصيرة. وقد تبيّن للدارس - من خلال هذا الفصل - أن الانسجام الصوتي لغة ثانية عرفتها القبائل العربية واستعملتها بهدف التخفيف، ولم تستأثر به قبيلة دون أخرى. وهذا يؤكد أن القرآن لم ينزل بلهجة قريش الخاصة، وإنما بلغة أدبية راقية، احتضنتها
قريش بعد اكتسابها بعض سماتها من القبائل الأخرى، من هذه السمات الانسجام الصوتي.
8 -
تَبَيَّنَ من خلال هذا الفصل أن اللغة تميل إلى قاعدة عامة تنظم عن طريقها حركة عين الفعل في ماضيه ومضارعه وهي المغايرة، بمعنى إذا كان الماضي مفتوح العين فإن عين مضارعه تأتي مكسورة والعكس صحيح، إلا إذا كان الفعل عينه أو لامه من أحرف الحلق، فالقاعدة هنا المماثلة، وشذ عن هذه القاعدة الخاصة أفعال سبق ذكرها حيث خضعت للقاعدة العامة وهي المغايرة.
وأن قاعدة المغايرة هذه تسير في اتجاه مضاد للمماثلة طلبا للحفاظ على الملامح الفارقة، والمميزة للمعاني.
إن تأصيل هذه القاعدة وتعميمها لفيه تيسير على أبناء اللغة الذين يعانون من الخلط فيها على مستوى مثقفيها فضلا عن غير المتخصصين.
9 -
وإذا كانت العربية تَجِدُّ في التخلص من مظاهر الصعوبة في النطق، فإننا نجد قراءة سبعية تأتي بالجمع بين الساكنين في أكثر من موضع من القرآن الكريم، وهو مذهب عسير عند البعض، ومستحيل عند البعض الآخر، وفي ذلك إشارة إلى عدم صرامة قوانين اللغة، وأنها تسمح بورود القليل النادر الذي يمثل استثناء القاعدة.