المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلس الرابع في الكلام على حديث «إنما الأعمال بالنيات» وفيما يتعلق بالنية - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌ ‌المجلس الرابع في الكلام على حديث «إنما الأعمال بالنيات» وفيما يتعلق بالنية

‌المجلس الرابع

في الكلام على حديث «إنما الأعمال بالنيات»

وفيما يتعلق بالنية وفيما يتعلق بالهجرة

ورأيت أن أفتح هذا المجلس بخطبة الألفية للعراقي للمناسبة وهي:

الحمد لله الذي قبل بصحيح النية حسن العمل، وحمل الضعيف المتقطع على مراسيل لطفه فاتصل، ورفع من أسند في بابه، ووقف من شذ عن جنابه وانفصل، ووصل مقاطيع حبه، وأدرجهم في سلسلة حزبه، فسكت نفوسهم عن الاضطراب والعلل، فموضوعهم لا يكون محمولاً ومقلوبهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له الفرد الأول، وأن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسله والدين غريب فأصبح عزيراً مشهوراً واكتمل، وأوضح به معضلات الأمور، وأزال به منكرات الدهور الأُول، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، ما علا إسناده ونزل، وطلع نجم وأفل.

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمه الله تعالى ورضي عنه:

«حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ

» .

بكسر الميم مشتق من النبر، وهو الارتفاع، وهو بلفظ الآلة، لأنه آلة الارتفاع، والألف واللام فيه للعهد أي: منبر مسجد رسول الله رضي الله عنه، وكان عمل المنبر في السنة السابعة من الهجرة، وقيل: في السنة الثامنة، وهو أول منبر في الإسلام، والصانع له اسمه باقول، وقيل: باقوم، وقيل: إصباح، وقيل: إبراهيم، وقيل: تميم الداري، وكان درجتين والمقعد، فلما كان في خلافة معاوية بعث إلى مروان: أن ارفع المنبر فزاده ست درجات من أسفل، فلما كان في دولة بني العباس اتخذوا المنبر أمشاطاً للِّحى لأجل البركة من النبي صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: واتخاذ المنبر سنة، ويستحب أن يكون على يمين المحراب، قريباً منه.

وذكر البخاري في هذا الإسناد لفظ: «حدثنا» في ثلاثة مواضع، وذكر في الرابع:«أخبرني» (1)

، وفي الباقي:«سمعت» إشارة إلى الفرق بينهما، وهو قول

(1) أفاد السيوطي في تدريب الراوي (2/16) أن حدثنا وأخبرنا ليس بمعنى وهذا ما ذهب إليه عبد الله ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي وغيرهم.

قال الخطيب: وهو مذهب خلق كثير من أصحاب الحديث، وجوزها طائفة قيل: إنه مذهب الزهري ومالك وسفيان ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري وجماعات من المحدثين، ومعظم الحجازيين والكوفيين كالثوري وأبي حنيفة وصاحبيه والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي عاصم النبيل ووهب بن جرير وثعلب والطحاوي وألف فيه جزء.

ومنهم من أجاز فيها سمعت ومنعت طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، وقيل: إنه مذهب أكثر المحدثين، وروي عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب، وروي عن النسائي أيضاً وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.

وفي الفرق بين هذه الألفاظ قال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (2/691) : إن حدث المحدث جاز أن يقال: حدثنا، وإن قرئ عليه لم يجز أن يقال: حدثنا ولا أخبرنا، -وإنما يقول: سمعت-، وإن حدث جماعة لم يجز للمحدث عنه أن يقول: حدثني، وإن حدث بلفظه لم يجز أن يتعدى ذلك اللفظ، وإن كان قد أصاب المعنى.

وقال الزركضي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/484) : وقال قوم: حدثنا دال على أنه سمعه لفظاً، وأخبرنا دال على سمع قراءة عليه، وهذا عندنا باب من التعمق والأمر في ذلك كله واحد ولا فرق بينهما عند العرب.

وقال في موضع آخر (3/2485) : وذكر ابن العربي في المسالك: أن بعضهم قال: حدثنا أبلغ من أخبرنا لأن أخبرنا قد تكون صفة للموصوف والمخبر من له الخبر.

ص: 103

الجمهور من علماء الحديث، وإن سوى ابن عينيه بينهما.

ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى، ومحمد، وعلقمة، وقد يقع أطرف من هذا وهو أربعة من التابعين روي بعضهم عن بعض.

وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى وهي: أن أوله مكيان والباقي مدينون.

قال (1) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .

قال النووي: وقع هذا الحديث هاهنا وهو مختصراً وهو طويل مشهور ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه، فذكره ههنا ثم في الإيمان، وفي النكاح، والعتق، والهجرة، وترك الحيل، والنذور.

وقال غيره: إنه سقط من رواية البخاري هنا ما هو ثابت في بقية الروايات وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله» .

وقال آخر: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع غير هذا الموضع، من غير طريق الحميدي (2) ، فجاء به كاملاً لم يسقط منه شيء، إلا في هذا الموضع، فإنه جاء به مجزؤاً قد ذهب جزؤه (3) .

(1) القائل سيدنا عمر راوي هذا الحديث.

(2)

الحميدي هو: عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي، أبو بكر: أحد الأئمة في الحديث، من أهل مكة، رحل منها مع الإمام الشافعي إلى مصر، ولزمه إلى أن مات، فعاد إلى مكة يفتي بها، وهو شيخ البخاري، ورئيس أصحاب ابن عيينة، روى عنه البخاري 75 حديثاً، وذكره مسلم في مقدمة كتابه، توفي بمكة سنة: 219هـ.

(3)

قضية إسقاط البخاري جزءاً في هذا الحديث تكلم عليها ابن حجر في الفتح (1/56) فقال: قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله

إلى آخره» .

قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروماً قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟

فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي تاماً، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصراً.

وفهم من قوله «مخروماً» : أنه قد يربد أن في السند انقطاعاً، فقال من قبل نفسه، لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري:«حدثنا الحميدي» وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث.

وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام.

قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاماً فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جداً عند من اطلع على أحوال القوم.

وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى.

وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاماً، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم، وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟

والجواب: قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة.

وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدراً يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. (انتهى ملخصاً) .

وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فراراً من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضاً للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته.

ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متناً وإسناداً.

وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله:«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» عن قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها» ، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث.

وعلي تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم.

وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاماً لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله -في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب- سمع الحديث تاماً، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي.

ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار.

فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله.

قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. (انتهى)

وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي.

وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاماً تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، (انتهى)

وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تاماً وفي موضع مقتصراً على بعضه، وهو كثير جداً في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحاً، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سنداً ومتناً في موضعين أو أكثر إلا نادراً، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعاً.

ص: 104

قال العلماء: وحديث «إنما الأعمال بالنيات» حديث صحيح مشهور، ومتفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب.

وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله (1) : ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع ولا أكثر فائدة منه.

فلهذا جعله بعضهم ثلث العلم، وبعضهم ربع العلم، وبعضهم خمس العلم، فمن جعله ثلث العلم إمامنا الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وجماعة، ووجَّه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها (2) .

(1) هو إمام أهل الحديث في عصره صاحب المذهب أحمد بن حنبل وستأتي في مجلس خاص عقده المصنف لترجمة أرباب المذاهب.

(2)

بين الحافظ قدر هذا الحديث وتكلم على تواتره في الفتح (1/49) فقال: وقال ابن مهدي أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً.

ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد:«نية المؤمن خير من عمله» فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين.

ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك.

وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيي بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني.

وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما.

ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم:«يبعثون على نياتهم» ، وحديث ابن عباس:«ولكن جهاد ونية» ، وحديث أبي موسى:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليهما، وحديث ابن مسعود:«رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته» أخرجه أحمد، وحديث عبادة:«من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.

وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيي بن سعيد: فحكي محمد بن على بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيي مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسي المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.

قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم.

ص: 106

فائدة: روى أبو يعلى الموصلي (1) في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله

عز وجل للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا، فيقول: إنه نواه» (2) .

(1) أبو يعلى هو: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، أبو يعلى: حافظ، من علماء الحديث، ثقة مشهور، نعته الذهبي بمحدث الموصل، عمر طويلاً حتى ناهز المائة، وتفرد ورحل الناس إليه وتوفي بالموصل سنة: 307هـ.

له كتب منها: المعجم في الحديث، ومسندان كبير وصغير.

(2)

لم نقف عليه مرفوعاً ولم نقف عليه في النسخة التي بين أيدينا من مسند أبي يعلى، ووقفنا عليه من قول أبي عمران الجوني، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/313) .

ص: 107

فقد دل هذا على وحدها عبادة مستقلة، وقد أنشد الشيخ الفاضل شهاب الدين ابن حجر العسقلاني لنفسه:

إنما الأعمال بالنيات في

كل أمر أمكنت فرصته

فانو خيراً وافعل الخير فإن

لم تطفه أجزأت نيته

قال الدارقطني: أصول أحاديث الإسلام أربعة: حديث «إنما الأعمال بالنيات» ، وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وحديث «الحلال بين والحرام بين» وحديث «ازهد في الدنيا يحبك الله» ، وقد نظم العلامة أبو الحسن الأشبيلي (1) هذه الأربعة فقال:

عمدة الدين عندنا كلمات

أربع قالهن خير البرية

اتق الشبهات وأزهد ودع ما

ليس يعنيك وأعملن بنية

قال البرماوي: إنما صدر البخاري كتابة بحديث «إنما الأعمال» لأمور:

أحدها: أنه مناسب للآية المذكورة في الترجمة لأنه أوحي لكل الأنبياء الأمر بالنية قال تعالى ? وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [البينة: 5] والإخلاص: النية.

ثانيهما: أن أول واجبات المكلف القصد إلى النظر الموصل إلى معرفة الله، فالقصد سابق دائماً.

ثالثهما: بيان أن كل أمر ينبغي أن يكون بإخلاص ونية، حتى يكون مقبولاً منتفعاً به، فلذلك لما أخلص البخاري النية، وصفى الطوية، نفع الله بكتابه البرية.

رابعها: أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدنية خطب بهذا الحديث، لأن مبدأ لكمال ظهوره ونصره، فناسب الابتداء بذكره في ابتداء الوحي إليه، وافتتاح إخلاص العمل لله تعالى، المستحق الجامع للمحامد (2) .

(1) هو: سلام به عبد الله بن سلام، أبو الحسن الأشبيلي الباهلي: أديب أندلسي الأصل، من إشبيلية، صنف: الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق، كانت وفاته بعد سنة: 839هـ.

(2)

حديث إنما الأعمال صدر البخاري به كتابه، وأدخله في نفس الوقت في كتاب بدء الوحي وهو ما اعترض به البعض البعض على البخاري.

يقول ابن حجر: وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلاً، بحيث أن الخطابي في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه: إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك.

وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له. (انتهى)

وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر، صلح أن يكون في خطبة الكتب.

وحكى المهلب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجراً، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح. (انتهى)

وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره -من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر- منقولا.

وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية

الحديث» ، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس.

قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية. انظر: فتح الباري (1/48) .

ص: 108

ولصدور هذا الحديث سبب من النبي صلى الله عليه وسلم وقد صنف علماء كبار في أسباب الحديث، كما صنفوا في أسباب النزول للقرآن، والسبب في صدوره منه: أن رجلاً من أهل مكة خطب أمرأة بمكة تسمي أم قيس قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما عزم صلى الله عليه وسلم على الهجرة عزمت المرأة أن تهاجر معه صلى الله عليه وسلم وآثرته على أهلها ووطنها، فلما خطبها الرجل أبت أن تتزوج به حتى يهاجر معها، فهاجر لا لوجه الله، بل لقصد أن يتزوج بها، وكان يسمي «مهاجر أم قيس» (1) .

(1) انظر الفتح (1/17) .

ص: 109

وأم قيس التي هاجر الرجل لأجلها قالوا: يحتمل أن تكون أخت عكاشة، فإنها أسلمت بمكة، وهاجرت إلى المدينة، واسمها: آمنة، وقيل: جذامة، وكنيتها: أم قيس، وقيل: الذي هاجر الرجل لها كان اسمها: قيلة، وهي غير أخت عكاشة، وكانت تكنى أيضا: أم قيس.

وأما الرجل المهاجر فقال ابن حجر وغيره (1) : لم نقف على اسمه بل كان يسمى مهاجر أم قيس لعله للتستر عليه لم يعينوه.

فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وصل إلى المدينة، وجلس على المنبر فقال مخاطباً بالخطاب العام، فإنه كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بما يكره:«يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .

واستشكل العلماء كون النبي صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر أول قدومه بأن المنبر إنما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في سنة سبع، وقيل: ثمان، وأجيب: بأن الاستشكال بأن المراد بالمنبر ما كان يخطب عليه إذ ذاك، وهو غير المعروف الذي اتخذه آخراً.

والكلام في هذا المجلس على شطر الحديث وهو: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» والكلام على شطره الثاني يأتي في المجلس الآتي.

فقوله «إنما الأعمال بالنيات (2)

، وإنما لكل امرئ ما نوى» جملتان أفادت الجملة

(1) أوضح ابن حجر في الفتح (1/48) رواة قصة مهاجر أم قيس فقال: وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك.

وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمناً وترغيباً في الإخلاص، لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره.

(2)

بين ابن حجر في الفتح (1/51) الاختلاف الواقع في هذه الجملة فقال: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنيته.

وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده. ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له، ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ:«الأعمال بالنيات» بحذف «إنما» وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي، ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ:«الأعمال بالنية» ، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ:«العمل بالنية» بإفراد كل منهما.

كما أوضح ابن حجر معنى الباء في قوله: «بالنيات» فقال: قوله: «بالنيات» الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى: أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، قال النووي: النية: القصد، وهي: عزيمة القلب. وتعقبه الكرماني: بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد.

وأوضح أيضاً معني الألف واللام في نفس الكلمة فقال: الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلاً صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضاً أو نفلاً، ظهراً مثلاً أو عصراً، مقصورة أو غير مقصورة. وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلاً ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. انظر فتح الباري (1/53، 54) .

ص: 110

الأولى: أن الأعمال لا يترتب عليها الثواب والعقاب إلا بالنية، وأفادت الثانية: اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائت فقط، بل لابد من تعينها ظهراً مثلاً أو عصراً (1) .

(1) هذه الجملة الثانية لم يتعرض لها السفيري بالشرح والحافظ ابن حجر الذي له اليد الطولى في شرح البخاري شرحها شرحاً بديعياً فإنه فرق بين «إنما» في الجملة الأولى «وإنما» في الجملة الثانية فقال: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة.

وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.

وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئاً يحصل له -يعني إذا عمله بشرائطه- أو حال دون عمله له ما يعذر شرعاً بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ومراده بقوله:«ما لم ينوه» أي: لا خصوصاً ولا عموماً، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصاً لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى.

وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلي الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم.

وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهراً مثلاً أو عصراً، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة.

وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة.

وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل.

وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولي لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها، وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.

ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثواباً.

ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقاً، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب (انتهى) .

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «في بضع أحدكم صدقة» ثم قال في الجواب عن قولهم «أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟» قال: «أرأيت لو وضعها في حرام» .

وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية.

ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية: بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله:«الترك فعل» مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه.

وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟

والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟

والتفاوت بين المقامين ظاهر، والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم.

فائدة: قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. انظر: فتح الباري (1/55، 56) .

ص: 111

واتفق العلماء المحققون على «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» تركيب مفيد للحصر، وأن معناه لا عمل بالنية، ولكن اختلفوا على استفادته من

ص: 112

الأعمال، لأنه جمع، واللام فيه للاستغراق، وهو مستلزم للحصر، إذ معناه: كل عمل بالنية فلا عمل إلا بالنية، ولا يصدق كل عمل بالنية، وإنما على هذا القول لا تفيد إلا التأكيد، وهذا مثل: صديقي زيد، فإن الحصر فيه مستفاد من عموم المبتدأ المضاف إلى المعرفة وخصوص خبره، و «إنما الأعمال بالنيات» الحصر فيه من عموم المبتدأ باللام وخصوص خبره.

وقيل: الحصر فيه من «إنما» ، وهو حصر المبتدأ في الخبر، ويعبر عنه البيانيون بقصر الموصوف على الصفة، وربما عبروا عنه بقصر المسند إليه على المسند.

والقول بأن «إنما» تفيد الحصر هو ما ذهب إليه الأكثرين، ونقله البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير منهم أن «إنما» تفيد الحصر استعمالها موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى ?إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? [التحريم: 6] وقوله ?أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ? [المائدة: 92] وقال: ?مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ البَلاغُ? [المائدة: 99] .

وهل «إنما» تفيد الحصر بالمنطوق وبالمفهوم قولان، الأكثر على أنها تفيده بالمنطوق قاله ابن السبكي.

وقال شرذمة قليلون: «إنما» تفيد بالمفهوم.

ومعنى الحصر في «إنما» إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه أي: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح (1) .

(1) زاد ابن حجر على هذا المبحث المتعلق بإنما مسائل مهمة فقال في الفتح (1/52) : واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إن «إن» للإثبات و «ما» للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلاً: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر.

أشار إلى ذلك الكرماني قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيداً بعد تأكيد، وهو المستفاد من «إنما» ومن الجمع. فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر.

وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة «إنما» للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: «إنما الربا في النسيئة» ، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر.

وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: «لا ربا إلا في النسيئة» لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه.

وأوضح من هذا حديث: «إنما الماء من الماء» فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث:«إذا التقى الختانان» .

وقال ابن عطية: «إنما» لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازاً يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: ? إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [المائدة: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، إلى غير ذلك من الأمثلة، وهي -فيما يقال- السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقاً.

ص: 113

فإن قيل: إن ظاهر الحديث يقتضي أن ذات العمل تنتفي عند انتفاء النية، وقد يوجد العمل ولا نية، إذ قد يفعل الإنسان العبادة بلا نية؟

فالجواب: أن ظاهر الحديث متروك، لأن الذوات غير منتفية، بل المراد أحكامها كالصحة، فلابد من تقدير مضاف.

واختلف العلماء في تقديره فالذين اشترطوا النية مطلقاً كالإمام الشافعي وكثير من العلماء قدروا لفظ صحته فقالوا: إنما صحة الأعمال بالنيات ليفيد أن الأعمال لا تصح عند انتفاء النية، ورجح هذا التقدير على غيره من المفردات، لأن الأقرب لنفي حقيقة الشيء نفي صحته، وإن كان الكل مجازاً، والذين لم يشترطوا النية في الوسائل كأبي حنيفة قدروا لفظ «كمال» فقالوا: إنما كمال الأعمال بالنيات، قالوا: نفي الصحة يستدعي نفي الكمال وغيره فيكثر المجاز، بخلاف تقدير كمال فإنه تقليل المجاز، قال البرماوي: وضعف بأن نفي الكمال إنما هو بعد وجود الصحة، فليس في تقدير نفي الصحة إلا مجاز واحد.

فإن قيل: إن قوله «إنما الأعمال بالنيات» يقتضي أن كل عمل يحتاج إلى نيات لا يكفيه نية واحدة، وليس كذلك.

فالجواب: أن هذا من قبل مقابلة الجمع بالجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد أي: إنما كل عمل بنية، وهي قاعدة مفردة في كتب الأصول، يتخرج عليها كثير من المسائل.

ص: 114

قال الكرماني (1)

: فإن قلت: النيات جمع قلة كالأعمال، وهي للعشرة فما دونها، لكن المعنى: إن كل عمل إنما هو بنية سواء كان قليلاً أو كثيراً.

قلت: الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف.

سؤال: فإن قيل: أهل النية أفضل من العمل أو العمل أفضل من النية؟

الجواب: قيل: العمل أفضل لأن نية الحسنة يثاب عليها حسنة واحدة، والفعل الحسن يثاب عليه عشرة، وما يثاب عليه عشرة أفضل مما يثاب عليه واحدة، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة» (2) .

واستشكل هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «نية المؤمن خير من عمله» (3) فإنه يدل على أن النية أفضل من العمل.

وأجيب عنه بأجوبة منها: أن المراد بهذا الحديث أن النية وحدها خير من عمل بلا نية إذ لو كان المراد خير من عمله مع النية، يلزم أن يكون الشيء خيراً من نفسه مع غيره، والقائل تفضيل العمل على النية مراده: العمل مع نيته أفضل من مجرد النية.

وقيل: إن هذا الحديث ورد على سبب وهو أن شخصاً من المسلمين نوى بناء

(1) هو: محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي شمس الدين، الإمام العلامة في التفسير والحديث والفقه، كانت ولادته في سنة سبع عشرة وسبعمائة في شهر جمادي الآخرة، من مصنفاته: شرح البخاري، وشرح المواقف، وشرح مختصر ابن الحاجب، وأنموذج الكشاف، وحاشية على تفسير البيضاوي إلى سورة يوسف، وكانت وفاته في طريق الحج في شهر محرم سنة ست وثمانين وسبعمائة، ثم نقل نعشه إلى بغداد ودفن في قرب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.

انظر: طبقات المفسرين (1/298) ، وشذرات الذهب (3/294) ، وطبقات الشافعية (3/180، ترجمة: 707) ، والنجوم الزاهرة (11/303) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/279، رقم 2519) عن ابن عباس.

ورواه ابن حبان في صحيحه (14/45، رقم 6171) خلال قصة عن خريم بن فاتك الأسدي، وكذا الطبراني في المعجم الكبير (4/206، رقم 4152) .

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/185، رقم 5942) ، والديلمي في مسند الفردوس (4/285، رقم 6842) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/255) ، والخطيب في تاريخ بغداد (9/237) عن سهل بن سعد الساعدي.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/61) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة.

ونقل المناوي في فيض القدير (6/292) كلام الهيثمي وزاد عليه فقال: وأطلق الحافظ العراقي أنه ضعيف من طريقه.

وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/119، رقم 148) عن النواس بن سمعان الكلابي، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (4/219) .

ص: 115

قنطرة على ساقية، يتضرر منها المارون فسبقه كافر فبناها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«نية المؤمن خير من عمله» أي: من عمل الكافر، ولا يلزم منه تفضيل نية المؤمن على عمله، وإنما تفضيل عمله على عمل الكافر.

قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: وكون هذا الحديث ورد على هذا السبب باطل لا أصل له.

وذهب بعضهم إلى أن النية أفضل من العمل وقال: لأن العمل يدخله رياء بخلاف النية، ولأن النية فعل القلب، وفعل الأشرف أشرف، ولأن تخليد الله تعالى المؤمن في الجنة ليس بعمله، وإنما هو بنيته، إذ لو كان بعمله لكان خلوده فيها بقدر عمله، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناوياً أن يطيع الله أبداً، فلما اخترمته منيته دون نيته جازاه عليها فخلده أبداً، وكذا الكافر لو كان مجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر كفره، فلما إن نوى أن يقيم على كفره أبداً لو بقي فجازاه على نيته، وخلده أبداً.

فإن قلت: هل السيئة كالحسنة في أنه يعاقب عليها بمجرد النية كما يثاب على الحسنة بنيتها.

فالجواب: أن الكرماني قال: المشهور أنه لا يعاقب عليها بمجرد النية، واستدلوا بقوله تعالى ? لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? [البقرة: 286] فإن اللام للخبر، فجاء بالكسب الذي يحتاج إلى تصرف، بخلاف على فإنها لما كانت للشر جاء فيها بالاكتساب الذي لابد فيه من التصرف والمعالجة.

ثم قال الكرماني: ولكن الحق أن السيئة أيضاً يعاقب عليها، بمجرد النية لكن على النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال وإن لم يتحقق ذلك أي: ترك الصلاة، لأن العزم من أحكام الإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة.

والفرق بين الحسنة والسيئة: أنه بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة، وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها (1) .

(1) وقبل أن نمضي مع المصنف في السبعة أسئلة التي يتكلم عليها بعد هذا الموطن نسأل هل ينوي العبد للأقوال كما ينوي للأعمال كما هو ظاهر من لفظ الحديث؟

يقول ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها، وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من يسمي القول عملاً لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً لا يحنث.

وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملاً في العرف ولهذا يعطف عليه.

والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازاً، وكذا الفعل، وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل.

والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفاً قبل المعرفة.

وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلاً بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالاً. انظر: فتح الباري (1/54) .

ص: 116

وههنا سبع سؤالات متعلقة بالنية نظمها الشيخ ولي الدين العراقي فقال:

سبع سؤالات لذي فهم أنت

تحكي لكل عالم في النية

حقيقة حكم محل زمن

وشرطها والقصد والكفية

الأول: يقال ما حقيقة النية؟

ويجاب: إن حقيقة النية لغة: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مألاً، والشرع: خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتعاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه.

والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده.

وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل (1) .

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة.

وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث: «فمن كانت هجرته

» إلى آخره. وعلي هذا يقدر المحذوف كوناً مطلقاً من اسم فاعل أو فعل. ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال.

ص: 117

الثاني: يقال: ما حكم النية، هل هي ركن أو شرط؟

والجواب: جمهور الفقهاء على أنها ركن لأنها داخل العبادة.

وذهب جماعة على أنها شرط وإلا لافتقرت إلى نية أخرى، كما في أجزاء العبادة، والأولون أجابوا عن ذلك بلزوم التسلسل.

وفصل شيخ الإسلام ابن حجر بأن إيجادها أول العمل ركن، واستصحابها حكماً لأنه لا يأت بمناف لما شرط (1) .

والثالث: يقال ما محل النية؟

ويجاب: بأنها محل القلب في كل موضع، فلا يكفي التلفظ بها باللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط التلفيظ مع القلب، بل القلب كافٍ لكن يستحب أن يتلفظ بما ينوي بقلبه ليساعد اللسان القلب، فلو نوى بقلبه وتلفظ بلسانه واختلف اللسان القلب فالعبرة بما في القلب، فلو أراد الإنسان أن يصلي الظهر فنوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر، صحت صلاته إذ العبرة بما في القلب، فلو نوى في هذه الصورة بقلبه العصر وبلسانه الظهر لم تصح عملاً بما القلب، ولو سبق لسان الإنسان إلى اليمين بلا قصد كأن قال: والله اشتريت ولم يكن اشترى لا ينعقد يمينه، ولا يلزمه كفاره يمين، وكذا لو قصد الحلف على شيء فسبق اللسان إلى غيره، هذا في الحلف بالله، أما إذا سبق اللسان إلى الحلف بالطلاق، فإنه يقع ولا يقبل قوله:«سبق لساني إليه» بلا قصد ظاهر لتعلق حق الغير، ومثله العتق فلو سبق لسان السيد إلى العتق كأن قال لعبده:«أنت حر» بلا قصد فإنه يعتق، ولو حلف الإنسان أن لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، فإنه لا يحنث قال للكل سلام عليكم ونوى بقلبه إلا فلاناً، بخلاف ما لو حلف أن لا يدخل على زيد فدخل على

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟

والمرجح أن إيجادها ذكراً في أول العمل ركن، واستصحابها حكماً بمعنى: أن لا يأتي بمناف شرعاً شرط، ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل: تستقر.

قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي.

وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه.

ص: 118

قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره فإنه يحنث في الأصح، والفرق أن الدخول لا يدخله الاستثناء، إذا لا ينتظم أن يقال:«دخلت عليكم إلا على فلان» ، ويصح:«سلمت عليكم إلا على فلان» .

وذكر العلماء الشافعية صور لا تكفي فيها النية بالقلب، بل لابد فيه من التلفيظ بها ما لو نوى النذر بقلبه لا ينعقد.

ومنها: ما لو نوى الطلاق بقلبه ولم يتلفظ به لم يقع عليه.

ومنها: ما لو اشترى شاة بنية الأضحية لم تصر أضحية حتى يتلفظ.

ومنها: ما لو قال: أنت طالق ونوى بقلبه إن شاء الله وما تلفظ، وقع عليه الطلاق لا يقبل قوله:«أردت إن شاء الله» .

الرابع: يقال: ما زمن النية؟

ويجاب: بأن العبادات بالتسمية إلى النية على ثلاثة أقسام قسم تجب النية في أوله كالوضوء والغسل، وقسم تجب فيه تقديم النية عليه كالصوم الواجب لابد فيه من إيقاع النية ليلاً قبل الفجر، فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح، وقسم يجوز فيه تأخير النية عن أوله كالصوم المندوب، فإنه يجوز فيه تأخير النية إلى قبيل الزوال، ويجوز في الزكاة تقديم النية فيها على الدفع للمستحقين، فإذا عزل الإنسان شيئاً من ماله بنية الزكاة ثم دفعه بعد ذلك لأربابه لا يشترط إعادة النية، ولا إعلام المستحق أنه زكاة حال الدفع.

الخامس: يقال: ما شروط النية؟

ويجاب بأن شروط أربعة:

الأول: الإسلام، فلا يصح العبادات من كافر لعدم صحة نيته، نعم لنا صور تصح من كافر فيها النية من الكافر منها: الذمية تحت المسلم إذا حاضت وانقطع دمها فلا يحل الزوج وطئها حتى تغتسل، فإذا اغتسلت ونوت صحت نيتها، وغسلها للضرورة، ومنها: الكفارة تصح من الكافر ولابد فيها من النية، ويصح منه.

الشرط الثاني: التمييز، فلا تصح عبادة صبي لا يميز ولا مجنون إذ لا نية لهما، نعم لنا صور تصح فيها عبادة غير المميز منها: الطفل في الإحرام بالحج إذا حرم عند وليه، ففي الطواف يوضأه وليه وينوي عنه، والمجنونة في الحيض إذ طهرت يغسلها سيدها وينوي عنها.

ص: 119

الشرط الثالث: العلم بالمنوي، فلو جهل فرضيه العبادة كفرضيه الوضوء أو الصلاة لا يصح منه فعلها.

الشرط الرابع: أن لا يأتي بمناف للنية فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو غيرهما بطل ببطلان نيته أو في أثناء الوضوء أو الغسل لم يبطل ما فعل منها، فلو فعل شيئًا في زمن الرده لم يحسب، فإن عاد إلى الإسلام بني على ما تقدم، ولو ارتد بعد الفراغ من الوضوء والغسل لم يبطل أو بعد التيمم بطل لضعفه.

السؤال السادس: يقال: ما العبادة التي يجب تعينها؟

ويجاب: بأن التعين واجب فيما يلتبس من العبادات دون غيره، ودليل وجوب التعين من الحديث قوله:«وإنما لكل امرئ ما نوى» أي: ما عين لأن أصل النية فهم من أول الحديث فيجب تعيين النية في الفرائض لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلاً فيميز بينهما إلا التعيين.

ويجب في الرواتب التي مع الفرائض بأن يضيفها إلى الفرائض، ويجب التعيين في العيدين، في عيد الفطر بأن يضيفه إلى الفطر، وفي عيد الأضحى بأن يضيفه إلى الأضحى أوالنحر، وكذلك يجب التعيين في التراويح، والضحى، والوتر، والكسوف، والاستسقاء، وكذلك ركعتا الإحرام، والطواف، بخلاف تحية المسجد وسنة الوضوء، فإذا قال داخل المسجد والمتوضئ: أصلي ركعتين لله تعالى كفى، وإن لم يقل تحية المسجد أو سنة الوضوء.

السؤال السابع: يقال: ما كيفية النية؟

ويجاب: بأن الكيفية تختلف باختلاف العبادات، فالوضوء لنيته كيفية، والغسل لنيته كيفية، والصلاة لنيتها كيفية، وسيأتي بيان ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وقد دل هذا الحديث الجليل على فوائد كثيرة فإنه يدخل في سبعين باباً من الفقه كما قاله الإمام الشافعي، ففيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا يصح إلا بالنية، وهو مذهب إمامنا الشافعي، وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء والغسل، واحتج على ذلك بأن كل واحد منهما ليس مقصود النفس، لأن المقصود به النظافة فأشبه إزالة النجاسة، وعموم الحديث يرد عليه.

وفيه دليل على اشتراط النية لسجود التلاوة لأنه عبادة.

ص: 120

وفيه دليل أن المتوضئ إذا نوى عند غسل الوجه يحصل له ثواب السنن السابقة وهو الأصح عندنا.

وفيه رد على زفر حيث ذهب إلى أن صيام رمضان لا تشترط فيه النية للصحيح المقيم، لتعين الزمان.

وفيه دليل على أن المطلق إذا أطلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عدداً وقع ما نواه، وهو مذهب الشافعي ومالك وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقع إلا واحدة.

وفيه دليل وحجة لمالك في إسقاط الحيل كمن باع ماله قبل الحول فراراً من الزكاة، فإنها لا تسقط عنه عند مالك لهذا الحديث.

وتحرير القول في هذه المسألة أن الإنسان إذا ملك نصاباً ثم احتال في إسقاط الزكاة عنه بحيلة، بأن باع المال الزكوي أو ملكه لأحد من أولاده مثلاً قبل أن يحول عليه الحول ثم استرده فهل هذا الإسقاط مكروه أو حرام أو مباح؟

في المسألة خلاف عندنا قال الرافعي والنووي: إنه مكروه كراهة تنزية وليس بحرام، وتسقط الزكاة عنه.

قال ابن الصلاح: إن المحتال في إسقاط الزكاة يأثم بقصده لذلك لا بفعله وتسقط عنه.

وقال حجة الإسلام الغزالي (1)

: لا يبرأ ذمته في الباطن ولكن تبرأ في الظاهر قال بعض المتأخرين: وهو المختار.

وجزم بالتحريم جماعة، وقد نقل النسفي (2) في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام لله تعالى بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق.

وتدخل النية في الوطء، فإذا وطئ زوجتة أو أمته، على ظن منه أنها أجنبية يزني بها عصي ولا يعاقب عليه في الآخرة عقاب المجترئ على معاصي الله تعالى المخالف لأمره، وكذا لو أقدم على شراب على ظن منه أنه خمر، أو أقدم على استعمال ملكه على ظن أنه لأجنبي فإنه يأثم اعتباراً بنيته، ويحرم عليه حكم الفاسق كما قاله ابن عبد السلام لجرأته على الله، بخلاف ما لو وطئ امرأة أجنبية على ظن أنها زوجته أو أمتة فلا أثم عليه، ولو شرب خمراً على ظن أنه شراب حلال مثلاً فإنه لا يأثم عملاً بنيته.

فائدة: سئل بعض العلماء عمن يجامع زوجته ويفكر في حالة الجماع في غيرها

(1) الغزالي هو: محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بالغزالي، ولد بطوس سنة (450هـ) وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له في طوس، وهو صوفي، متكلم، أصولي، فقيه شافعي، درس منذ صغره العلم وبرع في الجدل والكلام والفلسفة والمنطق وذلك عندما قدم نيسابور والتقى بها بإمام الحرمين الجويني، الذي اعتني به لما ظهر نبوغه ووصفه بأنه «البحر المغدق» ، ولازم إمام الحرمين إلى وفاته سنة (478هـ) ، ثم رحل إلى بغداد واشتهر بها ودرس بها الفقه والأصول، وظهر له أعداء في بغداد وهم الباطنية فكانوا يترصدونه لما أبطل مذهبهم وأبطل أدلتهم، ومكث في بغداد سنوات ثم خرج منها إلى مكة ثم إلى المدينة فدمشق فالأسكندرية ثم عاد إلى بغداد ثم رجع إلى نيسابور بعد مكوثه في هذه الأسفار مدة عشر سنوات وكان ذلك سنة (498هـ) ، وكان رجوعه بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك الذي كان وزيراً في نيسابور لسنجر حاكم خراسان، بعد أن ألح عليه في الرجوع للتدريس بالنظامية ولبي الغزالي طلبه ورجع. وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة (505هـ)، وله من التصانيف الكثير منها: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، الاقتصاد في الاعتقاد، بداية الهداية، تهافت الفلاسفة.

انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/102وما بعدها) ، البداية والنهاية (12/173 – 174) .

(2)

النسفي هو: أبو البركات، حافظ الدين، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، فقيه، حنفي، مفسر، من أهل إيذج من كور أصبهان، نسب إلى نسف من بلاد السند من تصانيفه: مدارك التنزيل، وهو تفسيره المشهور بتفسير النسفي، وله كنز الدقائق، وله الوافي في الفروع على مذهب الحنفية، وشرحه في الكافي الذي نقل عنه المصنف. وكانت وفاته بإذج سنة (701هـ) .

انظر: الدرر الكامنة (2/247) ، ووفيات الأعيان (1/392) ، ومفتاح السعادة (2/19) ، وكشف الظنون (2/1997) .

ص: 121

حتى يتخيل أنه يطئ الأجنبية، هل يأثم بذلك فاعله أويستحب له أن يفعل ذلك لحديث:«إذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (1) .

فأجاب: بأنه لا يحرم عليه ذلك، ولا يؤاخذ به لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها» (2) ولكن يكره ذلك، والله أعلم قاله الدميري (3) .

وفيه دليل على أن ما ليس بعمل تشترط فيه النية كالتروك مثل ترك الزنا والخمر وباقي المعاصي، نعم إذا أراد تحصيل الثواب ولابد له من القصد، فمن ترك الزنا مثلاً بعد أن خطر على باله خوفاً من الله يثاب على هذا الترك، أما من لم يقصد ترك المعصية لا يثاب على تركها فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطر في نفسه عنها خوفاً من الله.

وفيه دليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها وهو الأصح لأنه من باب التروك (انتهى) .

وفيه دليل على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق حيث لم يصرح بالإنكار على من هاجر لأجل المرأة، بل أورده مورد الإيهام كقوله في حديث آخر:«ما بال أقوام يفعلون كذا» (4) وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/1021، رقم 1403) ، وأحمد في مسنده (3/348، رقم 14786) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/38، رقم 9073) من حديث جابر.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/2020، رقم 4968) ، ومسلم في صحيحه (1/116، رقم 127) ، والترمذي في سننه (3/489، رقم 1183) ، وأبو داود في سننه (2/264، رقم 2209) ، والنسائي في سننه (6/156، رقم 3433) ، وابن ماجه في سننه (1/658، رقم 2040) ، وأحمد في مسنده (2/425، رقم 9494) ، وأبو يعلى مسنده (11/278، رقم 6390) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/85، رقم 18062) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/82، رقم 6)، والطيالسي في مسنده (ص: 322، رقم 2459) ، والحارث في مسنده (1/163، رقم 19)، وابن منده في الإيمان (ص: 475، رقم 349) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/282) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/167، رقم 1114) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/350، رقم 14830) جميعاً عن أبي هريرة.

(3)

الدميري هو: بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري، فقيه انتهت إليه رياسة المالكية في زمنه، مصري نسبته إلى ميرة قرية قرب دمياط ومولده بها سنة: 734هـ،. أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 – 792، وتوجه مع القضاة إلى الشام لحرب الظاهر وعاد الظاهر، فعزله بعد أن طعن في صدره وشدقه، وكان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة ولاسيما بعد صرفه عن القضاء.

له كتب منها: الشامل على نسق مختصر خليل في الفقه، وقام بشرحه بعد ذلك، والمناسك في مجلدة، و (شرح) في ثلاثة مجلدات، وشرح مختصر خليل في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح ألفية ابن مالك، والدرة الثمينة منظومة في نحو 3000 بيت، وشرحها، اطلع السخاوي على بعض هذه الكتب بخطه، وكانت وفاته سنة: 805هـ.

(4)

هذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في بذل النصيحة في الملأ بدون تصريح بالذين يقومون بالفعل المخالف الذي على أثره أتت النصيحة منه صلى الله عليه وسلم، وهو تعليم سديد ومنهج رشيد وأسوة حسنة، وكتب السنة فيها الأمثلة الكثيرة لذلك نحو ما رواه البخاري في صحيحه (2/981، رقم 2584) في قصة عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها قالت: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط» .

ونحو ما رواه مسلم في صحيحه (2/1020، رقم 1401) في قصة النفر الذين سألوا أزواج عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة رواها سيدنا أنس بن مالك وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع كلام النفر، حمد الله وأثنى عليه فقال:«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

ص: 122

وفيه دليل على استجاب التخلق بمكارم الأخلاق، وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي حيث قال:

بمكارم الأخلاق كن متخلقا

ليفوح مسك ثنائك العطر الشذي

وانفع صديقك إن صدقت صدقه

وادفع عدوك بالتي فإذا الذي

وفيه دليل على أنه يستحب الستر على من وقع منه منكر.

وفيه دليل على أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة.

وفيه دليل على أن الإمام الأعظم يستحب له أن يخطب عند الأمور المهمة وتعليم الحكم المهمة، لأنه أبلغ في الإشاعة والإشتهار.

واستدل الحديث بعضهم على وجوب النية على غاسل الميت، وهو وجه عندنا، والأصح في النية لا تجب على الغاسل، بدليل أنه لو غسله كافر عندنا صح، وهو ليس من أهل النية.

وفيه دليل وحث على الإخلاص في النية، والإخلاص من أعمال القلب والفرق بينه وبين النية أن النية تتعلق بفعل العبادة، والإخلاص يتعلق بإضافه العبادة إلى الله تعالى فالنية لابد منها في صحة العمل، وأما الإخلاص فليس يتعين، فمن صلى ونوى ولم يضف الصلاة إلى الله تعالى صحت صلاته، لأن العبادة لا تكون إلا لله سواء أضافها إليه أم لا، نعم الإخلاص مع النية أكمل من النية وحدها.

وأما الرياء فقد قال العراقي في «الفروق» : إنه حرام محصل للإثم ومبطل لثواب العبادة.

الرياء على قسمين: أحدهما: أن يعمل الذي أمره الله ويقصد به وجه الله تعالى وأن تعظمه الناس أو بعضهم.

ثانيهما: أن يعمل الذي أمره الله ولا يريد وجه الله تعالى بالنية بل الناس فقط،

ص: 123

ويسمى القسم الأول: رياء الشرك لأنه للخلق وللحق، والثاني: رياء الإخلاص لأنه لا شريك فيه بل هو خالص للخلق، ومقصود المرائي يعمله ثلاثة أشياء: تعظيم الخلق له، وجلب المنافع الدنيوية له، ودفع المضار الدنيوية عنه.

وإنما كان حراماً لأنه شرك وتشريك مع الله في طاعته، وقد صح في صحيح مسلم وغيره:«إن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته له، أو تركته لشريكي» (1)

فهذا الحديث ظاهر في عدم الاعتداد بذلك العمل عند الله تعالى.

وقد نقل أنه يقال يوم القيامة للمرائي بعمله: خذ ثواب عملك ممن كنت تعمل لأجلهم وهو حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقال لمن أشرك في عمله: خذ أجرك ممن عملت له» (2) .

وحمل حجة الإسلام الغزالي هذه الأخبار ونحوها على من يرد بعمله إلا الدنيا وهو القسم الثاني من الرياء، أما الأول فله فيه تفصيل حيث قال: والذي ينقدح لنا فيه -والعلم عند الله- أن ننظر إلى قدر قوة الباعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوما وتساقطا، فصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان الباعث للرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع بل هو مضر ومقتض للعقاب، نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب، وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني، وهذا كقوله تعالى ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة: 8] ، وكقوله ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ? [النساء: 40] فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالباً على قصد الرياء

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2289، رقم 2985) عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (2/1405، رقم 4202) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/67، رقم 938) ، وأبو يعلى في مسنده (11/430، رقم 6552) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/324، رقم 6529) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/329، رقم 6815) ، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/275) .

(2)

لم نقف عليه من رواية أبي هريرة وإنما وجدناه من رواية أنس بن مالك مرفوعاً عند هناد في الزهد (2/435، رقم 854) بلفظ: «يؤتى بابن آدم يوم القيامة إلى الميزان، فيقول الله: يا ابن آدم أنا خير شريك ما عملت لي فأنا أجزيك به، وما عملت لغيري فاطلب ثوابه ممن عملت له» .

ص: 124

حبط من القدر الذي يساويه وبقيت زيادته، وإن كان مغلوباً أسقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد، نعم لنا تشريك في العبادة وتحصيل المال من الغنيمة فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له في هذه العبادة، نعم لا يساوي ثوابه من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً، بخلاف ما لو جاهد ليقول الناس: إنه شجاع، وليعظمه الإمام، فيكثر عطاؤه من بيت المال، فإنه يحرم حنيئذ ويكون رياء، أو نظير المجاهد من حج وشرك في حجة بأن قصد التجارة فإنه لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجد إثماً ولا معصية، ولكن أكمل منه كذلك لو صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض، فلا يكون قادحاً في صومه، وكذلك وجود الوضوء ليحصل له التبرد فلا يكون قادحاً وضوءه، لأن جميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي تشريك أمور من المصالح، وما ليس للعظيم لا يقدح في العبادات وإن كان تشريك، نعم إن هذه المقاصد والأغراض الخالطة للعبادة قد

تنقص الأجر، وإن العبادة إذا تجردت عنها عظم الأجر والثواب.

ونختم المجلس بأخبار تطبيقية متعلقة بالإخلاص، وترك الرياء في العمل.

قال الفضيل (1) رضي الله عنه: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: طوبي لمن صحت له خطوة واحدة، يريد بها وجه الله.

وقال ذو النون المصري (2) رضي الله عنه: من علامات الإخلاص استواء المدح والذم.

ونقل عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت أصليها في الصف الأول لأني تأخرت يوماً فصليت في الصف الثاني، فخجلت من الناس حيث رأوني في الصف الثاني على خلاف عادتي، فعرفت أن نظر الناس لي في الصف الأول كان يعجبني.

وذكر أن أعرابياً دخل المسجد وصلى صلاة خفيفة، فقام إليه علي بن أبي طالب بالدرة وقال: أعد الصلاة فأعادها، فقال: هذه خير أم الأولى؟ قال: الأولى لأني صليتها لله تعالى والثانية صليتها خوفاً من الدرة.

وذكر شرف الدين بن يونس (3) في مختصر الإحياء في باب الإخلاص: إن من أخلص لله تعالى في العمل ظهرت بركته عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة.

(1) هو: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي أبو علي الزاهد الخراساني، محدث ثقة، ومن أئمة التصوف توفى عام 187هـ، قال ابن سعد: ولد بخراسان بكورة «أبيورد» وقدم الكوفة وهو كبير فسمع الحديث من منصور وغيره، ثم تعبد وانتقل إلى مكة فنزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: أقام بالبيت الحرام مجاوراً مع الجهد الشديد والورع الدائم والخوف الوافر والبكاء الكثير والتخلي بالوحدة ورفض الناس وما عليه أسباب الدنيا إلى أن مات بها.

(2)

هو: أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، ذو النون، وهناك خلاف بين العلماء في اسمه، كما أنه يوجد خلاف في سنة وفاته فقد قيل: إنه توفي في عام 425 هـ، وهو صوفي ومن أئمتهم الذين على أقوالهم بني التصوف، وكتب الصوفية مليئة بهذه الأقوال.

انظر في ترجمته: النجوم الزاهرة (2/134- 238)، طبقات الصوفية (ص: 15) ، حلية الأولياء لأبي نعيم (9/331) ، دول الإسلام للذهبي (1/148) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/347) ، صفة الصفوة (2/879) .

(3)

هو: أحمد بن موسى بن يونس، أبو الفضل، شرف الدين الأربلي، ويقال له: ابن يونس، مولده سنة: 575هـ بالموصل، فقيه شافعي، من بيت رياسة وعلم. أصله من إربل، وولي التدريس بمدرسة سلطانها الملك المعظم، واختصر الإحياء للغزالي، وشرح التنبيه في الفقه وسماه غنية الفقيه، وقاته كانت بالموصل سنة: 622هـ.

ص: 125

كما قيل لما هبط آدم عليه السلام إلى الإرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو الكل حبس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء فدعا لهن ومسح على ظهورهن فظهر فيهن نوافح المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قالوا: من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا، ومسح على ظهورنا، فمضى البواقي إليه فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يظهر بهن من ذلك شيء، فقال الذين ظهر فيهم ذلك: نحن كان عملنا لله من غير شوب.

فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة ببركة الإخلاص.

فائدة: غزال المسك يحل أكله من الغزلان هو أسود وهو كالغزال إلا أن له نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه كنابي الخنزير، كل واحد منها دون الفتر.

وأصل المسك: دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم، والمسك ثمر في كل سنة للشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والمسك أطيب الطيب وأفضله، وهو طاهر وإن كان أصله دماً إذا أخذ من الظبية، وهي حية يجوز استعمالها في البدن والثوب ويجوز بيعه، وهو مستثنى من قول الفقهاء:«ما أبين من حي فهو ميت» .

ومن خواص المسك أنه يقوي البصر، وينشف الرطوبات، ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين، وينفع من الخفقان، وهو ترياق السموم، ويقوي الأعضاء الباطنة والظاهرة شماً وشرباً، ومنافعه كثيرة فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله كثيراً.

وحكى الإمام حجة الإسلام الغزالي: أن بعض العباد بلغه أن قوماً يعبدون شجرة من دون الله، فخرج العابد بنية قصد بها وجه الله، فاعترض له إبليس في صورة رجل وقال: إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك، فقال: لابد من قطعها، فقاتله إبليس فصرع العابد إبليس وانتصر عليه، فقال له إبليس: أنت فقير ارجع إلى عبادتك، واجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة، وقال للعابد: لو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها، وما عليك إذ لم تعبدها أنت، فمال العابد إلى قوله ورجع، فلما بات تلك الليلة وأصبح وجد دينارين، ثم في اليوم التالي وجدهما ثم في اليوم الثالث لم يجد شيئًا فخرج لقطعها لا لوجه الله، فعارضه إبليس في صفة رجل فقاتله فانتصر إبليس على العابد فقال العابد: كيف قدرت عليك في المرة الأولى بخلاف الثانية قال له إبليس: لأنك في المرة الأولى كان غضبك لله لا لأجل الدنيا بخلاف الثانية، فعرف من هذا أن الإنسان إذا أخلص في عمله قهر عدوه الشيطان، وإن لم يخلص كان مقهوراً مغلوباً مع الشيطان.

ص: 126

قال العلماء: بحسن نية الملك أو نائبه للناس يدخل الله الخيرات والبركات على الناس، وبشؤم نيته لهم تقل بركاتهم وتغلو أسعارهم.

ويدل على ذلك ما نقله الغزالي في نصيحة الملوك عن وهب بن منبه أنه قال: إذا همَّ الوالي بالجور وعمل به أدخل الله تعالى النقص في أهل مملكته والزرع والضرع والثمر، وإذا همَّ بالعدل أدخل الله البركة في أهل مملكته، فقد كانت الحنطة في العصر الأول أكبر جرماً من هذا اليوم، وأكثر بركة، وأرخص سعراً.

وروي الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض الملوك من بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها: «هذا كان ينبت العدل» .

وحكي عن ابن عباس أنه قال: كان ملك من الملوك يخرج مستخفياً ليعلم أخبار مملكته، فنزل على رجل عنده بقرة تحلب حلاب ثلاثين بقرة، فلما أصبح حدث نفسه بأخذها فلم تحلب إلا الشيء اليسير الذي تدره له فقال له الملك: ما بال حلابها نقص عن عادتها، أرعت في غير موضعها الذي كانت فيه؟ فقال: لا ولكن ملكنا أظن أنه همَّ بالجور فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو همَّ بالظلم ذهبت البركة، فعاهد الملك الله تعالى في نفسه أن لا يأخذها ولا يظلم، فراحت بين الظعن فحلبت مثل عادتها الأولى، فتاب الملك إلى الله سبحانه وتعالى.

* * *

ص: 127