المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثالث عشر - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثالث عشر

‌المجلس الثالث عشر

في بيان زيارة الإيمان ونقصانه وفيه فوائده كثيرة متعلقة بالإيمان

قَالَ البُخَارِي:

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الإيمان

باب الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْل، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

قَالَ اللَّهُ تعالى: ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ (1) .

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ للإيمان فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُوداً وَسُنَناً، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا (2) لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/112) قوله: «والحب في الله والبغض في الله من الإيمان» هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله» ، ولفظ أبي أمامة:«من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» .

وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة، وزاد أحمد فيه:«ونصح لله» ، وزاد في أخرى:«ويعمل لسانه في ذكر الله» ، وله عن عمرو بن الجموح بلفظ:«لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله» .

ولفظ البزار رفعه: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» ، وسيأتي عند البخاري:«آية الإيمان حب الأنصار» .

واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/113) : قوله: «فإن أعش فسأبينها» أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم جملة، على تجويز تأخير البيان عن وقت الخطاب إذ الحاجة هنا لم تتحقق.

والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص حيث قال: استدل ولم يستدل.

قال الكرماني: وهذا على إحدى الروايتين، وأما على الرواية الأخرى فقد يمنع ذلك لأنه جعل الإيمان غير الفرائض. قلت: لكن آخر كلامه يشعر بذلك وهو قوله: «فمن استكملها» أي: الفرائض وما معها «فقد استكمل الإيمان» وبهذا تتفق الروايتان، فالمراد أنها من المكملات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيماناً.

ص: 288

بِحَرِيصٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ?وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? (1) .

وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً (2) .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ (3) .

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي» أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: «ليطمئن قلبي» أي: يزداد يقيني.

وعن مجاهد قال: لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع ملته كان كأنه ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك.

وإنما فصل البخاري بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها، لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة. والله أعلم.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال معاذ» هو ابن جبل، وصرح بذلك الأصيلي، والتعليق المذكور وصله أحمد وأبو بكر أيضاً بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.

وعرف من الرواية الأولى أن الأسود أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره.

ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة، لأن معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبداً مجدداً كلما نظر أو فكر، وما نفاه أولاً أثبته آخراً، لأن تجديد الإيمان إيمان.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله» هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً، ولا يثبت رفعه.

وجرى البخاري على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئة.

وفي الإيمان لأحمد من طريق عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: «اللهم زدنا إيماناً ويقينا وفقها» وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لما أشرت إليه.

ص: 289

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ (1) .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ?شَرَعَ لَكُمْ? أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِيناً وَاحِداً (2) .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ?شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً? سَبِيلاً وَسُنَّةً (3) .

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن عمر

إلى آخره» المراد بالتقوى: وقاية النفس الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة.

وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف. وقوله: «حاك» بالمهملة والكاف الخفيفة أي: تردد، ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ.

وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعاً، وعند أحمد من حديث وابصة، وحسن الترمذي من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس» وليس فيها بشيء على شرط البخاري، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر، ولم أره إلى الآن موصولاً.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً» .

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال مجاهد» وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم.

«تنبيه» : قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: «شرع لكم» أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً. والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه.

كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم، وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة (انتهى) .

ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع، لأن نوحاً أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكوراً عند المصنف بالمعنى. والله أعلم.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال ابن عباس» وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح.

والمنهاج: السبيل: أي: الطريق الواضح.

والشرعة والشريعة بمعنى، وقد شرع أي: سن، فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب.

فإن قيل: هذا يدل على الاختلاف والذي قبله على الاتحاد، أجيب: بأن ذلك في أصول الدين وليس بين الأنبياء فيه اختلاف، وهذا في الفروع وهو الذي يدخله النسخ.

ص: 290

«بسم الله الرحمن الرحيم» ابتداء البخاري رضي الله عنه كتاب الإيمان وكذا غيره من الكتب الآتية عملاً بالحديث الذي أسلفناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (1) .

فإن قيل: البسملة في أول الكتاب مغنية عن إعادتها في كتاب الإيمان وغيره.

(1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14)، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة.

قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وكما أن المصنف قال ذلك أيضاً (محقق) .

وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية:«بحمد الله» ، وفي رواية:«بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية:«أجذم» ، وفي رواية:«لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية:«ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه والمشهور رواية أبي هريرة وهذا الحديث حسن، روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى:«أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه:«جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها والله أعلم.

والحديث حسنه برواياته هذه العجلوني في كشف الخفاء (2/156) .

إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية.

وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما عدد ذلك النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.

ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فبذلك قد عمل بالروايات وحيز فضل ذلك. انظر في هذا: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .

ص: 291

فالجواب: أن البخاري رضي الله عنه كررها في كل كتاب لزيادة الاعتناء بها، ولأجل المحافظة التمسك بالسنة وظهر وجه آخر في إعادتها في كل كتاب، وهو أن صحيح البخاري ليس بعد كتاب الله كتاب أصح منه وابتدأ الله تعالى سورة منه بالبسملة إلا براءة فابتدأ البخاري كل كتاب من صحيحة بها إقتداء بالكتاب العزيز، ليكون مزيد اعتناء، ومتمسكاً مزيد تمسك بالكتاب والسنة.

ولشدة الاعتناء بها افتتح شيخ الإسلام أبو الفرج ابن الجوزي في بعض مصنفاته كل مجلس بذكرها والوعظ بها، فقال في بعض المجالس: «بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله في الغدو والآصال، نسأل الله القرب والاتصال، قل بسم الله مع الإخلاص تظفر بالنجاة والإخلاص، هي كلمة القرب والوصال، كلمة تنفصل لها الأوصال، كلمة تخشع له القلوب وتهرب منها الذنوب، كلمة هي للصدور شفاء، كلمة فيها نيل الأماني، وتوجب القرب والتدابير، من سمع الله على الحقيقة طاش، ومن سمع الرحمن الرحيم على الحقيقة عاش، بسم من تحيا القلوب بآلائه، وتحيا الأجسام بنعمائه، وتحيا الأرواح بعطائه، وتحيا الأسرار بلقائه، أين المشتاقون إلى الله، أين الخائفون من الله، علامة المشتاق إلى الله إذا ذكر الله طار قلبه شوقاً إلى الله، وعلامة المحب لله إذا سمع ذكر الله هام قلبه سروراً بالله، بسم الله يزول الهموم وتستر السرائر، بسم الله من بأمره أقدار تجري، وبمشيئة النجوم تسري، بسم من يعلم الخطرات، ويحصي عدد القطرات، بسم من حارت في صفته عقول العلماء، وارتعدت من خيفته الجبال والماء.

«باب الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: نبي الإسلام على خمس» (1) هذا بعض حديث سيأتي تمامة قريباً، ويجوز الاقتصار على بعض الحديث إذا تعلق به غرض صحيح.

قال ابن رجب في شرحه على هذا الكتاب: إنما صدر البخاري كتاب الإيمان بباب بني الإسلام على خمس لأنه يرى أن الإسلام والإيمان واحد، فصدره به لينبه على ذلك، والبخاري رضي الله عنه رتب كتابه ترتيباً حسناً لم يسبقه أحد في مثل ذلك، ترتيبه ومحاسنه كثيرة منها أنه بعد ذكر الوحي ذكر كتاب الإيمان ثم بكتاب الصلاة بسوابقها من الطهارة وغيرها، ثم باب الزكاة وما يتعلق بها، ثم بكتاب الحج وأبوابه، ثم بكتاب الصوم، وإنما رتبه هذا الترتيب ليوافق الترتيب الذي رتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/111) : قوله: «باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس» ، سقط لفظ «باب» من رواية الأصيلي، وقد وصل الحديث بعد تاماً، واقتصاره على طرفه فيه تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد باب هذا الحديث.

ص: 292

«بني الإسلام على خمس» الذي فيه قواعد الدين وأركان الإسلام، وسنذكر في الكلام على الحديث المذكور وحكمه الترتيب المذكور وسره.

ومن محاسنه أيضاً أنه يميز بين الأجناس بالكتب وبين أنواع كل جنس بالأبواب.

ثم قال البخاري «وهو قول وفعل ويزيد وينقص» (1)

الضمير عائد إلى الإيمان أو

(1) فصل معنى ذلك ابن حجر في الفتح (112) فتحدث عن الأقول في زيادة الإيمان ونقصانه والكلام عن الفرق المخالفة والرد عليها فقال: قوله: «وهو» أي: الإيمان «قول وفعل ويزيد وينقص» ، وفي رواية الكشميهني:«قول وعمل» وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله: «وهو

إلى آخره» مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف.

والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص.

فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص.

والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد.

والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته. والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى.

أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فِعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته.

وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.

وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا متى قبل ذلك كان شكاً.

قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها.

وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: «تعظيم قدر الصلاة» عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم.

وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في «كتاب السنة» عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.

وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك، بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.

وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة.

وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.

وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

ثم شرع البخاري يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة.

ص: 293

إلى الإسلام إن قلنا: أنهما بمعنى واحد، كما مال إليه البخاري أي: الإيمان قول وفعل ويزيد وينقص، وإنما قال البخاري الإيمان قول وفعل، ولم يقل: واعتقاد بالقلب مع أن الاعتقاد بالقلب هو الأصل في الإيمان إما لأن الاعتقاد بالقلب متفق عليه بين العلماء في أنه إيمان، وإنما وقع النزاع بينهم في القول واللسان والعمل بالجوارح هل يصدق عليهما الإيمان أم لا؟ فذكر المتنازع فيه وسكت عن المتفق عليه، وإما لأن الفعل صادق على فعل الجوارح وعلى فعل القلب.

واعترض على هذا بأن القول أيضاً على فعل اللسان، فلا حاجة إلى ذكره لدخوله في الفعل.

واختلف العلماء في الإيمان هل يزيد وينقص أم لا؟

فذهب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وجماعة كثيرون من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأكثر الأشاعرة إلى أنه يزيد بزيادة الطاعات، وينقص ينقصانها للقطع بأن إيمان آحاد الأمة ليس كأيمان أبي بكر فضلاً عن إيمان الأنبياء والملائكة.

قال النووي: المختار أن التصديق يزيد وينقص لكثرة النظر ووضوح الدلالة، ولهذا

ص: 294

كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريه الشبهة.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قلنا: يا رسول إن الإيمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (1) .

وقال سفيان بن عينيه: الإيمان قول وفعل ويزيد ينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص فغضب، وقال: أسكت يا صبي ينقص حتى لا يبقى منه شيء.

وممن قال بزيادة الإيمان ونقصانه حافظ العصر البخاري، روي عنه أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واستدل البخاري على ذلك بآيات وآثار مصرحة بذلك.

«قال الله تعالى ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ لَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً? وقوله ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وقوله جل ذكره ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?»

وإسناد الزيادة إلى غير الله في بعض هذه الآيات من قبيل المجاز إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى.

فإن قيل: هذه الآيات دلت على زيادة الإيمان فقط، والمقصود زيادته ونقصانه.

فالجواب: أن كل ما قبل الزيادة لابد وأن يكون قابلاً للنقصان ضرورة.

وذهب أبو حنيفة والصحابة وإمام الحرمين وجمع كثير من الأشاعرة إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقالوا: متى كان قبل الزيادة كان شكاً وكفراً.

مسائل مفيدة متعلقة بالإيمان

المسألة الأولى: اختلف العلماء في الإيمان والإسلام هل هما بمعنى واحد أومختلفان؟ فذهب البخاري وجماعة إلى أن معناهما فيهما ويؤيده قوله تعالى ?فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ? [الذاريات: 35، 36] .

وذهبت طائفة إلى أن الإسلام غير الإيمان واحتجوا بقوله: تعالى ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا? [الحجرات: 14] .

قال الخطابي: والصحيح في هذا أن يقيد الكلام، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً

(1) لم نقف عليه بهذا اللفظ.

ص: 295

في بعض الأحوال ولا يكون في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال وكل مؤمن مسلم ولا عكس.

المسألة الثانية: هل يوصف الإيمان بأنه مخلوق أو ليس بمخلوق؟

اختلف مشايخ الحنفية وغيرهم في هذه المسألة فنقل عن أهل سمرقند وجماعة أنه مخلوق، ونقل عن البخاريين من مشايخ الحنفية وعن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنه غير مخلوق، ومال إلى هذا القول إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري وقال: إن إطلاق القول بأنه مخلوق يصدق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى لأن من صفات الله تعالى الحسنى «المؤمن» كما نطق به القرآن العظيم، ولا يقال إيمان الله تعالى محدث ولا مخلوق تعالى أن يقوم به حادث.

قال بعض المحققين المتأخرين: الصواب التفضيل في هذه المسألة، وهو أن يقال: إن إيمان العبد مخلوق لأنه فعل قلبي يكتسب بمباشرة أسباب يحصله المخلوق فلا يتجه خلاف في كونه مخلوقاً، وأن إيمان الله سبحانه وتعالى الذي دل عليه اسم المؤمن قديم غير مخلوق، ومعنى إيمان الله أنه المصدق بوحدانيته في قوله ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ? [آل عمران: 18] ، وقوله: ?أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا? [طه: 14] ، ولا يتجه تصديقه رسله بإظهار المعجزات على أيديهم فهو من صفات الأفعال، والخلاف فيها معلوم بين الأشاعرة والماتريدية.

المسألة الثالثة: هل الإيمان باق مع النوم والإغماء والغفلة والموت أو ليس بباق؟ ذهبت المعتزلة إلى أنه ليس بباق مع هذه الأمور لأنها تضاد التصديق.

وذهب أهل السنة إلى بقائه حكماً معها، وقالوا: المؤمن من آمن في الحال وفي الماضي لأنه حقيقة فيه، بل لأن الشارع يعطي الحكم حكم المحقق، واستدلوا لبقائه حكماً ببقاء وصف النبوة معها، فإنا إذا قلنا: إن النبوة من الأنبياء، والنبي معناه: المنبئ عن الله تعالى ولا شك أنه ليس منبئاً في حال النوم، ولا مبلغاً في حال السكوت والموت، مع أن الحكم بالنبوة باق إلى الأبد وإن لم يبلغ عن الله إلا مرة واحده، واستدلوا على بقائه حكماً ببقاء أحكام العقود حيث قالوا: الاتفاق واقع على أن حكم النكاح وحكم سائر العقود باق بعد فناء الإيجاب والقبول، الذي هو مسمى العقد لحاجة الناس إلى ذلك قالوا: والحاجة فيما نحن فيه من الإيمان إلى بقاء حكمه أمس وآكد، لأن عصمه الدم والمال منوطة به.

ص: 296

المسألة الرابعة: اختلف العلماء في إيمان المقلد، والمقلد هو أن يسمع إنسان الناس يقولون: إن للخلق رباً خلقهم وخلق كل شيء، ويستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له، فيجزم بما سمعه منهم، والمختار الذي عليه الفقهاء وكثير من العلماء صحته من غير نظر واستدلال، لحصول الجزم بالإيمان الذي يحصله الاستدلال، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم حال كون إيمانهم صادراً تحت السيف، ولا استدلال.

ومنع كثير من المعتزلة صحته وورد عليهم بأنه يلزم من قولهم تكفير العوام وهو غالب المؤمنين.

المسألة الخامسة: اختلف في أنه هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله

تعالى؟

فذهب أبو حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء إلى أنه ليس له أن يقول: ذلك، وإنما يقول: أنا مؤمن حقاً.

والذي ذهب إليه الإمام الشافعي وأصحابه والإمام مالك وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وأكثر العلماء وأكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى جواز قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وبه قالت الأشعرية هذا إذا كان جازماً بالإيمان حال التكلم، أما إذا شك في إيمانه حال التكلم وقال: إن شاء الله للشك في إيمان فإن إيمانه يكون منفياً لأن الشك في ثبوته الحال كفر وليس محل قول إن شاء الله بالاتفاق بل محل النزاع بين الفريقين إنما هو إيمان الموافاة وهو الذي يموت العبد عليه، ويأتي متصفاً به آخر حياته أول منازل آخرته، وهو المعتبر في النجاة في الدار الآخرة، وهو الملحوظ عند المتكلم بالمشيئة، فإذا جزم الإنسان بالإيمان في الحال ولكن لا يعلم هذا الحال يبقى هذا الإيمان إلى الوفاة أم، فله عند الفريق الثاني أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى أي: أنا أموت على الإيمان إن شاء الله وهو أمر مستقبل فالقائل: أنا مؤمن إن شاء الله مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وعامل بقوله تعالى ?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ? [الكهف: 23، 24] أيضاً يقول: إن شاء الله للتبرك بالمشيئة خوفاً من سوء الخاتمة، مع جزمه بالإيمان في الحال فكان القائل: أنا مؤمن إن شاء الله يقول: أطلب حسن الخاتمة، فكم من إنسان سلب الإيمان عند موته، نسأل الله العظيم أن يختم لنا وللمسلمين بخير في عافية بلا محنة.

وحكى الإمام الغزالي حجة الإسلام قدس الله روحه في منهاج العابدين: أن تلميذ

ص: 297

الفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسة وقرأ سورة ياسين فقال يا أستاذ ألا تقرأ هذه؟ فسكت ثم لقنه، وقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أقولها آناء نهاري ومات على ذلك، فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً ولم يخرج من البيت، ثم رآه في النوم وهو يسحب إلى جهنم أجارنا الله منها بمنه فقال: بأي شيء نزع الله المعرفة عنك وكنت أعلم تلاميذي؟ فقال: بثلاثة أشياء أولها: النميمة فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك، والثاني: الحسد حسدت أصحابي، والثالث: كان بي علة وجئت إلى طبيب وسألته عنها فقال: تشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإذا لم تفعل تبقى في تلك العلة، فكنت أشربه نعوذ بالله من سخطه الذي لا طاقة لنا به.

وقال في الروض الفائق: يروى أن أخوين كان أحدهما عابداً والآخر مسرفاً على نفسه، وكان العابد يتمنى أن يرى إبليس في محرابه فتمثل به إبليس فقال: له وأسفا عليك ضيعت عمرك أربعين سنة في حصر نفسك وإتعاب بدنك، وقد بقي من عمرك ما مضى، فأطلق نفسك في شهواتها وتلذذ، ثم تب بعد ذلك وعد إلى العبادة فإن الله غفور رحيم فقال: العابد لعلي نزل وحي في أسفل الدار أوافقه على اللهو واللذات عشرين سنة، ثم أتوب وأعبد الله في العشرين التي تبقى من عمري فنزل، وقال أخوه المسرف على نفسه: قد أفنيت عمري في المعاصي وأخي العابد يدخل الجنة، وأنا أدخل النار والله لأتوبن وأصعد إلى أخي العابد وأوفقه في العبادة ما بقي من عمري، فلعل الله أن يغفر لي، فطلع على نية التوبة ونزل أخوه على نية المعصية فزلت المعصية رجله فوقع على أخيه، فماتا جميعاً في السلم، فحشر العابد على نية المعصية وحشر المسرف المسلم على نية التوبة.

ففرغوا قلوبكم للاعتبار فيما يجري في الليل والنهار، كم من بعيد قرب وكم من قريب أبعد، وجفاه الأهل والجيران، كان حظ الأول الجنة، وحظ الثاني النار فاعتبروا يا أولي الإبصار، ندم العابد على تغيير نيته بلا شك ولا خفاء، وبكى على تفريطه بعد عبادته إذ زل، وهنا يود لو أن يرد ويرجع إلى الوفاء، وسيعلم أنه كان يبني على شفا جرف هار فاعتبروا الإبصار، ولقد أحسن من قال:

أناس عرضوا عنا

بلا جرم ولا معنى

أساؤا ظنهم فينا

فهلا أحسنوا الظنا

فإن عادوا لما عدنا

وإن خانوا فما خنا

ص: 298

وإن كانوا قد استغنوا

فأنا عنهم أغنى

وقال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى: خرج ثلاثة من الزهاد يريدون الحج إلى بيت الله الحرام في وسط السنة متوكلين بغير زاد، فنزلوا قرية بها نصارى فوقع نظر رجل منهم على محاسن امرأة فتعلق بها، فلما عزموا على السفر احتال بحيلة، فقعد وسار صاحباه وتركاه في القرية، فأفشى سره لأبي المرآة وخطبها منه فقال: مهرها كثير لا تقدر عليه فقال: وما هو فقال: تترك دين الإسلام وتدخل في دينها دين النصرانية، فتنصر وتزوجها وولد له منها ولدان ومات على دين النصرانية، فرجع صاحباه من سياحتهما وسألا عنه فقيل لهما: إنه توفى على دين النصرانية ودفنوه في مقابرهم، فذهبا إلى المقبرة فوجد امرأته وولديه يبكيان عليه، فجعل صاحباه يبكيان من بعيد فقالت لهما المرآة: مما تبكيان من بعيد، فقصا عليها القصة وذكرها عبادته وزهده وصلاحه، فلما سمعت رق قلبها إلى الإسلام فأسلمت هي وولداها فقال الشيخ أبو محمد: سبحان الله مات من كان مسلماً على الكفر وأسلم من كان كافراً، فلذلك ينبغي أن يخاف المسلم عاقبة أمره ويسأل الله حسن الخاتمة ولله در القائل:

سبحان من خلف الأشياء وقدرها

ومن يجود على العاصي يستره

يخفي القبيح ويبدي كل صالحة

ويغمر العبد إحسانا ويشكره

ويغفر الذنب للعاصي ويقبله

إذا تاب وبالغفران يجبره

ومن يلوذ به في دفع نائبة

يعطيه من فضله عزاً وينصره

ولا يضيع مقالاً لمجتهد

في ماله بل يربيه ويدخره

ومن يكن قلبه من ذنبه فاسداً

فبالمدامع والتقوى طهره

فليس للعبد تصريف وأن له

مولاه إن شاء يغنيه ويفقره

فلا الحذار ينجي العبد من قدر

يريده الله وأمر يدبره

فنسأل الله حقاً حسن خاتمة

عند الممات وصفواً لا يكدره

وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله أنه كان إذا توضأ وقعت الزلزلة على أعضائه إلى أن يقوم إلى الصلاة ويكبر فيسكن عنه ذلك، فقيل في ذلك فقال: أخاف أن تدركني الشقاوة فأخطي إلى كنائس اليهود والنصارى وبيعهم، فتعوذ بالله من مكر الله.

وعن سفيان الثوري رحمه الله أنه خرج إلى مكة حاجاً فكان يبكي من أول الليل إلى آخره في المحمل فقال له شيبان الراعي: يا سفيان، فما بكاؤك فإن كان لأجل

ص: 299

المعصية فلا تعصه فقال: أما الذنوب فما خطرت ببالي قط كبيرها وصغيرها، وليس بكائي يا شيبان من أجل المعصية ولكن خوف العاقبة، لأني رأيت شيخاً كبيراً كتبنا عنه العلم، وكان تلتمس بركته ويستقى به الغيث، فلما مات تحول وجهه عن القبلة ومات على الشرك كافراً، فما أخاف إلا من سوء الخاتمة فقال له: إن ذلك من شؤم المعصية والإصرار على الذنوب، فلا تعص ربك طرفة عين.

وقال منصور بن عمار رحمه الله: إذا دنا موت العبد قسم حاله على خمسة أقسام المال للوارث، والروح لملك الموت، واللحم للدود، والعظم للتراب، والحسنات للخصوم، ثم إن ذهب الوارث للمال يجوز، وإن ذهب ملك الموت بالروح يجوز، فيا ليت الشيطان لا ينهب بالإيمان عند الموت، فيكون فراقاً من الرب سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك، فإن كل فراق إلى اجتماع، وفراق الرب سبحانه صعب لا يدركه أحد.

وعن محمد بن نعيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جاءني جبريل عليه السلام إلا وهو رعد فرقاً وخوفاً من الجبار عز وجل» (1) .

وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر من المخالفة والطرد بعد القرب والعبادة، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما ما لكما تبكيان هذا البكاء وإني لا أظلم أحداً قالا: يا رب لا نأمن مكرك أي: ما نأمن أن تقضي علينا بالبعد بعد القرب، وبالشقاوة بعد السعادة فقال: الله تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج إلى صلاة الجمعة فلقيه إبليس في صورة شيخ عابد فقال: له إلى أين يا عمر؟ فقال له: إلى الصلاة، فقال: قضينا الصلاة وفاتتك الجماعة، والجمعة فعرفه فمسكه بتلابيبه وخنقه وقال له: ويلك ألم تك رأس العابدين وقدوة الزاهدين، فأمرت بسجدة واحدة فأبيت واستكبرت وكنت من الكافرين، وطردت وأبعدت إلى يوم القيامة فقال: تأدب يا عمر هل كانت الطاعة بيدي أم الشقاوة بمشيئتي، إني كنت أبسط سجادة عبادتي تحت قوائم العرش، ولم أترك في السماوات بقعة إلا فيها سجدة وركعة ومع هذا القرب قيل لي: أخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، فإن كنت يا عمر أمنت مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فقال له عمر: اذهب فلا طاقة لي بكلامك، أين الذين كانوا في اللذات يتقلبون ويتجبرون على الخلق ويتكبرون، مزجت لهم كؤوس المنون، فهم لها يتجرعون، وتركوا الأموال التي كانوا لها يجمعون، وفارقوا الذي كانوا به، وفاتهم النعيم الذي كانوا به ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، فلو رآهم يا هذا في حلل الندامة

(1) لم نقف عليه.

ص: 300

يرفلون، ويساقون يوم القيامة إلى العذاب وهم ينظرون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وأنشدوا في المعنى:

إليك من مكرك يا سيدي

محل البرايا بذا يحذرون

فكم ذنوب في عيوب مضت

ونحن عنها سيدي غافلون

نضيع العمر نكسب الخطأ

فنحن في أوقاتها لاعبون

نشاهد الموتى ولا نعتبر

ولا تنبهنا الريب المنون

فنحن يا رب الورى كلنا

إليك من زلاتنا هاربون

لكننا نسأل رب السماء

عفواً وصفحاً كي تقر العيون

فائدة: إبليس عبد الله ثمانين ألف سنة ثم قيل له: أخرج منها فإنك رجيم صرح بذلك الغزالي في منهاج العابدين.

فائدة أخرى: رأى إسرافيل عليه السلام في اللوح المحفوظ أن عبداً يعبد ربه ثمانين ألف عام، ثم ترد عليه عبادته ويلعنه فبكى إسرافيل خوفاً أن يكون هو ذلك العبد، فسألته الملائكة عن ذلك فأخبرهم بما رآه في اللوح فبكوا جميعاً فكل منهم يخاف أن يكون هو ذلك العبد، ثم قالوا: نذهب إلى عزرائيل فإنه مجاب الدعوة فيدعو لنا، فأخبروه فدعا لهم وقال: اللهم لا تغضب عليهم ونسي أن يدعو لنفسه معهم ولم يقل: اللهم لا تغضب علينا.

وقيل: إنه رأى على باب الجنة مكتوباً: إن لله عبداً يعبده من المقربين يأمره فلا يمتثل أمره فقال: ائذن لي أن ألعنه فلعن نفسه بنفسه ألف عام، وكان اسمه في سماء الدنيا العابد، وفي الثانية الراكع، وفي الثالثة الساجد، وفي الرابعة الخاشع، وفي الخامسة القانت، وفي السادسة المجتهد، وفي السابعة الزاهد، ثم بعد ذلك سمي إبليس لأنه أبلس من رحمه الله.

وذكر الغزالي في الإحياء عن عيسى أنه قال: نبياً من الأنبياء شكى الجوع والعري والقمل سنتين، فأوحى الله إليه ما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب وجعله على رأسه وقال: قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر.

خاتمة مشتملة على فوائد: قال النووي في الأذكار يحرم أن يقول الشخص: إني إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو برئ من الإسلام ونحو ذلك، فإن قال ذلك وأراد حقيقة تعليق خروجه عن الإسلام ذلك صار كافراً في الحال، لأن تعليق الكفر كفر، في الحال لابد له أن يرجع عن معصيته ويندم على ما فعل وأن يعزم أن لا يعود إليه أبداً ويستغفر الله تعالى ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

ص: 301

قال: ويحرم عليه تحريماً مغلظاً أن يقول للمسلم: يا كافر، بل قال العلماء إذا قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفراً.

روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بهما أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (1) .

وروينا في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا جاء عليه» هذا اللفظ رواه مسلم، ولفظ البخاري بمعناه، ومعنى «جاء عليه» رجع عليه (2) .

قال: ولو دعا مسلم على مسلم فقال: اللهم أسلبه الإيمان، عصى بذلك وأصح الوجهين أنه لا يكفر بذلك، ومثل هذا قال: لا ختم الله له بخير.

قال: ولو أكره الكفار مسلماً على كلمة الكفر فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر بنص القرآن قال تعالى ?إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106] وأجمع المسلمون على ذلك، ولكن هل الأفضل في هذه الحالة أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل أو لا؟

في المسألة خمسة أوجه فقيل: الأفضل أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل، وقيل: إن كان في بقائه مصلحة للمسلمين بأن كان يرجو النكاية في العدو والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلم، وإن لم يكن كذلك فالصبر على القتل أفضل، وقيل: إن كان من العلماء ونحوهم ممن يقتدي بهم، فالأفضل الصبر ولئلا يغتر به العوام، وقيل: يجب عليه التكلم لقوله تعالى ?وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195] والصحيح: أن الأفضل أن يصبر على القتل ولا يتكلم بالكفر، والأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورة.

حكاية غريبة في المعنى وهي خاتمة المجلس: حكي أن عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته أرسل أصحابة إلى الروم لأجل الغزاة فانهزمت أصحابه وأسر عشرون منهم،

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2264، رقم 5753) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 60) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2247، رقم 5698) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 61) عن أبي ذر.

قلت: لفظ البخاري بمعناه كما قال المصنف فقد رواه البخاري بلفظ: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» .

ص: 302

وأحضروا بين يدي ملك الروم فأمر ترجمانه أن يسألهم عن من هو أكبرهم، فأشاروا إلى ثلاثة منهم، فأمر الملك واحداً من الثلاثة أن يدخل في دينه وأن يعتقد أن المسيح ابن الله، وأن النظر إلى الصليب عبادة، وقال: إن فعلت ذلك أعطيتك كذا وأخلع عليك الخلع، وأجعلك أقرب من في حضرتي، وإن أنت أبيت ولم وتدخل في ديني وإلا ضربت عنقك فقال المسلم: معاذ الله أن أبيع ديني بالدنيا، فأمر بضرب عنقه، فلما ضرب عنقه وطار رأسه في الميدان دار ثلاث مرات وهو يقول: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر: 27 - 30] فغضب الملك الخاسر، وأمر الثاني بمثل ما أمر الأول وقال: أعمل معك كذا وكذا ووعد ومناه، فأبي وقال: معاذ الله أن أبيع ديني بدنياك فأمر بضرب عنق الآخر بحضرته فلما ضرب عنقه وطار رأسه دار في الميدان ثلاثة دورات وهو يقرأ قوله تعالى ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 21 - 24] فسكن عند الرأس الأول فغضب الملك الكافر غضباً شديداً، وأمر الثالث فأحضر بين يديه فقال له: ما تقول أنت أتدخل في ديني حتى أجعلك أميراً وبين يدي مشيراً وإلا قتلتك كصاحبيك، فقال الثالث: أدخل في دينك، وأبيع ديني بدنياك، وأبلغك في ذلك مناك، وغلبت عليه الشقاوة، وقال الملك لوزيره: اخلع عنه الخلع، وكتب له مثالاً بالحكم والتولية والإمرة فقال الوزير: ليس هذا من العقل أن تبادر بإكرام هذا وتوليته من غير تجربة فقال: الملك جربه، فقال الوزير له: يا هذا لا نأمنك ولا نصدقك حتى تقتل

رجلاً من أصحابك، فقام وأخذ واحداً من المسلمين فقتله لغلبة الشقاوة عليه، فقال الملك: الآن استحق المثال والإماره والخلع فقال الوزير: أيها الملك هذا ليس صواباً إذا كان الرجل فعل مع الذي ولد معه ونشأ معه وتربى معه هكذا وقتله بيده ولم يرع حقه، فكيف يرعانا حقاً، أو كيف يبدي لنا صدقاً والرأي عندي أن تقتله وتلحقه بإخوانه فقال الملك: نعم الوزير أنت ونعم المشير افعل ما بدا لك، فأمر بضرب عنقه وطار رأسه في الميدان ودار ثلاث مرات وهو يقرأ قوله تعالى ?أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ? [الزمر: 19] ثم سكن وسط الميدان، ولم يخالط أخويه وصار إلى عذاب الله وغضبه، ونعوذ بالله من مكر الله، ولقد أحسن من قال في المعنى:

وكم من بائع دنيا بدين

فلم تحصل الدنيا ولم يحصل الدين

ولو حصلت ما فات منها بطائل

وأصبح مغبوطاً بها وهو مجنون

* * *

ص: 303