الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليه أتوكل (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المجلس الأول
في ترجمة البخاري رضي الله عنه ونفعنا به وفي ذكر شيء من فضائله
فإنه كان من أكابر العلماء، والأولياء والصالحين، وبذكر الأولياء والعلماء والصحابة تنزل الرحمة، كما تنزل على مجالس العلماء، فإن مجالس العلماء روضة من رياض الجنة، تنزل عليهم الرحمة كما ينزل المطر من السماء، تدخل العصاةُ مذنبين وينصرفون مغفوراً لهم، الملائكة تستغفر لهم، ما داموا جلوساً عندهم، إن الله تعالى ينظر إليهم، فيغفر للعالم والمستمع والمحب لهم، فكيف لا تجب محبتهم وإكرامهم، والله تعالى بسببهم ينزل الرحمة على كل من حضر المجالس التي فيها ذكرهم، وكذا ذكر أهل الخير والصلاح فعليك بمجالسة العلماء تنتفع بالحضور عندهم، فإنه من جالس الأخيار سلم، ومن جالس الأشرار ندم، ومن جالس العلماء غنم، نفعنا الله بهم في الدارين.
نسب الإمام البخاري
ولنبدأ بنسبه فنقول:
أما نسبه فهو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة الجعفي.
وجده «بَرْدِزْبَة» كان فارسياً مجوسياً على دين قومه، مات ولم يسلم.
«بَرْدِزْبَة» لفظة بخارية ومعناه بالعربية: الزارع، وجده المغيرة والد «بَرْدِزْبَة» كان مجوسياً، ولكنه أسلم على يد اليمان الجعفي والى بخارى، فلهذا يقال للبخاري الجعفي لكون جده المغيرة أسلم على يد اليماني الجعفي بمذهب من يرى أن من أسلم
(1) في الأصل: «توكل» ولعلها: «أتوكل» ، كما أثبتناه.
على يد شخص كان ولاؤه له (1) .
وجده إبراهيم ولد المغيرة قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : لم نقف على شيء من أخباره.
وأما والده إسماعيل فإنه كان من خيار الناس رضي الله عنه حضر الأكابر، وسمع منهم كالإمام مالك، وحماد بن زيد، وصحب عبد الله بن المبارك ومات والبخاري صغير فنشأ في حجر أمه.
وكانت رضي الله عنها مجابة الدعوة، ومن كراماتها: أن البخاري ذهب بصره في صغره، فرأت أمه في المنام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لها: يا هذه قد رَدَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك، فأصبح وقد رَدَّ الله بصره عليه.
ولد رضي الله عنه ببخارى بالإجماع يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائه، وحج رضي الله عنه مع أمه وأخيه أحمد.
مناقب البخاري
وكان أخوه أسنَّ منه، فأقام هو بمكة يطلب العلم مجاوراً، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى فمات بها.
وأما حفظة وسيلان ذهنه ففي الغاية والنهاية، نقل عنه ورَّاقُه (3) أنه قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل.
ونقل عنه أنه قال: أحفظ مائه ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
واتفق له حكاية عجيبة تدل على قوة حفظه وهي: أنه لما دخل بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة نفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، فلما اجتمعوا وحضر في المجلس خلق كثير واطمأن المجلس
(1) يراد به أن نسبة جد الإمام البخاري إلى الجعفي من باب الاعتراف بالفضل الذي صنعه اليماني من أنه كان سبباً في إسلام جد البخاري.
(2)
هو: أبو الفضل، شهاب الدين أحمد بن على بن محمد الكناني العسقلاني ابن حجر، من أئمة الحديث وعلومه، وله باع في التاريخ والسير، أصله من عسقلان بفلسطين، مولده سنة (773هـ) بالقاهرة، كان صبيح الوجه، فصيح اللسان، له مؤلفات كثيرة منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، وهو شرح عظيم الفائدة نقل منه السفيري بعض هذهه الفوائد في مواضع عدة من شرحه هذا، ولابن حجر أيضا في علم الرجال نهذيب التهذيب، وله جهود عظيمة ومباركة في خجمة السنة يعرفها القاصي والداني، وكانت وفاته بالقاهرة سنة (852هـ) .
انظر: الأعلام (4/95) .
(3)
وهو: أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، والمراد بقوله «وراقه» أي: الذي يأتي له بالورق الذي يكتب عليه. انظر فتح الباري (9/568) .
بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فمازال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول له: لا أعرفه، فكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، من كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل أيضاً من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول له: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا.
فلما عرف أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاة حتى أتى على تمام العشرة فرد كل سند إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: هنا [يخضع للبخاري](1) فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.
ذكر مشايخ البخاري
وأما مشايخه الذين كتب عنهم فقد نقل عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس منهم إلا صاحب حديث.
ونقل عنه أنه قال: ما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
وأما الجماعة الذين قرؤوا عليه وأخذوا عنه الحديث فخلق كثيرون نحو مائة ألف أو يزيدون، أو ينقصون، وكان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه.
ذكر تعظيم الناس للبخاري
وأما ثناء الناس عليه وتعظيمهم له فقد قال ابن خزيمة: «ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وأحفظ» (2) .
(1) ما بين [] هكذا بالأصل، وفي مقدمة فتح الباري (ص 486) يقول ابن حجر: قلت: هنا يخضع العالمين
…
إلى آخره. وانظر أيضاً تغليق التعليق (5/415) .
(2)
انظر: التقييد (ص 32) ، وتذكرة الحفاظ (2/556) ، وابن حجر في تغليق التعليق (5/411) ، وفي مقدمة فتح الباري (ص 485) .
وقال بعضهم: «هو آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض» (1) .
وقال له الإمام مسلم مؤلف الصحيح: «أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك» (2) .
وكان مسلم كلما دخل يسلم ويقول: «دعني أقبل رجليك يا طبيب الحديث في علله، ويا أستاذ الأستاذين، ويا سيد المحدثين» (3) .
وقال أبو عيسي الترمذي: «لم أر مثله جعله الله زين هذه الأمة» (4) .
وقال عبد الله بن حماد: «وددت أن لو كنت شعرة في جسد محمد بن إسماعيل» (5) .
وحكي أن أهل بغداد كتبوا إلى البخاري كتاباً يثنون عليه فيه ومن جملته:
(1) الذي قال ذلك رجاء الحافظ، قال الذهبي في السير (12/427) يقول أبو عمرو المستنير بن عتيق سمعت رجاء بن المرجى الحافظ يقول: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء، فقال له رجل: يا أبا محمد كل ذلك بمرة، فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/25) من طريق محمد بن أبي حاتم، قال: سمعت أبا عمرو المستنير بن عتيق البكري، قال: سمعت رجاء بن المرجى يقول:
…
فذكره.
(2)
حدث بذلك أبو عيسى الترمذي صاحب السنن المشهورة، ونقله عنه الحافظ ابن حجر. انظر: تغليق التعليق (5/411) ، ومقدمة فتح الباري (ص 485) .
(3)
رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث (1/113) قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق قال سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار يقول سمعت مسلم بن الحجاج
…
فذكره.
ورواه أيضاً: الخطيب البغدادي (13/102) ، وذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص 488) ، وفي تغليق التعليق (5/429)، وانظر: سير أعلام النبلاء (12/432) ، وابن مفلح في المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/95) ، وتهذيب الأسماء (1/88) .
(4)
ذكره الذهبي في السير (12/433) وعبارته: وقال أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له:«يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة» قال الترمذي: استجيب له فيه.
وذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (9/45) بعبارة قريبة من هذا ففيه: قال له أبو عيسى الترمذي: «قد جعلك الله زين هذه الأمة يا أبا عبد الله» .
(5)
رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/28) ، ونقله عنه الذهبي في السير (12/437) ، والنووي في تهذيب الأسماء (ص 88) .
وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري (ص485) .
المسلمون بخير ما بقيت لهم
…
وليس بعدك خير حين تفتقد (1)
قال الحاكم: «ولوفتحنا باب الثناء عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له» (2) .
رحلته في طلب الحديث
وأما رحلته لأجل أخذ العلم والحديث من العلماء فقد رحل رحلات واسعات، وكتب عن شيوخ متوافرات، وافية متكاثرات، ونقل عنه أنه قال:«دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، لا أُحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين» (3) .
كتابه الصحيح وسبب تأليفه
وأما كتابة الصحيح فليس بعد القرآن كتاب أصح منه، وهو أصح من صحيح مسلم على الصحيح، واسمه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» كذا سماه هو رضي الله عنه.
وروي عنه أنه قال: «صنفت كتاب الصحيح في ستة عشر سنة، وخرجت من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل» (4) .
وسبب تصنيفه لهذا الكتاب ما نقل عنه أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: أنت تذب الكذب عن حديثه صلى الله عليه وسلم فهو الذي حملني على إخراج الصحيح» (5) .
ونقل عنه أنه قال: «ما وضعت في كتابي هذا حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» (6) .
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/22) من طريق يحيى بن عمرو بن صالح الفقيه يقول: سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الفقيه يقول: كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل
…
فذكره.
وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري لابن حجر (ص485) .
(2)
نقله عن الحاكم الحافظ ابن حجر في المقدمة (ص 485) وقال: ذكر ذلك في كتابه الكنى.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء (12/407) .
(4)
ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 91) .
(5)
ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 92) .
(6)
رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) ،، والمزي في تهذيب الكمال (24/443) ، والذهبي في السير (12/402)، وانظر: تهذيب التهذيب (9/42) ، (ص 92) ، وطبقات الحفاظ (ص 253) .
قيل: كان تصنيفه لهذا الكتاب بمكة المشرفة، والغسل بماء زمزم، والصلاة خلف المقام.
وقيل: كان بالمدينة الشريفة، وترجم أبوابه في الروضة المباركة، وصلى لكل ترجمة ركعتين (1) .
وله تصانيف كثيرة غير الصحيح نقل عنه رضي الله عنه أنه قال: «أقمت بالبصرة خمس سنين مع كتبي، أصنف وأحج في كل سنة، وأرجع من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن الله يبارك للمسلمين في هذه المصنفات» ولقد بارك الله فيها.
زهده وورعه وفضله
وأما سيرته ومناقبه وشمائله وفضائله وزهده وروعة فكثيرة كلَّت الكتَّاب عن حصرها.
قيل: إنه كان عنده شيء من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في ملبوسه.
ومن فضائله: أنه قال على سبيل التحدث بالنعمة: «إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحد من هذه الأمة» (2) .
اسمع واتعظ يا من يغتاب الناس ويمزق أعراضهم: «أوحى الله إلى موسى عليه السلام من مات تائباً من الغيبة، فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار» .
وجاء في الحديث: «من كف لسانه عن أعراض الناس قال الله عثرته يوم القيامة» (3) .
وحكي عن داود الطائي رضي الله عنه أنه مر يوماً بموضع فوقع مغشياً عليه فحل إلى
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) من طريق عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول محمد بن إسماعيل البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين.
(2)
رواه عنه المزي في تهذيب الكمال (24/446) ، والحافظ ابن حجر من طريقه في تغليق التعليق (5/397)، ونقله الذهبي في السير (12/439) . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص480) ، وصفة الصفوة (4/171) .
(3)
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/279، رقم 454) عن أبي هريرة مرفوعاً: بطرف: «من أقال نادماً أقاله الله تعالى عثرته يوم القيامة ومن كف
…
فذكره» .
منزله فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: «ذكرت أني اغتبت رجلاً في هذا الموضع، فذكرت مطالبته إياي بين يدي الله تعالى» .
قال بعضهم: «الغيبة فاكهة الفقراء، وضيافة الفساق، وبساتين الملوك، ومراتع النساء، ومزابل الأتقياء» .
وقال حاتم الأصم: «المغتاب والنمام قردا أهل النار، والكذب كلب أهل النار، والحاسد خنزير أهل النار» .
وحكي: أن عيسي عليه السلام رأى إبليس وفي يده عسلاً، وفي الأخرى رماداً، فسأله عن ذلك فقال: العسل أجعله في شفاه المغتابين، والرماد أجعله في وجوه الأيتام، حتى يرمدوا فيستقذرهم الناس فلا يفعلون معهم خيراً.
ومنها: أن والده إسماعيل كان كثير المال، نقل عن والده أنه قال: لا أعلم في مالي درهماً من حرام، ولا درهما من شبهة، فلما مات والده إسماعيل انتقل المال إليه، فكان يعطيه مضاربة، فقطع له غريم خمسة وعشرين ألفاً، فقالوا له: استعن عليه بالوالي، فقال: لن أبيع ديني بدنياي، ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله (1) .
وحمل إليه بعض عماله بضاعة وكانت مطلوبة، فجاءت إليه التجار آخر النهار وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم فردهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجاراً آخرون فطلبوا منه البضاعة تربح عشرة آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الأولين، فلا أغير نيتي ودفعها إليهم (2) .
ونقل عنه أنه قال: كنت استغل كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب، وما عند الله خير وأبقى (3) .
ومع كثرة هذا المال كان يأتي عليه نهار لا يأكل فيه، وكان أحياناً يأكل لوزتين أو ثلاثاً، وكان يتصدق بماله على الفقراء.
(1) أورده الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (5/394) حكاية عن محمد بن أبي حاتم وراق الإمام البخاري، وذكره أيضاً في مقدمة فتح الباري (ص 479) .
(2)
ذكره ابن حجر في تغليق التعليق (5/395) وعزاه إلى غنجار في تاريخه، وانظر: صفة الصفوة (4/170) .
(3)
انظر: تغليق التعليق (5/395) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) .
طلبه العلم مع سعة ماله رضي الله عنه
وطلبه العلم مع سعة هذا المال نقل عنه أنه قال: ما أشريت من حين ولدت من أحد بدرهم ولا بعت أحداً شيئاً، فسئل عن الورق الذي يكتب فيه والحبر فقال: كنت أوكل أنساناً يشتري لي، فكيف لا يكون ولياً.
زهد البخاري
وقد زهد في الدنيا وآثر غيره على نفسه، وصبر على شدة الجوع مع كثرة ما معه من مال، وكل هذا من علامات الأولياء.
قال إبراهيم بن أدهم لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرِّغ نفسك لله، وأقبل عليه بوجهك ليقبل عليك ويواليك.
بل كثير من أولياء الله يأتيهم رزقهم من غير تعب ولا تكلف، كما حكي عن عتبة الغلام أنه دعا ربه أن يهب له ثلاث خصال في دار الدنيا، دعا أن يمن عليه بصوت حزين، ودمع غزير، وطعام من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى، وكانت دموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب قوته، ولا يدري من أين يأتيه.
وحكي أن رابعة العدوية كانت تطبخ قدراً فاشتهت بصلاً فجاء طائر في منقاره بصلة فألقاها إليها.
ومنها: أنه (1) وقف يصلي فلسعه زنبور سبع عشرة مرة، ولم يقطع صلاته (2) .
وفاة البخاري وما ظهر من الكرامات عند وفاته
وكانت وفاته (3) رضي الله عنه ليلة السبت ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، عن
(1) الكلام على البخاري رضي الله عنه.
(2)
رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/12) عن أبي سعيد بكر بن منير يقول: كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي؟ فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعاً، ولم يقطع صلاته.
ورواه المزي في تهذيب الكمال (24/446)، وانظر: تهذيب التهذيب (9/43) ، وتغليق التعليق (5/398) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) ، وسير أعلام النبلاء (12/441) .
(3)
وفي سبب وفاته قال ابن حجر في تغليق التعليق (5/441) : قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه البخاري بخرتنك يقول: أنه أقام أياماً فمرض، واشتد به المرض، حتى وجه إليه رسول من سمرقند ليخرج، فلما وافى تهيأ للركوب، ولبس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل آخر معي يقوده إلى الدآبة ليركبها فقال رحمه الله: أرسلوني فقد ضعفت، فدعا بدعوات ثم اضطجع، فقبض فسال منه عرق كثير، وكان أوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: ففعلنا فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أياما وجعل الناس يختلفون إلى القبر أياماً يأخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشباً مشبكاً.
وانظر: سير أعلام النبلاء (12/466، 467) .
اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً وصفته: أنه كان نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير وحق أن ينشد فيه.
تراه من الذكاء نحيف الجسم
…
عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي
…
فليس يضيره الجسد الضئيل (1)
ولما دفن فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك، وكان الناس تأتي إلى قبره يأخذون التراب منه للتبرك به ولشمه، حتى ظهرت الحفرة للناس، ولم يكن يقدر على حفظ القبر بالحراس فنصبوا على القبر أخشاباً مشبكة منعوا الناس بها من الوصول إلى قبره، فكانت الناس تأخذ التراب والحصيات من حوالي القبر، دامت تلك الرائحة أياماً كثيرة، حتى توارت وشاعت في جميع تلك البلاد، ولا يبعد أن تكون هذه الرائحة رائحة صيامه الذي صامه في الحياة وأخفاه عن الناس، فأظهره الله لهم بعد موته، إظهاراً لفضله وعظيم منزلته عنده.
قال العلامة ابن رجب في «اللطائف» : ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه، ثم قال: لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في النوم فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، ولله در من قال:
وكاتم الحب يوم البين منهتك
…
وصاحب الوجد لا تخفى سرائره (2)
لم ينم الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم عليهم، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه
(1) البيتان من بحر «الوافر» ، أنشدهما الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. انظر: معجم السفر لأبي طاهر أحمد بن محمد السلفي (ص 124) .
(2)
البيت للمتنبي. انظر: المدهش لأبي الفرج بن الجوزي (ص 441) .
الله رداءها علانية، وما أحسن قول القائل:
كم أكتم حبكم عن الأغياري
…
والدمع يذيع في الهوى أسراري
كم أستركم هتكتموا أستاري
…
من يخفي في الهوى لهيب النار
وقيل: إن بعض العلماء رأي ليلة موته (1) النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع قال: فسلمت عليه، وقلت: يا رسول الله ما وقوفك هاهنا قال: انتظر محمد بن إسماعيل.
ونقل عن الفربري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: اقرأه مني السلام (2) .
وقال أبو زيد المروزي الفقيه: كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: فقال: يا أبا زيد إلى متي تدرس الفقه ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ فقال: جامع ابن إسماعيل (3) .
وقال الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة المالكي نفعنا الله ببركاته: قال لي من لقيته من العارفين عن من لقي من السادة المقر لهم بالفضل: أن صحيح البخاري ما قريء في شدة إلا فرجت، ولا رُكب به في مركب فغرق (4) .
وحكي: أنه قريء مرة في حمص لرفع البلاء فرفعه الله.
وجملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث مع المكرر سبعة ألاف ومائتان وخمس وسبعون حديثاً كما جزم به ابن الصلاح، وبإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث (5) على
(1) الكلام على الإمام البخاري.
(2)
رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/10) بسنده عن أحمد محمد بن محمد بن مكي الجرجاني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول:
…
فذكره، وكذا المزي في تهذيب الكمال (24/445)، وانظر: تغليق التعليق (5/422) ، ومقدمة فتح الباري (ص 489) ، وسير أعلام النبلاء (12/443) ، تهذيب الأسماء (ص 86) .
(3)
رواه الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (2/46) وفيه: «إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي
…
» ، وأورده ابن حجر في تغليق التعليق (5/422) وقال الحافظ ابن حجر عقبه: قلت: «إسناد هذه الحكاية صحيح ورواتها ثقات أئمة، وأبو زيد من كبار الشافعية، له وجه في المذهب، وقد سمع صحيح البخاري من الفربري، وحدث به عنه، وهو أجل من حدث به عن الفربري» . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص 489) ، وتهذيب الأسماء (ص 92) .
(4)
ذكره الحافظ السيوطي في تدريب الراوي (1/96) .
(5)
انظر: تدريب الراوي (1/104) .
ما قيل (1) .
ومن شعره رضي الله عنه وأرضاه:
اغتنم في الفراغ فضل الركوع
…
فعسي أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم
…
ذهبت نفسه صحيحة فلتنه (2)
وكم له من الكرامات رضي الله عنه، رفع الله ذكره الشريف وقد فعل، وجعل له لسان صدق في الآخرين وقد جعل.
* * *
(1) قال سراج الدين الأنصاري في المقنع (1/64) : إلا أن هذه العبارة-يقصد عدد ما في صحيح البخاري- قد تندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين وربما عد الحديث المروي بإسنادين حديثين.
قلت: ولذا قال المصنف: على ما قيل.
(2)
ذكرهما ابن حجر في تغليق التعليق (5/400) ، ومقدمة فتح الباري (ص 481) .
كتاب بدء الوحي
قال العلماء (1) : «بسم الله» جار ومجرور متعلق بمحذوف اتفاقاً، قدره بعضهم فعلاً نظراً إلى أن الأصل في العمل الأفعال، وقدره بعضهم مصدراً مرفوعاً على الابتدا نظراً إلى أن المقام مقام الابتدا، والتقدير على الأول:«بسم الله ابتدئ» وعلى الثاني: «ابتدائي ببسم الله ثابت» فحذف المبتدأ وخبره، وبقي معمول المبتدأ والتقدير الأول أولى، لأن المصدر لا يعمل محذوفاً.
ولو قيل: إن «بسم الله» متعلق بالاستقرار على أنه في موضع الخبر لمبتدأ محذوف: والتقدير: «ابتدائي مستقر ببسم الله» لم يبعد وسلم من دعوى عمل المصدر في حالة حذفه، قاله في بعض المحققين، وقال: إنه لم يره مسطوراً.
ويقدر متعلق «بسم الله» في كل موضع بحسبه، فإن جعلت «بسم الله» للأكل، قدرت: بسم الله آكل أو أكلي، أو للشرب قدرت: بسم الله أشرب أو شربي، وما أشبه.
فالحاصل أن متعلق «بسم الله» إما «أبتدي» أو «ابتدائي» ، ويسمي «المجرور» حنيئذ «بالظرف اللغو» ، وإما أن يكون المتعلق الاستقرار ويسمي «بالظرف المستقر» ، والفرق بين الظرف اللغو والمستقر: أن الظرف اللغو ما كان عامله خاصاً كالابتداء ونحوه، والمستقر: ما كان عامله عاماً كالاستقراء ونحوه.
وإضافة «اسم» إلى «الله» قيل: من إضافه العام إلى الخاص «كخاتم حديد» .
وقيل: المضاف هنا مقتحم جيء به لإرشاد حسن الأداء.
وقيل: الاسم هنا بمعني التسمية.
وقيل: في الكلام حذف مضاف تقديره: باسم مسمى الله، «والله» علم على الذات المعبود بحق، وتفخم لامه وجوباً إذا ضم ما قبله، قال ابن الجزري:
وفخم اللام من اسم الله
…
عن فتح أو ضم كعبد الله
و «الرحمن» على وزن فعلان مشتق من «رحم» بالكسر، «كغضبان» من غضب، وهو صفة مشبهة.
فإن قيل: كيف يأتي من «رحم» بالكسر وهو متعدد، وهي لا تأتي إلا من فعل لازم؟
(1) انظر تفصيل ذلك أيضاً في التبيان في إعراب القرآن (1/1) .
أجيب عنه: بأنها بنيت من «رحم» بالكسر بعد النقل إلى فعل بالضم، أو بعد تنزيل المتعدي منزلة الفعل اللازم، كما في قولك:«فلان يعطي» .
وههنا سؤال وهو: إن قيل: «الرحمن والرحيم» صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة: رقة القلب، وهي في حق الله محال تعالى سبحانه عن أن يكون له قلب أو نحوه من صفات الأجسام؟
والجواب عنه: أن أسماء الله تؤخذ باعتبار الغايات، فإذا وصف الله بأمر ولم يصح وصفه به، يحمل على غاية ذلك، وهذه قاعدة في كل مقام، وغاية رقة القلب التفضل والإحسان فهو المراد هنا.
وابتدأ البخاري -رحمه الله تعالى- كتابه «ببسم الله الرحمن الرحيم» اقتداء بالقرآن الكريم العظيم، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (1)
أي: ذاهب البركة، رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتابه الجامع،
(1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14)، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة.
قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وقد أشار السفيري -المصنف- إلى ذلك.
وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية:«بحمد الله» ، وفي رواية:«بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية:«أجذم» ، وفي رواية:«لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية:«ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه والمشهور رواية أبي هريرة.
وهذا الحديث حسن، وروي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى:«أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه:«جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها.
والحديث حسنه برواياته العجلوني في كشف الخفاء (2/156) .
إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية.
وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما سبق أن قرأنا ذلك عند الإمام النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان (1/174، رقم 2) ، والدارقطني (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.
ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فإن الذي يبدأ بذلك فقد جمع بين الروايات وحاز فضل ذلك. قاله الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .
فلهذا ابتدء بها المصنفون في أول كتبهم.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ابتدء القرآن العظيم بالبسملة؟
فالجواب: كما قاله البشفي: إنه فعل ذلك سبحانه ليعملنا بابتدائه بالرحمة رضاه عنا، فإن السيد إذا كتب لعبده الغائب كتاباً، عرف رضا سيده وسخطه من عنوان كتابه، والله تعالى جعل عنوان كتابه «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يقل: بسم الجبار والقهار، بل بدأ بالرحمة، وجعلها سابقة على الكل، إشارة لها إلى أن رحمته قبل غضبه، وأن رضاه قبل سخطه، فله الحمد والمنة على ذلك.
جاء في حديث: «أن الله تعالى كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي» (1) .
وجاء أيضا: «إذا كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه مكتوب: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين» (2) .
فيا أيها الرب الكريم وخير من
…
ينادى به رباه رباه رباه
تفضل علينا يا كريم برحمة
…
تعم جميع الخلق وتغشاه
وبارك لنا في الزرع والضرع دائماًً
…
وغزر لنا شعب النبات وفرعاه
وأرخص لنا الأسعار في كل بلدة
…
واغن جميع الخلق كلاً بمعناه
وسهل ونفس واقض كل إنابة
…
وتب واعف واغفر كل ذنب عملناه
(1) متفق عليه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (6/2694، رقم 6969) ، والإمام مسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه عبد الرزاق عن معمر في الجامع (11/411، رقم 20858) من رواية الحكم بن أبان أنه سمع عكرمة يقول: «إن الله تبارك وتعالى إذا فرغ من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش فيه: رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين» ، ومن طريقه ابن جرير الطبري في تفسيره (7/155) ووقع عند الطبري أن الحكم بن أبان قال: عن عكرمة وحسبته أسنده.
لطيفة: قال الإمام الرازي: كتب عارف من العارفين لما دنا أجله «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك في هذا؟ قال: أقول يوم القيامة إلهي بعثت إلينا كتاباً وجعلت عنوانه «بسم الله الرحمن الرحيم» فعاملني بعنوان كتابك.
واختلف العلماء في البسملة (1) هل هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة أم لا؟ فذهب إمامنا الشافعي إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة إلا براءة، للأخبار ولإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف أوائل السور سوى براءة، فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك، لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً.
بل ذكر الروياني من أصحابنا الشافعية في كتابة «البحر» : أن البسملة أفضل آي القرآن.
والحكمة في عدم ابتداء سورة براءة بالبسملة: أنها نزلت في الخوف والقتال بالسيف، والبسملة آية أمان، والأمان والخوف لا يجتمعان.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنها ليست آية من كل سورة.
واختلاف العلماء فيها لا يكفر جاحدها ومنكرها بخلاف غيرها من أي القرآن إذا أنكره فإنه يكفر.
والبسملة التي في أثناء النمل آية من القرآن بالإجماع.
ومذهب الشافعي يستحب الجهر بها في الصلاة الجهرية (2) ، ومذهب أبي حنيفة وأحمد يسر بها مطلقاً، والإمام مالك لا يقرأها سراً ولا جهراً، وإذا قرأها خارج الصلاة ويأتي بها في أول الفاتحة وأول كل سورة إلا براءة، وإذا قرأ من أول الأجزاء لا من أول السورة فهو مخير بين البسملة وتركها.
وقد ذكر العلماء فوائد متعلقة بالبسملة (3) :
الأولى: أن كعب الأحبار قال: إن الباء من بسم الله بهاء الله، والسين سناوه، والميم ملكه.
الثانية: اشتملت البسملة على ثلاثة أسماء «الله، الرحمن، الرحيم» أما «الله» فهو المستحق للعبادة، وهذا معناه، وهو علم على الله غير مشتق كما قاله طائفة من العلماء منهم الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، والغزالي.
ونقل عن الأشعري أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقولي: إن الله علم على ذات الله تعالى، وهو اسم الله الأعظم.
(1) فصل الألوسي في تفسيره روح المعاني (1/39) هذه لمسألة تفصيلا بديعياً فقال: اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال: الأول: إنها ليست آية من السور أصلاً. الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة. الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها. الرابع: أنها بعض آية منها فقط. الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بينها. السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين. السابع: أنها بعض آية من جميع السور. الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور. التاسع: عكسه. العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مراراً.
فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني. وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث. وأهل المدينة ومنهم مالك، والشام ومنهم الأوزاعي، والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس.
(2)
انظر المجموع (3/280) وعبارته فيه: قال الشافعي والأصحاب: ويسن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة.
(3)
ومن الفوائد التي لم يذكرها المصنف ما قاله في فتح المعين (1/147) : ويسن وقف على رأس كل آية حتى على آخر البسملة، خلافاً لجمع منها أي: من الفاتحة وإن تعلقت بما بعدها للاتباع.
كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وأكثر مشايخ التصوف والعارفين، فإنه لا ذكر لصاحب مقام فوق الذكر باسمه مجرداً.
واستدلوا على ذلك بأشياء منها: أن الله تعالى لما خاطب موسي قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] فلو كان له اسم أعظم منه لقاله.
ومنها: أنه لم يسم به غيره بدليل قوله تعالي {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} [مريم: 65] أي: هل تعلم أحد تسم غير الله.
وفي الاسم الأعظم خلاف كثير سيأتي في محله.
واسم الله أعرف المعارف، وقد ذكر هذا الاسم الشريف في القرآن في ألفين وثلاثمائة وستين موضعاً.
وأما اسم «الرحمن» فهو اسم خاص به سبحانه، لأنه صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمي رحماناً.
وتسمية مسيملة الكذاب برحمان فهو صادر من الكفار فلا عبرة بذلك، فلا يجوز للإنسان أن يسمي ولده بالرحمن بل بعبد الرحمن.
قال السبكي: المختص بالله هو المعرف باللام دون غيره، فعلي قوله يجوز التسمية برحمان لا بالرحمن.
وأما اسم «الرحيم» فإنه يطلق على غير الله أيضاً.
فإن قيل: إذا كانت البسملة من الفاتحة فما الحكمة في ذكر الرحمن الرحيم في الفاتحة، بعد ذكرهما في البسملة؟
فالجواب عنه من وجهين:
أحدها: أن الله تعالى لما ابتدء كتابه بالحمد لله رب العالمين بعد البسملة عَلِم سبحانه أن النفوس ترهب من ذلك، فعقبة بقوله «الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ» ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع من معصيتة، ونظير هذا قوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقوله تعالى:{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» (1) قاله الغزالى في جواهر القرآن.
ثانيهما: كررهما تأكيداً للرحمة وعناية بها، ومع ذلك عقبهما بقوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] لئلا يغتروا قاله النيابوري.
و «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» اسمان من أسماء الله يجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وأرحم الراحمين.
واختلف العلماء فيهما هل هما بمعنى واحد أم لا؟
فقيل: هما بمعنى واحد وصححه ابن العربي.
والصحيح أن «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» كما قاله الأكثرون، ومعنى كون «الرحمن» أبلغ: أن رحمته في الدنيا شاملة له وللكافر والصالح، وتلك الرحمة هي إيصال الرزق، وخلق الصحة والسلامة ورفع الأسقام والمصائب والدواهي.
و «الرحمن» أبلغ من الرحيم، لأن الرحمة الناشئة من الرحمن عامة في حق الولي والعدو والصديق والزنديق، والرحمة الناشئة من الرحيم مختصة بالمؤمنين.
وقد فرق العلماء بين: «الرحمن، والرحيم» بفروق:
الأول: أن «الرحمن» خاص بأهل السماء، و «الرحيم» بأهل الأرض.
الثاني: أن «الرحمن» هو الذي يرحم برحمته واحدة، و «الرحيم» بمائة رحمة فعلى هذا يكون «الرحمن» خاص بأهل الدنيا، و «الرحيم» بأهل الآخرة، ويدل عليه ما رويناه في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» (2) .
(1) أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2755) .
وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/549، رقم 3542) ، والإمام أحمد (2/334، رقم 8396) ، وابن حبان (2/56، رقم 345) ، وأبو يعلى (11/392، رقم 6507) ، والديلمي (3/349، رقم 5056) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2753) .
وأخرجه أيضاً: الطبراني في الكبير (6/255، رقم 6144) ، وابن المبارك في الزهد (ص 312، رقم 894) ، وهناد في الزهد (2/614، رقم 1319) عن سلمان رضي الله عنه.
الثالث: أن «الرحمن» ذو الرحمة الشاملة، الني وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، عمت الجميع المؤمن والكافر، وأما «الرحيم» فخاص بالمؤمنين، كما قال {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] .
وقيل غير ذلك.
قال العلماء: «الرحمن» خاص بالله تعالى، لا يجوز أن يسمى به غيره بخلاف «الرحيم» وأما مسيلمة الكذاب فقد سماه قومه بذلك حيث قالوا.
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً
…
وانت غوث الورى لازلت رحماناً
عناداً وكفراً لزعمهم أنه كان نبياً، فهو استعمال باطل، صدر من الكفار فلا عبرة به.
وقد ذكر العلماء أن التسمية تستحب في مواضع منها:
في ابتداء المصنفات للتأسي والاقتداء بالقرآن والتبرك بها، قال في نزهة المجالس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما كتب القلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ذا كتبتم فاكتبوها أوله، وهي مفتاح كل كتاب أنزل، ولما نزل بها جبريل عليه السلام ها ثلاثاً وقال: هي لك ولأمتك وأمرهم لا يدعوها في شيء من أمورهم، فإني لم أدعها طرفة عين مذ نزلت على أبيك آدم عليه السلام وكذلك الملائكة» (1) .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب أولاً «باسمك اللهم» فلما نزلت السورة هود فيها {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] كتب: «بسم الله» فلما نزلت سورة سبحان وفيها: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الاسراء: 110] كتب: «بسم الله الرحمن» فلما نزلت سورة النمل فيها {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» (2) .
(1) لم نقف عليه.
(2)
رواه أبو داود في مراسيله (ص 90، رقم 35) عن أبي مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكره بهذا اللفظ الجصاص في أحكام القرآن (1/7) فقال: وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحارث العكلي
…
فذكره.
وذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (6/354) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبه وابن أبي حاتم عن الشعبي، وأعقبه برواية ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران ولفظها:«إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» .
وذكره أيضا من ورواية قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر بلفظ: «لم يكن الناس يكتبون
…
» .
وذكره القرطبي في التفسير (1/92) من رواية الشعبي والأعمش.
وانظر: تفسير البغوي (1/39) ، وفتح القدير (1/185) ، وروح المعاني (1/39) .
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه (6/337، رقم 31856) معناه عن عبد الله معبد الزماني قال: «لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم في شيء من القرآن إلا في سورة النمل: ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» .
واتفق العلماء على جواز كتابتها أول العلم والرسائل، ومنع جماعة من كتابتها في أول ديوان الشعر، إلا إذا كان فيه مواعظاً وحكماً.
وذكر الرازي -رحمه الله تعالى- وغيره فوائد متعلقة بالبسملة:
الفائدة الأولى: قيل: لما أنزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» على آدم قال: الآن آمنت على ذريتي من العذاب فلما مات ارتفعت، ثم نزلت على نوح فنجاها من الطوفان، ثم ارتفعت بعد موته ثم نزلت على إبراهيم، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، ثم نزلت على سليمان فاستقام ملكه، ثم نزلت على موسي فسلم في البحر، ثم ارتفعت ثم نزلت على عيسي، فأوحى الله إليه: قد نزلت عليك آية الأمان، فلما رفع ارتفعت، ثم نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة يأخذ المؤمن كتابة بيمينه ويقول:«بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا هو أبيض لا شيء فيه، فيقال له: كان مملوءًا من السيئات ولكن محته «بسم الله الرحمن الرحيم» .
الفائدة الثانية: لما أرسل الله موسى إلى فرعون وتمادى في الطغيان، فدعا عليه مدة، فقال تعالى: يا موسي أنت تنظر إلى كفره وأنا إلى ما هو مكتوب على باب قصره، وذلك أن جبريل عليه السلام كتب عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» فلذلك وصفه الله بالمقام الكريم.
قال الرازي: ففي هذا إشارة إلى أن من كتب هذه الكلمة على باب داره أمن من الهلاك، وإن كان كافرًا، فكيف بالذي كتبها على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره لا يكون آمناً يوم القيامة من عذاب الله.
وروي عن علي أنه نظر إلى رجل يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: جودها فإن رجلاً جودها فغفر له (1) .
واختلف الأئمة فيما إذا أرسل الإنسان كلباً له للصيد، ولم يقل «بسم الله الرحمن الرحيم» عند إرساله، وصاد الكلب هل يحل أكله أم لا (2) ؟
ذهب إمامنا الشافعي إلى أنه يحل أكله سواء ترك التسمية سواء ترك التسمية عمداً وسهواً، فإن التسمية عند إرسال الكلب ونحوه للصيد سنة عند الشافعي لا واجبة (3) .
وذهب أبو حنيفة إلى أن ترك التسمية ناسياً حل أكله، وإن تركها عامداً لا يحل.
مثل هذا ما إذا رمى الصيد بسهم فقتله فعلى مذهب الشافعي يحل، وعند أبي حنيفة كان ناسياً حل، وإن كان عامداً لا يحل.
ومثل هذا الذبيحة ما إذا ذبح الإنسان شاة مثلاً وترك التسمية عند ذبحها هل تؤكل أم لا؟
مذهب إمامنا الشافعي يجوز أكلها سواء ترك لتسمية عامداً أو سهواً (4)، وعند أبي حنيفة إن تركها عمداً لا تؤكل لقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وإن تركها ناسياً تؤكل (5) .
وأجاب الشافعي عن الآية بأنها محمولة على الذي ذبح لغير الله، فإنه لا يحل أكله.
وأقل التسمية «بسم الله» وأكملها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ويسن أن يقول عند الذبح والقتال «بسم الله والله أكبر» لأن الوقت لا يليق به «الرحمن الرحيم» .
قال ابن العماد: وكيفية التسمية عليه أن يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسب الرحمة، ولا يقل: بسم الله واسم محمد.
الفائدة الثالثة: قال الحناطي من الشافعية في فتاويه: لا يجوز جعل الفضة والذهب في ورقة كتب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فإن فعل ذلك مع العلم بالمنع أثم.
الفائدة الرابعة: إذا رأى الإنسان ورقة ملقاة على الأرض وفيها البسملة، أو شيء من القرآن يستحب رفعها بل يجب، إذا خيف أن تداس بالأرجل.
قال ابن الجوزي: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» احتراماً لله تعالى حرم الله وجهه على النار» (6) .
(1) ذكره القرطبي في تفسيره (1/91) .
(2)
قد ذكر الجصاص في أحكام القرآن (3/316) الأصل في التسمية عند إرسال الكلب المعلم فقال: وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر
…
فساق إسناده إلى الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أرسل كلبي؟ قال: «إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلباً آخر؟ قال: «لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك» .
قال الجصاص: فنهاه عن أكل مالم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه، فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال، وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه.
(3)
انظر الأم (2/227) .
(4)
انظر الأم (2/227) .
(5)
انظر الهداية شرح البداية (4/63) .
(6)
أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/87) ضمن أحاديث باب ثواب من رفع قرطاساً من الأرض فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم» وروي أحاديثاً عن علي وأنس وأبي هريرة، فذكر الروايات عنهم، ولم يورد هذا الحديث الذي ذكره المصنف بهذا اللفظ، وبالنظر في الرويات التي رواها ابن الجوزي عن علي وأنس وأبي هريرة وجدنا أن أقرب الألفاظ للحديث الذي أورده المصنف حديث أنس فقد رواه بلفظ:«من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله أن يداس كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين» .
قال ابن الجوزي: وأما طريق أنس ففيه: العلاء بن مسلمة، قال ابن حبان: يروي الموضوعات والمقلوبات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به، وقال أبو الفتح الأزدي: كان العلاء رجل سوء لا يبالي ما روى لا يحل لمن عرفه أن يروي عنه، وفيه: أبو حفص العبدي، قال أحمد: حرقنا حديثه، وقال يحيى: ليس بشيء.
وحديث أنس أخرجه أيضاً: الخطيب في تالي تلخيص المتشابه (2/458، رقم 274) ، وأورده العجلوني في كشف الخفاء (2/328) وعزاه لأبي الشيخ عن أنس.
والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (5/49، ترجمة رقم 1220) وهي ترجمة: عمر بن حفص أبو حفص العبدي، وقال: ليس بالقوي، وقال في آخر ترجمته: الضعف بين على رواياته.
وترجم له الذهبي في الميزان في (5/226، ترجمة 6081)، قال الذهبي: قال علي: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف.
وزاد الحافظ ابن حجر على الذهبي في اللسان (4/299، ترجمة 832) فقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن ثابت المناكير، وقال الساجي: متروك الحديث، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: أبو حفص العبدي يرفض حديثه.
وإذا رفعها جاز له غسلها بالماء وجاز له حرقها بالنار، لكن قال ابن عبد السلام الأولى أن يغسلها بالماء أو يحرقها بالنار، ويجعلها في شق الحائط أو غيره، ولأنها قد تسقط فتوطأ.
وهل الحرق أولى أو الغسل بالماء؟ قال بعضهم: الحرق أولى من الغسل، لأنها بعد الغسل قد تقع على الأرض، ولا يكره الحرق إذا تعلق به غرض صحيح، كما إذا خاف أن توطأ تلك الورقة أو تستعمل في غير القراءة، فقد أحرق عثمان مصاحف، وكان فيها آيات وقرآن منسوخ ولم ينكر عليه.
قال الزركشي: نعم يكره الحرق لغير حاجة (1) .
الفائدة الخامسة: يحرم على الإنسان أن يضع على فراش أو نقش «بسم الله الرحمن الرحيم» أو بشيء من القرآن (2) .
لطيفة خاتمة: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن بي صداعاً لا يسكن، فإذا
(1) وفي حكم ذلك يقول أبو بكر البكري في إعانة الطالبين (1/68) : عبارة فتوى ابن حجر -أي: في الورقة التي فيها ذكر الله هل تحرق أم تمزق أم تغسل؟ - تفيد أن المعتمد حرمة التمزيق مطلقاً، ونصها: سئل ابن حجر عمن وجد ورقة ملقاة في طريق فيها اسم الله تعالى ما الذي يفعل بها؟ فأجاب رحمه الله بقوله قال ابن عبد السلام: الأولى غسلها لأن وضعها في الجدار تعرض لسقوطها والإستهانة بها، وقيل: تجعل في جدار، وقيل: يفرق حروفها ويلقيها ذكره الزركشي.
فأما كلام ابن عبد السلام فهو متجه والذي يتجه خلافه وأن الغسل أفضل فقط، وأما التمزيق فقد ذكر الحليمي في منهاجه أنه لا يجوز تمزيق ورقة فيها اسم الله أو اسم رسوله لما فيه من تفريق الحروف وتفريق الكلمة وفي ذلك ازدراء بالمكتوب، فالوجه الثالث شاذ إذ لا ينبغي أن يعول عليه.
(2)
قاله الشرواني في حواشيه (1/154) .
كان عندك دواءًا ابعثه إليَّ، فبعث إليه عمر قلنسوه فكان إذا وضعها على رأسه سكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فتعجب من ذلك ففتش القلنسوة فإذا مكتوب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» .
الفائدة السادسة: ذكر ابن الملقن في شرحه على البخاري عن النقاش أنه قال: حين نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد الجبال (1) .
قال: فإن صح ما ذكره فلذلك معنى، وذلك: أنها آية نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح معه بنص القرآن العظيم.
وقد ورد في فضلها عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أراد أن ينجيه الله من الزبائية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» فيجعل الله له بكل حرف جنة من واحدة (2) .
وسنتكلم على التسمية وننقل فيها فوائد في باب الوضوء إن شاء الله تعالى.
* * *
(1) ذكره الحلبي في سيرتة الحلبية (1/403) من قول النقاش، وقال: قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كان الجبال تسبح مع داود، وهذا هو ما قاله ابن الملقن كما نقله المصنف.
(2)
ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه إلى وكيع والثعلبي عن ابن مسعود، وذكره القرطبي وابن كثير.
قال الحافظ ابن كثير: ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، لقول الرجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك. انظر: تفسير القرطبي (1/92) ، وتفسير ابن كثير (1/18) .