الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
التماثل الصوتي في الكسر
يرصد هذا المبحث القراءات القرآنية التي حدث فيها توالي الكسر، ليسير الباب عندهم على وتيرة واحدة، ويتحقق قانون المماثلة الصوتية، وقد لوحظ أنه عندما تأتي الكلمة على صيغة (افتعل) فقد تدغم تاء الافتعال في عين الفعل إن كان بينهما تماثل أو تجانس، ولما كان الحرف المدغم مكونا من صوتين أولهما ساكن، وفاء الفعل في الصيغة السابقة ساكنة، فقد أدى ذلك إلى الجمع بين الساكنين، مما حدا بمستخدم اللغة إلى تحريكه، وتَعَدَّدَتْ مَشَارِبُهُمْ في هذه الحركة، ويقتصر الحديث في هذا الموضع على تحريك فاء الكلمة بالكسر. وقد عالج الزبيدي هذه الظاهرة في عدة مواضع منها:
• {يَخِصِّفَانِ (1): قراءة في قوله تعالى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (2). [التاج: خصف].
• {مُرِدِّفِينَ} (3): من قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (4). [التاج: ردف].
• {يَهِدِّي} (5): من قوله تعالى: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} (6).
[التاج: هدي].
• {يَخِصِّمُونَ} (7): من قوله تعالى: {وهم يَخِصِّمُونَ} (8). [التاج: خصم].
(1) قراءة الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب، انظر الدر المصون: 7/ 102.
(2)
الأعراف: 22، وطه:121.
(3)
رواية الخليل بن أحمد، انظر: الدر المصون: 7/ 356، ومعجم القراءات لمختار: 2/ 255.
(4)
الأنفال: 9.
(5)
قراءة حفص عن عاصم، انظر: السبعة لابن مجاهد: 326.
(6)
يونس: 35.
(7)
قراءة حفص، ويعقوب، والكسائي، وخلف، انظر: السبعة لابن مجاهد: 541، والدر المصون: 12/ 172، والنشر لابن الجزري: 2/ 394، والإتحاف:651.
(8)
يس: 49.
فأصل: (يَخِصِّفَانِ، ويَخِصِّمُونَ) هو يختصفان ويختصمون، أدغمت تاء الافتعال في الصاد، وأصل:(مُرِدِّفِينَ، ويَهِدِّي) هو مرتدفين ويهتدي، أدغمت تاء الافتعال في الدال.
ويتفق تحليل الزبيدي مع تحليل العلماء لهذه القراءات صرفيا حيث ذكر سيبويه أن "يَهِدِّي" و"يَخِصِّمُونَ" أصلهما: يَهْتَدِي ويَخْتَصِمُونَ وقد حدث إدغام، وهو أقوى؛ لأن التاء والدال من مخرج واحد، وتقارب المخرجين بين التاء والصاد، والبيان عربي حسن (1)، وذكر ابن خالويه في تحليل "يَهِدِّي" ـ وكذلك مكي ـ أنه حذف الحركة وأسكن التاء، فالتقي ساكنان؛ سكون الهاء وسكون الدال المشددة بعد قلب التاء دالا؛ فكسرت الهاء لالتقائهما (2)، وذكر الطبري أن كسر الهاء؛ استثقالا للفتحة بعدها كسرة في حرف واحد (3)، وأضاف أبو شامة أن الكسر أنسب للياء قبلها، والكسر لغة سفلى مضر (4).
وقال السمين الحلبي في قراءة "مُرِدِّفين" بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين: إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع. قال ابن عطية: ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء، ولا أحفظه قراءة "
…
وقُرِئ "مِرْدِفين" بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء" (5).
كذلك الأمر بالنسبة لـ "يَخِصِّمُونَ" فقد ذكر النحاس أن الأصل (يختصمون) وأدغمت التاء في الصاد، فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين (6)، وقال القرطبي: كسر الخاء إتباعا مثل "يَهِدِّي"(7)، والكسر أجود وأكثر (8). ومثل ذلك يقال في (يخصفان).
(1) انظر: الكتاب: 4/ 433، 474، 475، وأصوات العربية: 137 و150 و158.
(2)
انظر: الحجة لابن خالوية: 181، والكشف لمكي: 1/ 518.
(3)
انظر: جامع البيان: 15/ 87.
(4)
انظر: إبراز المعاني: 508.
(5)
الدر المصون: 7/ 357.
(6)
انظر: جامع الأحكام: 6/ 5482.
(7)
انظر: المرجع السابق.
(8)
انظر: معاني الفراء: 2/ 379، وإبراز المعاني:659.
والدارس يرجح رأي القرطبي ـ ومن ماثله الرأي ـ حيث إن الدرس الصوتي الحديث يؤكد سلامة رأيه، فكسر الهاء والخاء جاء نتيجة التماثل الرجعي؛ حيث أثرت حركة الدال والصاد على حركة الهاء والخاء؛ فتماثلت كسرة مثلها. وتحمل بقية الآيات على نفس التفسير.
• (عُتِيًّا)(1): قراءة في قوله تعالى: "وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ "عِتِيَّاً" (2)، وقوْلُه تعالى:{أَيُّهم أَشدُّ على الرَّحْمنِ عِتِيًّا} (3). [التاج: عتو].
قُرِئ بكسر العَيْنِ وضمها. ويحلل الجَوْهري (4) هذه القراءة صرفيا فيقول: الأَصْلُ عُتُوٌّ، ثم أَبْدلُوا مِن إحْدى الضَّمَّتَيْن كَسْرةً فانْقَلَبتِ الواوُ ياءً فقالوا عُتِيًّا ثم أَتْبَعُوا الكَسْرةَ الكَسْرَة وقالوا (عِتِيًّا) ليُؤَكِّدوا البَدَلَ.
• (بِكِيَّاً) من قوله تعالى: " إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا"(5).
قال الزبيدي: (وبُكِيٌّ)، بالضَّمِّ وكَسْرِ الكافِ وتَشْديدِ الياءِ، وأَصْلُه (بُكُويٌ) على فُعُول، كسَاجدٍ وسُجُودٍ، قُلِبَ الواوُ ياءً فأُدغم؛ قالَهُ الرَّاغِبُ. قالَ شيْخُنا: وهو مَسْموعٌ في الصَّحيحِ ولا يُعْرَفُ في المُعْتلِّ وقد خَرَّجُوا عليه قَوْلُه تعالى: {خروا سجداً وَبُكيّاً} . [التاج: بكي].
• (صِلِيَّاً) من قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} (6).
قال الزبيدي: (صُلِيّاً وصِلِيّاً)، بالضمِّ والكسْر مع تَشْديدِ الياءِ فيهما. [التاج: صلي].
• (جِثِيَّاً) من قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (7).
(1) الكسر قراءة حمزة، وحفص، والكسائي، والضم قراءة الباقين، انظر: التيسير: 102، والعنوان: 22، وحجة أبي زرعة: 439، والدر المصون: 10/ 113، والنشر: 2/ 356، والإتحاف:528.
(2)
مريم: 8.
(3)
مريم: 69.
(4)
الصحاح: عتو: 7/ 268.
(5)
مريم: 58.
(6)
مريم: 70.
(7)
مريم: 72.
ذكر الزبيدي أن (جاثٍ) جمعه (جُثِيٌّ) بالضَّمِّ؛ مِثْل: جَلَسَ جُلوساً وقَوْم جُلُوس؛ والكَسْر لمَا بَعْده مِن الكسْرِ، يعني للمماثلة. [التاج: جثو].
وقد بين ابن خالويه سبب الكسر والضم في هذه المواضع وما شاكلها - وكأنه في تفسيره هذا ينطلق من قوانين الدرس الصوتي الحديث - فقال في قوله تعالى {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِياً} : "يقرأ بالكسر والضم وما شاكله من قوله: فالحجة لمن قرأ بالكسر أنه نحا ذلك لمجاورة الياء، وجذبها ما قبلها إلى الكسر؛ ليكون اللفظ به من وجه واحد؛ لأنه يثقل عليهم الخروج من ضم إلى كسر. والحجة لمن ضم أن الأصل عنده في هذه الأسماء الضم؛ لأنها في الأصل على وزن (فعول) فانقلبت الواو فيهن ياء لسكونها، وكون الياء بعدها فصارتا ياء مشددة "(1).
إن الكلمات (عِتِيَّاً، وصِلِيَّاً، وجِثِيَّاً) قد خالف شكلها بنيتها نتيجة الانسجام أو التماثل الصوتي، حيث قرئت هذه الكلمات بكسر الأول وضمه. والكسر لغة (2) والضم هو الأصل، والكسر جاء اتباعا (3)؛ ليكون عمل اللسان من وجه واحد؛ لأن اسم الفاعل من "عِتِيَّاً وجِثِيَّاً" عَاتِو وجَاثِو ـ بكسر العين ـ إذ إنه من يَعْتُو ويَجْثُو، ثم انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كما قالوا: غَازٍ والأصل: غَازِو؛ لأنه من (يَغْزُو)، فأصبح اسم الفاعل الواحد "عَاتٍ، وجَاثٍ، وصَالٍ" فجاء الجمع على وزن (فُعُول) تاليا للواحد، فصار "جِثِيّ وعِتِيّ، وصِلِيّ" فكسرت عين (فعول) لكسرة الياء، ثم كسر الأول إتباعا له (4)، وذكر القرطبي أن الأصل الضم؛ لأن المصدر "عتو" من ذوات الواو، من:(عتا يعتو عتوا)، فأبدلوا الواو ياء؛ لأنها أختها وأخف. وقيل: الضم والكسر لغتان (5). وقال السمين:"الأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما
(1) الحجة: 235.
(2)
انظر: السبعة: 407، والعنوان: 126، والنشر: 2/ 317، والإتحاف: 2/ 235.
(3)
انظر: الكشف عن وجوه القراءات لمكي: 2/ 84.
(4)
انظر: الحجة لابن خالويه 235، والكشف عن وجوه القراءات لمكي: 2/ 84.
(5)
انظر: جامع الأحكام: 5/ 412.
بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِما فيها الياءُ الأُولى
…
وقرأ الأخَوان "عِتِيَّا" و"صِلِيَّا" و"بِكِيَّا" و"جِثِيَّا" بكسر الفاء للإتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل" (1).
ولا خلاف بين آراء العلماء، فالأصل الضم؛ لأنه (فُعُول)، وقلبت الواو ياء؛ لثقل الواو وخفة الياء؛ ولتناسب الكسرة قبلها، ثم قلبت ضمة الفاء كسرة؛ تماثلا مع الياء بعدها. ولم يكن هذا قانونا عاما في كل القبائل العربية، وإنما كان خاصا ببعض القبائل دون بعض، فثمة قبائل تستعمل الأصل، وأخرى تميل للانسجام تخفيفا، فأصبح الانسجام لغة ثانية، ومن ثم فالانسجام مظهر من مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف (2).
• "فَنَعِمَّا"(3) قراءة في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (4).
[التاج: نعم].
حيث قرئ "فَنِعِمَّا"(5) بكسر النون والعين، و"فَنَعِمَّا" بفتح النون وكسر العين، و"فَنِعْمَّا" بكسر النون وإسكان العين، وقد احتج العلماء للقراءات السابقة، فذكر سيبويه أن كسر العين لغة هذيل، وهى على لغة كسر العين لا إسكانها (6)، وقد تبعه الرأي مكي وأبو حيان (7)، وكسر النون اتباعا لحركة العين (8)، وذكر ابن خالويه أن الأصل (نِعْمَ) بكسر النون وإسكان العين؛ لتوافق (بِئْسَ)(9)، وماثله الرأى القرطبى، وذكر أنها اللغة الجيدة؛ وكسرت العين لالتقاء الساكنين (10).
(1) الدر المصون: 10/ 113.
(2)
انظر الخصائص اللغوية لقراءة حفص دراسة في البنية والتركيب، أطروحة دكتوراه لعلاء إسماعيل الحمزاوي، قسم اللغة العربية بآداب المنيا سنة 1998م:43.
(3)
قراءة ابن عامر والكسائي وحمزة وخلف والأعمش ويحيى بن وثاب، انظر: السبعة: 191، والحجة لابن خالويه: 102، والحجة لأبي علي الفارسي: 2/ 296، والنشر: 2/ 335.
(4)
البقرة: 271.
(5)
انظر: الحجة لابن خالويه: 102، والنشر: 2/ 323.
(6)
انظر: الكتاب: 4/ 439، و 440، والحجة لأبي علي الفارسي: 2/ 297.
(7)
انظر: الكشف لمكي: 1/ 316، والبحر المحيط: 2/ 324.
(8)
انظر: البحر المحيط: 2/ 324.
(9)
انظر: الحجة لابن خالويه: 102.
(10)
انظر: جامع الأحكام: 2/ 1142.
وفي ضوء الدرس الصوتي الحديث يرجح الدارس أن الأصل فتح النون وكسر العين، وإنما كسرت النون نتيجة مماثلة رجعية، وكسر النون أفصح اللغات؛ لأنها مكسورة في قوله تعالى:"نِعْمَ الْعَبْدُ (1) "(2).
نلمح ذلك في بعض الأمثلة القرآنية والتي تناول الزبيدي فيها كيفية ضبط ضمير هاء الغيبة ولغات العرب فيها من خلال:
• (يُؤدِّهِ) من قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (3).
• (نُؤْتِهِ) من قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} (4).
• (نُوَلِّهِ ونُصْلِهِ) من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (5).
• (لِرَبِّهِ) من قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودُ} (6). [التاج: ها].
فأصل حركة الضمير (هُمْ) الضم كما يلي: (ـهُ) للمفرد المذكر، و (هُما) للمثنى، و (هُم) لجمع الذكور، و (هُنَّ) لجمع الإناث. وهذا ما جعل ابن يعيش (7) يتصور أن ضمير جمع الذكور أصله (هُمو) بإشباع الهاء المضمومة، وأنها تطورت في الاستخدام حتى آل إلى ما هو عليه الآن. لكن هذه الضمة الأصلية على (الهاء) لا تثبت بل تتغير إتباعاً لما قبلها من حركات مثل (الكسرة الطويلة أو القصيرة) أو (الياء) فتقلب إلى تلك الكسرة.
وردت القراءة في هذا الضمير بأكثر من وجه، حيث جاء ساكنا، ومبنيا على الكسر، وفي بعض المواضع مبنيا على أصله وهو الضم. وذكر ابن
(1) سورة ص: 30، و44.
(2)
انظر: إبراز المعاني: 374.
(3)
آل عمران: 75.
(4)
آل عمران: 145.
(5)
النساء: 115.
(6)
العاديات: 6.
(7)
انظر: شرح المفصل: 10/ 47 - 49.
الجزري أن هذا الضمير يكسر إذا سبق بكسر أو ياء، ويضم إذا سبق بفتح أو ضم أو ساكن غير الياء (1).
وقال ابن خالويه:" هذا أصل لكل فعل مجزوم اتصلت به هاء فإن كان قبل الهاء كسرة فاكسره، واختلس، وأسكن، وإن كان قبل الهاء فتحة فاضمم الهاء، وألحق الواو، واختلس أو أسكن "(2).
وقال الكِسائي هي لُغاتٌ يقالُ: فيهِ، وفِيهِي، وفيهُ، وفِيهُو، بتمامٍ وغيرِ تمامٍ، وقال: لا يكونُ الجَزْم في الهاءِ إذا كانَ ما قَبْلَها ساكِناً (3).
وقد علل أبو زرعة لهذه الوجوه عند حديثه عن قوله تعالى: {يُؤَدِّهْ إِلَيْكَ} (4) فقال: " قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر {يُؤَدِّهْ إِلَيْكَ} و {لا يُؤَدِّهْ إِلَيْكَ} بسكون الهاء، وحجتهم أن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقول: ضَرَبْتُهْ ضَرْبَاً شَدِيدَاً، فينزلون الهاء إذ سَكَّنُوهَا وأصلها الرفع بمنزلة (أَنْتُمْ ورَأَيْتُهُمْ) إذ سَكَّنُوا الميم فيها وأصلها الرفع ولم يصلوها بواو؛ فلذلك أجريت الهاء مجرى الميم في أَنْتُمْ
…
وقرأ الباقون (يُؤَدِّهِي إِلَيْكَ) و (لا يُؤَدِّهِي إِلَيْكَ) يصلون بياء في اللفظ، وحجتهم أن الياء بدل من الواو، وأصلها (يُؤَدِّهُو إِلَيْكَ) لكن قلب الواو ياء لانكسار ما قبلها، فلا سبيل إلى حذف الياء وهي بدل من الواو، قال سيبويه: الواو زيدت على الهاء في المذكر، كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: ضربتها ومررت بها، وضربتهو؛ ليستوي ضربته المذكر والمؤنث في باب الزيادة. وقرأ نافع في رواية الحلواني (يُؤَدِّه) بالاختلاس وحجته أن الكسرة تدل عل الياء وتنوب عنها" (5).
ونخلص مما سبق إلى أن الأصل في هذا الضمير البناء على الضم إلا أنه يخرج عن هذا الأصل فيكسر لمماثلة ما قبله، أي أن التأثير تقدمي حيث أثرت الكسرة التي قبل الضمير فيه فأدت إلى كسره، وقد تم هذا الإتباع مجانسة لهذه
(1) انظر النشر:1/ 305.
(2)
الحجة: 111.
(3)
انظر التاج: 40/ 544.
(4)
آل عمران: 75.
(5)
الحجة: 166.
الياء وللمناسبة الصوتية. وهذا الإتباع تحقق به التخلص من الثقل، والمناسبة للذوق، والتيسير للأداء الصوتي.
والذي يدل على أن أصل بنائه الضم مجيء القراءة بضمه على الأصل مع أن ما قبله ياء وذلك في قراء حفص لقوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} ، وقوله تعالى:"عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ"(1).
قال ابن خالويه:" "وما أنسانيه" يقرأ بضم الهاء وكسرها مختلستين، فالحجة لمن ضم أنه أتى بلفظ الهاء على أصل ما وجب لها، والحجة لمن قرأه بالكسر فلمجاورة الياء، ومثله "ومن أوفى بما عاهد عليه الله" (2).
ويعلل أبو زرعة قراءة الضم فيذهب مذهبا غريبا إذ يقول: "وإنما عدل عن كسر الهاء إلى الضم لما رأى الكسرات من أنسانيه وكانت الهاء أصلها الضم رأى العدول إلى الضم ليكون أخف على اللسان من الاستمرار على الكسرات ومن كسر فلمجاورة الياء "(3). فهو يزعم أن قراءة الضم أخف من قراءة الكسر، وهذا لا يتفق مع معطيات الدرس الصوتي الحديث، والذي يصرح بأن الكسر أخف من الضم، وأن الحركات المتماثلة أخف في النطق إذا تجاورت.
أما السمين فيرى أن الضم في {وَمَآ أَنْسَانِيهُ} ؛ سببه أنَّ الياءَ أصلُها الفتح والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل. وأمَّا في "عَلَيْهُ اللَّهَ"؛ فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ أصلُها الألفُ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً (4).
(1) انظر النشر:1/ 305.
(2)
الحجة: 226.
(3)
الحجة: 422.
(4)
الدر المصون:10/ 80.