المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلس العشرون في قوله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌ ‌المجلس العشرون في قوله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده

‌المجلس العشرون

في قوله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن من أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»

قَالَ البُخَارِي:

باب حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ (1) ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» .

قوله «باب حب الرسول من الإيمان» (2) والمراد بالرسول، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جنس الرسول ولا لاستغراق بقرينه قوله صلى الله عليه وسلم.

«حتى أكون» وإن كانت محبة الرسل واجبه فاللام في الرسول للعهد.

قوله «والذي نفسي بيده» أي: وحق الذي نفسي بيده وهو الله عز وجل وفي هذا دليل على جواز الحلف على الأمر المهم توكيداً له وإن لم يكن هناك مستحلفاً.

قال الرازي: وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «والذي نفسي بيده» وإطلاق اليد على الله في أحاديث أخر منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي» (3) .

(1) قوله: «شعيب» هو ابن أبي حمزة الحمصي، واسم أبي حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهري وأبي الزناد.

ووقع في غرائب مالك للدارقطني إدخال رجل -وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن- بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث، وهي زيادة شاذة، فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان.

وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحاً فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا النسائي من طريق على بن عياش عن شعيب. انظر الفتح (1/131) .

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/131) : قوله: «باب حب الرسول» اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله:«حتى أكون أحب» ، وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2700، رقم 6986) ، ومسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة.

ص: 404

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يفتح أبواب السماء في ثلثي الليل الباقي، فيبسط يده فيقول: ألا من عبد فيسألني فأعطيه، قال: فما يزال كذلك حتى يطلع الفجر» (1) للعلماء فيه قولان:

أحدهما: إلحاقة بالمتشابه والسكوت عنه وتفويض علمه للعليم الخبير، وهو أسلم.

والثاني: تأويله بما يليق بجنابه الكريم بأن يقال: ليس المراد باليد هنا حقيقتها وهي الجارحة، فإنها في حقه سبحانه وتعالى محال، بل المراد القدرة فإن اليد تستعمل في القدرة مجازاً فإنه يقال: يد السلطان فوق يد الرعية أي: قدرته عالية فوق قدرتهم، ويقال: هذه البلدة في يد الأمير وإن كان مقطوع اليد، بمعنى في قدرته.

فقوله: «والذي نفسي بيده» مؤول بقدرته، وهذا القول أحكم ونزول الآيات الواقعة في كتاب الله بهذا التأويل مثل قوله تعالى ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ? [المائدة: 64] ، وقوله: ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? [الفتح: 10] .

وقوله: «لا يؤمن أحدكم» محمول على نفي الكلام أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أجب إليه من والده وولده، فمن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده فهو ناقص الإيمان.

قال الخطابي معناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك.

وقال ابن بطال (2) : معنى الحديث: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول آكد عليه من حق ولده ووالده والناس أجمعين، لأنه به استنقذنا من النار وهدينا من الضلال.

قال العلماء: هذا الحديث من جوامع الكلم الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم، فإن المحبة ثلاث أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد للوالد، ومحبة شفعة ورحمة كمحبة الوالد لولده، ومحبة مشاكله واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع أصناف المحبة في محبته.

وليس المراد بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أو حبه اعتقاد وتعظيمه وإجلاله فإنه لا شك في كفر من لم يعتقد ذلك، وتنزيل هذا الحديث على هذا المعنى غير صحيح، لأن اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبة ولا الأحبية ولا مستلزماً لها، إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/446، رقم 4268) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/449، رقم 765) عن عبد الله بن مسعود.

(2)

ابن بطال هو: سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، أبو أيوب، فقيه باحث، له أدب وشعر، تعلم بقرطبة، واشتهر بكتابه: المقنع في أصول الاحكام، قالوا فيه: لا يستغني عنه الحكام، وكان من الشعراء أيضاً، كانت وفاته سنة: 404هـ.

ص: 405

شخص ولا يجد محبته، بل المراد بالمحبة: الميل إلى المحبوب وتعلق القلب بعد اعتقاد تعظيمه.

وإنما اقتصر في هذا الحديث على ذكر الولد والوالد ولم يذكر غيرهما من الأهل، لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان عنده أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في هذا الحديث أيضاً.

وإنما لم يذكر «الأم» صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إما لأنها تدخل في لفظ «الوالد» إن أريد به من له الولد، وإما أنه لم يذكر الأم اكتفاء بذكر الأب في هذا الحديث عهنا، كما يكتفي بذكر أحد الضدين عن الآخر.

وإنما قدم صلى الله عليه وسلم لفظ «الوالد» على الولد في هذا الحديث مع أن محبة الإنسان لولده أعظم من والده غالبا ًللأكثر، فإن كثير من الناس لا ولد له، وكل واحد له والد فلذلك قدما الأعم الأكثر وقوعاً على غيره.

وجاء في تقديمه رواية الولد على الوالد وسببه أن محبة الإنسان لولده أعظم من محبته لوالده غالباً، فلذلك قدم فيها.

وجاء في رواية زيارة: «الناس أجمعين» وهو من عطف العام على الخاص وهو كثير.

وهل تدخل النفس في عموم قوله: «والناس أجمعين» قال ابن حجر: الظاهر دخولها مع أنه وقع التنصيص على النفس في حديث.

فائدة: ورد في هذا الصحيح في الأيمان والنذور أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفيك فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم» أي لا يكمل إيمانك «حتى أكون أحب إليه من نفسه» (1) فقال له عمر: فإنه الآن أنت أحب لي من نفسي فقال: الآن يا عمر أي: الآن كل إيمانك.

فاستفيد من جميع الروايات أنه يحب على الإنسان أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وماله، وأن الإيمان لا يكمل إلا بذلك فإن الإنسان إذا تأمل من

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2445، رقم 6257) عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال

فذكره.

وأخرجه أحمد في مسنده (4/233، رقم 18076) ، والبزار في مسنده (8/383، رقم 3459) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/102، رقم 317) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/189) .

ص: 406

النفع له من جهة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، على أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الإشفاعات فاستحق لذلك أن تكون محبته أفرض من غيره لأن النفع الذي تأت به المحبة حاصل أكثر من غيره.

فائدة: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً لم يخل عن محبته صلى الله عليه وسلم غير أن الناس متفاوتون في تلك المحبة، فمنهم من أخذ منها بالحظ الأوفر كالصحابة رضي الله عنهم أجمعين لما فازوا من رؤية ذاته الشريفة، والاطلاع على معجزاته وأحواله فمحبتهم له أعظم من غيرهم.

ومن الناس من يكون مستغرقاً بالشهوات محجوباً بالغفلات عن ذكره، ومحبته صلى الله عليه وسلم أوقاته لكنه إذا ذكر صلى الله عليه وسلم أو شيء من فضائله اهتاج لذكره واشتاق لرؤيته، يؤثر رؤيته بل رؤية قبره ومواضع آثاره على أهله وماله وولده ووالده ونفسه والناس أجمعين، ثم يزول عن ذلك سرعة لغلبته شهوته وتوالي الغفلات، فهذا داخل فيمن أحبه صلى الله عليه وسلم لكن يخاف عليه بسبب غلبته الشهوات وتوالي الغفلات، من ذهاب أصل تلك المحبة.

وقد دل الكتاب والسنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وكثرة ثوابها وفضلها كما دل على وجوبها الحديث المذكور وقال الله تعالى ?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ? [التوبة: 24] .

قال القاضي عياض: فيكفي بهذه الآية حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوبها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: ?فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ? فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.

وروى أنس أن رجلاً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها؟» فقال: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن أحب الله ورسوله قال:«أنت مع من أحببت» (1) .

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (3/1349، رقم 3485) ، ومسلم في صحيحه (4/2032، رقم 2639) من حديث أنس بن مالك.

ص: 407

وورد عن صفوان بن قدامة قال هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآتيته فقلت: يا رسول الله ناولني يدك أبايعك، فناولني يده فقلت: يا رسول أحبك، قال:«المرء مع من أحب» ، وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن حجر:

وقائل هل عمل صالح

أعددته يدفع عنك الكرب

فقلت حسبي خدمة المصطفى

وحبه فالمرء من أحب

وروي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما غير لونك» فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتوحش وحشة شديدة، حتى ألقاك، وإني لأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك، فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك فأنزل الله تعالى ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً? [النساء: 69] فدعا به قرأها عليه.

وأما محبة السلف من الصحابة والتابعين وابتاع التابعين والأئمة والأعلام فمن بعدهم له صلى الله عليه وسلم فقد نقل إلينا من ذلك شيء كثير.

عن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رأني بأهله وماله» (1) .

ويروي أن امرأة قالت لعائشة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم اكشفي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته لها فبكت حتى ماتت.

وسئل على بن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.

وخرج عمر ليلة فرأى مصباحاً في بيت وإذا عجوزاً تنفش صوفاً، وتقول:

على محمد صلاة الأبرار

صلى عليه الطيبون الأخيار

قد بكيت بكاء في الأسحار

يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل تجمعني وحبيبي الدار

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2178، رقم 2832) ، وأحمد في مسنده (2/417، رقم 9388) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/358)

ص: 408

تعني النبي صلى الله عليه وسلم.

فائدة: لمحبته صلى الله عليه وسلم علامات، فإن من أحب شيئاً ظهرت عليه آثاره وعلامات محبته عليه، وإلا فلا يكون صادقاً في حبه، وكان مدعياً.

فمن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: استكمال سنتة ونصرها والذب عنها، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطة ومكرهه.

قال أنس بن مالك قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إن استطعت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل» ثم قال لي: «يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» (1) .

قال أبو القاسم نفعنا الله به: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضاً: طريق السادات المقربين السابقين مقيد بالكتاب والسنة الصوفية على الحقيقة، والعلماء العاملون بالشريعة والطريقة، وهم وراث النبي صلى الله عليه وسلم المتبعون له في أقواله وأفعاله وأخلاقه وأحواله أعاد الله علينا من بركاتهم، ومن إيثار ما شرعه حض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [الحشر: 9] .

ومنها: إسخاط العباد في رضاه ورضى الحق سبحانه وتعالى، بأن يفعل شيئا يرضي

(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/46، رقم 2678) عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

قال الترمذي: وفي الحديث قصة طويلة، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ثقة وأبوه ثقة وعلي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره قال وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد قال شعبة حدثنا علي بن زيد وكان رفاعاً ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله.

وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب.

قال الترمذي أيضاً: وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره، ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين ومات سنة خمس وتسعين.

والحديث بقصته التي أشار إليها الترمذي عند الطبراني في المعجم الأوسط (6/123، رقم 5991) .

ص: 409

الله ورسوله، وإن كان فيه إسخاط العباد، فمن أرضى الله واسخط العباد كان محباً للمولى الجواد، ومحباً لسيد العباد صلى الله عليه وسلم، أنشد مشايخي بيتين في هذا المعنى:

لا تغضب الحق وترضي الورى

وقدم الخوف ليوم الوعيد

وأرضي الله فأشقى الورى

من أسخط المولى وأرضى العبيد

ومنها: كثرة ذكره له فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

ومنها: كثرة شوقة إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ولما قدم الأشعريون المدينة من فرحهم كانوا يقولون: غدا نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

ومنها: تعظيمه وتوقيره عند ذكره وإظهار الخشوع والانكسار عند سماع اسمه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكرونه إلا خشوعاً واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين منهم من يقم ذلك له وشوقاً إليه، ومنهم من يفعله تعظيماً له وتوقيراً له، ومنهم من يفعله لحبه لمن كان يحبه صلى الله عليه وسلم، وبغضه لمن كان يبغضه، كحب آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، كما كانت الصحابة تحب الذي يحبه صلى الله عليه وسلم، ويبغضون الذي يبغضه صلى الله عليه وسلم.

قال أنس بن مالك: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الديك ويحبه قال: فما زلت أحبه لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تواتر النقل عن أصحابه أنهم أحبوه وقاتلوا آباءهم في مرضاته.

ومنها: أنه يحب القرآن الذي أتى به صلى الله عليه وسلم وأن يهتدي به، وحبه للقرآن بتلاوة والعمل به.

قال عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا لا يدخر منها إلا زاداً.

ومنها: شفقتة على أمته ومحبته لهم وسعيه في مصالحهم ودفع المضار عنهم كما كان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.

ومنها: تمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه بين يديه صلى الله عليه وسلم، حكى الإمام القشيري رضي الله عنه عن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان أنه رؤي بعد موته في النوم فقيل له: ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لي فقيل: بماذا؟ قال صعدت ذروة جبل فأشرفت على جنودي فأعجبتني كثرتهم فتمنيت أني لو كنت حياً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحضرت القتال معه ونصرته فشكرت الله على ذلك وغفر لي.

ص: 410

ومحبته صلى الله عليه وسلم والإيمان به والإيمان بنبوته ورسالته وقعت لكثير من الحيونات والجماد.

فائدة: وهي معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم روى الدارقطني والبيهقي وشيخه ابن عدي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب إلى رحلة فرأى جماعة محتفين بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال هؤلاء الجماعة؟ فقالوا: هذا محمد فأتى فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولاً لقتلك فسررت بقتلتلك الناس أجمعين فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتله فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً» ثم أقبل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واللات والعزى لما آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضب، وأخرج الضب من كمه، فطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن آمن بك آمنت بك فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ضب» فكلمه الضب بلسان فصيح عربي يفهمه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا رسول العالمين فقال صلى الله عليه وسلم: «من تعبد؟» قال: أعبد الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه، قال:«فمن أنا يا ضب؟» قال: أنت رسول رب العالمين خاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله حقاً، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض لي منك، والله لأنت الساعة أحب إليَّ من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الحمد لله هداك لهذا الدين، الذي يعلوا ولا يعلى عليه ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن» قال: فعملني، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم سورة الحمد، وقل هو الله أحد، فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا فقال

صلى الله عليه وسلم: «إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت قل هو الله أحد قرأت ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإن قرأتها ثلاثاً فكأنما قرأت القرآن كله» فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير ويعطي الكثير، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك مال فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعطوه، فأعطوه فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله إني أعطيته ناقة عشراً أهديت لي يوم تبوك فقال: «قد وصف ما تعطي، أو أصف لك ما يعطيك الله جزاء لك» قال: نعم قال: «لك ناقة من درة بيضاء جوفاء فوائمها من زمرد أخضر، عيناها من زبرجد أخضر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف» .

ص: 411

فخرج الأعرابي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي ألف أعرابي على ألف دآبة بألف سيف وألف رمح فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد الذي يكذب ويزعم أنه نبي، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: صبوت فحدثهم بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك فقال: «كونوا تحت رآية خالد بن الوليد» فلم يؤمن من العرب ألف غيرهم (1) .

نقل ابن الجوزي في بعض مصنفاته عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الضب أنشأ يقول:

ألا يا رسول إنك صادق

فبوركت مهدياً وبوركت هاديا

شرعت لنا دين الحنفية بعد ما

عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا

فيا خير مدعي ويا خير مرسل

إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا

أتيت ببرهان من الله واضح

فأصبحت فينا صادق القول داعيا

فبوركت في الأحوال حياً وميتاً

وبوركت مولوداً وبوركت ناشئا

والضب حيوان بري معروف يعيش سبعمائه سنة فصاعداً، ويبول في كل أربعين يوم قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: إنه سنة قطعة واحدة وأكله حلال بالإجماع، لكن ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي» (2) .

(1) أخرجه الطبراني في المعحم الأوسط (6/126برقم 5996) ، وفي المعجم الصغير (2/153برقم 948)، والأصبهاني في دلائل النبوة (ص:321) عن ابن عمر.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/294) : رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه محمد بن علي بن الوليد البصري قال البيهقي: والحمل في هذا الحديث عليه، قلت -أي الهيثمي -: وبقية رجاله رجال الصحيح.

ومحمد بن على بن الوليد ترجم له الذهبى فى المغنى (2/616رقم 5837)، والميزان (6/263رقم7970) وقال: يروي عن العدني، وروى عنه الطبراني وابن عدي، وروى البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد نظيف، ثم قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي هذا، وصدق البيهقي فالخبر باطل، وتبع الحافط ابن حجر الذهبى فى اللسان (5/292) وزاد عليه بقوله: وروى عنه الإسماعيلي في معجمه، وقال: بصري منكر الحديث.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2060، رقم 5076) ، ومسلم في صحيحه (3/1543، رقم 1945) من حديث ابن عباس.

ص: 412

وفي رواية لمسلم «لا آكله ولا أحرمه» (1) .

وفي أخرى «كلوه فإنه من حلال لكنه ليس من طعامي» (2)

، ولا يكره أكله عندنا خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة.

لطيفة: ذكر حجة الإسلام الغزالي في الإحياء عن أبي جعفر الصيدلاني قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه جماعة وإذا بملكين نزلا من السماء مع أحدهما طست والآخر إبريق فغسل النبي صلى الله عليه وسلم يده ثم واحد بعد واحد حتى أتوا إليّ فقال أحدهم: ليس هو منهم، فقلت: يا رسول الله أنت قلت: المرء مع من أحب، وأنا أحب هؤلاء فقال صلى الله عليه وسلم: صبوا على يده فإنه منهم.

فائدة: محبة الله أعظم القربات، وأفضل الطاعات، وهي متوقفة على امتثال أوامره واجتناب نواهية، ويدل على ذلك قول الله تعالى ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [آل عمران: 31] .

وعلامة محبة العبد لله طاعة له وعدم عصيانه كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن يجب مطيع

فمحبة العبد للرب طاعة ومحبة الرب سبحانه وتعالى للعبد عفوه عنه، وإنعامه عليه برحمته.

قال في الروض الفائق: كان داود عليه السلام يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومن

(1) الرواية عند مسلم في الصحيح (3/1542، رقم 1943) عن نافع عن ابن عمر قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب

فذكره.

ورواه البخاري معلقاً (6/2677) في «باب الأحكام التي تعرف بالدلائل» .

(2)

هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2652، رقم 6839) عن توبة العنبري قال: قال لي الشعبي أرأيت حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاعدت ابن عمر قريباً من سنتين أو سنة ونصف فلم أسمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنه لحم ضب فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلوا أو اطعموا فإنه حلال أو قال لا بأس به شك فيه ولكنه ليس من طعامي» .

وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه (3/1542، رقم 1944) .

ص: 413

الماء البارد.

وقال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب الله فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فيلحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإن المساجد أبنية الله، وأبنية أذن الله برفعها وتطهيرها، بارك فيها فهي ميمونة بأهلها فهم في صلاتهم والله تعالى في قضاء حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في حج مقاصدهم» (1) .

وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى: إذا أحب عبداً نادى جبريل» (2)، وفي رواية: إن جبريل ينادى في أهل السماء والأرض، إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فعند ذلك يلقي حبه في الأرض، ويقع في الماء فيشربه البر والفاجر فيحبه البر والفاجر، وإذا بغض الله عبداً أمر الله تعالى جبريل أن ينادي بالعكس من ذلك فيبغضه البر والفاجر.

وكان أبو يزيد البسطامي يقول في مناجاته: إلهي لست أعجب من حبي لك، وأنا عبد حقير، وإنما أعجب من حبك لي وأنت رب جليل، تحب عبداً ذليلاً.

وجرت مسألة المحب بين الشيوخ بمكة، فتكلموا فيها ثم قالوا للجنيد: هات ما عندك يا عراقي فقال: المحب عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه ناظراً إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده بالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى المشايخ.

قال ابن الجوزي: من ادعى أربعاً من غير أربع فهو كذاب: من ادعى حب الجنة ولم يعمل بالطاعة فهو كذاب، ومن ادعى خوف النار ولم يترك المعصية فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يجالس الفقراء والمساكين فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى وهو يشكو لأحد من البلاء فهو كذاب.

من أطاع الله تعالى وأحبه عاش، ومن التفت إلى الخلق حجب عن الحق، ومن أقبل على غير الله سقط من عين الله، ومن بذل نفسه لله وصل إلى الله، ومن وصل إلى الله عرف الله، ومن ألف إلى الله نظر بقلبه إلى الله، ومن كان يعرف مولاه وقدرته

(1) لم نقف عليه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 414

فليس تغمض طول الليل عيناه، ورد في الحديث يقول الله تبارك وتعالى لملائكته:«قربوا مني أهل لا إله إلا الله فإني أحبهم» (1) .

أهل التوحيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر، سبقت محبتهم لي قبل خلقهم، وطاعتهم لي قبل إيجادهم فصاروا أولياء بالموهبة القديمة لا جرم جاء مدحهم في الآيات المكنونة يحبهم ويحبون ولقد أحسن من قال:

نالوا مرادهم بحب حبيبهم

وتمتعوا بدنو وصاله

وعليهم ظهر الجمال لأنهم

بقلوبهم نظروا لحسن جماله

وبحبه قد اشتغلوا ويا طوبى لمن

قد أصبح المحبوب من أشغاله

* * *

(1) لم أقف عليه.

ص: 415

باب (1)

بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ، عَائِذُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:«بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» .

فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ (3) .

«عبادة بن الصامت» هذا هو أبو الوليد عبادة بضم العين بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، شهد العقبتين الأولى والثانية وبدراً وأحداً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها وهو أول من ولي فلسطين، ولاه عمر وكان طويلاً جسيماً فاضلاً

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله «باب» كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلاً، فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضاً، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عقبة منى في الموسم.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «عائذ الله» هو اسم علم أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله ابن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وكان مولده عام حنين. والإسناد كله شاميون.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/140) : وقد أخرج البخاري حديث هذا الباب في مواضع أخر: في باب من شهد بدراً لقوله فيه: «كان شهد بدراً» ، وفي باب وفود النصارى لقوله فيه:«وهو أحد النقباء» ، وأورده هنا لتعلقه بما قبله.

ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين: أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر.

وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار.

ص: 421

جميلاً خيراً.

قال الإستيعاب: وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين، وكان معاوية قد خالفه في شيء من مسائل الربا أنكره عليه عبادة فأغلظه معاوية في القول فقال له عبادة: لا أسكنك بأرض واحد أبداً ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا أمره لك عليه.

روي له مائة حديث وواحد وثمانون حديثاً أتفق منهما على ستة، وانفرد كل واحد بحدثين.

روى عنه جمع من الصحابة منهم أنس وكانت وفاته بفلسطين، وقيل: بالرملة ستة أربع وثلاثين عن ثنتين وسبعين سنة، وقبره ببيت المقدس معروف.

وإنما قال البخاري: في حق عبادة «وكان شهد بدراً» أي: غزوة بدر مع أنه شهد غيرها من المشاهد لأن غزوة بدر كانت أفضل الغزوات كما قاله البرماوي وغيره، وتسمى «بدر الكبرى وبدر العظمى» ، أما «بدر القتال» فهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها.

قيل: سميت غزوة بدر لبئر هناك يسمى بدراً باسم حافره بدر بن الحارث.

وقيل: بدر بن كلدة، وقيل: كالبدر وقيل: لرؤية البدر فيه.

فائدة: قال ابن كثير (1) : انتصار المسلمين على الكفار في غزوة بدر في يوم يسمى يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو، مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد والعدة الكاملة والخيل المسومة والخيلاء الزائد، فأعز الله وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزي الشيطان وجيله، ولهذا قال الله تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ? [آل عمران: 123] أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد.

فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الأفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار وأعز من حضرها من المسلمين فهو عنده من الأبرار، وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشر خلت من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً، وكان عدد المسلمين في غزوة بدر

(1) ابن كثير هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ، وانتقل مع أخ له إلى دمشق سنة 706هـ، ورحل في طلب العلم، وتوفي بدمشق سنة: 774 هـ، تناقل الناس تصانيفه في حياته، من كتبه: البداية والنهاية في التاريخ على نسق الكامل لابن الأثير والكتاب مطبوع شائع بين الناس، وشرح صحيح البخاري لم يكمله، وله: طبقات الفقهاء الشافعيين، وتفسير القرآن الغظيم، وجامع المسانيد، واختصار علوم الحديث وهي رسالة في المصطلح شرحها أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث.

ص: 422

ثلاثمائه وخمساً، وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدد المشركين فيها ألفاً وقيل: غير ذلك، وكانت من غير قصد المسلمين إليها ولا ميعاد كما قال تعالى: ?وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً? [الأنفال: 42] .

واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وأنهزم الباقون، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم متاعهم وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأسارى السبعين.

لطيفة أخرى: قال علماء السير وغيرهم: لما التقى الناس في غزوة بدر ودنا بعضهم من بعضهم بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء أي: من التراب فاستقبل بها قريشاً ثم قال: «شاهت الوجوه» (1) ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا، فكانت تلك الحصباء عظيم شأنها، لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه فانهزموا، وجعل المسلمون يقتلون ويأسرون وبادر كل واحد من الكفار مكباً على وجهه لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب حتى ينزعه من عينيه، وكانت الملائكة تقاتل مع المسلمين في هذه الغزوة.

قال ابن سيد الناس: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر بل كانوا يحضرون من غير قتال عدداً ومدداً لا يضربون أحداً بخلاف غزوة بدر فإنهم كانوا يقاتلون فقد نقل عن أبي داود المازني: وكان شهد بدراً قال: إني لاتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ تقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري أي: من الملائكة.

وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراء، وكان على جبريل ذلك اليوم عمامة صفراء وكان شعارهم:«أحد» .

وسبب نزول الملائكة في غزوة بدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/303، رقم 2762) ، وابن حبان في صحيحه (14/430، رقم 6502) ، والحاكم في المستدرك (1/268، رقم 583) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/218، رقم 230) عن ابن عباس.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

ص: 423

ألف وأصحابه ثلاثمائة وخمسة أو سبعة عشر رجلاً فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف: «اللهم أنجز لي ما وعدتني» فأنزل الله عند ذلك: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ? [الأنفال: 9] أي: فأمده الله بألف من الملائكة.

وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صور الرجال، على خيل بلق عليهم ثياب بيض، وعلى رؤوسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.

وقال ابن عباس: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين عمائم خضر.

وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام يقاتلان كأشد القتال (1) .

فلما انهزم الكفار قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لقي العباس فلا يقتله وإنه خرج مستكرها» فلما أسره المسلمون مع جملة الأسرى السبعين وأوثقوهم في تلك الليلة، فجعل العباس يئن من شدة الوثاق، فترك النبي صلى الله عليه وسلم: النوم، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله قال: «أقلقني أنين العباس فقام الرجل وأرخى وثاقه» (2) .

ونقل بعض أهل السير: أن العباس لما كتف وانتصف الليل وجد النبي صلى الله عليه وسلم ألماً وضراً فجعل يشتكي منه ويتضرع إلى الله، فهبط جبريل وقال: يا سيد البشر إن كنت تريد أن يزول عنك هذا البأس فسارع في حل كتاف العباس فقال: يا جبريل هو من جملة الأساري التاركين دين الإسلام فقال: جبريل بل يقول لك ربك: إنه

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1802، رقم 2306) عن سعد.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/171، رقم 1468) ، وابن حبان في صحيحه (15/446، رقم 6987) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/376، رقم 32153) ، والشاشي في مسنده (1/185، رقم 133) ، والطيالسي في مسنده (ص 28، رقم 206) ، واللالكائي في كرامات الأولياء (ص 128، رقم 77) ، والدورقي في مسند سعد (ص 137، رقم 77) .

(2)

أخرجه ابن سعد في الطبقات االكبرى (4/13) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/89، رقم 17924) عن ابن عباس.

ص: 424

شيخ كبير وللشيخ عندنا حرمة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه قاصدين نحو العباس فلما رآهم ظن أنهم إلى قتلة قاصدين فواقعة الخوف فقال: يا ابن أخي ما جاء بك بالليل فقال: لا بأس عليك يا عمي قد عاتبني ربي من أجلك، فجعل العباس يبكي ويقول: يا مولاي أنا أحيد عن توحيدك وأنت تطلف بأقل عبيدك، ثم قال: يا سيد الأكوان أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه فخلع عمامته عليه وضجت الملائكة والصحابة بالصلاة والسلام عليه، ونزل جبريل فقال: يقول لك الله عز وجل: جعلت على العباس العمامة ونحن لأجلك نخلع عليه الخلافة إلى يوم القيامة.

فائدة أخرى: ذكر العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث سنين في أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة، فأظهر نفسه ودعى الناس إلى الإسلام عشر سنين في كل عام في الموسم لعله يجد أحد يعينه وينصره فلا يجد أحداً ينصره، حتى أنه كان يسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، ويعرض نفسه عليها لعله يجد لعل أن يأووه عندهم وينصروه حتى يبلغ رسالة ربه، فيأتي إليهم الشيطان فيصدهم عن إيوائه صلى الله عليه وسلم ونصرته فيرددون عليه أقبح رد، ويؤذونه ويسخرون به ويقولون قومك أعلم بك.

ولما أراد الله إظهار دينه ساقة إلى هذا الحي من الأنصار، فأقبل منهم اثنان إلى مكة فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، ثم أقبل منهم في العام القابل ستة فدعاهم فأسلما، ثم لا زالوا يزدادون حتى فشا فيهم الإسلام ولم تبق دار من الأنصار بالمدينة الشريفة إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال البخاري في حق عبادة ابن الصامت: «وهو أحد النقباء ليلة العقبة» (1) و «النقباء» جمع «نقيب» وهو الناظر على القوم، وضمينهم وعريفهم، والمراد بالنقباء هاهنا الأنصار الذين تقدموا البيعة صلى الله عليه وسلم.

والمراد «بالعقبة» في ليلة العقبة التي تنسب إليها جمرة العقبة، وعندها وقعت «المبايعة» ، و «المبايعة» هي المعاقدة والمعاهدة، شبهت بعقود المال لأن كلاً يعطي ما

(1) هنا لطيفة ذكرها ابن حجر في الفتح (1/140) فإنه قال: يحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلاً، إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة، أو الزهري فيكون منقطعاً. وكذا قوله:«وهو أحد النقباء» .

ص: 425

عنده بما عند الآخر، فما عند النبي صلى الله عليه وسلم الثواب والخير الكثير، وما عندهم إلتزام الطاعة.

وحقيقة المبايعة: أن يعقد الإمام العهد مع رعيته بما يأمرهم كما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.

قال العلماء: وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات:

البيعة الأولى: للأنصار وكانوا اثنا عشر رجلاً وكانت هذه المبايعة بمنى، وتسمى البيعة الأولى من بيعتي العقبة، بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام دون القتال لأنه لم يفرض يومئذ وسماهم بالأنصار.

والثانية: للأنصار أيضاً وكانوا سبعين رجلاً جاءوا للحج بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية بالليل أوسط أيام التشريق، قال لهم رسول صلى الله عليه وسلم:«أخرجوا إلىّ منكم اثنا عشر نقيباً حتى أبايعهم، وإنما طلب صلى الله عليه وسلم اثنا عشر نقيباً إقتداء بقول الله تعالى في قوم موسى: ?وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً? [المائدة: 12] فأخرجوا له منهم اثنا عشر نقيباً، وأسماءهم معروفة في كتب السير منهم: عبادة بن الصامت كما قال البخاري: «وهو أحد نقباء ليلة العقبة» فتقدموا لمبايعته صلى الله عليه وسلم فبايعهم فيها على القتال وعلى حرب الأحمر والأسود، وكان أول آية أنزلت في الإذن بالقتال: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? [الحج: 39] وجعل ثوابهم الجنة، وهذه البيعة الثانية من بيعتي العقبة.

والبيعة الثالثة: بعد هاتين البيعيتين «بيعة الرضوان» بايعهم صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وكانوا ألفاً وثلاثمائة بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفروا.

وإلى هذه البيعة أشار الله تعالى بقوله: ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً? [الفتح: 18] وهذه البيعة كانت بعد الهجرة بخلاف البيعتين الأولتين.

وذكر البخاري هنا كيفية الأولى بقوله: «عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله (1) عصابة من أصحابه» (2) أي: جماعة من أصحابه والعصابه بكسر

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قوله: «وحوله» بفتح اللام على الظرفية.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم» سقط قبلها من أصل الرواية لفظ «قال» وهو خبر أن، لأن قوله:«وكان» وما بعدها معترض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف «قال» خطأ لكن حيث يتكرر في مثل «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية البخاري لهذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدراً فلعلها سقطت هنا ممن بعده.

ولأحمد عن أبي اليمان بها الإسناد أن عبادة حدثه.

ص: 426

العين ما بين العشرة إلى الأربعين، وكانوا في هذه البيعة اثنا عشر كما تقدم.

«بايعوني» أي: عاهدوني وعاقدوني (1) .

«على أن لا تشركوا بالله شيئا» (2)

أي: على أن تعبدوه وتوحدوه ولا تشركوا به شيئاً والشرك بالله تعالى هو أن تجعل لله نداً وتعبد معه غيره من حجر وبشر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو جني أو ملك أو نجم أو غير ذلك وهو ذنب عظيم لا يغفر قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48]، وقال الله تعالى: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13] ، وهو أكبر الكبائر فلهذا أبايعهم على تركه قبل غيره.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله» (3) فمن أشرك بالله ثم مات مشركاً فهو من أصحاب النار قطعاً.

وأيضاً إنما بايعهم عل ترك الشرك أولاً لأن المبايعة على التوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساس الإسلام.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تسرقوا» والسرقة من الكبائر قال تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئاً أي: شركاً أيا ما كان.

وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك. ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفاً.

ولكن يعكر عليه أيضاً أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2229، رقم 5631) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

ص: 427

حَكِيمٌ? [المائدة: 83] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» (1) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (2) .

قيل: وينبغي إن يقال عند سماع هذا أعاذنا الله من ذلك، وإنما تكون السرقة من الكبائر إذا سرق ما قيمته ربع دينار أما سرقة ما دون ذلك فهو من الصغائر، إلا إذا كان المسروق منه مسكيناً لا غنى له عن ذلك، فيكون كبيرة لا من جهة السرقة بل من جهة الأذى، وحد السارق قطع اليد إذا كان المسروق ربع دينار.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تزنوا» الزنا أيضاً من الكبائر قال الله تعالى: ?وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً? [الإسراء: 32] .

وقال تعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا َأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ? [النور: 2] .

وأجمع أهل الملل على تحريمه ولهذا كان حده أشد الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب.

فائدة: قال النووي: يكره للإنسان إذا ابتلي بمعصية أو نحوها أن يخبر غيره بذلك، بل ينبغي له أن يستر على نفسه وأن يتوب إلى الله تعالى، فإن أخبر بمعصيتة شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً من معصيتة، أو يعمله ما يسلم من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له ونحو ذلك فلا بأس به بل هو حسن، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة.

روينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (3)

من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2489، رقم 6401) ، ومسلم في صحيحه (3/1314، رقم 1687) من حديث أبي هريرة.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1282، رقم 3288) ، ومسلم في صحيحه (3/1315، رقم 1688) من حديث عائشة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/2254، رقم 5721) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/329، رقم 17377) ، والديلمي في الفردوس (3/267، رقم 4795) عن أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/378، رقم 632) عن أنس بن مالك عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهما.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/192) : فيه عون بن عمارة وهو ضعيف.

ص: 428

يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ويصبح يكشف ستر الله عليه.

وفي حديث: «من أتى بهذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد» (1) رواه الحاكم.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تقتلوا أولادكم» (2) إنما بايعهم على ترك قتل الأولاد مع أن قتل غير الأولاد بغير حق حرام لأن قتل البنات كان فاشياًَ أكثر من قتل غيرهم، وهو المسمى بوأد البنات الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (3) متفق عليه.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تأتوا ببهتان» أي: بكذب يبهت سامعه أي: يدهشه لفظاعته.

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7615) عن عبد الله بن عمر، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/330، رقم 17379) .

وأخرجه مالك في الموطأ (2/825، رقم 1508) عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور فقال:«فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال:«دون هذا» فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال: «أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله

» فذكره بنحوه.

وأخرج رواية مالك في الموطأ البيهقي في السنن الكبرى (8/326، رقم 17352) من طريق مالك.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعاً فيهم، وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم.

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/848، رقم 2277) ، ومسلم في صحيحه (3/1341، رقم 593) من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 429

«تعترونه» أي: تختلقونه.

«بين أيدكم وأرجلكم» فإن قيل: كيف أضاف صلى الله عليه وسلم البهتان إلى الأيدي والأرجل مع أنها لا مدخل لها في البهتان، فإنه يكون باللسان فقط؟

أجيب عنه بأوجه:

منها: أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل، ثم يبرزه بلسانه (1) .

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تعصوا في معروف» (2) قال في النهاية: «المعروف اسم جمع

(1) شرح الحافظ ابن حجر هذه الجملة شرحاً بديعاً في الفتح (1/141) حيث قال: قوله: «ولا تأتوا ببهتان» البهتان: الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك.

ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحاً وبعضكم يشاهد بعضاً، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، قاله الخطابي، وفيه نظر لذكر الأرجل.

وأجاب الكرماني: بأن المراد الأيدي، وذكر الأرجل تأكيداً، ومحصله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضياً فليس بمانع.

ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحداً بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم.

وقال أبو محمد بن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قوله: «بين أيديكم» أي: في الحال، وقوله:«وأرجلكم» أي: في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل.

وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكني بذلك -كما قال الهروي في الغريبين- عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً. والله أعلم.

(2)

إلى هنا انتهت المنهيات المبايع عليها وقد يسأل سائل لما نص على المنهيات دون المأمورات وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن حجر فقال: فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟

فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله:«ولا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر.

والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات: أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل.

انظر الفتح (1/142) .

ص: 430

لكل ما عرف من طاعة الله والإحسان إلى الناس، وما ندب الشرع إليه من حسن ونهى عنه من قبيح» .

وقال النووي: يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده.

ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن وفى منكم» أي: ثبت على ما بايع عليه.

«فأجره على الله» أي: بطريق التفضل والإحسان كما يقوله أهل السنة، لا بطريق الاستحقاق والوجوب كما يقوله المعتزلة، فإن الله لا يجب عليه إثابة المطيع ولا تعذيب العاصي، إن أثاب المطيع فبفضله، أو عذب العاصي فبعدله (1) .

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ومن أصاب من ذلك» إشارة إلى غير الشرك بقرينة قوله: «ثم ستره» أي: فمن فعل من الذي بويع على تركه «شيئاً» غير الشرك كأن سرق أو زنى أو قتل أو أتى بهتان أو عصى الله في معروف.

«فعوقب في الدنيا» أي: بذلك الذي فعله قطعت يده في السرقة أو حد في الزنا أو استوفى منه القصاص في القتل، أو حد في القذف وغير ذلك.

«فهو كفارة له» أي: فالعقاب الذي استوفى منه في الدنيا فهو كفارة له فلا يطالب به في الدار الآخرة، وإن لم يتب وهذا هو مذهب الأكثرين (2) .

(1) في هذا المعنى قال الحافظ في الفتح (1/142) : قوله: «فأجره على الله» أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما أن ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما. وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال:«الجنة» ، وعبر هنا بلفظ «على» للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا» ، لكن حديث عبادة أصح إسناداً.

ويمكن -يعني على طريق الجمع بينهما- أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك.

قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين.

وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله. قلت: وقد وصله آدم ابن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وأخرجه الحاكم أيضاً فقويت رواية معمر، وإذا كان صحيحاً فالجمع -الذي جمع به القاضي حسن-، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة، لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولي بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدماً؟

وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قديماً ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف.

ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك.

والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار:«أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.

ص: 431

سئل النووي رضي الله عنه فقيل له: ما تقول في إنسان قتل فاستوفى منه القصاص أو الديه في الدنيا هل تبقى عليه العقوبة في الآخرة؟

قال: فأجاب بسقوط العقوبة عنه وعدم المطالبة في الآخرة، قال: وظواهر الشرع تدل على ذلك واستدل عليه بحديث البخاري وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن أصاب شيئا من هذه القاذورات فعوقب به كان كفارة له

الحديث» .

واستشكل العلماء ذلك بقوله: تعالى: ?ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [المائدة: 33] فإن الآية تدل على أن الطلب لا يسقط في الآخرة وإن حد في الدنيا؟

أجاب العلماء عن الآية بوجهين:

أحدهما: أنها في حق الكفار، فإن عقابهم في الدنيا لا يسقط العقاب عنهم في الآخرة.

والثاني: أن حديث البخاري مخصص لها.

وذهب بعض العلماء إلى أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لا يسقط عنه الطلب في الآخرة، لأن المقتول لم يصل إليه حقه فالطلب له باق في الآخرة، قال: وإنما

ص: 432

وجب قتل القاتل في الدنيا لأجل إرداع غيره وزجره.

قال ابن حجر: هذا القول مردود بأن المقتول وصل إليه حق وأي حق وهو تكفير الخطايا والذنوب عنه بالقتل ظلماً فقد ورد: «إن السيف محاء للخطايا» (1) أخرجه ابن حيان وغيره وصححوه، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، فأي حق يصل إليه أعظم من هذا، فالصواب عدم المطالبة في الآخرة، خصوصاً إن مات عن توبة.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» في هذا دلالة وإشارة إلى أنه لا يجب على الله عقاب عاص وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب المطيع أيضاً.

وفيه دلالة على أن الإنسان إذا ارتكب كبيرة ومات ولم يتب منها فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.

وبطل به قول المعتزلة: أنه يجب على الله تعذيب العاصي إذا مات بلا توبة، وقول الخوارج الذين يكفرون العبد بارتكابه للكبائر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل: إنه يعذب كما تقوله المعتزلة أو يكفر كما تقوله الخوارج (2) .

وحاصل الحديث من مات صغيراً أو كبيراً ولا ذنب له بأن مات عقب بلوغه أو عقب توبته أو عقب إسلامه قبل إحداث معصية فهو محكوم له بالجنة بفضل الله

(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/185، رقم 17693) ، وابن حبان في صحيحه (10/519، رقم 4663) ، والدارمي في سننه (2/272، رقم 2411) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/125، رقم 310) ، وفي مسند الشاميين (2/116، رقم 1023) ، والطيالسي في مسنده (ص 178، رقم 1267) ، وابن المبارك في الجهاد (ص 30، رقم 7) ، وابن أبي عاصم في كتاب الجهاد (ص 370، رقم 131) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/164، رقم 18304) عن عتبة بن عبد السلمي، وفي بعض المصادر الأسلمي.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/146) : قوله: «إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقي عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا.

وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سراً ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية.

وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا.

ص: 433

ورحمته، ولا يدخل النار ولكن يردها كما قال تعالى: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ? [مريم: 71] ، وفي الورود خلاف يأتي الكلام عليه، وإن مات مصراً على كبيرة فهو إلى الله تعالى إن شاء سامحه وعفا عنه وأدخله مع أول الداخلين، وإن شاء عاقبه في النار ثم أخرجه وأدخله الجنة، ولا يخلد أحد في النار مات على التوحيد.

وفيه دليل وإشارة إلى أنه لا يشهد أحد لأحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ورد النص فيه بعينه كالعشرة المبشرون بالجنة وغيرهم ممن ورد أنه من أهل الجنة فيشهد لهم بذلك، أو ورد أنه من أهل النار كأبليس وأبي جهل وفرعون فيشهد لهم بالنار، ومن عداهم أمرهم إلى الله تعالى.

اللهم اختم اعمالنا بالصالحات، وكفر عنا الخطايا والسيئات، لا تؤاخذنا بما ارتكبناه من الزلات، ووقفنا إلى التوبة قبل الممات، يا من يقبل التوبة من عبادة ويعفو عن السيئات.

جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (1) .

وجاء في الحديث أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أذنب ذنباً فأوجعه قلبه غفر الله له ذلك الذنب، وإن لم يستغفر» (2) .

وأفاد بعض العلماء: أن آدم عليه الصلاة والسلام لما هبط إلى الأرض بكى على ذنبه وقال: يا رب إني تبت وأصلحت فاقبلني، فأوحى الله إليه: يا آدم إني كتبت على عرشي من قبل أن أخلق السماوات والأرض: وإني لغفار لمن تاب، يا آدم احشر التائبين ضاحكين مستبشرين، ودعاؤهم مستجاب.

وذكر الإمام حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: العبد إذا كان مسرفاً على نفسه وأراد أن يتوب فيرفع يديه ويقول: يا رب حجبت الملائكة صوته أولاً وثانياً وثالثاً،

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/659، رقم 2499) عن أنس، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة، وابن ماجه في سننه (2/1420، رقم 4251) ، وأحمد في مسنده (3/198، رقم 13072) ، وأبو يعلى في مسنده (5/301، رقم 2922) ، والحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7617) وصححه.

(2)

لم نقف عليه.

ص: 434

في الرابعة يقول الله تعالى: لما تحجبون صوت عبدي عني، قد علم أنه ليس رب يغفر الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له.

وجاء في الخبر أيضاً: «إذا كثرت ذنوب ابن آدم يثقل العرش على الحملة فيعلمون ذلك فيقولون: يا كريم العفو حتى يخف عنهم، وإذا قال العبد يا كريم، يقول: الله تعالى ماذا رأيت من كرمي وأنت في السجن، اصبر حتى ترى كرمي في الجنة.

وحكي في كتاب «نرجس القلوب» : أن بعص الصديقين أصاب ذنباً فجاء إلى البحار وقال: أيتها البحار البعيدة غوراً، الكثيرة أمواجاً، قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله تعالى البحار أن تجيبه ما فيها موجة إلا وعليها ملك، فأتى الجبال فنادي أيتها الجبال الشامخة قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله الجبال أن تجيبه ما فيها صخرة وإلا عليها ملك، فجاء إلى الأشجار كذلك فنادته ما عليها ورقة إلا وعليها ملك، فبرز وقال: يا إلهي يا إلهي عذبني بما شئت وافعل فيّ ما شئت، فخرج النداء يا حبيبي لأسكنك جنتي.

* * *

ص: 435