الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
التماثل الصوتي التام (الإدغام)
Assimilation
الإدغام عند اللغويين: "إدخال حرف في حرف"(1). وعند النحويين: "أن تصل حرفاً ساكناً بحرف مثله متحرك من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف فيصيران لِشِدَّةِ اتصالهما كحرف واحد يرتفع اللسان عنهما رَفْعَةً واحدةً شديدةً فيصير الحرف الأول كالمستهلك على حقيقة التداخل والإدغام "(2). وهو عند ابن جني نوعان: أكبر، وأصغر. فأما الأكبر فهو ما كان الأول من الحرفين متحركاً أو ساكناً. وأما الأصغر فهو " تقريب الحرف من الحرف، وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك "(3)، وجعل منه الإمالة، وكل ما يؤدي إلى تقريب الأصوات.
ويذكر ابن جني الدافع للإدغام فيقول: "والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت، ألا ترى أنك في " قَطَّعَ " ونحوه قد أخفيت السَّاكنَ الأولَّ في الثاني حتى نَبَا اللسان عنهما نَبْوَةً واحدةً وزالتِ الوقفةُ التي تكون في الأولِّ لو أَدْغَمْتَهُ في الآخر، أَلا ترى أَنَّكَ لو تكلفتَ ترك إدغام الطاء الأولى لَتَجَشَّمْتَ لها وقفةً عليها تمتاز من شدة ممازجتها للثانية بها كقولك: قَطْطَعَ، سَكْكَرَ، وهذا إنما تحكمه المشافهة به، فإن أنت أزلت تلك الوقيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه، وإدغامه فيه أشد لجذبه إليه، وإلحاقه به"(4).
وعند القراء: "اللَّفْظُ بحرفين حرفاً كالثاني مشدداً"(5)، وتعريف القراء يشتمل على عمليات: الحذف، والقلب، والإدغام، فاللفظ بحرفين كالثاني يقتضي ضرورة حذف الحركة عند وجودها، ثم قلب الأول من مثل الثاني، وإلا فلن يكون الصوت مشدداً.
(1) تاج العروس: 24/ 375.
(2)
شرح المفصل لابن يعيش: 10/ 121.
(3)
الخصائص: 2/ 141.
(4)
الخصائص: 2/ 140.
(5)
ابن الجزري: النشر في القراءات العشر: 1/ 215، والدمياطي: الإتحاف: 30.
والإدغام عندهم نوعان: كبير، وصغير. أما الكبير فهو ما كان الأول من الحرفين فيه متحركاً. وأما الصغير فهو ما كان الحرف الأول فيه ساكناً (1).
ويذكر القراء للإدغام سبباً، وشرطاً، ومانعاً. أما السبب فينحصر في:
1 -
تماثل الحرفين: أي اتحادهما في المخرج والصفة، مثل (التاءين) و (الراءين).
2 -
أو تجانسهما: أي اتفاقهما في المخرج واختلافهما في الصفة، مثل:(التاء والطاء).
3 -
أو تقاربهما: في المخرج أو الصفة أو فيهما معاً، مثل (الدال والسين) أو (الذال والشين).
وأما الشرط فَأَلَّا يَفْصِل بين المُدْغَمَيْنِ ما يجعل النطق بهما من موضع واحد متعذراً، كالفصل بينهما بصائت طويل نحو:{أَنَا النَّذِيرُ} (2). كما اشترطوا أن يكون المدغم فيه أكثر من حرف إن كان الإدغام في كلمة واحدة، نحو:{خَلَقَكُم} (3)، وأما {خَلَقَكَ} (4) فلا إدغام فيه؛ لأن المدغم فيه حرف واحد (5).
وأما موانع الإدغام المتفق عليها بين القراء، فهي ثلاثة:
1) كون الحرف الأول تاء ضمير للمتكلم، أو المخاطب، نحو:" كُنْتُ تُرَابَاً"(6) و {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ} (7).
2) كون الحرف الأول مشدداً، نحو:"رَبَّ بِمَا"(8) و {مَسَّ سَقَرَ} (9) ذلك لما يظهر من أن الحرف المشدد يُنْطَقُ صَوْتَيْنِ من موضعٍ واحدٍ، فكيف إذا أُضِيفَ لهما ثالثٌ بالإدغام
…
؟.
(1) انظر: ابن الجزري: النشر: 2/ 3 - 17، وعبد الفتاح القاضي: الوافي في شرح الشاطبية: 128 - 137.
(2)
الحجر: 89.
(3)
البقرة: 21، وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة.
(4)
الكهف: 37، والانفطار:7.
(5)
انظر: النشر: 2/ 3 - 17، والوافي في شرح الشاطبية للقاضي: 128 - 137.
(6)
النبأ: 40.
(7)
يونس: 42.
(8)
الحجر: 39.
(9)
القمر: 48.
3) كون الحرف الأول منوناً، نحو:{سَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (1).
وأما المُخْتَلَفُ فيه: فالْجَزْمُ، قيل: وقلة الحروف، وتوالي الإعلال، ومصيره إلى حرف مَدٍّ. واختص بعض المتقاربين بخفة الفتحة، أو بسكون ما قبله، أو بهما كليهما أو بفقد المجاور، أو عدم التكرار (2).
وقد عولجت ظاهرة الإدغام في الدرس الصوتي الحديث في ضوء مصطلح Assimilation والذي يعني (المماثلة) وهي:" ضَرْبٌ من التأثير الذي يقع في الأصوات المتجاورة إذا كانت متماثلة، أو متجانسة، أو متقاربة.
ومما يجب إيضاحه أن هناك وجه اتفاق ووجه اختلاف بين الإدغام والمماثلة الصوتية، فالقدماء لما تناولوا المماثلة بإيضاح أشكالها دون أن ينصوا على مسماه الحديث كانوا يدورون في فلك التعريف بمصطلح (الإدغام) مثلما رأينا عند ابن جني، وابن يعيش. ويرى الأستاذ الدكتور: أحمد مختار عمر أن "المماثلة تعني إزالة الحدود بين الصوتين المدغمين وصهرهما معاً"(3). فالصلة قوية بين المماثلة والإدغام لاجتماعهما في حالة التماثل الكلي أو التام. غير أنه يجب القول بأن الإدغام أحد أشكال المماثلة، بل إنه أقيس أشكالها في العربية.
ويوضح (برجشتراسر) علاقة المماثلة الصوتية بالإدغام بقوله: "إن حروف الكلمة مع توالي الأزمان كثيراً ما تتقارب بعضها من بعض في النطق وتتشابه، وهذا التشابه نظير لما سماه قدماء العرب إدغاماً، غير أن التشابه والإدغام وإن اشتركا في بعض المعاني اختلفا في بعضها، وذلك أن معنى الإدغام: اتحاد الحرفين في حرف واحد مشدد، تماثلا أو اختلفا، نحو: "آمنا" و"ادعى". أما "آمنا" فالنون المشددة نشأت عن نونين، أولاهما لام الفعل، والثانية الضمير، فاتحادهما إدغام وليس بتشابه، وأما "ادعى" فأصل الدال المشددة: دال وتاء، الدال فاء الفعل، والتاء تاء الافتعال، قلبت دالا فهذا إدغام وهو تشابه أيضا. والتشابه في هذا المثال كلي إذ تطابق الحرفان تماما. وأما إذا تشابه الحرفان، ولم يتطابقا،
(1) الرعد: 10.
(2)
انظر: النشر: 2/ 3 - 17، والوافي في شرح الشاطبية للقاضي: 128 - 137.
(3)
دراسة الصوت اللغوي: 328.
كان التشابه جزئيا نحو: "اضطجع" و"ازدجر" الطاء والدال أصلهما تاء، وقلبت طاء لتشابه الضاد ودالا لتشابه الزاي. فهذا تشابه، وليس بإدغام؛ إذ الحرفان لم يتحدا إلى حرف واحد مشدد " (1).
والشرط الأساسي للتأثر بين أي صوتين أن يكون الصوت متبوعاً بحركة غير قابلة للسقوط والإهمال، إما لكون هذه الحركة طويلة، وإما لكونها سبقت بحركة سقطت من قبل إسقاط الأخرى لأنها تزداد تشبثاً بموقعها، وتمنح الصوت قبلها قوة دلالية في موقعها وتمارس تأثيراً ما على الصوت السابق عليها.
ويُقَسِّمُ الْمُحْدَثُونَ تَأَثُّرَ الأصواتِ إلى أنواع (2):
1) تَأَثُّرٍ رَجْعِيٍّ: Regressive وفيه يتأثر الصوت الأول بالثاني.
2) وتَأَثُّرٍ تَقَدُّمِيٍّ: Progressive وفيه يتأثر الصوت الثاني بالأول (3).
3) وتَأَثُّرٍ مُتَبَادَل: Coalescent وفيه يؤثر كل من الصوتين في الآخر.
لعل هذا التقديم يتناسب ومدى تفشي ظاهرة الإدغام في القراءة القرآنية، حيث يقرر الأستاذ الدكتور عبده الراجحي "أن القراءة بالإدغام، كانت مشهورة وفاشية بين القراء حتى لا نكاد نجد واحداً، إلا وقد شارك فيه بقدر قليل. ومعنى ذلك أن الإدغام لم يكن يقل شيوعاً في اللغة العربية عن الإظهار إن لم يزد عليه، حتى إن أبا عمرو بن العلاء يقول: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره. أما عن لهجات القبائل في الإدغام فتتفق كتبهم على أن الإظهار لهجة الحجازيين، وأن الإدغام لهجة تميم، وهي القاعدة الكبيرة التي كانت تُتَّخَذُ مثلاً لقبائل وسط شبه الجزيرة وشرقيها"(4).
ويواصل كلامه فيقول:"فنحن نستطيع إذن أن ننسب الإدغام إلى تلك القبائل التي كانت تسكن وسط شبه الجزيرة وشرقيها، ومعظمها قبائل بادية تميل إلى
(1) التطور النحوي: 29.
(2)
انظر: الأصوات اللغوية لإبراهيم أنيس: 51، والتطور النحوي للغة العربية لرمضان عبد التواب: 29 – 32، ودراسة الصوت اللغوي لأحمد مختار عمر:378.
(3)
انظر الأصوات اللغوية لإبراهيم أنيس: 51.
(4)
اللهجات العربية في القراءات القرآنية: 131.
التخفف والسرعة في الكلام. كما نستطيع أن ننسب الإظهار إلى بيئة الحجاز المتحضرة، وهي تميل إلى التأني في الأداء بحيث تظهر كل صوت فيه" (1).
وأما على صعيد معجم التاج فقد تناول الزبيدي الإدغام فذكر تعريفه (2) وحَدَّدَ بيئته (3)، وذكر علله وأسبابه ولم يبتعد فيما ذكر عما تقدم (4). وتَوَقَّفَ عند الكثير من القراءات التي حدثت فيها هذه الظاهرة، موضحاً ما حدث في الكلمة من إدغام، أو إبدال، أو نَقْلٍ
…
ولا ريب في أنه قد أفاد معجمه من هذه القراءات. وسوف يتضح ذلك عند عرض طائفة من مفردات هذه الظاهرة فيما يلي.
تميل اللغة العربية إلى الإدغام حين يتوالى صوتان متماثلان سواء في كلمة واحدة أو كلمتين، إذا كان الصوت الأول مُشَكَّلا بالسكون، والثاني محركا، وذلك لتحقيق حد أدنى من الجهد عن طريق تجنب الحركات النطقية التي يمكن الاستغناء عنها. وهناك حالتان أخريان يقع فيهما الإدغام أحيانا، هما:
1) تتابع صوتين متماثلين في كلمتين اثنتين حين يكون الصوت الأول محركا.
2) تتابع صوتين مختلفين – لكن متقاربين – سواء في كلمة واحدة أو في كلمتين.
ولكي يتم الإدغام (المماثلة الكاملة) في هاتين الحالتين لابد من اتخاذ الخطوات الآتية:
(أ) تحقيق المماثلة بين الصوتين المراد إدغامهما إن لم يكونا متماثلين فعلا.
(ب) تسكين الصوت الأول إن لم يكن كذلك.
(ج) سبق الصوتين المدغمين، وإتباعهما بحركة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
فإذا تم هذا يمكن إدغام الصوتين أو تداخلهما، والنطق بهما دفعة واحدة. وعلى هذا فإن الإدغام يمكن أن يفهم على أنه إذالة الحدود بين الصوتين
(1) السابق: 133.
(2)
انظر التاج: 32/ 161.
(3)
انظر التاج: 2/ 422، 6/ 183، 10/ 410.
(4)
التاج: 32/ 161.
المدغمين، وصهرهما معا، أو على أنه إحلال صوت ساكن طويل محل الصوتين الساكنين القصيرين (1).
وتحدث دواعي الإدغام بكثرة على مستوى المفردة الواحدة في بعض الصيغ العربية نحو: اِفْتَعَلَ، وتَفَعَّلَ، وتَفَاعَلَ، وأكثر ما يقع في (اِفْتَعَلَ)، حيث تدغم تاء الافتعال في فاء الفعل فيكون التماثل تقدميا، أو تدغم في عين الفعل فيكون التماثل تراجعيا. والإدغام هو عبارة عن فناء أحد الصوتين في الآخر فناء تاما بحيث يصيران صوتا يرتفع عنه اللسان ارتفاعة واحدة، ولكي يحدث هذا الانصهار كان لابد من أن ينقلب الصوت الضعيف إلى صوت مجانس للصوت القوي، وهذه خطوة افتراضية متصورة، وإن لم يدركها المتحدث باللغة. وأما القراءات التي وردت في التاج وتحققت فيها ظاهرة المماثلة التامة (الإدغام) فهى:
• (فَاطَّلَعَ)(2): من قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ ِفي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (3).
[التاج: طلع]
طَلَعَ – افْتَعَلَ – اطْتَلَعَ – (اطْطَلَعَ) = اطَّلَعَ.
قلبت تاء الافتعال طاء ثم أدغمت في الطاء الأولى التي هي فاء الفعل، وهذا يعني أن الإدغام في هذا الموضع تقدمي؛ لأن فاء الفعل مَثَّلَتْ الصوت الأقوى، فالطاء صوت مفخم، والتاء صوت مرقق، ولا شك في أن المفخم أقوى من المرقق؛ لذلك قلبت التاء إلى طاء لتجانس الفاء (الطاء الأولى) وهي الصوت الأقوى.
ويعلل الشيخ خالد الأزهري سبب التماثل فيما يحدث في صيغة الافتعال بقوله: "إنما أبدلت تاء الافتعال إثر المطبق لاستثقال اجتماع التاء مع الحرف المطبق لما بينهما من اتفاق المخرج وتباين الصفة، إذ التاء من حروف الهمس،
(1) انظر دراسة الصوت اللغوي لأحمد مختار: 378.
(2)
قراءة الجمهور إلا ابن عباس في آخرين وأبي عمرو في رواية "فَأُطْلِعَ"، انظر: السبعة لابن مجاهد: 548، والدر المصون للسمين: 12/ 200
(3)
الصافات: 55.
والمطبق من حروف الاستعلاء فأبدلت من التاء حرف استعلاء من مخرج المطبق، واختيرت الطاء لكونها من مخرج التاء" (1).
ويرى كريم حسام الدين أن " التاء تشترك مع هذه الفونيمات في الخصائص النطقية كالهمس واللثوية (ما عدا الضاد فهي مجهورة) ولكنها تختلف معها في شيء أساسي وهو الإطباق وعدم الإطباق، وقد اكتسبت التاء هذه الخاصية بالمماثلة أي بالمماثلة في الصفات؛ لأن تقريب الحرف من الحرف أدى إلى المماثلة في الصفات"(2).
وهذا التأويل لقلب تاء الافتعال طاء هو ما تعاوره أهل اللغة في تفسير ما حدث من تغير صوتي أو مماثلة في: "اصْطَفَى"، وَ"اصْطَبِرْ"، و" فَاطَّلَعَ" من الآيات السابقة.
والكثير من الآيات على هذا النهج. فقد رأوا في هذا التغيير فراراً من الثقل ونزوعاً إلى التخفيف بتحقيق الانسجام الصوتي في الصيغة الجديدة من صيغة الافتعال.
• (تَدَّخِرُونَ)(3): من قوله تعالى: {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (4).
[التاج: ذخر].
• (مُدَّكِرٍ): من قوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} (5). [التاج: دكر].
تناول الزبيدي الإدغام في الحرفين السابقين فَبَيَّنَ أن أصلهما: ذَخَرَ وذَكَرَ وأنهما مرا بمراحل افتراضية حتى وصلا إلى شكلهما الحالي كما يلي:
• يَذْخَرُ – يَفْتَعِلُ – يَذْتَخِرُ – (يَذْدَخِرُ - يَدْدَخِرُ) = يَدَّخَرَ.
• يَذْكُرُ – يَفْتَعِلُ – يَذْتَكِرُ – (يَذْدَكِرُ - يَدْدَكِرُ) = يَدَّكِرُ - مُدَّكِر.
ومعنى ذلك أن الفعل (يذخر) عندما جاء على زنة (يَفْتَعِلُ) صار (تَذْتَخِرون) فالتقت تاء الافتعال مع الذال (فاء الفعل)، قال أبو البقاء: "إلَاّ أنَّ
(1) شرح التصريح على التوضيح: 3/ 391.
(2)
كريم حسام الدين: أصول تراثية: 194.
(3)
هي قراءة الجمهور، انظر: التبيان للعكبري: 1/ 263، والدر المصون:2/ 107.
(4)
آل عمران: 49.
(5)
القمر: 15.
الذالَ مهجورةٌ والتاءَ مهموسةٌ فلم يجتمعا، فأُبدلت التاءُ دالاً؛ لأنها من مَخْرَجها لتقربَ من الذالِ ثم أُبدلت الذالُ – دالا - وأُدْغِمَتْ " (1). والداعي إلى قلب التاء دالا صعبوبة الانتقال من نطق (الذال) المجهورة إلى نطق (التاء) المهموسة، فقلبت التاء إلى أقرب نظير مجهور وهو الدال، فصارت الكلمة (يَذْدَخِرُ)، وكان هذا التقارب داعيا إلى قلب آخر؛ ليحدث التماثل التام المسوغ لوقوع الإدغام، وهو إما أن تنقلب الذال إلى دال فتصير الكلمة (يَدْدَخِرُ) ثم يحدث الإدغام فتصير الكلمة (يَدَّخِرُ)، وهذا هو التماثل الرجعي. وإما أن تنقلب الدال ذالا وتدغم فتصير الكلمة (يَذَّخِرُ)، وهذا هو التماثل التقدمي. وقد وردت اللغتان عن العرب وقرئ بهما قوله تعالى: {وَمَا تَدَّخِرُونَ} (2) فِي بُيُوتِكُمْ". ومنه حَدِيث الضَّحِيَّة: " كُلُوا واذَّخِرُوا"(3). وما قيل في (تَدَّخِرُونَ) يقال في (مُدَّكِرٍ) من قوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} .
قال الفَرَّاءَ: "حَدَّثَني الكِسَائيّ عن إِسْرَائِيلَ، عن أَبِي إِسحَاقَ، عن أَبِي الأَسْوَدِ قال: قلْت لعَبْدِ الله: "فهَلْ مِن مُذَّكِر" أو "مُدَّكِر"، فقال: أَقرَأَنِي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مُدَّكِر"، بالدال. ومُدَّكِر في الأَصْل مُذْتَكِر على مُفْتَعِل فصُيِّرت الذَّالُ وتَاءُ الافْتِعَالِ دَالاً مُشَدَّدَةً، قال: وبعَضُ بني أَسد يقول: مُذَّكِر فيقلبون الدالَ فتَصِير ذَالاً مُشدَّدَةً "(4).
وقال مكي بن أبي طالب: "الذال حرف مجهور قوي، والتاء مهموسة ضعيفة فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها، مما يوافق الذال في الجهر، وهو الدال ثم أدغمت الذال في الدال. ويجوز "مُذَّكِر" بالذال على إدغام الثاني في الأول وبذلك قرأ قتادة"(5). وعلى ما سبق يُفَسَّرُ
(1) التبيان: 2/ 250.
(2)
قرأ "تذدخرون" بذال ودال بغير إدغام أبو شعيب السوسي في رواية عن أبي عمرو، انظر: الدر المصون: 2/ 108
(3)
هذا جزء من حديث رواه الإمام النسائي في السنن: 4/ 435، باب الادخار من الأضاحي، رقم:4355.
(4)
معاني القرآن: 3/ 107.
(5)
مشكل إعراب القرآن: 2/ 697.
• (الْمُعَذِّرُونَ)(1): من قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} (2). [التاج: عذر]
• يَعْذِرُون – يَفْتَعِلُ – يَعْتَذِرُون – مُعْتَذِرون – (مُعْدذِرُون - مُعْذذِرُون) = مُعَذِّرون.
قال الزبيدي:"المُعَذِّرُونَ أَصلُه المُعْتَذِرُون، فأُلْقِيَتْ فتحةُ التاءِ على العَيْنِ وأُبدِلَ منها ذالٌ، وأُدْغِمَتْ في الذّال التي بعدها"(3).
ومما وقع فيه الإدغام بين التاء والدال:
• (يَهِدِّي)(4): من قوله تعالى: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (5).
[التاج: هدي]
• (مُرَدِّفِينَ)(6): من قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (7). [التاج: ردف]
هاتان الكلمتان (يَهِدِّي ومُرَدِّفِينَ) تعودان في أصلهما إلى صيغة (افتعل)، وتمر الصيغة بعدة مراحل حتى تصل إلى الشكل النهائي المدغم كما يلي:
• يَهْدِي – يَفْتَعِلُ – يَهْتَدِي – (يَهْدَدِي) = يَهِدِّى.
• أرْدَفَ – يَفْتَعِلُ – يَرْتَدِفُونَ – مُرْتَدِفُونَ - (مُرَدْدِفُونَ) = مُرَدِّفُونَ.
فتاء الافتعال صوت مهموس ضعيف، والدال صوت مجهور قوي، ولكي يحدث الإدغام كان لابد من أن تنقلب التاء دالا في الكلمتين. وحتى لا يلتقي ساكنان، يحرك الصوت السابق على الإدغام، إما بحركة التاء الذاهبة، أو بالكسر
(1) هي قراءة الجمهور، انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 447، ومعاني الزجاج: 2/ 464، والمحتسب: 1/ 60، والنشر: 2/ 280، والإتحاف:244.
(2)
التوبة: 90.
(3)
التاج: عذر: 12/ 555.
(4)
قراءة عاصم والكسائي ويعقوب والحسن وأبي رجاء والأعمش وأبي بكر، انظر: السبعة لابن مجاهد، والكشف لمكي: 1/ 518، ومختصر ابن خالويه:28، والنشر: 2/ 283، والإتحاف: 249، ومعجم القراءات لمختار: 3/ 544 – 550.
(5)
يونس: 35.
(6)
رواية الخليل عن أحد الأعراب، انظر: الطبري: 9/ 128، والكشاف: 2/ 6 ومختصر ابن خالويه: 49، والمحتسب: 1/ 273، والدر المصون: 3/ 399.
(7)
الأنفال: 9.
مطلقا. قال الزبيدي: قال الخليلُ: "سَمِعْتُ رجلاً بمكَّةَ يَزْعُم أَنَّهُ مِن القُرَّاءِ، وهو يَقْرَأُ: "مُرُدِّفِينَ" (1) بضَمِّ المِيمِ والرَّاءِ وكَسْرِ الدَّالِ وتَشْدِيدِها. وعنه في هذا الوَجْهِ كَسْرُ الرَّاءِ: "مُرِدِّفِينَ" (2)، فالأُولَى أَصْلُهَا: مُرْتَدِفِينَ لكنْ بعدَ الإِدْغَامِ حُرِّكتِ الرَّاءُ بحَرَكةِ المِيمِ، وفي الثَّانِيَةِ حَرَّكَ الرَّاءَ السَّاكِنَةَ بالكَسْرِ. وعنه في هذا الوجْهِ وعن غيرِه بفَتْحِ الرَّاءِ، "مُرَدِّفِينَ" (3) كأَنَّ حَرَكَةَ التَّاءِ أُلْقِيَتْ عليها. وعن الجَحْدَرِىِّ بسُكُونِ الراءِ وتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعاً بيْن السَّاكنَيْن: "مُرْدِّفِينَ". [التاج: ردف].
• (يَخِصِّمُونَ)(4): من قوله تعالى: {وَهُمْ يَِخِصِّمُونَ} (5). [التاج: خصم]
• (يَخِصِّفَانِ)(6): من قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (7). [التاج: خصف]
• يَخْصِمُون – يَفْتَعِلُ – يَخْتَصِمُونَ – (يَخْصَصِمُونَ) = يَخِصِّمُونَ.
• يَخْصِفُ – يَفْتَعِلُ – يَخْتَصِفُ – (يَخْصَصِفُ) = يَخِصِّفُ.
هاتان القراءتان: (يَخِصِّمُونَ، يَخِصِّفَانِ) على إدغام عين الفعل (الصاد) في تاء الافتعال؛ حيث إن الأصل: خصم وخصف، فلما أن جاءتا على زنة (افتعل) التقت الصاد بتاء الافتعال، والصاد صوت مفخم قوي، والتاء حرف مرقق ضعيف؛ لذلك قلبت التاء صادا لتماثل عين الفعل، ثم أدغمت فيه (8).
قال الزبيدي: "وأما مَنْ قَرَأ قَولَه تَعالَى: {وهم يخصمون} بفتح الخَاءِ، فإنه أراد يَخْتَصِمُون، فَقَلَب التِّاء صادًا فَأَدغَم ونَقَل حرَكَتُه إلى الخاء. ومنهم مَنْ لا يَنْقُل وَيَكْسِر الخَاءَ لاجْتِماع السَّاكِنَيْن؛ لأَنّ السّاكِنَ إذا حُرِّك حُرِّكَ بالكَسْر".
(1) هي رواية الخليل بن أحمد عن أحد المكيين، انظر: الدر المصون: 7/ 356 ومعجم القراءات لمختار: 2/ 255.
(2)
السابق نفسه.
(3)
السابق نفسه.
(4)
قراءة حفص، ويعقوب، والكسائي، وخلف، انظر: السبعة لابن مجاهد: 541، والدر المصون: 12/ 172، والنشر لابن الجزري: 2/ 394، والإتحاف:651.
(5)
يس: 49.
(6)
قراءة الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب والزهري، انظر: معاني الأخفش: 2/ 296، والمحتسب: 1/ 245، والتبيان: 4/ 373، والدر المصون: 3/ 251.
(7)
الأعراف: 22.
(8)
انظر معاني القرآن للفراء: 2/ 379.
وقال السمين: "أبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك، إلَاّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور"(1).
ويضم إلى هذا القسم من المماثلة ما يحدث من تغير في مضارع صيغتي (تَفَعَّلَ) و (تَفَاعَلَ) وذلك إذا كانت فاء الفعل صوتاً صفيرياً أو أسنانياً. يقول الأستاذ الدكتور: رمضان عبد التواب: "تتأثر التاء بعد تسكينها للتخفيف بفاء الفعل"(2). ومن ذلك:
• (اثَّاقَلْتُمْ)(3): من قوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} (4). [التاج: ثقل]
• (فَادَّارَأْتُم)(5): من قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُم فِيهَا} (6).
[التاج: درأ].
• (يَذَّكَّرُ)(7): من قوله تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} (8). [التاج: ذكر]
• (تَزَّاوَرُ)(9): من قوله تعالى: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِم} (10). [التاج: زور]
• (تَسَّاقَطُ)(11): من قوله تعالى: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} (12).
[التاج: سقط]
فكلمة (اثَّاقلتُم) من المضارع يتثاقل على وزن (يتفاعل)، وعند الإتيان بصيغة الماضي منه (تثَاقَلَ) على وزن (تَفَاعَلَ)، ثم يتم تسكين التاء للتخفيف فتصير الكلمة (تْثَاقَل)؛ ولأنه لا يصح الابتداء بالساكن جلبت الألف الموصولة للابتداء بها مع بقاء حركة التاء (السكون التخفيفي) كما هي، ثم قلبت التاء الساكنة إلى مماثل فاء الكلمة (حرف الثاء) تبعاً لقانون المماثلة الرجعية حيث أثر الصوت الثاني (الثاء) في الصوت الأول (التاء)، فأصبح لدينا مماثلان جاز إدغامهما في صوت واحد، فوصلت الكلمة إلى صيغتها النهائية وهي (اثَّاقَلْتُم) كما تم توظيفها في الآية القرآنية. وبالتفسير السابق فسر الزبيدي التغيرات التي حدثت لـ (ادَّارَأْتُمْ) فقال:"و (ادَّارَأْتُمْ) أَصْلُه (تَدَارَأْتُمْ) أُدغِمت التاء في الدَّال لاتحاد المخرج، واجتُلِبت الهمزةُ للابتداء بها ". [التاج: درأ]
كلمة (يذَّكّر) فعل مضارع على وزن (يتفعَّل) حدث فيه مماثلة رجعية حيث تم تسكين تاء التفعّل للتخفيف فأصبح الفعل على صورة (يَتْفَعَّل)، ثم حدثت المماثلة الرجعية عندما أثر الصوت الثاني (الذال) في الأول (التاء) فقلب إلى مماثل للثاني، فوُجِدَ لدينا عندئذ متماثلان فلزم إدغامهما.
أما (تَزَّاوَرُ، وتَسَّاقَطُ) فهما على زنة (تتفاعل)، وصورتهما قبل الإدغام:(تتزاور، تتساقط)، تأثرت تاء التفاعل بصوتي الزاي والسين بعدها، وأدي بها هذا التأثر إلى أن انقلبت زايا في (تززاور) وسينا في (تسساقط)، ثم حدث إدغام المثلين فصارتا:(تَزَّاوَرُ، وتَسَّاقَطُ).
• (حَيِيَ)(13): قراءة في قوله تعالى: {ويَحْيَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (14). [التاج: حيي].
(1) الدر المصون: 12/ 171.
(2)
التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه: 29.
(3)
قراءة الجمهور، انظر: معاني الفراء:1/ 95، ومختصر ابن خالويه: 53 والإتحاف: 242، ومعجم القراءات للخطيب: 3/ 385.
(4)
التوبة: 38.
(5)
قراءة الجمهور، وانظر بقية القراءات في: مختصر ابن خالويه: 8، والنشر: 1/ 272، والإتحاف: 139، ومعجم القراءات للخطيب: 1/ 128.
(6)
البقرة: 72.
(7)
قراءة الجمهور، انظر: الدر المصون: 6/ 478، ومعجم الخطيب: 10/ 303.
(8)
عبس: 4.
(9)
قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وأبي جعفر، انظر: النشر: 2/ 348، ومعجم القراءات
(10)
الكهف: 17.
(11)
قراءة أبو بكر، وعاصم، والكسائي، وابن كثير، ونافع، وابن عامر وشعبة، ويحيى، وخلف وأبي جعفر، انظر: الحجة لابن خالويه: 163، والنشر: 2/ 357، ومعجم القراءات لأحمد مختار: 3/ 163.
(12)
مريم: 25.
(13)
فك الإدغام قراءة نافع وعاصم وقنبل وابن شنبوذ وأبو بكر وأبو جعفر ويعقوب وخلف وابن محيصن وشبل والبزي، انظر: السبعة: 76، والنشر: 2/ 311، وشرح الشاطبية:153، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 268، ومعجم القراءات للخطيب:3/ 301.
(14)
الأنفال: 42.
قال الجوهري: والإدغام أكثر في "حَيَّ"؛ لأن الحركة لازمة، فإذا لم تكن الحركة لازمة لم تدغم، كقوله تعالى:{أَلَيْسَ اللهُ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} (1) ويقرأ: {ويَحْيَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} .
وقال الفراء: "كتابتها على الإدغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءة القراء، وقرأ بعضهم: {ويَحْيَ مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} بإظهارها. قال وإنما أدغموا الياء مع الياء وكان ينبغي أن لا يفعلوا؛ لأن الياء الأخيرة لزمها النصب في (فَعَلَ) فَأَدْغَموا لَمَّا التقى حرفان متحركان من جنس واحد. قال ويجوز الإدغام في الاثنين للحركة اللازمة للياء الأخيرة فتقول (للرجلين قد) (2): حَيَّا وحَيِيَا، وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء؛ لأن ياءها نصيبها الرفع وما قبلها مكسور فينبغي لها أن تسكن فيسقط بواو الجماع، وربما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف الأفعال وأن يكون كلها مشددة فقالوا في حَيِيتُ: حَيُّوا، وفى عَيِيتُ: عَيُّوا. قال وأجمعت العرب على إدغام التحتية بحركة الياء الأخيرة كما استحبوا إدغام حَيَّ وعَيَّ للحركة اللازمة فيها فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام من يَحْيَى ويَعْيَى وقد جاء في الشعر الإدغام وليس بالوجه وأنكر البصريون الإدغام في هذا الموضع"(3).
وللسمين الحلبى تحليل للإدغام في هذه الآية، وضح فيه بواعث الإدغام وشروطه فقال: "الإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حَيِي وعَيِيَ. ومن الإِدغام قولُ المتلمس: (فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه)(4).
(1) القيامة: 40.
(2)
ما بين القوسين زيادة من معاني الفراء: 1/ 411.
(3)
التاج: 37/ 508، وأصل النص في: معاني الفراء: 1/ 411.
(4)
هذا صدر بيت عجزه (زنابيره والأزرق المتلمس)، وهو لجرير بن عبد المسيح، وقد سمي بالمتلمس لهذا البيت، انظر: طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي: 21.
وقال آخر (1):
عَيُّوا بأمْرِهُمُ كَمَا
…
عَيَّتْ بِبَيْضَتِها الحَمَامَهْ
فأدغم "عيُّوا"، ويُنْشَدُ: عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام. فَمَنْ أظهر فلأنه الأصلُ ولأن الإِدغامَ يؤدِّ إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في ذاته؛ ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور، وذلك في مضارع هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا، فَحُمِل الماضي عليه طَرْداً للبابِ؛ ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو: حَييت وبابه؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا: ولذلك قالوا: لَحِِحَتْ عينُهُ، وضَبِبَ المكانُ، وأَلِلَ السِّقاءُ، ومَشِئَتْ الدابة. قال سيبويه (2):"أخبرَنا بهذه اللغة يونس" يعني بلغة الإِظهار. قال: "وسمعت بعض العرب يقول: أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر" وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع عُروضها أَوْلى. ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهورِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ حركةَ الثانية لازمةٌ؛ لأنها حركةُ بناء، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ، كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو: حَلَلْتُ وظَلَلْتُ وهذا كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ؛ ولذلك قُيِّد به بالماضي، أمَّا إذا كانت حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له: يُحْيِِيَ ولن يُعْيِِيَ" (3).
نخلص من هذا المبحث إلى أن الإدغام والإظهار لغتان عرفتهما العربية، والإظهار هو الأصل وهو لغة الحضر، والإدغام فرع عنه، وهو لغة البدو الذين سكنوا قلب الجزيرة وشرقها. وقد قطعت الدراسة الصوتية الحديثة بأن السبب الداعي للإدغام هو طلب الخفة في النطق، أي الميول إلى توفير الجهد. كما تبين أن حدوث الإدغام تنحصر في قوة الصوت، فالصوت القوي هو الذي يفرض على الصوت الضعيف أن يماثله ثم ينصهر فيه. وهذه القوة تنحصر في:
(1) عبيد بن الأبرص، انظر: أدب الكاتب لابن قتيبة:14، والحيوان للجاحظ: 1/ 231.
(2)
انظر: الكتاب: 4/ 397.
(3)
الدر المصون للسمين الحلبي: 7/ 398، 399.
1) قوة ذاتية في الصوت المؤثر ناشئة عن اشتماله عناصر صوتية أكثر من الصوت المتأثر.
2) قوة موقعية حين يكون الصوت المؤثر بداية مقطع في حين يحتل الصوت المتأثر نهاية المقطع السابق. مع مراعاة العامل الأساسي في الإدغام وهو التقارب والتجانس بين الصوتين.