الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
التغيير في الحركات
(البناء للفاعل والمفعول)
يرصد هذا المبحث القراءة القرآنية التي حدث للفعل الوارد فيها تغيير في حركته، من خلال تحويله من فعل مبني للمعلوم إلى فعل مبني للمجهول وقد تعددت المواضع التي تردد الفعل فيها بين البناء للفاعل والبناء للمفعول في القراءات القرآنية، بحيث أصبحت تشكل ظاهرة تفرض نفسها على الدَّرْسِ اللغوي، فقد بلغ عدد مرات ورودها في القراءات العشر المتواترة فقط اثنين وسبعين موضعا، منها أربعة وعشرون موضعا بصيغة الماضي، وثمانية وأربعون بصيغة المضارع، فضلا عن القراءات الشواذ. أما معجم التاج فلم يذكر من قراءات هذه الظاهرة إلا سبع عشرة قراءة منها خمس من القراءات العشر، واثنتا عشرة من القراءات الشاذة.
وقد استشهد الزبيدي في مواضع متفرقة من التاج باثنتي عشرة آية من الآيات التي تردد الفعل فيها بين المبني للفاعل والمبني للمفعول في القراءات العشر المتواترة.
وأما القراءات التي تناولها الزبيدي وعرض فيها القراءة المقابلة فهي:
• (أُظْلِمَ): قراءة في قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (1).
[التاج: ظلم].
دلل الزبيدي على تعدي الفعل (أَظْلَمَ): بقراءة ابن قطيب: {أُظْلِمَ} (2) بالبناء للمفعول؛ لأن الأصل في الفعل المبني للمفعول أن يكون متعديا. وقراءة البناء للفاعل "أَظْلَمَ" تدل على لزومه. وقد شغلت فكرة التعدي واللزوم الزبيدي بحيث تتبعها في العديد من المصادر المتنوعة، حيث يقول: "قال شَيخُنا: فهو لَازِمٌ في اللُّغَتَيْن، وبذلك صَرَّحَ ابنُ مَالكٍ وغَيرُه. وفي الكَشَّاف (3): احتِمالُ أنَّه مُتَعَدٍ في
(1) البقرة: 20.
(2)
هي قراءة يزيد بن قطيب، والضحاك، انظر: الكشاف للزمخشري:1/ 170، والمحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 91، ومعجم القراءات لمختار:1/ 179، ومعجم القراءات للخطيب: 1/ 59.
(3)
1/ 51.
قَولِهَ تَعالَى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} بِدَليلِ قراءة يَزِيدَ بنِ قُطَيْبٍ: (أُظْلِمَ) مَجْهُولاً، وتَبِعَه البَيْضَاوِيُّ (1)، وفي بَحْرِ أبِي حَيَّان (2). المَحْفُوظُ أَنَّ أَظْلَمَ لا يَتَعَدَّى، وَجَعَلَه الزَّمخشَرِيُّ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، قالَ شَيْخُنا (3): ولم يَتَعَرَّضْ ابنُ جِنِّي لِتِلْكَ القِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وجَزَمَ ابنُ الصَّلاحِ بِورُودِهِ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا، وكأَنّه قَلَّدَ الزَّمَخْشَرِيَّ في ذلك، وأبو حَيَّانَ أعرفُ باللُّزُومِ والتَّعَدِّي. قُلتُ: وهذا الذي جَزَم به ابنُ الصَّلاح قد صَرَّحَ به الأزهَرِيُّ في التَّهْذِيب".
قال السمين: "وقرئ "أُظْلِمَ" مبنياً للمفعول، وجَعَلَهُ الزمخشريُّ دالَاّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ
…
ولا دليلَ في الآيةِ لاحتمالِ أن أصلَه: وإذا أَظْلم الليلُ عليهم، فلمَّا بُنِي للمفعولِ حُذِف "الليل" وقام "عليهم" مَقَامَه" (4).
• (يُطَوَّقُونَهُ)(5): قراءة في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ} (6).
[التاج: طوق].
ذكر الزبيدي في هذه المادة قراءتين جاءتا بالبناء على المفعول هما: "يُطَوَّقُونَهُ""يُطَيَّقُونَهُ"، القراء الأولى بواو بعد الطاء، والثانية بياء، وقد نقل الزبيدي هاتين القراءتين عن ابن جِنّي حيث قال:"وقُرِئَ شاذّاً "يُطَوَّقُونَهُ"
…
أي يُجْعَلُ كالطّوْقِ في أعْناقِهم، ووزنه (يُفَعَّلُونَهُ)، وهو كقولك: يُجَشَّمُونَهُ ويُكلَّفُونَهُ. و"يُطَيَّقُونَهُ" وهي قِراءَةُ ابنِ عبّاس بخِلاف. أصلُه (يُطَيْوَقونَه) قُلِبت الواوُ ياءً كما قُلِبت في سَيّد ومَيّت، وقد يجوزُ أن يكونَ القَلْب على الُمعاقَبة، كتهوّر وتهَيَّر،
(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل:1/ 41.
(2)
1/ 150.
(3)
ترجم الزبيدي لشيخه فقال: " وشَيْخُنَا المرحُومُ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّد بْن الطَّيِّب بْنِ مُحَمَّد بْنِ مُوسَى الفَاسِيّ صَاحِبُ الحَاشِيَةِ عَلَى هَذَا الكتَابِ إِمَام اللُّغَةِ والحَديث، وُلِدَ بِفَاس سنة 1110 هـ وسَمِعَ الكَثِيرَ عَنْ شُيُوخ المَغْرِبِ والمَشْرِق، وَمَاتَ بالمدينة المنوّرة سنة: 1170هـ رَحمَهُ اللهُ تَعَالى وَأَرْضَاهُ ". (تاج العروس من جواهر القاموس مادة: طيب). وفي الغالب الأعم عندما يقول الزبيدي: قال شيخنا، فإنما يقصد ابن الطيب، وقد ذكر الزبيدي (قال شيخنا) في التاج 3551 مرة.
(4)
الدر المصون: 1/ 133.
(5)
هي قراءة ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأيوب السختياني وعطاء، انظر: الكشاف: 1/ 252، والمحتسب لابن جني: 1/ 118، والمحرر الوجيز: 1/ 200، والتحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 141.
(6)
البقرة: 184.
على أنّ أبا الحسَن قد حَكَى: هار يَهِير، فهذا يؤنِّسُ أنّ ياءَ تهيّرَ وضْعٌ، وليست على المُعاقَبة، قال: ولا تحْمِلَنَّ هارَ يَهِير على الواوِ، قِياساً على ما ذهَبَ إليه الخَليل في تاهَ يَتيه، وطاحَ يَطيح، فإنّ ذلك قَليل
…
ويُؤْنِّسُ كَوْنَ "يُطَيَّقُونَهُ"(يَتَفَعَّلُونَهُ) لا (يتفَيْعَلونَه) قِراءَة من قرأ: "يُطَوَّقُونَهُ" والظاهر من بعد أن يكون (يتَفَيْعَلونه) ".
ونقل الزمخشري عن ابن عباس أنه قرأ: "يُطَوَّقُونَهُ" تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه أو يقلدونه. و"يُطَيَّقُونَهُ" وأصلها (يطيوقونه) على أنها من (فيعل) من الطوق فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم: تَدَيَّرَ المكان وما بها ديار. ويجوز أن يكون معنى "يُطَيَّقُونَهُ" أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم (1).
وقد خَرَّجَ السمين لقراءة "يُطَيَّقُونَهُ"، فقال:"وقد رَدَّ بعضً الناسِ هذه القراءةَ. وقال ابن عطية: "تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ" (2) وإنما قالوا بِبُطْلَانِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنُ: وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ (تَفَعَّل) حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من (تَفَيْعَل)، والأصلُ: تَطَيْوَق من الطَّوْقِ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران، والحَوْر، والأصلُ: تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ، فاجتمعت الياءُ والوُاو، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ، فكان الأصلُ: يَتَطَيْوَقُونه، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ، فَمَنْ قَرَأَه "يَطَّيَّقونه" بفتح الياءِ بناه للفاعل، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول. وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ، أي: يتكلَّفون إطاقَتَه، وذلك مجاز من الطَّوْقِ الذي هو القِلَادَةُ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم"(3).
• (فَبُهِتَ): من قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} (4). [التاج: بهت].
استشهد الزبيدي بقراءة الجمهور {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} على مجيء الفعل (بُهِتَ) مبنيا للمفعول مثل: (زُهِيَ) و (عُنِيَ) على سبيل الاقتصار، وذكر أنها أفصح اللغات، لمجيء القرآن بها (5).
(1) الكشاف: 1/ 252.
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: 1/ 200.
(3)
الدر المصون: 2/ 256.
(4)
البقرة: 258.
(5)
انظر هذه القراءات: جامع البيان: 5/ 432، والمحرر الوجيز: 1/ 341، والدر المصون للسمين: 3/ 92، وروح المعاني للألوسي: 3/ 19.
وقد علل ابن جني لبناء الفعل هنا للمفعول فقال: "فإن قيل: فما معنى هذا التطاول والإبعاد في اللفظ؟، ولم يقل: "بُهِتَ"، وإبراهيم عليه السلام هو الباهت؟!. قيل: إن الفعل إذا بني للمفعول لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل بل ليعلم أن الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل. لا ترى إلى قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفا} (1)، وقوله: {خلق الإنسان من عجل} (2)، وهذا مع قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (3)، وقال سبحانه: {خلق الإنسان من علق} (4) فالغرض في نحو هذا المعروف الفاعل إذا بني للمفعول إنما هو الاخبار عن وقوع الفعل به حسب، وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به"(5).
• (يُغَلَّ): قراءة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (6). [التاج: غلل]
اعتمد الزبيدي على قراءات الآية السابقة اعتمادا كليا في شرحه للمدخلين (أَغَلَّ) و (غَلَّ). ومن المدخل (غَلَّ) تتفرع مداخل تتغاير معانيها على النحو التالي: أَغَلَّ يُغِلُّ إِغْلالاً، وحَقْلُهُ الدَّلالي الخِيَانَةُ مطلقًا. وغَلَّ يَغِلُّ غِلَّاً، وحَقْلُهُ الدَّلالي الحِقْدُ. وغَلَّ يَغُلُّ غُلُولاً، وحَقْلُهُ الدَّلالي الخِيَانَةُ في المَغْنَمِ خَاصَّةً. قال ابن السِّكِّيت:"لم نسمعْ في المَغنَمِ إلاّ غَلَّ غُلولاً"(7). وقال أبو عُبَيْدٍ: "الغُلول من المَغنَمِ خاصّةً، ولا نراه من الخيانةِ، ولا من الحِقدِ، وممّا يُبيِّنُ ذلك أنّه يقال من الخيانة: أَغَلَّ يُغِلُّ، ومن الحِقد: غَلَّ يَغِلُّ بالكَسْر، ومن الغُلول: غَلَّ يَغُلُّ بالضَّمّ".
وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قراءتان: إحداها: {يَغُلَّ} (8) من الثلاثي المبني للمعلوم. والأخرى: "يُغَلَّ"(9) من (أُغِلَّ) الرباعي المبني للمفعول (10).
(1) النساء: 28.
(2)
الأنبياء: 37.
(3)
سورة ق: 16.
(4)
العلق: 2.
(5)
المحتسب: 1/ 135.
(6)
آل عمران: 161.
(7)
انظر إصلاح المنطق: 86.
(8)
هي قراءةُ ابنِ كَثيرٍ، وأبي عمروٍ، وعاصمٍ، وَرَوْحٍ، وَزَيْدٍ. انظر: معاني القراءات لأبي منصور الأزهري: 112، والإتحاف للدمياطي:231.
(9)
قراءة عبد الله بن مسعود، انظر: التيسير لأبي عمرو:70، ومعجم القراءات لمختار: 1/ 457.
(10)
انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 246، والحجة لابن خالويه: 115، والحجة لابن زنجلة: 179، والدر المصون للسمين: 4/ 230.
وقد ذكر الزبيدي أن أبا عمرو، ويونس كانا يختاران قراءة " يَغُلَّ " بالبناء للفاعل من الفعل الثلاثي (غَلَّ)، ويوضح ابن بَرِّيٍّ سبب هذا الاختيار بقوله:" قَلَّ أن تَجِدَ في كلامِ العربِ: ما كان لفلانٍ أن يُضرَبَ، على أن يكونَ الفِعلُ مَبْنِيّاً للمَفْعول، وإنّما تجدُه مبنيّاً للفاعل كقولِك: ما كان لمؤمنٍ أن يَكْذِبَ وما كان لنبيٍّ أن يَخون، وما كان لمُحْرِمٍ أن يَلْبِسَ، قال: وبهذا يُعلَمُ صِحَّةُ قراءةِ من قَرَأَ: {وَمَا كَانَ لِنَبيٍّ أَنْ يَغُلَّ} على إسنادِ الفِعلِ للفاعلِ دونَ المَفْعول".
وقد عرض الألوسي لقراءة "يُغَلَّ" فذكر أن في توجيهها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ماضيه: أَغْلَلْتُهُ أي: نسبته إلى الغُلُولِ، كما تقول: أَكْفَرْتُهُ أي نسبته إلى الكُفْرِ قال الكُمَيْتُ (1):
وَطَائِفَةٍ قَدْ أَكْفَرَتْنِي بِحُبِّكُمُ
…
وَطَائِفَةٍ قَالَتْ مُسِيءٌ وَمُذْنِبٌ
والمعنى ما صح لنبي أن يَنْسِبَهُ أَحَدٌ إلى الغُلُولِ.
وثانيها: أن يكون من أَغْلَلْتُهُ إذا وجدته غَالَّاً كقولهم: أَحْمَدْتُهُ، وأَبْخَلْتُهُ، وأَجْبَنْتُهُ بمعنى: وَجَدْتُهُ كذلك، والمعنى ما صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يُوجَدَ غَالاً.
وثالثها: أنه من (غَلَّ) إلا أن المعنى ما كان لنبي أن يَغُلَّهُ غَيرُهُ أو يَخُونَهُ ويَسْرِقَ مِنْ غَنِيمَتِهِ" (2).
• (يُورَثُ): من قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (3)، [التاج: كلل].
أحاط الغموض بكلمة "كَلالَةٍ" في قوله تعالى: {يُورَثُ كَلَالَةً} نظراً لتعدد معناها فهي تعني الموروث: المال، أو الميت، كما تدل أيضا على الوارث. والمعنيان جائزان على قراءة "يُورَثُ" بالبناء للمفعول؛ لذلك اختار البصريون أن تكون الكلالة اسما للموروث، وعليه جاء التفسير في الآية: إن الكلالة الذي لم
(1) هذا البيت من إحدى قصائده الهاشميّات، وهي من "الطويل" ومطلعها: (طَرِبْتُ وَمَا شَوْقَاً إِلى الْبِيضِ أَطْرَبُ
…
وَلا لَعِبَاً مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ)، انظر خزانة الأدب للبغدادي: 2/ 60.
(2)
روح المعاني: 4/ 110.
(3)
النساء: 12.
يُخَلِّفْ ولداً ولا والداً. ولكن الكوفيين خالفوهم الرأي، ورأوا أن الكلالة اسم للوارث، وكان لقراءة الفعل بالبناء للفاعل {يُورِثُ} (1)، و {يُوَرِّثُ} (2) دورها الإيجابي في ترجيح هذا الوجه عندهم؛ لأن الكلالة على ظاهر هذه القراءة هم ورثة الميت وهم الأخوة للأم. وهذه المسألة لما اكتنفها من غموض قد أَوْجَدَتْ لنفسها مكانا واسع الانتشار في كتب اللغة (3) والتفسير (4)، وما وُجِدَ مِنْ كَثْرَةِ النُّقُولِ التي حَشَدَهَا الزبيدي في تاجه أكبر دليل على ذلك. وقد كان لتحول بناء الفعل من المعلوم إلى المجهول أثره في التفسير والحكم الفقهي كما مر.
• (أُحْصِنَّ): من قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (5)، [التاج: حصن].
تناول الزبيدي في المادة السابقة قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، وقد قرئ الفعل (أَحْصَنَ) مسندا إلى نون النسوة، مرة بصيغة البناء للفاعل (أَحْصَنَّ)(6)، ومرة أخرى مبنيا للمفعول (أُحْصِنَّ)(7) وقد تغيرت دلالة الفعل مع تغير القراءة، فالفعل في حالة بنائه للمفعول معناه: تَزَوَّجْنَ. وأما في حالة بنائه للفاعل فإن معناه: أَسْلَمْنَ (8).
قال أبو زرعة: "قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "فَإِذَا أَحْصَنَّ" بفتح الألف والصاد أي أسلمن، ويقال: عففن كذا جاء في التفسير، يسندون الإحصان إليهن،
(1)"يُورِثُ" مخففا، للحسن، انظر المحتسب: 1/ 182،183.
(2)
و"يُوَرِّثُ" مشددا قراءة عيسى بن عمر، انظر المحتسب: 1/ 182،183، والإتحاف:238.
(3)
انظر على سبيل المثال: مغني اللبيب لابن هشام: 1/ 680، والمحتسب لابن جني: 1/ 182، 183، والتبيان للعكبري: 1/ 336، وإعراب القرآن للنحاس: 1/ 441.
(4)
انظر على سبيل المثال: جامع البيان للطبري: 8/ 53، والكشاف للزمخشري: 1/ 387، وجامع الأحكام للقرطبي: 5/ 76. والبحر المحيط لأبي حيان: 4/ 56، وروح المعاني للألوسي: 16/ 136.
(5)
النساء: 25.
(6)
هي قراءة أبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي، انظر: السبعة لابن مجاهد: 231، والتيسير الأبي عمرو: 72، ومعجم القراءات لمختار:1/ 501.
(7)
هي قراءة ابن عباس ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وعبد الله بن عامر ويعقوب حفص عن عاصم، انظر: السبعة لابن مجاهد: 231، والتيسير الأبي عمرو: 72، ومعجم القراءات لمختار:1/ 501.
(8)
انظر: الحجة لأبي زرعة: 196 – 189، والدر المصون: 4/ 411.
وإذا قرئ ذلك على ما لم يسم فاعله - أُحْصِنَّ - كان وجوب الحد في ظاهر اللفظ على المملوكة ذات الزوج دون الأيم، وفي إجماع الجميع على وجوب الحد على المملوكة غير ذات الزوج دليل على صحة فتحة الألف. وقرأ الباقون "فَإِذَا أُحْصِنَّ" أي الأزواج جعلوهن مفعولات بإحصان أزواجهن إياهن، فتأويله: فإذا أحصنهن أزواجهن، ثم رُدَّ إلى ما لم يسم فاعله نظير قوله:"مُحْصَنَات" بمعنى أنهنَّ مفعولات، وهذا مذهب ابن عباس قال: لا تُجْلَد إذا زنت حتى تتزوج، وكان ابن مسعود يقول: إذا أسلمت وزنت جلدت، وإن لم تتزوج" (1).
وهذا الموضع من المواضع التي أدى تحول الفعل فيها من البناء للفاعل إلى البناء للمفعول إلى اختلاف في الحكم الفقهي، فابن عباس رضي الله عنهما يرى على قراءة البناء للمفعول أن الأَمَةَ لا تَسْتَوْجِبُ الحَدَّ ما لم تُزَوَّجْ، وبقوله يقول فقهاء الأمصار.
وقد حسم الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري هذا الخلاف بأن جعلها محدودة بالسنة وليس بالقرآن فقال: "قرأه بعضهم: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتح "الألف"، بمعنى: إذا أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام. وقرأه آخرون: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بمعنى: فإذا تزوّجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج. والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ في قراءته الصوابَ. فإن ظن ظانٌّ أنّ ما قلنا في ذلك غيرُ جائز، إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءةُ بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني = فقد أغفل، وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا، فغير دافع أحدُهما صاحبه؛ لأن الله قد أوجب على الأمَة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الحدَّ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا زَنت أمَةُ أحدكم فَليجلدها، كتابَ الله، ولا يُثَرِّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّب عليها. ثم إن زَنت الرابعة فليضربها، كتابَ الله، وليبعها ولو بحبل من شَعَرٍ" (2).
• (يَنْفَُخُ)(3) من قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّور} (4). [التاج: صور].
(1) الحجة: 198.
(2)
جامع البيان: 8/ 196.
(3)
القراءة بالنون والياء مع البناء للفاعل لأبي عمرو بن العلاء وابن عباس وابن بكار عن أبي عامر وابن وردان عن الكسائي، انظر: السبعة لابن مجاهد: 424، والحجة لابن زنجلة: 463، والنشر: 2/ 362.
(4)
سورة الأنعام: 73.
قرأ الجمهور ببناء الفعل للمجهول، ونائب الفاعل (إسرافيل) عليه السلام. وقرأ أبو عمرو في رواية "نَنْفُخُ" بنون العظمة والبناء للفاعل، وفي أخرى "يَنْفُخُ"، وعلى الروايتين يجوز أن يكون الفاعل فيهما هو (عالم الغيب).
قال القرطبي: "وقد روي عن بعضهم أنه قرأ "يَنْفُخُ" فيجوز أن يكون الفاعل" عالم الغيب"؛ لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبا إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع (عالم) حملا على المعنى"(1).
وقال السمين: "قرأ أبو عمروٍ: "نَنْفُخُ" مبنياً للفاعل بنونِ العظمة، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيماً للمأمورِ، وهو المَلَكُ إسرافيل. والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه"(2).
وقال ابن خالويه: "إجماع القراء فيه على الياء وضمها على ما لم يسم فاعله إلا ما اختاره أبو عمرو من النون وفتحها، وله في ذلك وجهان:
أحدهما: أنه أتى بالنون في ننفخ ليوافق به لفظ "نحشر" فيكون الكلام من وجه واحد.
والثاني: أن النافخ في الصور وإن كان (إسرافيل) فإن الله عز وجل هو الآمر له بذلك والمقدر والخالق له فنسب الفعل إليه لهذه المعاني ودليله قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} والمُتَوَفِّي لها مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام (3).
• (يُضَاعِفْ)(4) من قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (5). [التاج: ضعف]
قال القرطبي: وقرأت فرقة: "يُضَاعِفْ" بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة "نُضَاعِفْ" بالنون المضمومة ونصب "العذاب" وهذه قراءة أبن محيصن " (6).
(1) جامع الأحكام: 11/ 244.
(2)
الدر المصون: 10/ 253.
(3)
الحجة: 247، وانظر الحجة لأبي زرعة:463.
(4)
هذه قراءة محبوب عن أبي عمرو بياء الغيبة وإسناد الفعل لله تعالى، انظر: الكشاف للزمخشري: 4/ 478، جامع الأحكام للقرطبي: 14/ 176، والدر المصون للسمين: 3/ 48، ومعجم القراءات للخطيب: 7/ 277.
(5)
الأحزاب: 30.
(6)
جامع الأحكام: 14/ 176.
وقال السمين: "وقد تقدَّم أنه قرئ "يُضاعِفُ"، و"يُضَعِّفُ" فقيل: هما بمعنىً، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو: عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ "يُضَعِّف" لِما جُعِلَ مثلين، و"ضاعَفَه" لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك (1).
• (يَنْقُصُ)(2) قراءة في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3).
قال القرطبي: قراءة العامة "يُنْقَصُ" بضم الياء وفتح القاف، وقرأت فرقةٌ منهم يعقوب "يَنْقُصُ" بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شيء. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعد ولازم " (4).
وقال السمين: وقرأ يعقوبُ وسلام - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - "ولا يَنْقُصُ" مبنياً للفاعلِ (5).
• (يُخْرَجُ)(6) قراءة في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (7). [التاج: مرج].
وقال أبو زرعة: قرأ نافع وأبو عمرو: "يُخْرَجُ مِنْهُمَا" بضم الياء، وقرأ الباقون بالنصب. من قال "يُخْرَجُ" بالضم كان قوله بينا لأن ذلك إنما يُخْرَجُ ولا يَخْرُجُ بنفسه فهما يستخرجان، وحجته قوله:{وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} فهي مفعولة
(1) الدر المصون: 3/ 48.
(2)
هي قراءة عبد الوارث وهارون كلاهما عن أبي عمرو، والحسن وابن سيرين، وروح وزيد ورويس عن يعقوب، وسلام، والمطوعي وقتادة والجعفي عن حمزة، انظر: الكشاف للزمخشري: 3/ 604، مختصر ابن خالويه: 123، والإتحاف للدمياطي: 261، ومعجم القراءات للخطيب: 7/ 418.
(3)
فاطر: 11.
(4)
جامع الأحكام: 14/ 334.
(5)
الدر المصون: 12/ 123.
(6)
القراءة بالبناء للفاعل لنافع وأبي جعفر وأبي عمرو واليزيدي ويعقوب وسهل، انظر: السبعة لابن مجاهد: 619، والحجة لابن خالويه: 339، ومعالم التنزيل للبغوي: 7/ 445، وجامع الأحكام للقرطبي: 17/ 163، والنشر لابن الجزري: 2/ 420، ومعجم القراءات للخطيب: 9/ 256.
(7)
الرحمن: 22.
لا فاعلة. ومن قرأ:"يَخْرُجُ" جعل الفعل للؤلؤ والمرجان وهو اتساع لأنه إذا أُخْرِجَ ذلك خَرَجَ (1).
وقال السمين: قرأ نافع وأبو عمرو "يُخْرَج" مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعل على المجاز (2).
(1) الحجة: 691.
(2)
الدر المصون: 13/ 268.